الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في أحكام الدماء والحدود
1630 -
لا تقتل النفس بنفس إلا
…
بشاهدين يثبتان القتلا
1631 -
أو اعتراف جان أو قسامة
…
منَ اَولياء الدم إن لزمت
1632 -
وهي خمسون يمينا بالولا
…
بتا لَزيدٌ خالدا قد قتلا
1633 -
وشرط من يحلف في التعمد
…
وصفُ الرجولة مع التعدد
1634 -
فإن يك الولاة خمسين انحتم
…
حلفُ كلِ واحد منهم قسم
1635 -
ووزع الخمسين حيث الكل
…
كانوا عن الخمسين شخصا قلوا
1636 -
وليس يقتص بها منَ اَكثرِ
…
من واحد عند اتهام نفر
قوله: لا تقتل النفس البيتين، معناه أنه لا يجوز قتل النفس على وجه القصاص حتى يثبت عليها القتل، ولا يثبت إلا بواحد من ثلاثة أمور، الأول البينة، والثاني الإقرار، ولا خلاف بين أهل العلم في الثبوت بهما، والثالث القسامة في محل اللوث، وسيأتي بيانه إن شاء الله سبحانه وتعالى، والقسامة: أن يحلف أولياء القتيل خمسين يمينا متوالية بتا أن فلانا الذي قامت القرينة على كونه القاتل هو القاتل، قال في المواهب: قال ابن رشد في نوازله في كيفية قسامة قام بها أبو المقتول وأخوه: بأن يقسما خمسين يمينا، ترد عليهما يمينا يمينا، أنه هو الذي قتله، يقول الأب في يمينه بمقطع الحق قائما مستقبل القبلة، إثر صلاة العصر من يوم الجمعة، على ما مضى عليه عمل القضاة: بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة لقد قتل هذا - ويشير إلى القاتل - ابنه فلانا بالجرح الذي أصابه به، ومات منه على سبيل العمد بغير حق، وكذلك يقسم الأخ، إلا أنه يقول: لقد قتل أخي، فإذا استكملا خمسين يمينا على هذه الصفة، أسلم برمته إليهما، فاستقادا منه بالسيف مجهزا، على ما أحكمه الشرع في القصاص في القتل.
قوله: وشرط من يحلف البيت، معناه أنه لا يحلف في القسامة على القتل عمدا أقل من رجلين، فلا دخول للنساء في القسامة على القتل العمد، ولا يكفي الرجل الواحد، قال في المقدمات: وإن كان ولي الدم الذي له العفو رجلا واحدا، فلا يستحقه بقسامة، إلا أن يجد من العصبة، أو العشيرة، من يقسم معه، من داناه إلى أب معروف، فإن وجد رجلا واحدا حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا، وإن وجد رجلين أو أكثر قسمت الأيمان بينهم على عددهم، فإن رضوا أن يحملوا عنه منها أكثر مما يجب عليهم لم يجز، وإن رضي هو أن يحمل منها أكثر مما يجب عليه فذلك جائز ما بينه وبين خمس وعشرين يمينا، ولا يجوز له ان يحلف أكثر من ذلك.
قال: والأصل في ذلك قول رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأخي المقتول بخيبر وبني عمه: " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم "
(1)
فجمعهم في الأيمان، ولم يفرد الأخ بها دون بني عمه، ومن جهة المعنى لما كان لا يقتل بأقل من شاهدين لم يستحق دمه إلا بقسامة رجلين، قال أشهب - رحمه الله تعالى -: وقد جعل الله سبحانه وتعالى لكل شهادة رجل في الزنى يمينا من الزوج في لعانه، قال ابن الماجشون - رحمه الله تعالى -: ألا ترى أن النساء لا يقسمن في العمد لما كن لا يشهدن فيه.
قوله: فإن يك الولاة البيتين، معناه أنه إذا كان أولياء القتيل خمسين رجلا وزعت عليهم الأيمان، فيحلف كل واحد منهم يمينا واحدة على نحو ما تقدم، وإن طاع اثنان منهم أن يحلف كل منهما خمسا وعشرين يمينا جاز ذلك عند ابن القاسم، وهو المشهور، وقال أشهب وابن الماجشون لا بد من حلف الخمسين عند وجودهم، وعدم حلف بعضهم يعد نكولا، وإن كانوا أقل من خمسين وزعت عليهم.
قوله: وليس يقتل البيت، معناه أن القسامة لا يقتص بها من أكثر من واحد، فإن كان المتهم واحدا فلا إشكال، وإن تعدد أقسموا على واحد منهم يختارونه وقتل، وقال أشهب لهم أن يقسموا على الجماعة ثم يختاروا واحدا للقتل، ويضرب كل واحد ممن سواه مائة سوط ويسجن سنة، وقال المغيرة لهم قتل الجماعة بالقسامة كالبينة.
1637 -
ووجبت بقول ميْت مسلم
…
مكلف حر لدى زيد دمي
1638 -
أو شاهد معاين للقتل
…
والعدلتان هاهنا كالعدل
1639 -
أو شاهديْ جرح وراءه أكل
…
أو نحو ذا مما على الحياة دل
1640 -
وحيث ما نكل مدعوا الدم
…
حلف من قد ادُّعِي عليهم
1641 -
يحلف كل منهمُ خمسينا
…
ومن أبى خلدته سجينا
1642 -
والفرد بالولاة إن شاء استعان
…
وقيل أيضا لا يجوز أن يعان
(1)
متفق عليه.
قوله: ووجبت بقول الأبيات الثلاثة، معناه أن اللوث الذي تجب به القسامة أمران أحدهما قول المقتول: دمي عند فلان، إن كان به أثر جرح أو ضرب، وكان مسلما حرا مكلفا، ولو كان مسخوطا أو امرأة، فلا قسامة في كافر ولا عبد، ولا عبرة بكلام الصبي، ووجه اعتبار قول القتيل عند مالك وأصحابه - رحمهم الله تعالى جميعا - ما جاء في القرآن الكريم في بقرة بني إسرائيل، قال ابن ناجي: قال ابن العربي في أحكام القرآن الكريم: فإن قيل: كان ذلك آية ومعجزة لموسى ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ قلنا الآية والمعجزة إنما كانا في إحياء الميت، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الآدميين كلهم في القبول والرد.
ونقل في الموطإ اجتماع الأئمة على ذلك في القديم والحديث، وهذا كاف، واحتج له القاضي في الإشراف بما في الصحيح من أن القسامة كانت في الجاهلية، وأقرها النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: والعرب كانت تقسم مع قول المقتول.
وقاله ابن رشد - رحمه الله تعالى -.
قال: وأيضا فإنه ليس المبتغى في إيجاب القسامة القطع والبت، وإنما المبتغى شبهة تنضاف إلى دعوى الولاة تقويها، وتلطخ المدعى عليه.
وأما الاستدلال بقصة البقرة فلا يخلو من دقة، فقد كان الثبوت فيها بمجرد قول القتيل، دون قسامة ولا غيرها، فاقتضى ذلك أن الثبوت كان من جهة كون ذلك خارقا للعادة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الأمر الثاني شهادة من لا يثبت القتل بشهادته من العدول كالشاهد الواحد بأنه قتله أو جرحه، وفي معناه شهادة المرأتين العدلتين، واختلف في شهادة غير العدل، والمشهور لغوها، وكشاهدين بجرح أو ضرب لم ينفذ مقتلا ولم يمت منه فورا، بأن حصل منه بعده ما يدل على الحياة، ويقسم الولاة مع شهادة الشاهدين بذلك على أمر واحد، وهو موته من ذلك الجرح أو الضرب، وأما إن أنفذ منه مقتلا، أو مات وقت الجرح أو الضرب، فقد ثبت قتله إياه بشهادتهما ولا قسامة، ويقسمون مع الشاهد بالقتل على أمر واحد أيضا، وهو أن المتهم قتل وليهم، ويقسمون في شهادته على الجرح أو الضرب على أمرين أنه جرحه أو ضربه، وأنه مات من ذلك.
قوله: وحيث ما نكل الأبيات، معناه أنه إذا نكل ولاة القتيل عن الخمسين يمينا على التفصيل المتقدم، حلف المدعى عليه خمسين يمينا، وإن كان المدعى عليه واحدا كان له أن يستعين بعصبته على المشهور، وروى مطرف أنه لا يجوز أن يحلف معه أحد، بل يحلف الخمسين كلها وحده، وإذا كان المدعى عليه متعددا حلف كل واحد منهم على حدته خمسين يمينا، واختلف إذا كانوا أكثر من خمسين رجلا هل يحلفون جميعا خمسين خمسين وهو ظاهر الموطإ، أو يكتفى بخمسين رجلا، يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وإذا حلف المدعى عليه واحدا أو متعددا الأيمان كلها، ضرب مائة، وسجن سنة، وإن نكل عن بعضها أو كلها سجن حتى يحلف أو يموت، وفي الجلاب: إن طال حبسه ترك، وقال أشهب - رحمه الله تعالى -: إن نكل المدعى عليه كانت عليه دية القتيل، قال في التبصرة: وأرى أن يكون الأولياء بالخيار فإن أحبوا حبس أبدا حتى يحلف، أو يأخذوه بالدية، ويضرب مائة ويسجن عاما.
قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: وإنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق، أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه، وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما يلتمس الخلوة، قال: فلو لم تكن القسامة إلا في ما تثبت فيه البينة، ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق، هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدؤون بها فيها ليكف الناس عن القتل، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول.
ومن هذا المعنى جاء اعتبار شهادة الصبيان في ما يقع بينهم من الجنايات على ما يأتي بيانه إن شاء الله سبحانه وتعالى، وشهادة النساء في ما لا يشهده غيرهن عادة، كما سيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى، وقد تقدم الكلام في اللقطة على استحقاقها بالقرائن.
1643 -
وهي في الخطا على الوراث
…
ذكرانا أو لا حسب الميراث
1644 -
وكمل اليمين إن تنكسر
…
عندئذ على النصيب الاكبر
1645 -
وإن يغب بعض فما للحاضر
…
بدٌّ منَ اَن يحلف حظَّ السافر
1646 -
ثم إذا حضر ذاك أقسما
…
بقدر ما يرثه تحتما
1647 -
وأوجبوا قيام حالف وهل
…
إن يأب عن ذاك يكن كمن نكل
1648 -
وفي القسامة اجلبنْ من بعمل
…
مكة أو مدينة النبي حل
1649 -
أوِ اِيليا لها وليس يُجلب
…
لغيرٍ اِلا من إليه يقرب
قوله: وهي في الخطا على الوراث البيتين، معناه أن أيمان القسامة في قتل الخطإ، يحلفها الورثة كلهم، الرجال والنساء، كل بحسب ما يرث من الدية، وإن انكسرت يمين حلفها من ينوبه الكسر الأكبر إذا اختلفت الكسور، قال في التاج: من المدونة: إن لزم واحدا نصف اليمين، وآخر ثلثها، وآخر سدسها، حلفها صاحب النصف، فصورت ببنت وأم وزوج وعاصب.
وقيل يحلفها أكثرهم نصيبا من الأيمان، وهو الذي في الموطإ.
وإن استوت الكسور حلف كل واحد يمينا عن الكسر الذي ينوبه على المشهور.
قوله: وإن يغب بعض البيتين، معناه أنه إذا حضر بعض الورثة وغاب بعضهم، أو كان صغيرا، حلف من حضر منهم كبيرا خمسين يمينا، وأخذ حظه من الدية، قال في الموطإ: وذلك أن الدم لا يثبت إلا بخمسين يمينا، ولا تثبت الدية حتى يثبت الدم.
وإذا حضر الغائب، أو بلغ الصبي، حلف من الخمسين بقدر ما يرث، وأعطي نصيبه، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: وهذا أحسن ما سمعت.
قوله: وأوجبوا قيام حالف الأبيات، أشار به إلى أن اليمين في القسامة وكذلك اللعان، وما بلغ ربع دينار، تغلظ بالقيام مع استقبال القبلة، كما رواه ابن الماجشون، كما في الجواهر
واختلف إذا امتنع من القيام هل يكون ذلك نكولا، وهو ظاهر كلام الشيخ، وهو ظاهر رواية ابن القاسم - رحمهما الله تعالى - قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: فلو حلف جالسا لم يجزه، وقد تقدم عن ابن رشد - رحمه الله تعالى - أنها تغلظ بالزمان، فتكون يوم الجمعة، لأنه أشرف الأيام، وتكون بعد العصر، وقد جاء في تفسير قوله سبحانه وتعالى:(تحبسونهما من بعد الصلاة) أنها صلاة العصر، وفي الصحيح " ثلاثة لا يكلمهم الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد أَعطى بها أكثر مما أَعطى، وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر، ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله سبحانه وتعالى: " اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك "
(1)
وتغلظ بالمكان، فيحلفها إذا كان بالمدينة المنورة أو عملها عند منبره صلى الله تعالى عليه وسلم، قال مالك - رحمه الله تعالى -: ومن أبى أن يحلف عند المنبر فهو كالناكل عن اليمين، نقله في الجواهر.
(1)
متفق عليه واللفظ للبخاري.
وقد روى في الموطإ عن جابر بن عبد الله - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: " من حلف على منبري آثما تبوأ معقده من النار "
(1)
وإذا كان بمكة المكرمة أو عملها حلف عند الحجر الأسود، وإذا كان بالقدس وعملها حلف في المسجد، ولا يجلب إلى هذه المواطن من خرج عن أعمالها، ولا يجلب إلى جوامع الأمصار إلا من قرب منها.
1650 -
وليس في الجرح قسامة ولا
…
من ليس بالحر إذا ما قتلا
1651 -
وهكذا الكتابِ حيث يُدعى
…
أنْ قتلُه من مسلم قد وقعا
1652 -
وهكذا القتيل في تقاتل
…
صفين مسلمين عن تأول
1653 -
كذاك من وُجِد بين دور
…
قوم بعينهم على المشهور
1654 -
والعفو في الغيلة ليس نافعا
…
ولو من القتيل كان واقعا
1655 -
أما القتيل لا بغيلة فله
…
في العمد أن يعفو عمن قتله
1656 -
وعفوه عن مخطئ وصيه
…
لقاتل أو عاقل بالديه
قوله: وليس في الجرح البيتين، معناه أن القسامة إنما تكون في قتل الحر المسلم خاصة، لأنها في ذلك وردت، وهي على خلاف الأصل، فلا يدخلها القياس، قال في المواهب: قال أشهب: القسامة سنة لا رأي لأحد فيها.
فلا تثبت في جرح، ولا عبد، ولا كافر، قال في المدونة: ولكن من أقام شاهدا عدلا على جرح ـ عمدا أو خطأ ـ فليحلف معه يمينا واحدة، ويقتص في العمد، ويأخذ العقل في الخطإ، قيل لابن القاسم: لم قال مالك ذلك في جراح العمد وليست بمال؟ قال: قد كلمت مالكا في ذلك، فقال: إنه شيء استحسناه، وما سمعت فيه شيئا، وقال مالك - رحمه الله تعالى -: في نصراني قام على قتله شاهد واحد عدل مسلم، يحلف ولاته يمينا واحدة، ويستحقون الدية على قاتله ـ مسلما كان أو نصرانيا ـ نقله في التاج.
(1)
ورواه أيضا أبو داود وابن ماجة والإمام أحمد، وو قع في روايتهم زيادة " ولو على سواك أخضر " وهو حديث صحيح.
