الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في الفطرة والختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك
2125 -
خمس من الفِطرة قص الشارب
…
وهْو الاِطار عند أهل المذهب
2126 -
وحلق عانة ونتف شعرِ
…
إِبْطٍ كذا التقليم للأظافر
2127 -
ثم الختان خامس الخلال
…
يسن في النساء والرجال
أشار بهذا إلى ما جاء في الصحيح من أن قص الشارب، وقلم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان من الفطرة،
(1)
وفسروا الفطرة هنا بالدين والسنة، ويقال إن خصال الفطرة هي الكلمات التي ابتلى الله سبحانه وتعالى بها سيدنا إبراهيم - على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - وهي عائدة إلى الزينة، والنظافة، ودرء القاذورات، ومجانبة الروائح النتة، والمراد بقص الشارب عند مالك - رحمه الله تعالى - أن يؤخذ من الإطار حتى يبدو طرف الشفة، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى - في البيان: لأنه روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " من لم يأخذ شاربه فليس منا "
(2)
وأنه قال: " خمس من الفطرة "
(3)
فذكر منها قص الشارب، فجعل ذلك من قوله مبينا لأمره بإحفاء الشوارب، فقال: معناه أن يقص حتى يحفي منه الإطار جميعه، وقوله صحيح، لأن استعمال الأحاديث، وحمل بعضها على التفسير لبعض، أولى من الأخذ ببعضها، والاطراح لسائرها، لا سيما وفي العمل المتصل من السلف بالمدينة بترك إحفاء الشوارب دليل واضح على أنهم فهموا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه إنما أراد بإحفاء الشوارب قصها والأخذ، وأن لا تعفى كما يفعل باللحى، وهو دليل واضح، لذلك قال إن حلق الشارب مثلة، وحكم له بأنه بدعة، ورأى أنه يؤدب من فعل ذلك، إلى أن قال: ولا يصح أن يكون المتأخر أعلم بمراد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - من السلف المتقدم.
(1)
متفق عليه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ.
(2)
رواه الترمذي والنسائي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(3)
هو حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ السابق.
وأما حلق العانة فالمراد منه بين، وذكر الحطاب في حاشيته عن الباجي - رحمهما الله سبحانه وتعالى حلق ما بين الدبر والأنثيين.
وأما الإبطان فالمشروع في إزالة شعرهما النتف خاصة، قال ابن العربي رحمه الله سبحانه وتعالى: لأنه أشد ذهابا لإنبات الشعر، وأما الحلق فيقويه، نقله عنه ابن ناجي - رحمه الله تعالى - ووجه الأمر بإزالة الشعر في هذه المواضع أنها إذا تركت تلبدت عليها الأوساخ، وتراكمت عليها الأقذار، وثبت العرق فيها، ونشأ عنه الصنان، لا سيما في البلاد الحارة.
وأما قلم الأظافر فمعروف أيضا، ووجهه ما يتلبد تحتها من الوسخ، مع تغطيتها لبقع يجب غسلها في الطهارة، وقلمها في مثل تلك الحال واجب، وفي الصحيح من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه -: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة،
(1)
وفي جامع ابن أبي زيد عن مالك - رحمهما الله تعالى - أنه قال: وأحب إلي أن يوارى الشعر إذا حلق، وأرى تركه خفيفا، قال: وسئل في موضع آخر عن دفن الشعر والأظفار، فقال: لا أرى ذلك، وهو بدعة، وقد كان من شعر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في قُلَنْسِيَة خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - وفيه أيضا قال مالك - رحمه الله تعالى -: ولا أرى بأسا بالاطلاء والحجامة يوم السبت، ويوم الأربعاء، والأيام كلها لله سبحانه وتعالى، وكذلك السفر، والنكاح، وأراه عظيما أن يكون من الأيام يوم يجتنب ذلك فيه، قال: وقد كره بعض أصحابه ترك العمل يوم الجمعة نحو ما عظمت اليهود السبت، والنصارى الأحد
…
وأما الختان فقد تقدم الكلام عليه والحمد لله رب العالمين.
2128 -
وشعر الجسد ليس يحظر
…
حلاقُه كما به لايؤمر
2129 -
أما اللِّحى فالامر بالإعفاء
…
بها أتى عن خير الانبياء
(1)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.