وقال في الموطإ: الأمر عندنا في العبيد أنه إذا أصيب العبد عمدا أو خطأ، ثم جاء سيده بشاهد، حلف مع شاهده يمينا واحدة، ثم كان له قيمة عبده، وليس في العبيد قسامة في عمد ولا خطإ، ولم أسمع أحدا من أهل العلم قال ذلك.
قوله: وهكذا القتيل البيت، معناه أنه لا قسامة في من قُتل بين الصفين، قال في الجواهر: قال سحنون في المستخرجة عن ابن القاسم: لا قسامة في من قتل بين الصفين، وإن شهد على قتله شاهد، أو على إقراره، قال محمد: رجع ابن القاسم عن هذا إلى أنه يقتل بالقسامة من ادعى عليه المقتول، قال: وهو قول مالك وأشهب وابن عبد الحكم وأصبغ، قال القاضي أبو محمد: هذا كله إذا كان القتل من غير تأويل دين، فإن كان بخلاف ذلك فلا قسامة ولا دية ولا قود.
وقال في التاج: قال عياض: هذا كله في صف العصبية والبغي المستويين في ذلك، فلو كان أحدهما باغيا، والآخر مظلوما، أو متأولا، طلب الآخرون الذين ليس القتيل منهم بعقله، ولو كان من صف الباغين كان هدرا، ولو تعين قاتله، وكذلك لو كان القاتلون متأولين، أو كلا الصفين متأولا، فمن قتل الآخر منهما هدر.
قوله: كذاك من وجد البيت، معناه أن وجود القتيل في محلة قوم ليس بلوث، لأن ذلك مظنة لكون القاتل من غيرهم، لأن الغالب في القاتل أن يرميه بحيث لا يتوهم أنه الذي قتله، وهذا كما قال ابن رشد - رحمه الله تعالى - حيث لم يكن الأمر في ذلك على مثل قصة يهود مع عبد الله بن سهل، ونصه في المقدمات: كانت خيبر دار يهود، وكانت محضة لا يخالطهم غيرهم، وكان العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر فوجد قتيلا قبل الليل، فمثل هذا يغلب على ظن من سمعه أنه لم يقتله إلا اليهود، ولو وقع مثل هذا في زماننا لوجب الحكم به، ولم يصح أن يتعدى إلى غيره.
قوله: والعفو في الغيلة البيت، معناه أنه ليس للقتيل ولا لأوليائه العفو عن القاتل إذا كان قتله إياه غيلة، والغيلة: أن يخدع إنسانا ليدخل معه موضعا يقتله فيه، ليأخذ ما معه من المال، وإنما لم يصح عفوهم لأن الغيلة من قبيل الحرابة، فقتله حد من حدود الله سبحانه وتعالى، ولذلك لم يشترط فيه المكافأة، فيقتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد، ولا عفو كذلك في الجرح غيلة، بل أمر الجارح إلى السلطان، ولا فرق في ذلك كله بين الرجل والمرأة.
قوله: أما القتيل لا بغيلة البيتين، معناه أن القتيل بغير غيلة له إذا أنفذ مقتله أن يعفو عن قاتله عمدا، فيسقط عنه القصاص، وكذلك وليه على ما يأتي في الأبيات التالية - إن شاء الله سبحانه وتعالى وأما عفو القتيل عن القاتل خطأ فهو من قبيل الإيصاء بالدية لمن تجب عليه من قاتل أو عاقلته، على ما يأتي بيانه - إن شاء سبحانه وتعالى فينفذ من الثلث على التفاصيل المتقدمة.
1657 -
ولا قصاص حيث ما عفا ولد
…
مكلف لو دون إخوة عدد
1658 -
ولهمُ إذاً على من قد جنى
…
نصيبهم من دية تعينا
1659 -
وليس للبنات عفوٌ دونا
…
ولدٍ إن كان هنا بنونا
1660 -
والقاتل العامد حيث عُفيا
…
عنه عن الوطن عاما نُفيا
1661 -
معْ سَجنه هنا وراء ضربه
…
مائة سوط لعظيم حوبه
قوله: ولا قصاص حيث ما البيتين، معناه أنه إذا عفا أحد أولاد القتيل عن القاتل سقط القصاص، وكان لمن بقي منهم نصيبه من دية عمد، إن كانوا ذكرانا، أو ذكرانا وإناثا، فإن عفا الذكور كلهم دون الإناث فذهب ابن القاسم وأشهب إلى أنه لا شيء للإناث من الدية، وروى أشهب أن حق الإناث باق، قاله ابن ناجي، قال: وقال ابن المواز: وبالقول الأول قال من أدركناه من أصحاب مالك، وهو أصله في موطئه، قال الباجي: وهذا إذا عفا الرجال في فور واحد، وأما إن عفا أحدهم، ثم بلغ الآخر فعفا، فلا يضر ذلك من كان معهما من أخت أو غيرها، لأنه مال ثبت بعفو الأول، قاله محمد.
ومثل الأبناء غيرهم من العصبة كالإخوة وأبنائهم والأعمام وأبنائهم، فإذا عفا رجل من أقرب الرجال من عصبة القتيل سقط القتل، وكان لمن بقي نصيبهم من دية عمد.
وإذا كان في أولاد القتيل إناث فلا كلام لهن، لا في عفو ولا في قصاص، وإنما الكلام للأولاد الذكور خاصة، وإلى هذا أشار بقوله: وليس للبنات عفو البيت، وكذلك الكلام في الأخوات مع الإخوة، وإن كانت النساء أقرب من الرجال كالبنات مع الإخوة فلا يسقط القصاص حتى يعفو من كل من الطائفتين فرد فأكثر، بأن يعفو أخ وبنت، فإن عفا الإخوة كلهم دون البنات، أو البنات كلهن دون الإخوة لم يسقط القصاص، ولا كلام لمن لا يرث من النساء مطلقا كالعمة وبنات الأخ.
قوله: والقاتل العامد البيتين، معناه أن من ثبت عليه قتل العمد ببينة، أو إقرار، أو قسامة، ولم يقتص منه لعفو، أو عدم تكافؤ، يجلد مائة سوط، ويسجن سنة، كان القاتل رجلا أو امرأة، مسلما أو ذميا، حرا أو عبدا، لمسلم أو ذمي، والمقتول مسلم أو ذمي، وكذلك إذا قام موجب القسامة ونكل ولاة الدم وحلف المدعى عليه وبرئ، والأصل في هذا عمل الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - على ما قال ابن الفاكهاني، وروي فيه حديث تكلم فيه، قال في المواهب: ولا يجوز أن يضرب المدعى عليه الدم بالتهمة، وإنما يحبس بها إذا كان ممن يليق به التهمة الشهر ونحوه، رجاء أن تقوم عليه بينة، وإن قويت عليه التهمة بما يشبه عليه مما لم يتحقق تحقيقا يوجب القسامة حبس الحبس الطويل، قال ابن الحاجب: حتى يتبين براءته أو يأتي عليه السنون الكثيرة، قال مالك - رحمه الله تعالى -: ولقد كان الرجل يحبس في الدم باللطخ والتهمة، حتى إن أهله ليتمنون له الموت من طول السجن، فإن لم يتهم وكان مجهول الحال حبس اليوم واليومين والثلاثة، وإن لم يتهم وكان معروفا بالصلاح لم يحبس ولو يوما واحدا.
1662 -
ومائة منِ اِبل هي الديه
…
إن كان من يدون أهل باديه
1663 -
وهي في تعمد مربعه
…
من حقة ربعها كالجذعه
1664 -
كذاك من بنت المخاض يُدفع
…
أيضا ومن بنت اللبون الربع
1665 -
وهي في الخطإ من كل تكون
…
عشرين معْ عشرين من نجل اللبون
1666 -
وثلثنْ برمي والد ولد
…
بقاتل ولم يك القتل قصد
1667 -
بأربعين حاملا وما بقِي
…
من جذَعات نصفه كالحِقَق
1668 -
يدفعها الأب وقيل العاقله
…
وقيل عاقلة من لا مال له
1669 -
وألف دينار على أصحاب
…
حضر إن كانوا ذوي أذهاب
1670 -
إلا فضعف ذلك اثني عشرا
…
من الدراهم لها تقررا
معنى الأبيات أن دية النفس الواجبة على أهل العمود مائة من الإبل، وقد ودى صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله بن سهل بمائة ناقة،
(1)
وتكون في العمد إذا عفا بعض من يسقط بعفوه القصاص، أو عفوا جميعا على دية مبهمة مربعة خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وقد روى ذلك في الموطإ عن ابن شهاب، وهو مما لا يقال بالرأي، وتنجم على الجاني في ثلاث سنين، وقيل تكون حالة عليه، وتكون في الخطإ مخمسة، عشرون ابن لبون، ومن كل ما تقدم عشرون، وقد جاء الخبر عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بذلك،
(2)
وروى محمد أن دية العمد مخمسة أيضا كدية الخطإ، وتغلظ الدية في قتل الوالد ولده، أو الأم ولدها، برميه بحديدة ونحوها، مما يوجب القصاص على غيره، بالتثليث، أربعون خلفة في بطونها أولادها، وثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، ويكون ذلك حالا عليه في ماله، ولا يرث منه شيئا، لقضاء عمر - رضي الله تعالى عنه - في المدلجي،
(3)
وقال أشهب وعبد الملك تجب على العاقلة حالة، وقال مطرف بالأول إن كان له مال، وبالثاني إن لم يكن له مال، وإنما لم يقتل به لما له من تأديبه وما جبل عليه من الشفقة والحنان مما يستبعد معه أنه قصد قتله، وأصل ذلك قصة المدلجي، فلو أضجعه وذبحه، أو شق بطنه، أو نحو ذلك مما يعلم به أنه قصد قتله اقتص منه كغيره.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وهو حديث ضعيف.
(3)
رواه ابن ماجة والإمام مالك، وهو حديث صحيح.
والدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم، وقد ذكر في الموطإ أن ذلك كان بتقويم من عمر - رضي الله تعالى عنه - قال في الجواهر: وفي تغليظ الدية على أهل الذهب والورق روايتان، فإذا قلنا تغلظ، فروي تؤخذ قيمة الإبل المثلثة ما بلغت، إلا أن تنقص عن ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم، وروي ينظر ما بين دية الخطإ وبين المغلظة من الإبل فيجعل ذلك جزءا من دية الذهب والورق ويزاد عليهما.
والمشهور أنها تغلظ عليهم بزيادة نسبة ما بين المثلثة والمخمسة من القيمة، قال في الموطإ: والأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يقبل من أهل القرى في الدية الإبل، ولا من أهل العمود الذهب والورق، ولا من أهل الذهب الورق، ولا من أهل الورق الذهب.
وقال في المقدمات: ولا تؤخذ في الدية عند مالك وجل أهل العلم إلا الإبل والدنانير والدراهم، وقد روي عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشياه ألف
(1)
شاة، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل البرود مائتي حلة، وهو قول عطاء وقتادة، وروي ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -.
1671 -
ودية المرأة نصف ما غبر
…
ومثلها الكتابِ إن كان ذكر
1672 -
وفي الكتابية ليس لازما
…
أكثر من ربُع ما تقدما
1673 -
أما المجوسي فثلْث الخمْس
…
كذا المجوسية خمْس السدْس
1674 -
وتجب الدية في اليدين
…
كذاك في الرجلين والعينين
1675 -
ونصف دية لفرد ما ذكر
…
لو لم يكن سواه غير من عوِر
1676 -
فعينه يقضى لها بالكل
…
كمارن الأنف وسمع عقل
1677 -
لسان ناطق وثديي المره
…
وهكذا الصلب إذا ما كسره
1678 -
وقطع الانثيين قط دون الذكر
…
أو ذكر فقط كذا قطع الكمر
1679 -
والقطع للسان غير الناطق
…
فيه حكومة إذا الصوت بقي
(1)
لعلها ألفي بالتثنية كما في حديث عمرو بن شعيب عند أبي داود والإمام أحمد، وهو حديث حسن.
قوله: ودية المرأة نصف ما غبر، معناه أن دية المرأة الحرة المسلمة نصف ما تقدم على تفاصيله المتقدمة، وقد روى مالك عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أنهم كانوا يقولون في المرأة إنها تعاقل الرجل إلى ثلث دية الرجل، فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت إلى النصف من دية الرجل.
قوله: ومثلها الكتابي إن كان ذكر، معناه أن دية الكتابي الحر الذكر نصف ما تقدم كالمرأة، وهو خمسون بعيرا، وخمسمائة دينار، وستة آلاف درهم، وذكر مالك - رحمه الله تعالى - أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز قضى بذلك، ودية المرأة الحرة الكتابية نصف ذلك خمسة وعشرون بعيرا، ومائتان وخمسون دينارا، وثلاث آلاف درهم، ودية المجوسي الحر الذكر ثلث خمس دية الحر المسلم، وهو ثمان مائة درهم، رواه مالك عن سليمان بن يسار قال: وهو الأمر عندنا، ودية المجوسية الحرة أربعمائة درهم، سدس خمس دية الحر المسلم.
وإلى هذا أشار بقوله: وفي الكتابية البيتين.
قوله: وتجب الدية في اليدين إلى قوله: بالكل، معناه أن في قطع اليدين أو الرجلين أو العينين الدية كاملة، وكذلك كل زوج من الإنسان كما ذكر مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ أنه بلغه، وذلك كالأذنين، والشفتين، والأنثيين، وثديي المرأة، وأليتيها، وشفريها، وفي أحد ذلك نصف الدية، لكتاب عمرو بن حزم،
(1)
وإن لم يكن له غيره إلا عين الأعور، ففيها الدية كاملة للآثار الواردة بذلك، ولأنه يبصر بها ما يبصره غيره بعينيه، بخلاف الرجل الواحدة فإنه لا يسعى بها سعي ذي الرجلين، واليد الواحدة فإنه لا يعمل بها عمل ذي اليدين، وتجب الدية كاملة أيضا في مارن الأنف إذا أُوعي جدعا كما في كتاب ابن حزم المذكور، وإن قطع بعضه فبحسابه، وتجب في المنفعة كالسمع، والبصر، والشم، والذوق، وإن ذهب بعض ذلك فبحسابه، وتجب في العقل، ولسان الناطق كله مطلقا، أو بعضه إن منع الكلام، وإلا فبحساب ما ذهب من كلامه على الأحرف، وقيل بالاجتهاد، وتجب في كسر الصلب، أو الصدر، وإبطال القيام والجلوس، وقطع الذكر، وقطع الحشفة، وفي قطع بعضها بحسابه منها لا من أصل الذكر، وفي لسان الأخرس حكومة إن بقي الصوت، فإن ذهب فالدية كاملة، والحكومة أن يقوم على تقدير رقه سالما من ذلك ويقوم به، فيعطى بنسبة ما بين القيمتين من ديته، وإلى هذا الإشارة ببقية الأبيات، قال مالك - رحمه الله تعالى -: الأمر عندنا أن الرجل إذا أصيب من أطرافه أكثر من ديته فذلك له إذا أصيبت يداه، ورجلاه، وعيناه، فله ثلاث ديات.
وتستثنى من ذلك المنفعة بمحلها، فلو قطع أذنيه فذهب سمعه فدية واحدة.
(1)
رواه متصلا النسائي والدارمي وابن حبان والحاكم والبيهقي، ولا تخلو أسانيده من مقال، ورواه النسائي مرسلا والإمام مالك وغيرهما، قال ابن عبد البر: وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل.
1680 -
وخمسة منِ اِبل تلزم من
…
موضحة كذاك أيضا قلع سن
1681 -
وعشرة للاصبع المستأصله
…
وثلث منها لقطع الانمله
1682 -
إلا منِ اِبهام فليس يكفي
…
عنها على الصحيح دون نصف
1683 -
وعُشُرا ونصفَه معْه اجعله
…
عقلا عن الجراحة المنقله
1684 -
وفسروا موضحةً بمظهر
…
عظم وإن قدر رؤوس الابر
1685 -
أما المنقِّلة فالمطير
…
فَراش عظمه لها تفسير
1686 -
إن لم يصل إلى الدماغ واجعلا
…
مأمومة ما للدماغ وصلا
1687 -
وعقلها ثلث دية كذا
…
جائفة جرح لجوف نفذا
قوله: وخمسة من ابل تلزم من موضحة، معناه أن الموضحة خطأ، يجب فيها نصف عشر الدية، وهو في حق الحر المسلم - ذكرا أو أنثى - خمس من الإبل كما في كتاب عمرو بن حزم، وهي مخمسة كغيرها من الجراح، وفي حق الكتابي على النصف من ذلك، وفي حق المجوسي بنسبة نصف العشر من ديته، وهو أربعون درهما، وهكذا العمل في سائر الجراح، والموضحة لا تكون عند مالك - رحمه الله تعالى - إلا في الرأس، وهي ما أوضح العظم وإن قدر رأس إبرة، كما أشار له بقوله في بقية الأبيات: وفسروا موضحة البيت.
قوله: كذاك أيضا قلع سن، معناه أن في قلع السن خطأ أيضا، نصف العشر، كما في كتاب ابن حزم، ولا فرق في ذلك بين الأسنان والأضراس، وألحقوا بالقلع ما ماثله في الشين عرفا، من السواد والحمرة والصفرة، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: وفي سماع ابن القاسم: قال ابن القاسم: إن اصفرت السن ففيها بقدر شينها، لا يكمل عقلها حتى تسود، لا بتغيرها، ابن رشد: هذا يبين مذهبه في المدونة إذ لم يجد فيها جوابا بينا، ومثله قول أصبغ له: في اخضرارها أكثر مما في احمرارها، وفي احمرارها أكثر مما في اصفرارها، وعزى اللخمي هذا لأشهب في الموازية، قال ابن القاسم: إن كان تغيرها مثل الاسوداد فقد تم عقلها، وإلا فعلى حساب ما نقص، والأول أحسن إلا في الخضرة.
قوله: وعشرة في الأصبع البيتين، معناه أن في قطع الأصبع خطأ، عشر الدية، كما في كتاب ابن حزم، ولو كانت زائدة إذا كانت قوية، وفي الأنملة ثلث العشر، إلا الإبهام ففي الأنملة منها نصف العشر، قال في التاج: قال سحنون: ورجع مالك - رحمهما الله تعالى - إلى أن في الإبهام ثلاث أنامل، وأخذ أصحابه بقوله الأول، الباجي: وجه قوله الأول أنه لو لزم في بقية الإبهام الذي في الكف دية، للزم في سائر الأصابع أن يكون لها في مثل ذلك دية أنملة رابعة.
وفي بعض الأنملة بحسابه منها.
قوله: وعشرا ونصفه الأبيات، معناه أن في المنقلة عمدا أو خطأ - لأنها من المتالف - عشرا ونصف عشر من الدية، كما في كتاب عمرو بن حزم، والمنقلة هي التي من شأنها أن ينقل الطبيب العظام الصغار في مداواتها، ليلتئم الجرح، إن لم يصل إلى الدماغ، وذلك الفتات هو الفراش - بفتح الفاء - ومن ضبطه بالكسر أراد به العظم الناشئ الذي يكون مفروشا على العظم الصلب الذي يشبه قشر البصل، وإلى ذلك أشار بقوله: أما المنقله إلى قوله: الدماغ.
وإن وصل إلى الدماغ فهي المأمومة، وفيها ثلث الدية، كما في كتاب عمرو بن حزم، ومثلها الجائفة كما في الكتاب المذكور أيضا، وهي الجرح المفضي إلى الجوف، ولا تكون إلا في الظهر والبطن، ويتعدد الثلث بتعددها.
1688 -
وما من الجراح قبل الموضحه
…
حيث بَرِي بصفة مستقبحه
1689 -
فيه حكومة، وما لم يَشِنِ
…
منها فذا هبَ اَنه لم يكن
1690 -
وهكذا الجراح أيضا في الجسد
…
إذ لم يرد بها عن الشارع حد
1691 -
وقُد من الجارح إن تعمدا
…
ما لم يك الجرح مظنة الردى
1692 -
كالكسر للعنق أو للصدر
…
أو فخذ أوُ اُنثيين ظهر
1693 -
مأمومة جائفة منقله
…
فدِ جميعَ ذا وأدب فاعله
قوله: وما من الجراح قبل الموضحه الأبيات الثلاثة، معناه أن ما قبل الموضحة من شجاج الرأس لا شيء فيه إذا كان خطأ، إلا إذا برئ على شين، ففيه حكومة، قال مالك - رحمه الله تعالى -: الأمر عندنا أنه ليس في ما دون الموضحة من الشجاج عقل، حتى تبلغ الموضحة، وإنما العقل في الموضحة فما فوقها، وذلك أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - انتهى إلى الموضحة في كتابه لعمرو بن حزم، فجعل فيها خمسا من الإبل، ولم تقض الأئمة في القديم ولا في الحديث في ما دون الموضحة بعقل.
وقال ابن رشد - رحمه الله تعالى - في المقدمات: وقد روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنهما - من رواية مالك عن يزيد بن قسيط عن سعيد بن المسيب أنهما قضيا في المِلْطا - وهي السمحاق - بنصف دية الموضحة، وهو يقول في موطئه: ولم تقض الأئمة في القديم ولا في الحديث عندنا في ما دون الموضحة بعقل، فتوجيه هذا أن يحمل قضاء عمر وعثمان - رضي الله تعالى عنهما - في الملطأة على وجه الحكومة بالاجتهاد، لا على وجه التوقيت، كما قالوا في قضاء زيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنه - بمائة دينار في العين القائمة، وقد روي عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قضى في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية، خرجه أبو داوود، وروي عن زيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة أبعرة، وفي الموضحة خمسة، يريد إذا كانت في الرأس، وهو قول حسن، إلا أن مالكا لم يره ولا أخذ به، وقال الفقهاء السبعة في ما دون الموضحة الخطإ أجرُ المداوي.
ولا شيء أيضا في جراح الجسد إذا برئت على غير شين، غير الجائفة، وإلا فحكومة.
قوله: وقد من الجارح الأبيات، معناه أن الجارح عمدا يقتص منه، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" كتاب الله تعالى القصاص "
(1)
إلا الجروح التي يخشى منها الهلاك، فلا قصاص فيها، ككسر العنق، أو الصدر، أو الفخذ، أو الأنثيين، أو الظهر، كالمأمومة، والجائفة، والمنقلة، وإنما يجب فيها المال على التفاصيل المتقدمة، ووجيع الأدب مع ذلك في العمد.
1694 -
وما على عاقلة بقتل
…
وقع عن تعمد من عقل
1695 -
كذاك إن ثبت قتل الخطإ
…
بالاعتراف خشية التواطإ
1696 -
ومن لنفسه كذاك يقتل
…
عن خطإ كجرحه لا تحمل
1697 -
وحملت من الجراح ما وصل
…
ثلث دية فأعلى لا أقل
1698 -
وحملت جائفة العمد وما
…
مُومَتَه مطلقا أو اِنَ اَعدما
1699 -
وأدتِ الدية في ثلاث
…
سنين أنجُما على الأثلاث
1700 -
والثلث في عام فقط ويكفي
…
عامان في أدائها للنصف
1701 -
والجرح قبل البرء لا يُدى ولا
…
يُقاد خوف أن يكون قاتلا
قوله: وما على عاقلة البيتين، معناه أن العاقلة لا تحمل دية قتل العمد، ولا تحمل دية قتل الخطإ إذا لم يثبت إلا باعتراف الجاني، بل تكون على الجاني خاصة، وقيل تحملها العاقلة بقسامة، وقيل غير ذلك، ووجه المشهور خوف التواطإ من المعترف وورثة المقتول على العاقلة.
قوله: ومن لنفسه البيت، معناه أن جناية المرء على نفسه خطأ لا تحملها العاقلة، بل هي هدر، سواء كانت قتلا أو جرحا.
قوله: وحملت من الجراح البيت، معناه أن العاقلة تحمل جراح الخطإ إذا بلغت ثلث دية الجاني أو المجني عليه، وما دون ذلك فهو في مال الجاني، قال في الجواهر: وذلك لما روى ربيعة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عاقل بين قريش والأنصار فجعل على العاقلة ثلث الدية فصاعدا.
قوله: وحملت جائفة البيت، معناه أن العاقلة تحمل مأمومة العمد وجائفته وما بلغ من المتالف ثلث الدية، وقيل إنما تحمله إذا كان الجاني عديما، وإلا فعليه، والمشهور الأول.
(1)
متفق عليه، واللفظ للبخاري.
قوله: وأدت الدية البيتين، معناه أن دية الخطإ تنجم على العاقلة في ثلاث سنين سواء كان القتيل رجلا أو امرأة مسلما أو كافرا، تدفع عند كل آخر سنة ثلثا، وقد حكي في ذلك الإجماع، والمعول أن ما كان دون الدية ينجم على حساب ذلك، فالثلث في سنة، والثلثان في سنتين، وكذلك النصف يدفع منه الثلث في آخر السنة الأولى والسدس في آخر السنة الثانية، واختلف في دية العمد هل تنجم على الجاني، أو تكون حالة عليه وهو المشهور، والعاقلة: العصبة ثم الموالي ثم بيت المال، وألحق بعصبته أهل ديوانه بجامع التناصر، والمشهور البدء بالعصبة قبل الديوان الأقرب فالأقرب، وقال أشهب - رحمه الله تعالى - إنما يحمل عنه أهل الديوان إذا كان العطاء قائما، وإلا فأهله، ويشترط في من يضرب عليه أن يكون حرا مكلفا ذكرا موافقا للجاني في الدين موسرا، ولا حد لما يؤخذ إلا أنه لا يضرب على أحد ما يضر به، قال ابن القاسم - رحمه الله تعالى -: ولا يعقل أهل البدو مع أهل الحضر، وإن كانوا قبيلة واحدة، لأنه لا يستقيم أن يكون في دية واحدة إبل وعين، وروى ابن وهب في كتاب ابن سحنون أنهم يعقلون، وقاله أشهب وعبد الملك، قال ابن القاسم: وأهل مصر لا يعقلون مع أهل الشام، ولا أهل الشام مع أهل العراق، وإن كانوا أقرب إلى الجاني ممن معه في أفقه، بل يعد من كان في غير أفقه كالمعدوم، ويضم إلى من في أفقه من يليهم من القبائل، وإن كانوا أبعد من الخارج من أفقه، نقله في الجواهر.
وقال في التبصرة: القول إنها تكون على أهل الديوان ضعيف، وإنما يراعى قبيل القاتل وهم عاقلته، لأن لهم شبهة في القيام بالدم لو كان القتيل منهم، وشبهة الميراث.
قوله: والجرح قبل البرء البيت، معناه أن الجرح لا يقتص منه إلا بعد برئه، إذ قد يترامى إلى النفس، وكذلك القول في العقل، إذ لا يعلم هل يجب فيه شيء أو لا، إذا كان من جراح الحكومة، ولا يعلم قدر ما يجب فيه، كان من جراح الحكومة أو جراح العقل، ولا على من يجب.
1702 -
وعقل جرح مرأة كالرجل
…
قدرا إذا لثلث لم يصل
1703 -
فإن يصله فاردُدَنَّها إلى
…
نصف كما في النفس قبلُ قد خلا
1704 -
ويقتل القوم الكثيرون بفر
…
د وكذا المرأة أيضا بالذكر
1705 -
ورجل بها كذا السكران
…
يقتل لا المجنون والصبيان
1706 -
فعمد هؤلا إذا ما وصلا
…
ثلْثا فأعلى يلزم العواقلا
1707 -
وجرح أنثى ذكرا كالعكس
…
يقاد عمده كما في النفس
1708 -
وليس في الجراح بين حر
…
وغير حر من قصاص يجري
1709 -
وهكذا الكلام أيضا في الجرا
…
ح بين مسلم ومن قد كفرا
قوله: وعقل جرح مرأة البيتين، أشار به إلى ما تقدم من أن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فتعود لديتها، وقد روى ذلك مالك في الموطإ عن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - قال: وتفسير ذلك أنها تعاقله في الموضحة، والمنقلة، وما دون المأمومة والجائفة، وأشباههما مما يكون فيه ثلث الدية فصاعدا، فإذا بلغت ذلك كان عقلها في ذلك النصف من عقل الرجل.
وروى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ فقال: عشر من الإبل، قلت: كم في أصبعين؟ قال: عشرون من الإبل، قلت: كم في ثلاثة؟ قال: ثلاثون من الإبل، فقلت: كم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل، فقلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟!
فقال سعيد: أعراقي أنت؟! فقلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم، فقال سعيد: هي السنة يا ابن أخي.
قوله: ويقتل الجمع الكثيرون بفرد، معناه أن الجماعة تقتل بالواحد ولو كثرت، إذا قتلوه بفعل واحد، كما لو ألقوا عليه صخرة، أو كانوا متمالئين، وإن لم يباشر قتله إلا أحدهم، لقول عمر - رضي الله تعالى عنه -: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، فإن لم يكونوا متمالئين وتعدد الفعل، قدم الأقوى فعلا، قال ابن ناجي: واختلف قول ابن القاسم إذا أنفذ رجل مقاتل رجل، وأجهز عليه آخر، فقال مرة في سماع يحيى: يقتل الأول ويعاقب الثاني، وقال مرة في سماع أبي زيد بعكسه، وبالأول قال أشهب واختاره غير واحد كابن رشد، قال ابن عبد السلام: ولكن قد يلزم عليه أمور شنيعة، وهو أنه إذا كان يتعين على الأول القصاص لأنه هو الذي قتله حقيقة، فهو من حينئذ كالميت، فلا تجوز وصاياه، وقد ذهب إلى ذلك أصبغ، وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة، ويلزم ألا يخاطب بالصلاة على ذلك، وقد أوصى عمر - رضي الله تعالى عنه - وصلى على تلك الحالة، وأنفذ المسلمون وصاياه، وأشار إلى لزوم الصلاة له حينئذ بقوله: ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وأشار بعض الشيوخ يعني ابن رشد إلى أنه لو قيل بقتلهما معا ما كان بعيدا.
وهذه بحوث ضعيفة جدا، فإسناد القتل لمنفذ المقاتل لا يلزم عليه منه أن يكون المجني عليه من حينئذ له حكم الميت من كل وجه، وقد اتفقوا على اعتباره في معنى الحي في هذه الأشياء، مع الحكم له بحكم الميت في عدم توجه القسامة على أوليائه في حال انفراد الجاني والله سبحانه وتعالى أعلم
قوله: وكذا المرأة أيضا بالذكر ورجل بها، معناه أن المرأة تقتل بالرجل والرجل يقتل بها، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء، وذلك أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه الكريم:(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) فذكر الله تبارك وتعالى أن النفس بالنفس فنفس المرأة الحرة بنفس الرجل الحر وجرحها بجرحه.