2130 -
صلى وسلم عليه الله
…
والال والصحب ومن تلاه
2131 -
والاخذ منها إن تطل كثيرا
…
إمامنا جعله جديرا
2132 -
وغير واحد من الصحب ومن
…
تبعهم يرون ذلك حسن
2133 -
والصبغ للشعر بالسواد
…
قد كرهوه دون ما انحراد
2134 -
وجاز بالحنا كذاك بالكتم
…
بل استحبه بذين بعضهم
قوله: وشعر الجسد البيت، معناه أن شعر الجسد ليس في حلقه ولا تركه أمر ولا نهي، يعني غير اللحية لما يذكره بعد، ويستثنى من ذلك الحاجبان أيضا لما في حديث الصحيح من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لعن الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله سبحانه وتعالى،
(1)
قال القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسيره: وهذه الأمور كلها قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها، وأنها من الكبائر، واختلف في المعنى الذي نهي لأجله، فقيل لأنها من باب التدليس، وقيل من باب تغيير خلق الله سبحانه وتعالى كما قال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - وهو أصح، وهو يتضمن المعنى الأول، وفي المعيار قال أبو عمر في الكافي: ولا تصل شعرها بشعر غيرها، فقد لعنت الواصلة والمستوصلة كما لعنت الواشمة والمستوشمة والنامصة، والوشم أن توشم في وجهها خالا، والوشر: تفليج الأسنان، والنمص: صناعة الحاجبين، بزيادة أو نقصان، وإحالتهما عن حالهما، ونقل القرطبي عن ابن العربي - رحمهما الله تعالى - ما يقتضي أن نتف الشعر ولو كان مطلوب الإزالة نمص، ونصه: وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه
…
وقال ابن أبي زيد في جامعه: قال مالك في المرأة تحج فتدخل مكة المكرمة وقد قمل رأسها، وآذاها ذلك، أترى لها سعة أن تحلقه؟ قال: أرجو أن يكون في ذلك سعة على هذه الضرورة، والنساء يأتين يستفتين في ذلك كثير.
(1)
متفق عليه، واللفظ لمسلم.
قوله: أما اللحى الأبيات الثلاثة، أشار به إلى ما جاء في الصحيح من أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بإعفاء اللحى،
(1)
ورأى مالك - رحمه الله تعالى - أن الأخذ منها إذا طالت حسن، ووجه ابن رشد - رحمه الله تعالى - وغيره ذلك بأن مبنى الأمر بإعفائها كونه زينة، وذلك يقتضيه تحسينها إذا خرجت إلى الشهرة بالطول الفاحش، قالوا: ومخالفة المشركين حاصلة مع ذلك، لأنهم يحلقونها، فالتقصير اليسير غير مخرج عن مخالفتهم، وعمل السلف الآتي صريح في أن ذلك هو المراد بالإعفاء، كنحو ما تقدم لابن رشد - رحمه الله تعالى - في إحفاء الشوارب والله سبحانه وتعالى أعلم.
وظاهر كلام من وقفت عليه من أهل المذهب الذين يعول على كلامهم في حد الأخذ أنه يكون بقدر ما تحسن به الهيئة، وأما التقصير الذي يقرب فيه من أصول الشعر فلا شك في عدم صدق الإعفاء عليه، وأما ما بين ذلك فقد نص القرطبي - رحمه الله تعالى - في المفهم على منعه، ونصه: ولا يجوز حلق اللحية ولا نتفها، ولا قص الكثير منها، فأما أخذ ما تطاير منها، وما يشوه، ويدعو إلى الشهرة، طولا وعرضا، فحسن عند مالك وغيره من السلف انتهى وأما ما ذكره بعض المتأخرين من الكراهة في ذلك فلم أقف عليه والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1)
متفق عليه من حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ
قوله: وغير واحد من الصحب البيت، معناه أن الأخذ من اللحية عند الطول، مروي عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، منهم من روي عنه ذلك مطلقا، ومنهم من روي عنه في النسك، ولا أثر للتقييد به، لأن الإحلال من النسك لا يجيز ما لا يحل
…
قوله: والصبغ للشعر البيتين، معناه أن صبغ الشعر، وتغيير الشيب بالسواد، مكروه عند مالك - رحمه الله تعالى - ولم يحرمه، وذكر أنه لم يسمع فيه شيئا، وقد جاء في الصحيح في مجيء أبي قحافة - رضي الله تعالى عنه - إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يوم الفتح ورأسه كالثغامة أنه قال:" غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد "
(1)
لكن جاء عن جماعة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - أنهم كانوا يصبغون بالسواد، فكرهه لذلك جماعة من أهل العلم كراهة تنزيه، ولم يروه حراما، وأما صبغه بالحناء والكتم فلا خلاف في جوازه كما قال ابن رشد - رحمه الله تعالى - وإنما اختلفوا هل ذلك هو الأفضل، وهو مقتضى قول مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: وترك الصبغ كله واسع إن شاء الله سبحانه وتعالى ليس على الناس فيه ضيق، وروى في الموطإ أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث كان أبيض اللحية والرأس، فغدا على جلسائه ذات يوم وقد حمرها، فقالوا له: هذا أحسن، فقال: إن أمي عائشة - رضي الله تعالى عنها - زوج النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أرسلت إلي البارحة جاريتها نخيلة، فأقسمت علي لأصبغن، وأخبرتني أن أبا بكر الصديق - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - كان يصبغ، قال مالك - رحمه الله تعالى -: في هذا الحديث بيان أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - لم يصبغ، ولو صبغ رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأرسلت بذلك عائشة إلى عبد الرحمن - رضي الله تعالى عنهما -.
2135 -
وقد نهى نبينا الذكورا
…
أن يلبسوا الذهب والحريرا
(1)
رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
2136 -
وخاتم الحديد عنه قد زجر
…
لا فرق فيه بين مرءة ومر
2137 -
وحلية الفضة في الخواتم
…
والسيف والمصحف لم تُحرم
2138 -
لا السرج والسكين واللجام
…
وغيرها فهْي من الحرام
2139 -
وللنسا بالذهب التختم
…
بل سائر اللباس ليس يحرم
2140 -
ولتتختمنَّ في اليسار
…
فذا له الأكثر ذو اختيار
2141 -
والخلف في الخز فبعض حللا
…
لباسه والبعض ذاك استثقلا
2142 -
وهكذا الخلاف أيضا في العلم
…
إلا إذا رق فهو كالعدم
قوله: وقد نهى نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الذكورا البيت، أشار به إلى أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - حرم لبس الذهب والحرير على الرجال، ولفظ الحديث " أُحِلَّ الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها "
(1)
وقال في الحرير " إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة "
(2)
وفي معنى لبسه افتراشه، وقد وقع التصريح بذلك في بعض الأحاديث،
(3)
والمراد بالحرير في البيت خالصه، وأما الخز فأشار إلى حكمه بقوله: والخلف في الخز البيت، ومعناه أن لبس الخز مختلف في منعه، فروي عن ابن عباس وجماعة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - أنهم لبسوه، وروي عن ابن عباس أنه قال: إنما نهي عن الثوب المصمت من قز،
(4)
وروى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ أن عائشة - رضي الله تعالى عنها - كست عبد الله بن الزبير - رضي الله تعالى عنهما - مِطْرَفَ خز كانت تلبسه، قال ابن ناجي عازيا لابن رشد - رحمهما الله سبحانه وتعالى: والخز: ما سداه حرير ولحمته وبر الإبل.
(1)
رواه النسائي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(2)
متفق عليه.
(3)
روى البخاري عن حذيفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: نهانا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه.
(4)
رواه أبو داود والإمام أحمد، وهو صحيح.
قوله: وهكذا الخلاف أيضا في العلم البيت، معناه أنه اختلف في لبس الثوب يكون فيه علم من الحرير قدر الأصبع والأصبعين، فقيل يجوز من غير كراهة، وقد وقع التصريح باستثنائه في الصحيح،
(1)
وقيل يكره، وفي جامع ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى - أنه قيل لمالك - رحمه الله تعالى -: ملاحف أعلامها حرير قدر أصبعين؟ قال: لا أحبه، وما أراه حراما.
(1)
روى الشيخان وغيرهما أن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ كتب إلى الصحابة بأذربيجان أو بالشام أن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ نهى عن الحرير إلا هكذا إصبعين، فعلموا أنه أراد الأعلام.
قوله: إلا إذا رق فهو كالعدم، معناه أن الخط الرقيق من الحرير جائز بلا خلاف
…
قوله: وخاتم الحديد البيت، معناه أن التختم بالحديد منهي عنه، وفي الحديث الشريف أنه حلية أهل النار،
(1)
ولا فرق في كراهته بين الرجل والمرأة، وأما حديث " التمس ولو خاتما من حديد "
(2)
فلا يستلزم جواز لبسه من غير كراهة، وإنما وقعت المبالغة عليه ليسارة قيمته، فأكثر ما يدل عليه الحديث الشريف جواز تملكه، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لعمر - رضي الله تعالى عنه -:" إني لم أكسكها لتلبسها "
(3)
قوله: وحلية الفضة البيت، معناه أن التختم بالفضة جائز للرجل، وقد كان له صلى الله تعالى عليه وسلم خاتم من فضة،
(4)
وكذلك يجوز للرجل خاصة أن يتخذ في سيفه فضة، وقد روى البخاري أن سيف الزبير ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان محلى بفضة، وأن سيف عروة أيضا كان محلى بها، واختلف في تحليته بالذهب، وتجوز تحلية المصحف أيضا بالفضة، قال في جامع ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى -: قال مالك - رحمه الله تعالى -: ولا بأس بالحلية للمصحف، وإن عندي مصحفا كتبه جدي إذ كتب عثمان - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - المصاحف عليه فضة كثيرة، إلى أن قال: ورأينا مصحف مالك - رحمه الله تعالى - مغشى بخِرَق ديباج، ومن فوقها غلاف طائفي أحمر، قال مالك - رحمه الله تعالى -: وهذا من ديباج الكعبة، واستخف أن يشترى منه للمصحف، قال: ولا يحلى بشيء من الذهب.
(1)
روى الإمام أحمد بسند حسن أن بعض أصحاب النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ اتخذ خاتما من ذهب، فأعرض عنه، فألقاه، واتخذ خاتما من حديد، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم:" هذا شر، هذا حلية أهل النار " فألقاه، فاتخذ خاتما من ورق، فسكت عنه.
(2)
متفق عليه.
(3)
متفق عليه.
(4)
متفق عليه من حديث عبد ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ.
قوله: لا السرج البيت، أشار به إلى أن المشهور في الحلية في ما سوى السيف من آلات الحرب المنع، وقيل يجوز اعتبارا بالسيف، وقيل بالفرق بين ما يطاعن به وما يتقى به، فتجوز في الأول اعتبارا بالسيف دون الثاني.
قوله: وللنسا بالذهب التختم، معناه أنه يجوز للنساء التختم بالذهب، ولبسه مطلقا، وقد تقدم حديث " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي " وقد قال سبحانه وتعالى:(أومن ينشأ في الحلية) الآية، قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: قال مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير، وقرأ هذه الآية الكريمة، قال الكيا: فيه دلالة على إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه، والأخبار فيه لا تحصى.