وإلى القصاص بينهما في الجراح أشار بقوله: وجرح أنثى ذكرا البيت.
قوله: كذا السكران، معناه أن السكران يقتص منه إذا قتل، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: الباجي: وهذا في المختلط الذي معه بقية من عقله، وأما الذي لا يعرف الأرض من السماء، ولا يفرق بين الرجل والمرأة فلا خلاف أنه كالمجنون في أقواله وأفعاله.
وروى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله تعالى عنهما - يذكر أنه أتي بسكران قد قتل رجلا، فكتب إليه معاوية أن اقتله.
والفرق بينه وبين المجنون أنه أدخل ذلك على نفسه اختيارا فكان كالمتعمد لما يترتب عليه، ولو لم يقتص منه لتذرع الناس بالسكر إلى القتل.
قوله: لا المجنون والصبيان فعمد هؤلا البيت، معناه أنه لا قصاص على من جنى وهو مجنون أو صبي، فحكم عمدهم حكم الخطإ، لرفع القلم عنهم، فجنايتهم على العاقلة إن كانت ثلثا فأعلى، وإلا فهي في مالهما، فإن كان لهما مال أخذ منه، وإلا فدين عليهما، وروى مالك عن يحيى بن سعيد أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله تعالى عنهما - أنه أتي بمجنون قتل رجلا، فكتب إليه معاوية أن اعقله، ولا تُقِد منه، فإنه ليس على مجنون قود.
قوله: وليس في الجراح، البيتين، معناه أنه لا قصاص في الجراح بين الحر والعبد، ولا بين المسلم والكافر، وهذا هو المشهور، وقيل بالقصاص، وقيل به في النصراني دون العبد، وقيل بالتخيير فيهما بين القصاص والعقل.
1710 -
والعبد إن قتل حرا قُتلا
…
به وأما الحر بالعبد فلا
1711 -
وهكذا المسلم لو رقيقا
…
بكافر وإن يكن عتيقا
1712 -
ويقتل الكافر حيث قَتلا
…
من ليس بالكافر أيضا مسجلا
1713 -
وسائق البعير والذي ركب
…
وقائد مضمنون ما عطب
1714 -
ما لم يكن من فعل غيرهم حصل
…
إتلاف ما أتلفه فهو طل
1715 -
وما ببئر دون فعل من بشر
…
أو بمعادنَ يموت فهدر
قوله: والعبد إن قتل الأبيات، معناه أن العبد - مسلما أو كافرا - يقتل بالحر المسلم، ولا يقتل الحر المسلم بالعبد - مسلما أو كافرا - ولا يقتل الحر المسلم بالحر الكتابي لحديث الصحيح " لا يقتل مسلم بكافر "
(1)
ولا يقتل العبد المسلم بالكافر - حرا أو عبدا - للحديث أيضا، واختلف في الحر الكتابي يقتل عبدا مسلما، فقال ابن القاسم: أرى قتله به، وقال مالك: ليس بينهما قود في نفس ولا جرح، لأن في هذا حرية، وفي هذا إسلاما، نقله في التاج.
والمعول الأول وهو ظاهر الشيخ - رحمه الله تعالى -.
(1)
رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد.
قوله: وسائق البعير البيتين، معناه أن سائق البعير مثلا ضامن ما وطئه فأتلفه، وكذلك قائده وراكبه، فإن اجتمع الثلاثة بأن كان له قائد من أمامه، وسائق من ورائه، وراكب على ظهره، فالضمان من السائق والقائد، دون الراكب، حيث لم يتسبب فيه، لقدرتهما على إمساكه وضبطه، إلا أن يتسبب الراكب في ذلك، فيكون الضمان منه خاصة، كما أنه إذا تسبب في ذلك القائد أو السائق اختص عن غيره بالضمان، وما أتلفت بغير فعلهم جميعا - كأن أتلفته وهي واقفة لغير فعلٍ فُعل بها - فهو هدر لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" العجماء جبار "
(1)
وإذا تعدد الراكب ولم يكن لها سائق ولا قائد، فالضمان من المقدم، ما لم يكن ذلك من فعلٍ فعله الرديف بها، فيكون الضمان منه.
قوله: وما ببئر البيت، معناه أن ما مات بسبب وقوعه في بئر، من غير فعل أحد، فهو هدر، إذا لم يكن حافرها متعديا، وإلا ضمن، ولا شيء أيضا في من مات بمعدن من غير فعل أحد، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" البئر جبار والمعدن جبار "
(2)
قال القاضي أبو محمد في الإشراف: من حفر بئرا بفنائه، أو أحدث شيئا له أن يحدثه، ثم تلف به إنسان أو بهيمة لم يضمن.
1716 -
ودية القتيل تورث حسب
…
ما في الذي قد كان يملك وجب
1717 -
وفي الجنين إن يكن لحره
…
عشُر ما في أمه أو غره
1718 -
وليدة أو عبد أيضا عادلا
…
عشُرَ عقلها الذي قد فصلا
1719 -
وهو موروث على الفرائض
…
على الذي من خلفهم قد ارتضي
1720 -
كذا جنين أمة تخلقا
…
حرا كمن بسيد قدُ اُلحقا
1721 -
إلا فمن قيمة أمه العشر
…
يلزم عنه قل ذاك أو كثر
1722 -
وقيمة الرقيق عبدا أو أمه
…
من قتله لمالكيه لازمه
1723 -
ويقتل الجمع بفرد بحِرا
…
بةٍ وفي غيلته لو كفرا
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
قوله: ودية القتيل البيت، معناه أن الدية تورث عن القتيل على الفرائض كماله، سواء كانت عن خطإ أو عمد، وتنفذ منها وصيته إن عاش بعد سببها ما يمكنه أن يغير في وصيته ولم يفعل، ولا يرث القاتل من دية الخطإ أو شبه العمد شيئا.
قوله: وفي الجنين الأبيات الأربعة، معناه أن جنين الحرة، يجب فيه على من أسقطه خاصة دون عاقلته على المشهور غرة: عبد أو وليدة، لقضاء رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الهذلية التي رمتها امرأة بحجر فطرحت جنينها،
(1)
أو عشر دية أمه نقدا، وهو خمسون دينارا أو ستمائة درهم، قاله مالك، قال ابن رشد: وذلك استحسان عنده ليس كالسنة الثابتة.
الخيار للجاني، قال في الجواهر: واختلف في المأخوذ من أهل الإبل، فقال أشهب: تؤخذ منهم الإبل، وهي خمس فرائض، بنت مخاض، وبنت لبون، وابن لبون، وحقة، وجذعة، وقال ابن القاسم: ليس للإبل فيها مدخل، لأن أصلها الغرة ثم قومت بالذهب وبالدراهم، وليست الإبل بقيمة.
قال في التبصرة: قال ابن فارس: غرة كل شيء أكرمه، والوسط من الأعلى يجزئ، وليس الوسط من العبيد والإماء، ومحمل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الوليدة أنها الأعلى مما يراد للخدمة ليس للفراش.
والمراد بالجنين ما تكون به الأمة أم ولد إذا أسقطته من سيدها، وقد تقدم بيانه.
(1)
متفق عليه.
ولا فرق في وجوب الغرة في الجنين بين العمد والخطإ، واشترط مالك - رحمه الله تعالى - في الغرة أن تكون بقيمة عشر دية الأم، وهو ظاهر ما نقله في الموطإ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، واختار اللخمي - رحمه الله تعالى - عدم اشتراط ذلك، قال: لأن الأصل الذي أقامه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - الغرة من غير اعتبار قيمة، وأثمان العبيد تختلف في البلدان وتتغير في أثمانها الأسواق بالزيادة والنقص، فإن وجدت بموضع الغرة بثلاثين دينارا، أو بعشرين دينارا، لم يلزم بأكثر من ذلك، وإن كان ثمنها ستين أو سبعين أجبر على إحضارها، ولو أحب أن يدفع خمسين دينارا لم تقبل منه لأنها دون الغرة.
قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: ولم أسمع أحدا يخالف في أن الجنين لا تكون فيه الغرة حتى يزايل بطن أمه، ويسقط من بطنها ميتا، وسمعت أنه إذا خرج الجنين من بطن أمه حيا ثم مات أن فيه الدية كاملة، قال: ولا دية لجنين إلا بالاستهلال، فإذا خرج من بطن أمه فاستهل ثم مات ففيه الدية كاملة، ونرى أن في جنين الأمة عشر ثمن أمه.
وإلى ما ذكر في الأمة الإشارة بقوله: إلا فمن قيمة البيت.
و هذا ما لم يتخلق على الحرية، كجنينها من سيدها، فيكون له حكم جنين الحرة.
وأشار بقوله: وهو موروث البيت، إلى أن دية جنين الحرة موروثة على الفرائض عند مالك وأكثر أصحابه رحمهم الله سبحانه وتعالى جميعا - فلأمه الثلث إن لم يكن له إخوة، وإلا فالسدس، والباقي في الوجهين لأبيه، وقال ربيعة: هو للأم كجرح بها، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة والمغيرة وابن دينار هو للأبوين على الثلث والثلثين، وأيهما خلا به كان له كلا، وكان مالك - رحمه الله تعالى - يقول بهذا أولا، ثم رجع إلى الأول.
قوله: وقيمة الرقيق البيت، معناه أن الواجب في قتل الرقيق قيمته بالغة ما بلغت، وإن زادت على دية الحر، وقد جاء ذلك عن عمر وعلي - رضي الله تعالى عنهما - سواء كان قتله خطأ أو عمدا، حيث لا تكافؤ، وإلا فيخير سيده.
قوله: ويقتل الجمع البيت، معناه أن الجماعة تقتل بالواحد في الغيلة والحرابة، وإن لم يباشر قتله إلا أحدهم، وكذلك القول في القصاص على التفصيل المتقدم، وقد تقدم قول عمر - رضي الله تعالى عنه -: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا، وتقدم أنه لا عفو للقتيل ولا لأوليائه، وتقدم أن الغيلة هي القتل لأخذ المال، والحرابة أعم من ذلك، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله سبحانه وتعالى.
1724 -
والقاتل المخطئ بالتكفير
…
يؤمر حتما وهْو بالتحرير
1725 -
مثل الذي لدى الظهار قد خلا
…
وليصم إن عجز شهرين ولا
1726 -
وندبت لعامد لم يُقتل
…
لعفو أو لعدم التماثل
1727 -
وليس مأمورا بها إن يكن
…
أعني الذي هلك غير مؤمن
معنى الأبيات أن القاتل خطأ تجب عليه الكفارة، وهي عتق رقبة على نحو ما تقدم بيانه في رقبة الظهار، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين على نحو ما تقدم أيضا، فإن عجز عن ذلك انتظر القدرة على أحد الأمرين، ولا يكفر هنا بالإطعام، والخطاب بها إنما هو للحر المسلم، وصرح ابن شاس في جواهره بعدم اشتراط التكليف، فأوجبها على الصبي والمجنون
قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: ولم أجده لغيره من أهل المذهب نصا بل من وجيز الغزالي.
وإنما تجب إذا كان المقتول حرا مسلما، فإن كان عبدا ندبت ولم تجب، كما لا تجب على العبد إذا كان هو القاتل، وذلك أن الذي في الآية الكريمة إنما هو قتل الحر للحر بقرينة ذكر الدية وتسليمها إلى أهله، وإذا كان المقتول كافرا لم يؤمر بها أصلا لنص الآية الكريمة، وتندب في إسقاط الجنين، وللعامد إذا عفي عنه، أو لم يكن القتيل مكافئا له، كما يندب له الاستكثار من الاستغفار، وأفعال الخير كلها، وإنما لم تجب عليه لأن جنايته أعظم من الكفارة، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: قال الأبهري: ألا ترى أن الكبائر لا كفارة فيها كعقوق الوالدين.
وقد علم ما جاء في القتل من قوله سبحانه وتعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) قال في المقدمات: ومن توبة القاتل أن يعرض نفسه على أولياء المقتول، فإن قادوا منه، وإلا بذل لهم الدية، وصام شهرين متتابعين، أو أعتق رقبة إن كان واجدا، أو أكثر من الاستغفار، ويستحب أن يلازم الجهاد، ويبذل نفسه لله سبحانه وتعالى، روي هذا كله عن مالك - رحمه الله تعالى -.
1728 -
ويقتل الزنديق وهْو المسْتَسِر
…
بالكفر إن على نفاقه ظُهر
1729 -
ما لم يجئ قبل ظهور الامر
…
معلنَ توب وكذا ذو السحر
1730 -
واستَتِب المرتد أياما ثلا
…
ثةً فإن تاب وإلا قُتلا
1731 -
ومن أبى أن يفعل الصلاة معْ
…
إقراره بأن تركها امتنع
1732 -
فلانقضا وقت صلاة أمهله
…
فإن يفت ولم يصل فاقتله
1733 -
وتؤخذ الزكاة كرها إن أبى
…
عن دفعها معترفا أن وجبا
1734 -
وتاركَ الحج دعَنْ لعله
…
يعلم ما يسقط عنه فعله
1735 -
وجاحد فرض الصلاة مثلا
…
ذلك مرتد وحكمه خلا
قوله: ويقتل الزنديق البيتين، معناه أن الزنديق - وهو الذي يظهر الإسلام ويسر الكفر، وهو المنافق على عهد النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم - إذا ظهر على زندقته، يقتل ولا يستتاب، والفرق بينه وبين المرتد حيث قبلت توبته، أنه لما كان مسرا للكفر قبل لم يمكن أن يوثق بما يدعيه من التوبة، قال في الجواهر: نقول لم تظهر توبته وتعرف فتقبل، ولا نقول لا تقبل توبته، وإلى هذا أشار مالك - رحمه الله تعالى - بقوله: إن توبته لا تعرف.
وماله لورثته إذا أنكر أو ادعى التوبة، وإلا فلبيت مال المسلمين، وهذا حيث ظهر عليه، فإن لم يظهر عليه وجاء تائبا قبلت توبته على المعول، ووصف في الجواهر مقابله بأنه شاذ بعيد عن المذهب.
والزنديق لفظ فارسي في الأصل، معناه مخفي الكفر.
قوله: وكذا ذو السحر، معناه أن الساحر إذا ظهر عليه قتل من غير استتابة، لما سبق في الزنديق، بخلاف ما إذا جاء تائبا، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: الشيخ: قال محمد: من قول مالك وأصحابه أن الساحر كافر بالله سبحانه وتعالى فإذا سحر هو بنفسه قتل ولم يستتب، والسحر كفر، قال مالك - رحمه الله تعالى - هو كالزنديق، إذا عمل السحر بنفسه قتل ولم يستتب، وقد أمرت حفصة - رضي الله تعالى عنها - في جارية لها سحرتها أن تقتل فقتلت،
(1)
ابن عبد الحكم وأصبغ: هو كالزنديق ميراثه لورثته المسلمين، وإن كان للسحر والزندقة مظهرا استتيب، فإن لم يتب قتل، وجعل ماله في بيت المال، ولم يصل عليه، ولما ذكر الباجي رواية محمد أن السحر كفر، قال: إن عمله مسلم فهو مرتد، ويحتمل أن معنى قوله أنه كافر أن فعله دليل على الكفر، ولا يقتل الساحر إلا الإمام، قال أصبغ: وليس لسيده قتله، ولا يقتل حتى يثبت أن ما فعله من السحر الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه كفر، قال أصبغ: يكشف عن ذلك من يعلم حقيقة السحر، ويثبت ذلك عند الإمام، وفي الموازية في الذي يقطع أذن الرجل، أو يدخل السكاكين في جوف نفسه، إن كان سحرا قتل، وإن كان خلافه عوقب، قال أبو عمر: روى ابن نافع في المبسوط في امرأة أقرت أنها عقدت زوجها عن نفسها، أو غيرها، أنها تنكل، ولا تقتل، قال: ولو سحر نفسه لم يقتل بذلك، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: الأظهر أن فعل المرأة سحر، وأن كل فعل ينشأ عنه حادث في أمر منفصل عن محل الفعل أنه سحر.