قوله: ولتتختمن في اليسار البيت، معناه أن التختم في اليسار أفضل عند الأكثرين، وقال ابن أبي زيد في جامعه: قال مالك - رحمهما الله سبحانه وتعالى: وأكره التختم في اليمين، وقال: إنما يأكل ويشرب ويعمل بيمينه، فكيف يريد أن يأخذ باليسار ثم يعمل؟ قيل: فيجعل فصه إلى الكف، قال: لا، قيل: فيجعل الخاتم في اليمين للحاجة يذكرها أو يربط خيطا في أصبعه؟ قال: لا بأس بذلك، إلى أن قال: قال مالك - رحمه الله تعالى -: ولا خير أن يكون في نقش فصه تمثال.
وقال ابن ناجي: قال ابن رشد - رحمهما الله تعالى -: من السلف من يختار التختم في اليمين، وقد روي ذلك عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - والوجه في ذلك أنه من اللباس والزينة، فيؤثر به اليمنى على اليسرى، كما تؤثر الرجل اليمنى على اليسرى، بما جاء به من السنة في الانتعال، بأن ينعل اليمنى أولا، ويخلع اليسرى قبلها، لتكون اليمنى أكثر استعمالا للباس منها، وقد يكون فيه اسم الله سبحانه وتعالى فلا يحتاج إذا تختم في يمينه أن يخلعه عند الاستنجاء، لأن ذلك يستحب في من تختم في شماله.
وما ذكر من عدم تعين نزعه عند الاستنجاء، وقع التصريح به في العتبية، قال في الجواهر: قال القاضي أبو بكر: قال لي بعض أشياخي: هذه رواية باطلة معاذ الله تعالى أن تجري النجاسة على اسم الله سبحانه وتعالى، وهو الأبين.
وقال الحطاب في حاشيته نقلا عن ابن عبد البر: وقد كان التختم في اليمين مباحا حسنا، لأنه قد تختم به جماعة من السلف، كما تختم جماعة منهم في الشمال، وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم الوجهان جميعا،
(1)
فلما غلبت الروافض على التختم في اليمين ولم يخلطوا به غيره كرهه العلماء منابذة لهم، وكراهة للتشبه بهم، لأنه حرام أو مكروه.
2143 -
وامنع على النساء كل ما يصف
…
إما لكونه محيطا أو يشف
2144 -
وهكذا جر الرجال بطرا
…
أُزُرَهم فهو أيضا حظرا
2145 -
وهكذا جر الثياب خُيَلا
…
فلْتك للكعب فقط لا أنزلا
2146 -
وانْه عن الصما بدون ستر
…
ومعه فيها الخلاف يجري
2147 -
وإِزْرة المؤمن ليست تنزل
…
عن نصف ساقه فذاك الأفضل
2148 -
وفخِذ الرجل عورة خفيـ
…
ـفة على المشهور من مختلف
(1)
وقد رواهما معا مسلم في الصحيح.
قوله: وامنع على النساء البيت، معناه أنه لا يجوز للمرأة أن تلبس في خروجها، أو بحضرة غير زوجها، ما يصف بدنها، إما لإحاطته، والتصاقه ببدنها، وإما لكونه رقيقا، وفي حديث الصحيح " صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا "
(1)
وفيه أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قام من اليل فنظر في أفق السماء فقال: " ما ذا فتح اليلة من الخزائن، وما ذا وقع من الفتن، كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة أيقظوا صواحب الحُجر "
(2)
وفي الموطإ أن حفصة بنت عبد الرحمن دخلت على عائشة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - وعليها خمار رقيق، فشقته عائشة - رضي الله تعالى عنها - وكستها خمارا كثيفا، وقد قال سبحانه وتعالى:(يا أيها النبيء قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما) وقال سبحانه وتعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن) الآية الكريمة، وجاء عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أنها قالت: يرحم الله تعالى نساء الأنصار لما نزلت آية الحجاب عمدن إلى أكثف مروطهن فاختمرن بهن
(3)
. قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ولا يجوز لها أن تصلي في ثوب خفيف يصف جسدها، ولا في ثوب صفيق رقيق يلتطئ بها، فيصف خلقها، لأنها إذا فعلت ذلك كانت كاسية في حكم العارية.
(1)
رواه مسلم والإمام أحمد.
(2)
رواه البخاري والترمذي والإمام مالك، واللفظ له.
(3)
رواه أبو داود، ورواه البخاري بلفظ: شققن مروطهن فاختمرهن بها.
قوله: وهكذا جر الرجال بطرا البيتين، معناه أنه لا يجوز للرجل أن يجر إزاره أو ثيابه بطرا، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ومن اللباس المحظور أيضا السرف الزائد على القدر المأذون فيه، الذي يخرج به صاحبه إلى الخيلاء والكبر والبطر، وهو عام في الرجال والنساء، ممنوع لحق الله سبحانه وتعالى، لأن البطر والكبر ممنوعان في الشرع، قال الله عز وجل:(إن الله لا يحب كل مختال فخور) وقال جل من قائل: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) وفي الموطإ أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: " لا ينظر الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلى من يجر إزاره بطرا "
(1)
وأنه قال: " لا ينظر الله تعالى يوم القيامة إلى من يجر ثوبه خيلاء "
(2)
وفيه عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أنه قال: سألت أبا سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنهم - عن الإزار، فقال: أنا أخبرك بعلم، سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول:" إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه في ما بينه وبين الكعبين، ما أسفل من ذلك ففي النار، ما أسفل من ذلك ففي النار، لا ينظر الله تعالى يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا "
(3)
وفي الصحيح " بينما رجل يتبختر في مشيه قد أعجبته جُمتهوبرداه إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة "
(4)
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
ورواه أبو داود وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(4)
متفق عليه ..
قال ابن عبد البر: مفهومه أن الجر بغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال، وروى البخاري أن أبا بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ:" إنك لست تصنع ذلك خيلاء " قال الحطاب في حاشيته: وأما الكم فقال القرافي: في شرح الجلاب: قال ابن شعبان في الزاهي: لا ينبغي أن يضيق الكم، والجمال أقرب عند الله عز وجل، وقد رد شريح شهادة رجل ضيق الكم، قال مالك ـ رحمه الله تعالى ـ: قصر الكم مثلة اهـ وقال في مختصر المدارك لابن رشيق: قال مالك: حياة الثوب طيه، وعيبه قصر أكمامه اهـ وروى الترمذي عن أم سلمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ كان أحب الثياب إلى رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ القميص، قال في العارضة: القميص ملبوس بكم ساتر، وسنته أن لا يطول كمه، ولا تبالي به كان جيبه مقدما، أو في الجنب، إلا أن يكون للناس عادة، فسلوكها أشبه بالمرء وأسلم له ثم قال: وترقيع الثوب كان من شعار الصالحين، وسنة المتقدمين، حتى اتخذته الصوفية شعارا، فجعلته من الجديد، وأنشأته مرقعا من أصله، وليس هذا بسنة بل بدعة عظيمة
…
وأما النساء ففي الموطإ أن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - قالت حين ذكر الإزار: فالمرأة يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -؟ قال: " ترخيه شبرا " قالت أم سلمة - رضي الله تعالى عنها -: إذا ينكشف عنهن، قال: فذراعا لا تزيد عليه "
(1)
(1)
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح ..
وفي جامع ابن أبي زيد: قال مالك - رحمهما الله تعالى -: أكره للرجل سعة الثوب يلبسه، وأكره طوله عليه، قيل: فلباس الصوف الغليظ؟ قال: لا خير في الشهرة، ولو كان يلبسه تارة وينزعه أخرى لرجوت، فأما المواظبة حتى يعرف به ويشتهر، فلا أحبه، ومن غليظ القطن ما هو في مثل ثمنه وأبعد من الشهرة، وقد قال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لذلك الرجل: فليُر عليك مالك، وكان عمر يكسو الحلل، ويقول: أحب أن أرى القارئ أبيض الثياب، إلى أن قال: قيل أفيلبس الرجل القميص الرقيق؟ قال: إذا كان الإزار كثيفا فلا بأس أن يكون القميص رقيقا إذا كان قصدا، ولم يكن على وجه السرف.
وفيه عن مالك: لا بأس أن يأتزر الرجل تحت سرته ويبدي سرته إذا كان عظيم البطن.
قوله: وانه عن الصما البيت، أشار به إلى ما جاء في الصحيح من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن لبستين اشتمال الصماء، والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدو واحد من شقيه، وعن أن يحتبي بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء،
(1)
قال ابن رشد - رحمه الله تعالى - في الكلام على الصماء: فإن كان عليه إزار جاز له أن يشتمل الصماء عليه، لارتفاع علة النهي، وهي انكشاف العورة، وقيل إن ذلك لا يجوز وإن كان عليه إزار، واختلف في ذلك قول مالك - رحمه الله تعالى - فوجه المنع من ذلك اتباع ظاهر الحديث بحمله على عمومه، وكيلا يكون ذريعة للجاهل الذي لا يعلم العلة في ذلك، فيفعله ولا إزار عليه، إذا رأى العالم يفعله وعليه إزار.
(1)
متفق عليه.