(1)
رواه مالك في الموطإ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه.
قوله: واستتب المرتد البيت، معناه أن المرتد عن الإسلام - نعوذ بالله سبحانه وتعالى من ذلك ومن كل شر - يستتاب وجوبا ثلاثة أيام من غير تعذيب ولا تجويع، فإن تاب ترك، وفي وجوب الإمهال وندبه روايتان، ووجه الإمهال رجاء زوال ما لعله عرض له من الشبه، وإن لم يتب قتل، وفي الموطإ أن رجلا قدم على عمر من قبل أبي موسى - رضي الله تعالى عنهما - فسأله عن الناس فأخبره، ثم قال عمر - رضي الله تعالى عنه -: هل كان فيكم من مغربة خبر؟ فقال: نعم رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟ قال: قدمناه فضربنا عنقه، قال: أفلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه في كل يوم رغيفا واستتبتموه، لعله يتوب ويراجع أمر الله سبحانه وتعالى، ثم قال عمر - رضي الله تعالى عنه -: اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني.
قال في التاج: وسئل مالك - رحمه الله تعالى - عن قول عمر - رضي الله تعالى عنه -: ألا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه في كل يوم رغيفا، فقال: لا بأس به وليس بالمجمع عليه.
قوله: ومن أبى البيتين، معناه أن من أقر بوجوب الصلاة، وامتنع من أدائها، أخر لبقاء ركعة من الضروري، فإن امتنع قتل بالسيف حدا على المشهور، لا كفرا، فيصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، ولا يطمس قبره، وقال ابن حبيب إذا قال أصلي ولم يفعل ترك.
وأما من جحد وجوبها فهو مرتد، فيستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك الكلام في جحد الزكاة، والحج، وكل ما علم من الدين ضرورة، وذلك هو قوله: وجاحد فرض الصلاة البيت.
قوله: وتؤخذ الزكاة كرها البيت، معناه أن من امتنع من أداء الزكاة مع اعترافه بالوجوب تؤخذ منه، وقتال أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - لمانعي الزكاة معلوم، واختلف هل تجزئه في ما بينه وبين الله سبحانه وتعالى وهو المشهور أو لا.
قوله: وتارك الحج البيت، معناه أن من اعترف بوجوب الحج ولم يحج ترك، لأن وجوبه مشروط بالاستطاعة، ولا يمكن تحققها، فقد يظن بالمرء اليسار وهو غير موسر، وقد تظن به القوة على الأسفار وهو غير قادر عليها، وقد تظن به الصحة وهو مريض.
1736 -
ومن بجانب نبي نطقا
…
بالسب حدا اقتلنْه مطلقا
1737 -
لو كان ذميا إذا بغير ما
…
كفرانُه به دُري قد شتما
1738 -
وهكذا كلامه بجنب
…
ألرب جل وعلا بسب
1739 -
ومال مرتد لبيت المال
…
يُدفع إن لم يك ذا مآل
قوله: ومن بجانب البيت، معناه أن من سب نبيا مجمعا على نبوته - عياذا بالله سبحانه وتعالى من ذلك ومن كل شر - أو تنقصه بأي وجه، في نفسه، أو خصاله، أو غير ذلك، تصريحا أو تعريضا، أو سب ملكا مجمعا على ملكيته كذلك، يقتل ولا يستتاب، وقدحكى عياض - رحمه الله تعالى - الإجماع على ذلك، وحكاه غيره، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم:" من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله سبحانه وتعالى ورسوله "
(1)
صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم، فإن أنكر الساب ما ثبت عليه من السب، أو تاب كان قتله حدا، وكان ماله لوارثه، وإلا فللمسلمين، ولا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يكفن، وتستر عورته، ويوارى، كما يفعل بالكفار، وأما المختلف في نبوته، أو ملكيته، فيشدد الأدب على من تنقصهم، قال عياض - رحمه الله تعالى -: وأما إنكار كونهم من الملائكة أو النبيئين فإن كان المتكلم من أهل العلم فلا حرج، وإن كان من عوام الناس زجر عن الخوض في مثل هذا، وقد كره السلف الكلام في مثل هذا مما ليس تحته عمل، نقله في التاج
(1)
متفق عليه.
ويشدد الأدب أيضا على من سب أحدا من آله صلى الله تعالى عليه وسلم مع العلم بذلك، أو أزواجه، أو صحابته، ولا يسقط حق آله صلى الله تعالى عليه وسلم بالفسوق، وإنما يسقط بالكفر، ولا يقرون على معصية كغيرهم، قال في المواهب: ولما نال جعفر من مالك ما نال حتى حمل مالك - رضي الله تعالى عنه - إلى داره مغشيا عليه، دخل الناس على مالك، فأفاق، وقال: أشهدكم أني جعلت جعفرا في حل، فسئل عن ذلك، فقال: خفت أن أموت فألقى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فأستحيي منه أن يدخل بعض آله النار بسببي، وقيل إن المنصور أقاده من جعفر، فقال مالك - رحمه الله تعالى - أعوذ بالله تعالى والله ما ارتفع منها سوط من جسمي إلا وقد جعلته في حل، لقرابته من رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -.
قوله: لو كان ذميا البيت، معناه أن الذمي إذا صدر منه تنقيص بغير الوجه الذي كفر به يقتل صاغرا، إلا أن يسلم، فيترك على المشهور، قال ابن القاسم: وليس يقال له: أسلم، ولكن يقتل، إلا أن يسلم طائعا، وكذلك قال مالك - رحمهما الله سبحانه وتعالى قاله في التاج.
وقيل يقتل ولو سب بما يعلم كفره به.
قوله: وهكذا كلامه البيت، معناه أنه إذا تكلم في جهة الذات العلية ـ عياذا بالله سبحانه وتعالى من كل شر ـ بما يتضمن نقصا في التقديس والتنزيه قتل صاغرا.
قوله: ومال مرتد البيت، معناه أن المرتد عن الإسلام ـ عياذا بالله سبحانه وتعالى من ذلك ومن كل شر ـ إذا لم يتب قتل، وكان ماله للمسلمين، ولا يورث، وإن تاب ترك له ماله.
1740 -
ولا يجوز العفو عمن حاربا
…
إن لم يجئ من قبل أخذ تائبا
1741 -
فذاك عنه مسقط للحد
…
لكن لحق الادمي يؤدي
1742 -
ولو دما، وحدها قد فُصلا
…
فيه، فإن يكن بها قد قتلا
1743 -
تعين القتل ولو عفا الولي
…
واجتهدنْ فيه إذا لم يقتل
1744 -
بقدر ما ركِب من طغيان
…
وما بها مكث من زمان
1745 -
بقتله فقط وصلبه معهْ
…
وإن تشأ فمن خلاف قطِّعه
1746 -
أو انفيَنْه لبلاد اُخرى
…
معْ سَجنه إذا يكون حرا
1747 -
وإن على حرابة يتفقِ
…
قوم فكل ضامن عمن بقي
الحرابة: عرفها ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: الحرابة الخروج لإخافة سبيل، أو لأخذ مال محترم، بمكابرة قتال، أو خوفه، أو إذهاب عقل، أو قتل خفية، أو لمجرد قطع الطريق، لا لإمرة، أو نائرة، ولا عداوة، قال: فيدخل قوله: والخناقون والذين يسقون الناس السيكران ليأخذوا أموالهم محاربون، الباجي عن ابن القاسم: قتل الغيلة حرابة، وهو قتل الرجل خفية لأخذ ماله، قال وفي العتبية والموازية: من خرج لقطع السبيل لغير مال فهو محارب، كقوله: لا أدع هؤلاء يخرجون إلى الشام، أو إلى مصر، أو إلى مكة المكرمة، وكذلك كل من حمل السلاح على الناس وأخافهم من غير عداوة ولا نائرة.
قوله: ولا يجوز العفو إلى قوله: ولو دما، معناه أن المحارب إذا ظفر به لا يجوز العفو عنه، إذ ليس للإمام أن يعفو عن حد من حدود الله سبحانه وتعالى، فإن جاء تائبا قبل أن يقدر عليه، سقط عنه الحد، لقوله سبحانه وتعالى:(إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) ولا يسقط عنه بذلك حق الآدمي، مالا أو دما، إذ لا أثر للتوبة فيه.
قوله: وحدها إلى قوله: إذا يكون حرا، معناه أن حد الحرابة أربعة أمور: القتل، أو الصلب والقطع من خلاف، بأن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، والنفي إذا كان حرا ذكرا إلى بلد أقل بعده مسافة القصر، ويسجن فيه حتى تظهر توبته وإنابته، وإن طال حبسه، وروى مطرف أن المراد بالنفي السجن، فيضرب ويسجن في البلد، وعليه فالحد به جار في النساء المحاربات والأرقاء، ومعنى ذلك أن يجتهد السلطان في حد المحارب بواحد من هذه الوجوه، بحسب ما ارتكب من الفساد، وطول زمان حرابته وقصره، وشدة مكره، وعظم بأسه، وخبث تدبيره ورأيه، فيجتهد في ما يرتفع به ضرره، وينزجر به من تسول له نفسه مثل فساده، ويستشير في ذلك أهل العلم والرأي.
وهذا ما لم يقتل أحدا، فإن قتل تعين قتله، قال اللخمي: لم يختلف فيه قول مالك - رحمه الله تعالى - سواء كان القتيل مسلما أو كافرا، حرا أو عبدا، ذكرا أو أنثى، صغيرا أو كبيرا، وإن لم يقتل ولكن أخذ المال كان التخيير في قتله، أو صلبه، أو قطعه من خلاف، ولا يقتصر فيه على النفي، واختلف في معنى الصلب، فقال أشهب المراد به أن يقتل ثم يصلب، وقال ابن القاسم: المراد أن يصلب حيا ويقتل على الخشبة، وهو المعول، واختلف على هذا في الصلاة عليه، فقال أصبغ: لا بأس أن يخلى أهله ينزلونه ويصلى عليه ويدفن، وقال سحنون: إذا قتل وصلب أنزل من ساعته ودفع لأهله للصلاة عليه ودفنه، وقال أيضا: إن رأى الإمام أن يبقيه اليومين والثلاثة لما رأى من تشديد أهل الفساد فذلك له، ولكن ينزله فيغسله أهله ويكفن ويصلى عليه، ثم إن رأى إعادته إلى الخشبة أعاده، وقال ابن الماجشون: لا يمكن أهله من إنزاله، ويبقى حتى يفنى على الخشبة، أو تأكله الكلاب، نقله ابن عرفة.
قال في التبصرة: وأما الصبي يحارب فإن لم يحتلم ولا أنبت عوقب، ولم يقم عليه حد الحرابة، واختلف فيه إذا أنبت الإنبات البين، وأن لا يقام عليه ذلك أحسن لقول النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" ادرؤوا الحدود بالشبهات "
(1)
وأما المجنون فيعاقب لينزجر عن مثل ذلك، إلا أن يكون الذي به الأمر الخفيف فيقام عليه الحد، وإن كان يجن ويفيق، فحارب في حال إفاقته، ثم جُن، فإنه يؤخر حتى يفيق، فيقام عليه الحد.
قوله: وإن على حرابة يتفق البيت، معناه أنه إذا اجتمع قوم على الحرابة فأخذ أحدهم غرم جميع ما أخذوه، لتقوي بعضهم ببعض، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: إذا اجتمع القوم في الغصب، أو السرقة أو الحرابة، فكل واحد منهم ضامن لجميع ما أخذوه، لأن بعضهم قوي ببعض، كالقوم يجتمعون على قتل رجل فيقتل جميعهم به، وإن ولي القتل أحدهم، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا، نقله في المواهب.
1748 -
ويُرجم الزاني إذا ما اُحصنا
…
بحجر معتدل إلى المَنى
1749 -
وهْو الذي وطئ وطأً قدُ اُبيح
…
مكلفا حرا عن النكح الصحيح
1750 -
وغيره بكر وفيه الجلدُ
…
بمائة السياط هو الحدُّ
1751 -
معْ سَجنه عاما بنحو خيبرا
…
من طيبة إن كان حرا ذكرا
1752 -
والعبد عنه نصف ذلك سقط
…
كذا الإما فاجلده خمسين فقط
الزنى عرفه خليل - رحمه الله تعالى - بقوله: الزنى وطء مكلف مسلم فرج آدمي لا ملك له فيه باتفاق تعمدا، وإن لواطا، أو إتيان أجنبية بدبر.
(1)
رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وابن ماجة بألفاظ متقاربة، وكل ذلك بأسانيد ضعيفة، ولكن المعنى محل إجماع.
فخرج بقوله: وطء، ما دونه، فلا يجب به حد، كما في حديث " لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت "
(1)
وخرج بقوله: مكلف، الصبي والمجنون، لرفع القلم عنهما، وخرج بقوله: مسلم، زنى الكافر، وخرج بقوله: فرج، الوطء في ما سوى الفرج، كالعُكُن، وخرج بقوله: آدمي، إتيان البهيمة، وخرج بقوله: لا ملك له فيه، إتيان من تحل له، ومثل الملك شبهته كإتيان الوالد أمة ولده، وكإتيان الشريك الأمة المشتركة، وخرج بقوله: باتفاق، إتيان المختلف في حليتها، كالزوجة في الأنكحة الفاسدة المختلف في فسادها، لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وخرج بقوله: تعمدا، الغلط بامرأة يشبهها بزوجته أو أمته، ولا فرق في ما ذكر بين الفاعل والمفعول به، فمن تحققت فيه هذه الصفات منهما فهو زان، ومن لا فلا.
قوله: ويرجم الزاني البيتين، معناه أن حد الزاني المحصن الرجم بالحجارة المتوسطة حتى يموت، قال مالك - رحمه الله تعالى -: يرمى بالحجارة التي يرمى بمثلها، فأما الصخور العظام فلا يستطاع الرمي بتلك، قال في التبصرة: ولا يرمى بالصخور وإن كانت مما يستطاع الرمي بها، لأنها تشوه، وإنما الرمي بالحجارة، ولا تكون صغارا مما تؤدي للعذاب، ولا تجمر، ولا يختص الظهر بالرجم، ويختص به المواضع التي هي مقاتل الظهر وغيره، ومن السرة إلى ما فوق، ويجتنب الوجه، ولا يضرب في رجليه إذا لم يحفر له، ولا في ساقيه ولا يديه، لأن ذلك تعذيب، وليس ذلك بمقتل، ويجرد أعلا الرجل، ولا تجرد المرأة.
ولا يجلد المحصن قبل الرجم، وما في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله تعالى عنه - من الجمع بين الجلد والرجم منسوخ كما قال ابن رشد - رحمه الله تعالى - بما جاء في رجم ماعز، وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في قصة العسيف: " واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها
(2)
.