وفي جامع ابن أبي زيد أن مالكا - رحمهما الله تعالى - سئل عن القلانس فقال: قد كانت قديمة في زمان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقبل ذلك، وكانت لخالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - قُلَنْسِية جعل فيها من شعر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهي التي قاتل عليها يوم اليرموك، قيل: فالمظال؟ قال: ما كانت من لباس الناس، وما أرى بها بأسا، قال: وسئل مالك - رحمه الله تعالى - عن التقنع بالثوب، فقال: لحر أو برد أو لغيره من العذر فلا بأس به، وأما لغير ذلك فلا، وكان أبو النضر يلزمه لبرد يجده، قال مالك - رحمه الله تعالى - ورأت سكينة أو فاطمة بنت الحسين - رضي الله تعالى عنهم وعن أهل البيت أجمعين - بعض ولدها متقنعا رأسه، فقالت: اكشف عن رأسك، فإن القناع ريبة باليل، ومذلة بالنهار، قال مالك - رحمه الله تعالى -: وأكرهه لغير عذر، وقال: العمة والاحتباء والانتعال من عمل العرب، وليس في العجم، وكانت العمة في أول الإسلام، ثم لم تزل حتى كان هؤلاء القوم، ولم أدرك أحدا من أهل الفضل إلا وهم يعتمون، يحيى بن سعيد، وربيعة، وابن هرمز، وكنت أرى في حلقة ربيعة أحدا وثلاثين رجلا معتمين، وأنا منهم، وكان ربيعة لا يدعها حتى تطلع الثريا، وكان يقول: إني لأجد العمة تزيد في العقل، قيل: فيرخي بين الكتفين؟ قال: لم أر أحدا ممن أدركت يرخي بين كتفيه، ولكن يرسل بين يديه، ولست أكره إرخاءها من خلف لأنه حرام، ولكن هذا أجمل، وكان من أدركت يفعله إلا عامر بن عبد الله، فإنه كان يرخي بين كتفيه، قال: ورئي جبريل - على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - في صورة دحية الكلبي وقد أسدل عمامته بين كتفيه، وأكره أن يعتم ولا يجعل منها تحت ذقنه، وأما من يفعل ذلك في بيته، وعند اغتساله، وفي مرضه، فلا بأس به.
وقال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: وأما اللباس المكروه فهو ما خالف زي العرب، وأشبه زي العجم، ومنه التعميم بغير التحاء، وقد روي أن ذلك عمة الشيطان، وقيل إنها صفة عمائم قوم لوط - على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم -.
قوله: وفخذ الرجل عورة البيت، معناه أن فخذ الرجل عورة خفيفة، فليست كالعورة، فيجوز كشفه عنها عند أهله ونحوهم، وفي جامع ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى -: ولا بأس بكشف الفخذ عند أهله، قيل له: فخادم له خصي يرى فخذه متكشفا؟ قال: ذلك خفيف، قيل: هل ترى خادم الزوجة فخذ زوجها؟ قال: لا، يقول الله عز وجل:(أو ما ملكت أيمانهم).
2149 -
وليس للرجل دون ساتر
…
دخول حمام كمثل مئزر
2150 -
وليس للمرأة ذاك جمله
…
ما لم يكن دخولهالعله
2151 -
ولم يجز الافضاء دون حائل
…
بعورة من رجل لرجل
2152 -
وذاك في النساء أيضا ذو انحظار
…
وما لها الخروج إلا باستتار
2153 -
بما من الأمور قد تعينا
…
مثل شهودها قريبا قد فنى
2154 -
ونحو ذا من كل ما الخروج له
…
مجوز إذا تكون تَفِلَه
2155 -
وما لها الحضور للمناهي
…
كالنوح والمزمار والملاهي
قوله: وليس للرجل البيتين، معناه أنه لا يجوز للرجل أن يدخل الحمام دون مئزر ونحوه مما يستر به عورته، كما لا يجوز أن يدخله مع غير مستورين، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: دخول الحمام إذا كان خاليا جائز، لا كراهة فيه، وأما دخوله مستترا مع مستورين فقال ابن القاسم في رواية أصبغ عنه من كتاب الجامع من العتبية لا بأس بذلك، أي لا حرج عليه فيه، وتركه أحسن، فقد قال مالك - رحمه الله تعالى - في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الوضوء من العتبية، وقد سئل عن الغسل بالماء المسخن من الحمام: والله ما دخول الحمام بصواب، فكيف يغتسل بذلك الماء، ووجه الكراهة في ذلك وإن دخله مستترا مع مستترين مخافة أن يطلع على عورة أحد بغير قصد، إذ لا يكاد يسلم من ذلك من دخله مع عامة الناس، وأما دخوله غير مستتر، أو مع من لا يستتر، فلا يحل ولا يجوز، لأن ستر العورة فرض، ومن فعل ذلك كان جرحة فيه.
وأما المرأة فلا ينبغي أن تدخله جملة إلا من علة بها تستشفي منها، وقد جاء في الحديث النهي عن دخولها الحمام،
(1)
وقد أطال ابن رشد - رحمه الله تعالى - في توجيه أن ذلك إنما هو من حيث غلبة عدم سلامة دخولهن مما ينهى عنه، فإذا اتفقت السلامة من ذلك فلا فرق بينهن وبين الرجال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1)
روى الإمام أحمد " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام " وهو حديث حسن.
قوله: ولم يجز الافضاء إلى قوله: انحظار، معناه أنه لا يجوز للرجل أن يفضي إلى الرجل في ثوب واحد ليس بينهما ساتر، وكذلك المرأة مع المرأة، وقد جاء في الحديث الشريف النهي عن ذلك،
(1)
فإن كانا مستوري العورة فقال الأقفهسي: يجوز أن يتلاصقا بالأجساد، إلا أن المستحب تركه، قال: وحكم التلاصق المتقدم التحريم في ما بين البالغين، وأما غير البالغين ومن يؤمر بالتفريق بينهما كابن عشر سنين، فهو في حقهم مكروه، والمخاطب في ذلك أولياؤهم، فإن تلاصق بالغ وغير بالغ فهو في حق البالغ حرام، وفي حق غير البالغ مكروه، وأما الصغير دون السبع، فيجوز أن يتلاصق مع غير بالغ، نقله الحطاب في حاشيته.
(1)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
قوله: وما لها الخروج إلى قوله: تفلة، معناه أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج إلا مستترة، ولا ينبغي لها أن تخرج إلا في أمر لا بد لها من الخروج فيه، كشهود جنازة من تعظم مصيبتها فيه، كأب وابن وأخ، وهذا في حق الشابة التي ليست فاتنة، قال في المواهب: قال في شرح المسألة الأولى من رسم البز من سماع ابن القاسم - رحمه الله تعالى - من كتاب الجنائز: النساء في شهود الجنازة ثلاثة، متجالة، وشابة، ورائعة قدِرة جسيمة ضخمة، فالمتجالة تخرج في جنازة الأجنبي والقريب، والشابة تخرج في جنازة أبيها، وأخيها، ومن أشبههما من قرابتها، والمرأة الرائعة القدرة الضخمة الجسيمة يكره لها الخروج أصلا، والتصرف في كل حال، وهذا هو المشهور، وقد ذكر ابن حبيب أن خروج النساء في الجنائز مكروه بكل حال، وقال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: وحيث تخرج فإنها لا تخرج إلا بشروط خمسة، الأول أن يكون خروجها طرفي النهار، ما لم تضطر إلى الخروج في غيرهما اضطرارا فادحا، الثاني أن تلبس أدنى ثيابها، الثالث أن تمشي في حافتي الطريق دون وسطه، حتى تبعد عن الرجال، الرابع أن لا يكون عليها ريح طيبة، الخامس ألا يظهر عليها ما يحرم على الرجال النظر إليه، غير الوجه والكفين، ما لم يكن النظر إلى وجهها يؤدي إلى الفتنة، فيجب عليها ستره.
وإلى الشرط الرابع الإشارة بقوله: إذا تكون تفله، وقد ورد في الحديث الشريف الوعيد الشديد في خروجها متطيبة،
(1)
وفي جامع ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى - قال مالك - رحمه الله تعالى - في من وطئ جاريته لا بأس أن يرسلها إلى السوق في حوائجه، والحرة تخرج في حاجتها، وقد كانت أسماء - رضي الله تعالى عنها - تقود فرس زوجها الزبير - رضي الله تعالى عنه - في الطريق وهي حامل.
قوله: وما لها الحضور للمناهي البيت، معناه أنه لا يجوز لهن حضور مجالس النساء المحرمة، كمجلس النياحة عند المصيبة، والمجالس التي يضرب فيها بالآلات الممنوعة، وقد جاء في الخبر " صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة، ورَنة عند مصيبة "
(2)
وقد تقدم الكلام على ذلك كله، والحمد لله رب العالمين، وخص النساء بالذكر لأن شانهن حضور ذلك، وربما اعتقدن الرخصة في آلات اللهو، لا سيما في الاعراس.
2156 -
وليس في الدفوف من جناح
…
وفاقا إن كانت لدى نكاح
2157 -
والخلف في الكَبَر جا والمزهر
…
ثالثها مجوز للكبر
2158 -
والاختلا من رجل معَ مره
…
ليست بمحْرم وفاقا احظره
2159 -
والوصل للشعر أمر حِرْم
…
موجبُ لعن، وكذاك الوشم
2160 -
وباليمين ابدأ في الانتعال
…
والخلع فيه ابتد بالشمال
2161 -
والانتعال قائما قد حلا
…
والمشي في مفرد نعل يُقلى
(1)
روى أبو داود عن أبي موسى ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ قال: " إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا قال قولا شديدا ورواه الترمذي والنسائي والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث حسن
(2)
رواه البزار والضياء المقدسي في المختارة، وهو حديث حسن.
قوله: وليس في الدفوف البيتين، معناه أن ضرب الدفوف في النكاح واسع باتفاق، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ورخص من ذلك في النكاح في الدف، وهو الغربال باتفاق، والكبر والمزهر على ثلاثة أقوال، إباحتهما جميعا، وكراهتهما جميعا، وإباحة الكبر دون المزهر، قيل للنساء دون الرجال، وقيل للنساء والرجال، واختلف هل هو من قبيل المباح الذي يستوي فعله وتركه، أو هو من قبيل المباح الذي تركه أحسن من فعله، أو من قبيل المباح الذي فعله أحسن من تركه، ومذهبه في المدونة أنه من قبيل المباح الذي تركه أحسن من فعله، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: والكبر بفتحات: طبل صغير مجلد من ناحية، والمزهر بكسر الميم: المجلد من جهتين.
قوله: والاختلا من رجل البيت، معناه أنه لا يجوز للرجل أن يخلو بامرأة ليست بمحرم منه، وفي الصحيح " لا يخلونّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم "
(1)
وفي جامع ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى - عن مالك - رحمه الله تعالى -: لا بأس على الرجل لو نظر إلى شعر أم زوجته، ولا ينبغي إن قدم من سفر أن تعانقه، وإن كانت عجوزا، فأما أخت امرأته فليبعد منها ما استطاع.