(1)
رواه البخاري وأبو داود والإمام أحمد.
(2)
متفق عليه.
والمحصن هو الذي حصل منه وطء مباح في نكاح صحيح، مع الإسلام والحرية والتكليف، رجلا كان أو امرأة، فالوطء الحرام كالوطء في حيض أوصوم أو إحرام لا يحصن على المشهور، والوطء بالتسري لا يحصن، والوطء في النكاح الفاسد الذي لا يقر عليه لا يحصن، وكذلك الذي يقر عليه قبل حصول ما يقر لأجله، وحصول ذلك قبل الإسلام لا يحصن، وكذلك حصوله في الرق أو الصبوة أو الجنون، وإلى هذا الإشارة بقوله: وهو الذي البيت.
قوله: وغيره بكر البيت، معناه أن غير المحصن هو البكر، وحده جلد مائة سوط، وتغريب عام، ويكون الجلد بسوط بين سوطين، لحديث الموطإ أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - دعا بسوط لجلد رجل اعترف على نفسه بالزنى، فأتي بسوط مكسور، فقال:" فوق هذا " فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمَرَته، فقال:" دون هذا " فأتي بسوط قد ركب به ولان، فأمر به فجلد، ثم قال: " أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله سبحانه وتعالى، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله سبحانه وتعالى، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله سبحانه وتعالى.
قال في التبصرة: ويتولى الضرب رجل بين الرجلين، لا بالشديد ولا بالضعيف، ويضرب ضربا بين الضربين، لا بغاية قوة، ولا بأقلها، ويخص بالضرب الظهر.
قوله: مع سجنه البيت، أشار به إلى أن البكر ينفى بعد جلده نحو فدك وخيبر من المدينة المنورة بأنواره صلى الله تعالى عليه وسلم، ويختص التغريب بالرجل الحر، لما في تغريب المرأة من التعريض للفساد، ولما في تغريب العبد من ضياع حق سيده، وقد يكون التغريب أحب إلى العبد من البقاء مع سيده، فلا يكون تغريبه عقوبة، قال مالك - رحمه الله تعالى -: الذي أدركت أهل العلم عليه أنه لا نفي على العبيد إذا زنوا، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: قال في الموازية: وكراؤه في مسيره عليه في ماله في الزاني والمحارب، فإن لم يكن له مال ففي مال المسلمين، وقاله أصبغ.
قوله: والعبد البيت، معناه أن الرقيق يجلد خمسين جلدة فقط، على النصف من الحر، لقوله سبحانه وتعالى:(فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وروى مالك في الموطإ عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما - أمره في فتية من قريش فجلدوا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنى.
1753 -
ويثبت الزنى بالاقرار ولـ
…
ـكن أيضا إن رجع عنه قبلا
1754 -
كذا بحمل وشهود أربعه
…
معدَّلين عاينوا المجامعه
1755 -
يراه كل واحد كالمرود
…
بمُكحُل وذا بوقت واحد
1756 -
وإن يُتم الوصف بعض دونا
…
بعضهمُ حُد المتممونا
1757 -
وما على الصبي حد مطلقا
…
رمى زنى شرب لاط سرقا
1758 -
ومن يطأ أمة والد يُحَد
…
بعكس والد يطا ملك الولد
1759 -
وقومنَّها عليه مسجلا
…
إذ وطؤها على بنيه انحظلا
قوله: ويثبت الزنى البيتين، معناه أن الزنى يثبت بواحد من ثلاثة أمور، أحدها الإقرار، ولا يشترط فيه التكرار، لظاهر الأحاديث الصحيحة خلافا لمن اشترط تكرره أربع مرات، وإذا رجع قُبِل رجوعه بلا خلاف إن كان رجوعه لوجه وشبهة، وعلى المشهور إن رجع لغير شبهة، وهو قول ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الملك، وعن مالك رواية أيضا أنه لا يقبل، وقد أعرض صلى الله تعالى عليه وسلم عن الذي أقر على نفسه حتى أكثر عليه، وقال:" لعلك كذا ولعلك كذا " وقد روى مالك عن أبي واقد الليثي أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أتاه وهو في الشام رجل، فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلا، فبعث عمر بن الخطاب أبا واقد الليثي - رضي الله تعالى عنهما - إلى امرأته يسألها عن ذلك، فأتاها وعندها نسوة حولها، فذكر لها الذي قال زوجها لعمر، وأخبرها أنها لا تؤخذ بقوله، وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع، فأبت أن تنزع، وتمت على الاعتراف، فأمر بها عمر فرجمت.
الأمر الثاني الحمل في غير المتزوجة وذات السيد المقر بوطئها، وقد جاء في الموطإ عن عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - أنه أتي بامرأة قد ولدت في ستة أشهر، فأمر بها أن ترجم، فقال له علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه -: ليس ذلك عليها، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم:(وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وقال جل من قائل: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) فالحمل يكون ستة أشهر فلا رجم عليها، فبعث عثمان في أثرها فوجدها قد رجمت.
والأمر الثالث شهادة أربعة شهود، وقد تكرر ذكر عددهم في آيات من القرآن الكريم، ويشترط تصريحهم بحصول ما يوجب الحد، بأن يقولوا إنهم رأوا فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، أو كالرشاء في البئر، ولا بد أن يكون ما شهدوا عليه فعلا واحدا، فلو شهد بعضهم على فعل ذلك في وقت، وشهد بعضهم على فعله في وقت آخر لم تقبل شهادتهم، إذ لم تثبت واحدة من المرتين، والشهادة لا تلفق في الأفعال، وقد جاء في الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال:" لو كنت راجما أحدا بغير بينة، رجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها "
(1)
.
قوله: وإن يتم الوصف البيت، معناه أنه إذا أكمل الوصف المذكور بعض الشهود دون بعض، سقط حد الفاحشة، ووجب حد القذف على من أتم الوصف المذكور، وقضاء بعض الخلفاء الراشدين بذلك مشهور.
قوله: وما على الصبي البيت، معناه أنه لا حد على الصبي مطلقا، لأن التكليف شرط في الحدود كلها، وقد رفع عنه القلم.
قوله: ومن يطأ أمة والد يحد، معناه أن من وطئ أمة مملوكة لأبيه حد، إذ لا شبهة له في مال أبيه، وحكي عن بعض أصحاب مالك - رحمه الله تعالى - أنه لا يحد، واختاره اللخمي - رحمه الله تعالى -.
(1)
أصل الحديث متفق عليه، وهذا اللفظ لابن ماجة.
قوله: بعكس والد إلخ، معناه أن الوالد إذا وطئ أمة ابنه لا يحد، لما له في ماله من الشبهة، وتقوم عليه، لأنها حرمت على الابن بذلك.
1760 -
وأدب الشريك حيث جامعا
…
معْ علمه بأن ذاك امتنعا
1761 -
ويضمن القيمة حيث أيسرا
…
وخَيِّرِ إن لم تك حبلى الاخَرا
1762 -
فإن يشأ بحظه تماسكا
…
وإن يشأ قومها كذلكا
1763 -
وحامل تزعم الاستكراها
…
على الزنى لا تسمعنْ دعواها
1764 -
إلا إذا أثبتت احتمالا
…
وغيبة كرها فلا إشكالا
1765 -
أو استغاثت وقت ذاك الظلم
…
أو فوره جاءت وهي تدمي
قوله: وأدب الشريك الأبيات الثلاثة، معناه أن الشريك إذا وطئ الأمة المشتركة لم يحد للشبهة، ويؤدب إن كان عالما بالحرمة، زجرا له عن مثل ذلك ولأمثاله من ضعفاء الدين، ويقوم عليه قسط شريكه إن حملت وكان موسرا، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: وعلى هذا الأمر عندنا، وإن كان معسرا بيعت في ذلك، وهي إحدى المسائل التي تباع فيها أم الولد، وإن لم تحمل خير شريكه بين التقويم، وبقائه شريكا فيها، وإلى ذلك أشار بقوله: وخير إن لم تك حبلى الاخرا البيتين، وقيل لا يخير في ذلك، وله نصف ما نقص بالوطء، وقيل تقوم على كل حال.
قوله: وحامل تزعم الأبيات، معناه أن غير ذات الزوج والسيد المقر إذا ظهر بها حمل تحد، ولا تصدق إذا ادعت الاستكراه، إلا لبينة أنها احتملت وغيب عليها، وكذلك إذا جاءت مستغيثة عند حدوث الاغتصاب، أو جاءت تدمي، ونحو ذلك من القرائن، فلا حد عليها للشبهة، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: الأمر عندنا في المرأة توجد حاملا ولا زوج لها فتقول: قد استكرهت، أو تقول: تزوجت، أن ذلك لا يقبل منها، وأنها يقام عليها الحد، إلا أن يكون لها على ما ادعت من النكاح بينة، أو على أنها استكرهت، أو جاءت تدمي إن كانت بكرا، أو استغاثت حتى أتيت وهي على ذلك الحال، أو ما أشبه هذا من الأمر الذي تبلغ فيه فضيحة نفسها، قال: فإن لم تأت بشيء من هذا أقيم عليها الحد، ولم يقبل منها ما ادعت من ذلك.
قال في التبصرة: إلا أن تكون المرأة معروفة بالخير، ولا يطعن عليها بشيء، فقالت: كنت كتمت ذلك رجاء أن لا يكون حمل ولا أكشف نفسي، أو رجاء أن يسقط، فتعذر بذلك، ومثله لو لم تسم من استكرهها، وقالت: رجوت ستر ذلك وهي معروفة بالخير، فلا أرى أن تحد، وهذا الذي آخذ به في ذلك، وقد روي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في امرأة ظهر بها حمل فادعت أنها استكرهت وقالت: كنت نائمة فما أيقظني إلا الرجل وقد ركبني، فأمر أن ترفع إليه إلى الموسم هي وناس معها من قومها، فسألهم عنها فأثنوا عليها خيرا، فلم ير عليها حدا وكساها، وأوصى بها أهلها، إلى أن قال: وقد جاءت في هذا الأصل مسائل متقاربة المعنى حمل في بعضها على الوطء، وفي بعضها على عدمه، فقالوا إذا شهد أربعة على رجل أنهم رأوه على امرأة بين فخذيها أنه لا يحمل على الوطء، ولو وجد الماء لإمكان أن يكون أصابها بين فخذيها، وإن ظهر بها حمل حمل على أنه الوطء في الفرج، ويقام عليها الحد، مع إمكان أن يكون ذلك خارج الفرج، ثم وصل الماء، إلا أن يقال إنما حدت لأنها سلمت أنه كان في الفرج وادعت الاستكراه، وأنها لو ادعت أن الإصابة كانت خارج الفرج فوصل الماء فحملت لصدقت، كما يصدق من شهد عليه أن كان بين فخذيها، وفي حديث عويمر أنه لاعن وادعى عليها الزنى، ولم يقل رأيت فرجا في فرج، فلاعن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بينهما على ذلك،
(1)
ولا أمره أن يثبت ذلك في لعانه، وقد أخذ مالك - رحمه الله تعالى - بهذا مرة في الزوج خاصة دون الشهادة، فقال: إذا قذف امرأته، أو نفى حملا، لاعن، ولم يسأل عن شيء، اتباعا للحديث.
1766 -
ويقتل الذمي بغصب المسلمه
…
وظاهر الشيخ ولو كانت أمه
1767 -
وجاز للسيد أن يحدا
…
حدَّ الزنى أمتَه والعبدا
1768 -
ما لم تك الأمة زوجَ حر
…
أو تك زوجة لعبد غير
1769 -
وذاك حيث اعترفا أو يثبت
…
عليهما بمن سواه العنت
(1)
متفق عليه.
1770 -
على الذي من الشروط قُدما
…
كذا إذا ظهر حمل بالإما
1771 -
أما اللواط فارجمنَّ فاعله
…
كذاك مفعول به قد قبله
1772 -
لا فرق بين محصَن والبكر
…
وإن يكن رقيقا أو ذا كفر
قوله: ويقتل الذمي بغصب المسلمه البيت، معناه أن الذمي إذا اغتصب المسلمة كان ناقضا للعهد، فيقتل، وظاهر الشيخ ولو كانت المسلمة أمة، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: الشيخ عن محمد: وإن استكره أمة لم يقتل، كما لو قتلها، وفيه اختلاف، وهذا أحب إلي لما جاء " لا يقتل حر بعبد "
(1)
قال مالك - رحمه الله تعالى -: وعليه في الأمة ما نقصها في البكر والثيب.
واختلف إذا زنى بالحرة طائعة، قال ابن عرفة: قال ربيعة: هو نقض، وسماع عبد الملك ابن وهب: تضرب المرأة الحد، ويضرب النصراني ضربا يموت منه، وإن اغتصبها نفسها صلب.
قوله: وجاز للسيد أن يحدا الأبيات الأربعة، معناه أنه يجوز للسيد أن يقيم الحد على أمته إن كانت غير متزوجة، أو متزوجة بعبد يملكه، فإن كانت متزوجة بغير مملوكه لم يكن له حدها، وإنما يحدها الإمام، وكذلك القول في العبد، فلسيده إقامة الحد عليه إن لم يكن متزوجا بغير ملك سيده، وفي الصحيح " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناهافليبعهاولو بحبل من شعر "
(2)
ولا يحد السيد رقيقه بعلمه، إذ لا يجوز للسلطان أن يقيم الحد بعلمه، وإنما يحده بالبينة أو الحمل في الأمة، ويحضر للحد أربعة، فإن شهد معه ثلاثة رفعه للإمام ولم يحده، ومثل حد الزنى حد القذف والشرب، فللسيد أن يقيم الحد فيها على رقيقه إذا ثبتت بغيره، قال ابن عرفة: قال مالك: من وجد عبده سكران لم يجلده حتى يشهد على سكره، ويحضر جلده رجلان.
(1)
رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف، وجل أهل العلم عليه.
(2)
متفق عليه.
وقوله: على الذي من الشروط قدما، يشير به إلى قوله: يراه كل واحد كالمرود البيت
قوله: أما اللواط البيتين، معناه أن حد اللائط الرجم، محصنا أو بكرا، حرا أو عبدا، مسلما أو كافرا، لا فرق في ذلك بين الفاعل والمفعول به، ولا يثبت اللواط إلا بالإقرار أو شهادة أربعة كالزنى، قال سيدي زروق: قال مالك - رحمهما الله سبحانه وتعالى: الرجم هي العقوبة التي أنزل الله سبحانه وتعالى بقوم لوط - على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - ولم يميز بين محصن ولا غيره، فيجب أن يكون حد اللائط رجمه، إلى أن قال: ووجد رجل معه صبي في كساء بحيث لم يشكوا في المنكر فأمر مالك - رحمه الله تعالى - أمير المدينة بسجنه، فسجنه سنة، ثم ضربه أربعمائة سوط، فانتفخ منها ومات، ولم يحفل به، وكان أبوه في مدة سجنه يقول: اتق الله سبحانه وتعالى يا مالك، فوالله ما خلقت النار باطلا، فيقول: من الباطل ما فعله ولدك، فاعرف ذلك.
واختلف في إتيان الأجنبية بدبرها هل هو زنى أو لواط، وأما المساحقة - وهي إتيان المرأة المرأة - ففيها الأدب باجتهاد الحاكم.
1773 -
والقاذفَ الحرَّ اجلدنَّه ثما
…
نين فحسب كافرا أو مسلما
1774 -
والعبد نصفَها وقذفُ العبد
…
وكافرٍ ليس به من حد
1775 -
وهكذا الصبي، والصغيره
…
إن يؤت مثلها فكالكبيره
1776 -
ومن نفى نسب حر مسلم
…
حُد له كلستَ نجلَ سالم
1777 -
والحد في التعريض أيضا قد وجب
…
كلستُ بالزاني أو الواهي النسب
1778 -
ومثل ذاك من بفعل قوم
…
سيدنا لوط عفيفا يرمي
1779 -
ومن رمى جماعة تعددوا
…
كفاه للجميع حد واحد
القذف في اللغة: الرمي، سميت به النسبة إلى المكروه مجازا، لأنها إصابة بالشر عن بعد، والقذف الموجب للحد عرفه ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: نسبة آدمي مكلف غيره حرا عفيفا مسلما بالغا، أو صغيرة تطيق الوطء لزنى، أو قطع نسب مسلم.
قال ابن عرفة: والعفاف قال ابن شاس: قال الأستاذ أبو بكر: أن لا يكون معروفا بالقيان ومواضع الفساد والزنى، قال ابن عرفة: وظواهر نصوص المذهب خلافه.
ثم قال - رضي الله تعالى عنه -: مسائل المدونة وغيرها واضحة بأنه السلامة من فعل الزنى قبل قذفه وبعده، ومن ثبوت حده لاستلزامه إياه.
واختلف إذا علم المقذوف من نفسه ما قذف به، فأجاز له مالك - رحمه الله تعالى - القيام به، وقال محمد بن عبد الحكم: لا يجوز له، وقال ابن القاسم في سماع أبي زيد: واستحسنه بعض الشيوخ لقوله سبحانه وتعالى: (والذين يرمون المحصنات) وهذا ليس بمحصن.
قوله: والقاذف الحر البيت، معناه أن القاذف إذا كان حرا يجلد ثمانين جلدة للآية الكريمة، والحرية شرط في الثمانين لا في الحد، فالقاذف لا يشترط في حده إلا البلوغ والعقل، فيحد الكافر، والعبد، والمرأة، والرجل، لقوله سبحانه وتعالى:(والذين يرمون) فعم ذلك كله، وخرج الصبي والمجنون بما تقرر من رفع القلم عنهما.
قوله والعبد نصفها، معناه أن الرقيق يجلد أربعين جلدة فقط، لما تقدم في حد الزنى، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ أن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنهما - والخلفاء هلم جرا فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين.
قوله: وقذف العبد البيت، معناه أنه لا حد على قاذف الرقيق أو الكافر، لأن حد القذف إنما ذكر في المحصنات خاصة، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: والإحصان الذي يوجب الحد في القذف هو الإحصان بالحرية والإسلام الذي يوجب جلد مائة في الزنى.
قوله: وهكذا الصبي، معناه أنه لا حد على قاذف الصبي لعدم لحوق المعرة، بخلاف الصبية إذا كانت مطيقة، فلها حكم الكبيرة لاستوائها معها في المعرة التي هي السبب، وإلى ذلك أشار ببقية البيت.
قوله: ومن نفى نسب حر البيت معناه أن نفي نسب الحر المسلم، كبيرا أو صبيا، ذكرا أو أنثى، وإن كانت أمه أمة، أو كافرة، أو ملاعنة فيه، كقذفه بالفاحشة في إيجاب الحد سواء كان ذلك تصريحا أو تعريضا، والمدرك الثابت في ذلك العرف في الاستعمال، والقرائن، فإن لم يكونا فالوضع، وقد فرقوا في قوله لمن أمه أمة أو كافرة يا ابن الزانية، بين تعريف الزانية وتنكيرها، فاوجبوا الحد في التنكير لأنه قطع لنسبه، إذ معناه تخلقه من زنى، وأسقطوه في التعريف لأنه قذف لأمه وهي غير محصنة.
قوله: والحد في التعريض البيت، معناه أنه لا فرق في القذف ونفي النسب بين التصريح والتعريض، والتصريح كأن يقول: زيد زان، أوليس ابن عمرو الملحق به، ولا يقبل منه في التصريح أنه لم يرد مقتضى اللفظ، إلا أن تنتصب على دعواه قرينة بينة، والتعريض كل ما دل على القذف، أو نفي النسب بقرينة بينة، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين استبا في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - فقال أحدهما للآخر: والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية، فاستشار في ذلك عمر - رضي الله تعالى عنه - فقال قائل: مدح أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، نرى أن تجلده الحد، فجلده عمر - رضي الله تعالى عنه - ثمانين.
قوله: ومثل ذاك من بفعل البيت معناه أن القذف باللواط كالقذف بالزنى، فيجب الحد في التصريح به والتعريض
قوله: ومن رمى البيت، معناه أن من قذف جماعة كفى في حده حد واحد، سواء قذفهم في كلمة واحدة، أو متفرقين، أو قذف بعضا ونفى نسب بعض، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ويدخل تحت قوله سبحانه وتعالى: (المحصنات) الرجال والنساء، لأنه لما كانت لا تزني امرأة إلا برجل اكتفى الله عز وجل بذكر المحصنات عن المحصنين، وهو أمر متفق عليه، إلى أن قال: وهذا المعنى يدل على أن قاذف الجماعة يحد حدا واحدا، لأن قاذف المحصنة قاذف للذي زنى بها، ولم يوجب الله سبحانه وتعالى عليه إلا حدا واحدا، مع قوله أيضا:(والذين يرمون المحصنات) وهن جماعة.
1780 -
وهكذا من لزنى قد كررا
…
أو شُربٍ، أو قَذَف ثم سَكِرا
1781 -
كما عن الحدود قتلٌ قد كفى
…
إلا بحق من لشخص قذفا
1782 -
وشارب المسكر لو لم يسكر
…
لقلة يُجلد جلد المفتري
1783 -
وجردنْ من كل ثوب الذكر
…
في الحد غير ما لعورة ستر
1784 -
وجردنْ من واقٍ الضربَ النسا
…
ويجلد المحدود كلا جالسا
1785 -
وأخرنْ للوضع ذاتَ الحمل
…
ولوجود مرضع للطفل
1786 -
كذا مريض لزوال السقَم
…
وأدبنَّ واطئ البهائم
قوله: وهكذا من لزنى البيت، معناه أن من كرر الزنى، أو الشرب، أو القذف لواحد، أو جماعة، كفى حده مرة واحدة، وقد حكوا في هذا الإجماع، وذلك لقاعدة أن السبب إذا تكرر واتحد موجَبه كفى فيه مسبب واحد، وهذا إذا كان التكرر قبل فعل المسبب، فإن تخلل المسبب الأسباب تعدد قطعا، وقد وهم في هذا بعض، فأجرى عليه تكرر حكاية الأذان، والصواب أن السقوط للحرج، واختلف في من قذف وشرب، والمشهور كفاية حد واحد، واختلف في من زنى وقذف، والمشهور أن يقام عليه الحدان معا، وهو قول مالك وابن القاسم - رحمهما الله تعالى - كما في التبصرة، وقال عبد الملك: يحد مائة للزنى ويدخل الشرب والفريةفي ذلك، نقله في التبصرة.
قوله: كما عن الحدود قتل قد كفى البيت معناه أن القتل تندرج فيه الحدود من قطع وجلد، إلا حد القذف فلا يندرج، بل يقام عليه قبل القتل ليندرئ العار عن المقذوف، وقيل إنه يندرج في القتل كغيره، قال في التبصرة: ولو قتل رجلا وزنى وهو محصَن رجم، ويسقط مقال أولياء المقتول، وإن كان غير محصَن قتل للقصاص ولم يجلد للزنى، ولو قتل رجلا لعداوة، وآخر في حرابة أو غيلة، قتل للحرابة وللغيلة، ولم يكن لأولياء المقتول مقال في عفو ولا دية، وإن زنى وهو محصَن، أو قتل في حرابة، وافترى على رجل، حُد للفرية ليدفع عنه معرة القذف، ثم قتل، وإن قطع يمين رجل قتل للحرابة ولم يقطع، هذا قول ابن القاسم، وأرى أن يقطع ثم يقتل، ليشتفي بالقطع من قطعت يمينه، وإن زنى وهو بكر، ثم زنى وهو محصن رجم ولم يجلد، وهو قول ابن القاسم، والقياس أن يجلد ثم يرجم، لأن الغرض الأول أن يؤلم بالضرب، وهو جنس غير الآخر، فيقام عليه ثم يرجم، إلى أن قال: إذا وجب حد ما دون القتل كقطع لسرقة أو قصاص، أو ضرب بكر في الزنى، أو جلد لشرب خمر أو قذف في شدة حر أو برد، وخيف عليه الموت متى أقيم عليه ذلك، أخر لوقت آخر يؤمن عليه فيه، وإن كان من وجب عليه ذلك ضعيف الجسم يخاف عليه الموت في أي زمان يقام عليه افترق الجواب، فأما القطع عن السرقة فيسقط، ويعاقب ويسجن، وإن كان القطع عن قصاص رجع فيه إلى الدية، واختلف هل يكون ذلك في مال الجاني أو على العاقلة، وإن كان ضرب لقذف، كان من حق المقذوف أن يفرق الضرب عليه وقتا بعد وقت، حتى يستكمل حقه في ذلك، وكذلك حد الزنى والشرب يفرق حتى يكمل ما وجب عليه فيه، وإن اجتمع على رجل حدان جميعا لله سبحانه وتعالى، أو لآدمي، أو أحدهما لله سبحانه وتعالى والآخر لآدمي، فإن كان فيه محمل لهما أقيما عليه، وإن كان فيه محمل لأحدهما وهما جميعا لله عز وجل بدئ بآكدهما، كالجلد عن الزنى وشرب الخمر، فيجلد عن الزنى، إلا أن يخاف عليه في المائة، ولا
يخلف عليه في الثمانين، وإن كان الخوف لشدة حر أو برد، أقيم عليه الثمانون وأخر بالمائة، وإن كان الخوف لضعف بنية ابتدئ بالجلد عن الزنى، وأقيم عليه منه ما يؤمن عليه معه، ثم يستكمل وقتا بعد وقت، فإذا أكملت المائة ضرب للشرب، وإن كان الحقان لآدمي لأنه قطع يد هذا، وقذف هذا، اقترعا أيهما يبدأ بإقامة حقه من غير مراعاة للآكد، وإن كان فيه محمل لأحدهما دون الآخر أقيم عليه الأدنى من غير قرعة، وإن كان أحدهما لله سبحانه وتعالى والآخر لآدمي بدئ بما هو لله سبحانه وتعالى، إلا أن لا يكون فيه محمل إلا لما هو لآدمي، فيقام عليه، ويؤخر ما كان لله عز وجل لوقت لا يخاف عليه، وإن كان الخوف في أي وقت أقيم عليه، وكان الحق الذي هو لله سبحانه وتعالى جلدا، ابتدئ به متفرقا، ويقام عليه ما كان للآدمي.
قوله: وشارب المسكر البيت، معناه أن من شرب مسكرا يجلد ثمانين جلدة إذا كان حرا، وأول من فعل ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - بعد أن استشار في ذلك، ويجلد العبد أربعين، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - من فعل عمر وعثمان وعبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهم أجمعين -.
قال مالك - رحمه الله تعالى -: والسنة عندنا أن كل من شرب شرابا مسكرا فسكر أو لم يسكر فقد وجب عليه الحد.
قوله: وجردن البيتين، معناه أن الرجل يجرد في الحد من الثياب إلا ما يستر عورته، وأما المرأة فإنما تجرد مما يمنع ألم الضرب، ويجلد المحدود قاعدا، ويضرب على الظهر والكتفين، دون سائر الأعضاء، ولا يربط ولا يمد، وتخلى له يداه يتقي بهما، وبلغ مالكا - رحمه الله تعالى - أن بعض الأئمة أقعد المرأة في قفة فأعجبه ذلك، والقفة: آنية كالحوض من الخوص ونحوه.
قوله: وأخرن إلى قوله: السقم، معناه أن الحامل تؤخر إقامة الحد عليها حتى تضع، وتؤخر المرضع لوجود مرضع، أو الفطام، كما في خبر الغامدية، ويؤخر المريض حتى يصح، كما في خبر الأمة النفساء التي بعث إليها النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ عليا ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ فقال:" أحسنت "
(1)
وتؤخر المتزوجة حتى تستبرأ بحيضة إذا احتمل حملها.
قوله: وأدبن واطئ البهائم، معناه أن واطئ البهيمة يؤدب ولا حد عليه، ولا شيء في البهيمة، وهي كغيرها من البهائم في الأكل ونحوه.
1787 -
وسارق من الدراهم ثلا
…
ثة أو الذي لها قد عادلا
1788 -
من العروض كلها أو ربعا
…
دينار إن كانت بحرز قُطعا
السرقة الموجبة للحد عرفها ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: السرقة: أخذ مكلف حرا لا يعقل لصغره، أو مالا محترما لغيره نصابا، أخرجه من حرزه، بقصد واحد، خفية، لا شبهة له فيه، فيخرج أخذ غير الأسير مال حربي، وما اجتمع بتعدد إخراج وقصد، والأب مال ولده، والمضطر في المجاعة.
(1)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والإمام أحمد.
ومعنى البيتين أن من سرق من حرز ثلاثة دراهم، أو ربع دينار، أو عرضا، قيمته يوم السرقة ثلاثة دراهم، في مرة واحدة، أو في مرات بقصد واحد، اتحد مالكه أو تعدد، قطع، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قطع في مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم،
(1)
والمجن: الترس، وأن عثمان - رضي الله تعالى عنه - قطع في أترجة قيمتها ثلاثة دراهم، وأن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: ما طال عليَّ وما نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا،
(2)
قال في المقدمات: الدراهم والدنانير كل واحد منها أصل في نفسه، لا يرد إليه صاحبه، لأنهما جميعا أثمان للأشياء، وقيم للمتلفات، واختصت السرقة بالتقويم بالدراهم، دون الدنانير، من سائر المتلفات للسنة المذكورة، فلا تقوم السرقة إلا بالدراهم كان البلد تجري فيه الدنانير والدراهم، أو لا يجري فيه أحدهما، وإنما يتعامل الناس فيه بالعروض، هذا مذهب مالك - رحمه الله تعالى - وهو ظاهر قوله في المدونة، ونص ما في كتاب ابن المواز خلاف قول أبي بكر الأبهري، وقال عبد الوهاب إنما تقوم بالأغلب في البلد من الصنفين.
(1)
متفق عليه.
(2)
حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ في كون القطع في ربع دينار فصاعدا، متفق عليه.
والحرز ما يعد الموضوع فيه عرفا مصونا، قال في الجواهر: وجملة القول فيه أن كل شيء له مكان معروف به فمكانه حرزه، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه، فمن ذلك أن الدور والمنازل والحوانيت حرز لما فيها، غاب أهلها أو حضروا، وكذلك ظهور الدواب حرز لما حملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في الموقف للبيع وإن لم يكن هناك حانوت كان معه أهله أم لا سرقت في ليل أو نهار، وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها محرزة، كان أهلها معها أم لا، فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لم تكن محرزة، إلا أن يكون معها حافظ، ومن ربط دابة بفنائه، أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه، فإنه حرز لها.
وتشترط في المسروق أمور أحدها أن لا يكون مملوكا للسارق، فلو سرق وديعته عند رجل، أو رهْنَه، أو مستأجَرَه، لم يقطع، ولو ورث مسروقه قبل أن يخرجه من الحرز لم يقطع، الثاني أن يكون محترما، فلو سرق خمرا، أو خنزيرا، أو آلة لهو لا تبلغ النصاب إلا من تلك الجهة، لم يقطع، الثالث أن لا يكون السارق شريكا في المسروق إذا لم يحجب عنه، وإن حجب عنه، نظر، فإن زاد ما سرقه على حصته بنصاب، قطع، وإلا فلا، الرابع أن لا تكون له شبهة فيه، فلا يقطع أب ولا أم إذا سرقا من مال ابنهما، ولا يقطع من سرق حقه من مال غريمه المماطل.
1789 -
ومن يكن أُخذ في الحرز فلا
…
يُقطع حيث المال كان داخلا
1790 -
كسارق من غير حرز كثمر
…
يأخذه من فوق أرؤس الشجر
1791 -
وقلب نخل مثلا أو الغنم
…
برعيها وإن يك الرعاة ثَم
1792 -
أما إذا من المراح كان قد
…
أخذها فذاك مطلقا يحد
1793 -
كسارق من الجرين تمرا
…
فإنه يقطع لو بصحرا
1794 -
كسارق من جيب أو أكمام
…
أو العمامة أو الحزام
1795 -
ومَن مِن الهُرْي كذلك سرق
…
أو بيت مال أيضا القطع استحق
1796 -
أو مغنم أو إن على المناب
…
قد زاد ما سرق بالنصاب
1797 -
وما على مختلس أو غاصب
…
أو خائن قطع ولكن اَدِّب
1798 -
كمثل من سرق من بيت لهُ
…
منَ اَهله أُذِن أن يدخله
قوله: ومن يكن أخذ في الحرز البيت، معناه أن السارق إذا أخذ داخل الحرز قبل أن يخرج السرقة لا يقطع، لأنه مريد سرقة لا سارق، واختلف إذا رمى بالسرقة خارج الحرز وبقي في الحرز حتى أخذ، وأما إذا هرب بالسرقة بعد أخذه في الحرز فلا يقطع، لأنه لم يخرجها على وجه السرقة، وإنما هو مختلس، وكذلك لا قطع على من سرق مالا من غير حرز كالثمر المعلق على رؤوس الشجر، وكقلب النخل، وهو الجمار كعناب، وفي حديث الموطإ " لا قطع في ثمر ولا كثر "
(1)
والكثر هو الجمار، وهذا في الحوائط، وأما النخلة أو النخلات تكون في الدار، فهي حرز لها، فمن سرق منها نصابا قطع، وكذلك الحوائط المحروسة أو التي عليها غلق، ولا قطع على من سرق من غنم مثلا في رعيها، إذ ليست في حرز، ولو كان معها راع، وذلك لتفرقها، وإنما يقطع إذا سرق منها وهي في مراحها، لأنه حرز لها، سرق منها ليلا أو نهارا، بحضرة صاحبها أو لا، واختلف إذا سرق منها وهي سائرة من المراح إلى المرعى، أو عائدة منه إلى المراح، وروى مالك - رحمه الله تعالى - أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:" لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل " قال: فإذا آواها المراح، أو الجرين، فالقطع في ما يبلغ ثمن المجن، وإلى هذا أشار بقوله: كسارق من غير حرز الأبيات الأربعة.
قوله: كسارق من جيب البيت، معناه أن من سرق نصابا من جيب، أو كم، أو عمامة، أو حزام، يقطع، وهذا ظاهر.
قوله: ومن من الهري البيت، معناه أن من سرق نصابا من الهري، أو من بيت المال، يقطع اتفاقا، لضعف الشبهة، والهري: البيت الذي يجعل الإمام فيه الأطعمة، كالقمح ونحوه، مثل بيت المال للعين، جمعه أهراء، كقفل وأقفال.
(1)
ورواه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
قوله: أو مغنم أو إن على المناب البيت، معناه أنه إذا سرق أحد المجاهدين من الغنيمة بعد حوزها نصابا، قطع، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: وقيل لابن القاسم في كتاب السرقة من المدونة: أليس له فيها حصة؟ قال: قال مالك: وكم تلك الحصة؟ ففهم منه أن القطع إنما هو مع كبر الجيش وقلة الغنيمة، ولو انعكس الفرض لكانت كمسألة الشريكين.
وقيل لا يقطع إلا إذا سرق فوق منابه بنصاب، وهل المعتبر في ذلك خصوص جنس المسروق أو عموم الغنيمة احتمالان.
قوله: وما على مختلس البيت، معناه أنه لا قطع على مختلس، ولا غاصب، ولا خائن، ولكن يؤدب، والاختلاس: الأخذ على وجه المخاتلة، والغصب: الأخذ بالقهر من غير حرابة، والخيانة أن يكون وصوله إلى محل المسروق عن إذن في الجملة، وفي الحديث " لا قطع على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس " ومثل للخائن بقوله: كمثل من سرق البيت، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: الأمر عندنا أنه إذا كانت دار رجل مغلقة عليه ليس معه فيها غيره، فإنه لا يجب على من سرق منها شيئا القطع حتى يخرج به من الدار كلها، وذلك أن الدار كلها هي حرزه، فإن كان معه في الدار ساكن غيره، وكان كل إنسان منهم يغلق عليه بابه، وكانت حرزا لهم جميعا، فمن سرق من بيوت تلك الدار شيئا يجب فيه القطع فخرج به إلى الدار، فقد أخرجه من حرزه إلى غير حرزه، ووجب عليه فيه القطع.
وقال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: الصقلي: تلخيص قولها في الدور أنها على ثلاثة أقسام، الأول المشتركة المأذون فيها لساكنيها فقط، ومن سرق من سكانها من بيت محجور عنه قطع بإخراجه المتاع إلى الساحة، وإن سرق من الساحة لم يقطع، وإن خرج به من جميع الدار، أو سرق من غير سكانها لم يقطع إلا بإخراجه من جميع الدار، سرقه من البيت او من الساحة قاله سحنون، وقال محمد: يقطع إذا أخرجه من البيت إلى الساحة، وإن سرقه من الساحة لم يقطع حتى يخرجه من جميع الدار، الثاني المشتركة المباحة لكل الناس، بيوتها كبيوت السكة النافذة، وساحتها كالسكة النافذة، من سرق من بيوتها قطع بإخراج السرقة من البيت، كان من سكانها أو من غيرهم، ومن سرق من ساحتها لم يقطع، وإن أخرجه من جميع الدار من سكانها أو من غيرهم، الثالث المأذون فيها الغير مشتركة إن سرق منها من أذن له من بيت حجر عنه فأخذ في الدار أو بعد أن خرج منها لم يقطع، وقيل يقطع إذا أخرجه من البيت.
1799 -
ولْتقطعنْ يدَ اليمين أولا
…
فإن يعدْ بعدُ لما قد فعلا
1800 -
فرجلَه اليسرى اقطعنْ فيسرى
…
الايدي اقطعنْ فالرجل أيضا الاخرى
1801 -
فإن يعد زُجَّ به في السِّجن
…
معْ جلده للتوب أو للحَيْن
1802 -
ومن بها أقر طوعا قُطعا
…
وليُترك إن عن ذاك أيضا رجعا
1803 -
وغرم القيمة إن كانت معه
…
وحيث لم تكن لديه اتَّبعه
1804 -
والعبد إن أقر في ما يلزم
…
ببدن كالقطع فهْو لازم
1805 -
وباطل إقراره بالمال
…
وكل ما إليه ذو مآل
قوله: ولتقطعن يد اليمين الأبيات الثلاثة، معناه أن السارق تقطع يده اليمنى أولا من الكوع وتحسم بالنار، لئلا يترامى الأمر إلى غيرها، فإن سرق مرة أخرى قطعت رجله اليسرى من المفصل الذي في أصل الساق على المعول، وقيل يقطع تحت الكعبين، ويبقى الكعبان في الساق، وقيل يقطع من المفصل الذي في وسط القدم، ويترك له العقب، فإن عاد قطعت يده اليسرى، فإن عاد قطعت رجله اليمنى، فإن عاد ضرب وحبس حتى يتوب، واختلف إذا لم تكن له يمين، أو كانت شلاء، فقيل تقطع رجله اليمنى، وقيل يده اليسرى، وروى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ أن رجلا من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - فشكا إليه أن عامل اليمن قد ظلمه، فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر - رضي الله تعالى عنه -: وأبيك ما ليلك بليل سارق، ثم إنهم فقدوا عِقدا لأسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنهما - فجعل الرجل يطوف معهم ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاءه به، فاعترف به الأقطع، أو شهد عليه به، فأمر به أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - فقطعت يده اليسرى، وقال أبو بكر - رضي الله تعالى عنه -: والله لدعاؤه على نفسه أشد عندي عليه من سرقته.
قوله: ومن بها أقر البيت، معناه أن من أقر بالسرقة طائعا قطع، إن استمر على إقراره، فإن رجع لم يقطع.
قوله: وغرم القيمة البيت، معناه أن رجوعه إنما ينفعه في القطع، وأما المسروق فيغرم قيمته، ويتبع بها إن أعدم، ومثل ذلك ما إذا شهد عليه شاهد وحلف المسروق منه، أو شهد عليه رجل وامرأتان، فإنه يتبع بالمسروق ولا يقطع حتى يشهد عليه شاهدان، أو يصر على الإقرار.
قوله: والعبد إن أقر البيتين، معناه أن العبد مؤاخذ بإقراره حيث لزمه به شيء في بدنه، من حد أو قطع، إذ لا يتهم في ذلك، بخلاف إقراره بمال فلا يلزم، لأنه يتهم في تفويته على السيد، وكذلك ما يؤول إليه كجروح الخطإ التي فيها مال، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: إن على ذلك الأمر المجتمع عليه عندهم.
ولا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده، وقد روى ذلك مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن عمر - رضي الله تعالى عنه -.
1806 -
ولم تجز شفاعة من بعد
…
علم الامام مطلقا بحد
1807 -
إلا بقذف فالامام اختلفا
…
مقاله في العفو عمن قذفا
1808 -
ويدفع السارق ما قد سرقا
…
إن لم يفت ولو يكون مملقا
1809 -
وإن يفت كذاك أيضا اتْبَع
…
بقيمة مطلقا إن لم يقطع
1810 -
كذاك إن يقطع وكان ذا ملا
…
وذهبت بعسره سبهللا
قوله: ولم تجز شفاعة البيتين، معناه أن الشفاعة في الحدود قبل بلوغ الإمام جائزة، وتمنع بعد بلوغه، وقد جاء في الموطإ أن صفوان بن أمية - رضي الله تعالى عنه - نام في المسجد وتوسد رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق وجاء به إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فأمر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن تقطع يمينه، فقال له صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - هو عليه صدقة، فقال له رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" فهلا قبل أن تأتيني به تركته"
(1)
.
وجاء فيه أن الزبير بن العوام - رضي الله تعالى عنه - لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان، فشفع له الزبير - رضي الله تعالى عنه - ليرسله، فقال: لا حتى أبلغ به السلطان، فقال الزبير - رضي الله تعالى عنه -: إذا بلغت به السلطان فلعن الله تعالى الشافع والمشفِّع.
(1)
رواه النسائي وابن ماجة والإمام مالك والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
واختلف قول مالك - رحمه الله تعالى - في حد القذف، فجعله مرة حقا للمقذوف، فأجاز له العفو قبل بلوغ الإمام وبعده، وجعله مرة حقا لله سبحانه وتعالى فلم يجز له العفو وإن لم يبلغ الإمام، وهذا ما لم يرد بالعفو الستر على نفسه، وإلا كان له ذلك قبل الإمام وبعده اتفاقا، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - ذلك في الموطإ من قضاء عمر بن عبد العزيز - رضي الله تعالى عنه -.
قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: وفي الأقضية منها: وإذا سمع السلطان قذفا، فإن كان معه شهود لم يجز فيه عفو الطالب، إلا أن يريد سترا، مثل أن يخاف أن يثبت ذلك عليه إن لم يعف، قيل لمالك - رحمه الله تعالى -: فكيف يعرف ذلك؟ قال: يسأل الإمام عن ذلك سرا، فإن أخبر أن ذلك أمر قد سمع أجاز عفوه، الشيخ عن الموازية: يعني إذا أراد سترا، قال مالك: مثل أن يكون ضرب الحد قديما، فيخاف أن يظهر ذلك عليه الآن، وقال ابن الماجشون: قول مالك: إذا أراد سترا، يعني إذا كان مثله يفعل ذلك، ولا يكلف أن يقول أردت سترا، لأن قول ذلك عار، فأما العفيف الفاضل فلا يجوز عفوه، الصقلي عن محمد: وهذا إذا قذفه في نفسه، وإن قذف أبويه أو أحدهما وقد مات المقذوف لم يجز العفو فيه بعد بلوغ الإمام، وقاله ابن القاسم وأشهب، قال ابن عرفة: وفي النوادر: قال محمد: ويجوز عفو الولد عن الأب عند الإمام قاله مالك - رحمه الله تعالى - قال: ويجوز عفوه عن جده لأبيه عند الإمام كأبيه، وأما عن جده لأمه فلا، قال ابن عرفة: مقتضى قولها في نسبه إلى جده لأمه أنه كنسبه إلى جده لأبيه أنهما سواء.
قوله: ويدفع السارق الأبيات، معناه أن السارق يقضى عليه برد السرقة إذا كانت قائمة مطلقا، قطع أو لم يقطع، أيسر أو أعسر، وإن فاتت فإن لم يقطع اتبع بها أيضا مطلقا، أيسر أو أعسر، وإن قطع اتبع بها إن اتصل يسره بها من السرقة إلى يوم القطع، وإن أعسر بها في ما بين ذلك لم يتبع بها، هذا قول مالك - رحمه الله تعالى - في المدونة، وهو المشهور، قال في التبصرة: وقال أبو محمد عبد الوهاب: قال بعض شيوخنا: القيمة مع القطع استحسان، والقياس أنه لا يلزمه شيء، لأنه لو لزمه الغرم مع اليسر للزمه مع العسر، وإنما استحسن ذلك لجواز أن يكون قد قبض لها ثمنا واختلط بماله، وحكى ابن شعبان قولا رابعا أنه يتبع مع القطع وإن كان معسرا، قال: وهو قول غير واحد من أهل المدينة المنورة، لأن القطع حق لله عز وجل لا يعفى عنه، وإن تاب السارق وحسنت توبته، والغرم حق لآدمي، وحقوق الله سبحانه وتعالى لا تسقط حق الآدمي، كما يجب على الزاني المحصن - يريد إذا اغتصب امرأة - الصداق مع الرجم.
ووجه المشهور من عدم الاتباع في العسر ما في اتباعه وهو معسر مع قطعه من اجتماع عقوبتين، وفرق بينه وبين مسألة المحصن بتعدد السبب، قال القاضي عبد الوهاب: لأن هاتين عقوبتان عن سببين نقله في التاج.
فالزنى سبب للرجم، والإكراه سبب للمهر، فالفعل وإن كان واحدا إلا أنه في حكم المتعدد بتعدد وصفه، فهو من حيث هو زنى سبب للحد، ومن حيث هو زنى مكره عليه موجب للصداق، لكن هذا المعنى حاصل في السرقة أيضا فانظر ذلك.