وفيه قيل لمالك - رحمه الله تعالى -: فمن يدخل على امرأته ومعها صاحبة لها في البيت؟ قال: ليس بذلك بأس إذا ألحفت عليها ثيابها.
وقال في الكلام على سفر المرأة: وأخوها من الرضاعة ذو محرم، قيل: فابن زوجها؟ فقال: قال الله سبحانه وتعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) الآية قال: فهؤلاء ذوات المحرم، وأما رجل كان أبوه قد طلق امرأته وتزوجت أزواجا تريد أن يسافر بها، فلا أحب ذلك، قيل: فالمرأة لا تجد من يعادلها إلا من ليس بذي محرم منها؟ قال: لا، ونهى عنه، قيل: هل يحمل أم ولد أبيه في السفر؟ قال: أما أن يضمها إلى نفسه فلا يعجبني.
(1)
متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وفي الموطإ: قيل: أفتأكل المرأة مع غير ذي محرم منها؟ أو مع غلامها؟ قال: لا بأس بذلك إذا كان على وجه ما يعرف للمرأة أن تؤاكله، قال في الجامع: قال ابن الجهم: يعني العجوز المتجالة، وقد تأكل مع زوجها ومع غيره ممن تؤاكله.
وقيل لمالك - رحمه الله تعالى -: أفتلقي المرأة خمارها بين يدي الخصي لها، أو لغيرها، وهو من غير أولي الإربة؟ قال: لا بأس به، إلا أن يكون حرا فلا، وقال في رواية أخرى: إن كان مملوكا وكان وغدا، قال: ودخول خصيان زوجها من كبير أو صغير عليها أبين في خفة ذلك من خصيان غيره، قال: والتي لها الغلام الوغد لا منظر له لا بأس أن يرى شعرها، وكفيها، وقدميها، وأما الفاره فلا، وأما الوغد لزوجها فكرهه، قيل: فغلام نصفه حر ونصفه لها هل يرى شعرها؟ قال: لا، قال: وأحب لمن دخل على أمه أو أخته أن يستأذن عليها قبل أن يدخل.
وقيل له: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) إلى آخرها، أترى ذلك على الناس اليوم؟ قال: أرجو إنما كان هذا قبل أن تتخذ الأبواب والستور، وأرجو أن يكون عن الناس موضوعا، لأنه إذا خلا أغلق بابا، وأسدل سترا، قيل: وترى القبة مجزئة؟ قال: نعم، قيل: هل يجامع الرجل امرأته ليس بينها وبينه ستر؟ قال: نعم، قيل: إنهم يرون كراهيته، قال: ألق ما يتحدثون به، قد كان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وعائشة - رضي الله تعالى عنها - يغتسلان عريانين،
(1)
فالجماع أولى بالتجرد، قال: ولا بأس أن ينظر إلى الفرج في الجماع.
(1)
في الصحيحين أنهما كانا يغتسلان من إناء واحد.
قوله: والوصل للشعر أمر حرم موجب لعن، معناه أن وصل الشعر أمر حرام شديد الحرمة، فقد جاء في الحديث الصحيح اللعن عليه كما تقدم، ولا فرق فيه بين الرجل والمرأة، وكذلك ما ذكر معه في الحديث، وتخصيص النساء بالذكر إنما هو لأن ذلك شأنهن خاصة، فوصف الأنوثة بالنسبة لهذه الأمور طردي، فقد اقتضى ظاهر الحديث أن العلة هي تغيير خلق الله سبحانه وتعالى، بل لا يبعد أن يكون الرجل فحوى، لما هو معلوم في الشرع من التوسعة لها في الزينة أكثر منه، وفي جامع ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى -: قيل لمالك - رحمه الله تعالى -: أفتضع الجمة من الشعر على رأسها وضعا؟ قال: لا خير فيه، قيل: فالخرق تجعلها في قفاها وتربط الوقاية؟ قال: ما من علاجهن أخف من الخرق، وأرجو أن لا يكون به بأس.
قوله: وكذاك الوشم، معناه أن الوشم في الوجه، أو الجسد، من الأمور التي ورد اللعن عليها، فهو حرام شديد الحرمة، وهو أن تغرز المرأة مثلا إبرة في موضع من جسدها حتى تؤثر فيه، ثم تحشو مكانها كحلا فيخضر، وقد يفعلن ذلك في اللثة، وكل ذلك ممنوع شديد المنع.
قوله: وباليمين ابدأ البيت، معناه أن التيامن في الانتعال مطلوب، فيلبس نعله اليمنى قبل نعله اليسرى، بخلاف الخلع، فيطلب فيه التياسر، وقد جاء الأمر بذلك منصوصا في الحديث الشريف، ولفظه عند مالك - رحمه الله تعالى - " إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تُنعل، وآخرهما تُنزع "
(1)
قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: قال الشيخ محي الدين النووي في شرح مسلم في قول عائشة - رضي الله تعالى عنها -: كان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يعجبه التيامن في تنعله وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله، هذه قاعدة مستمرة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف، كلبس الخف، والسراويل، ودخول المسجد، والسواك، وغسل أعضاء الوضوء، وتقبيل الحجر الأسود، وغير ذلك، مما يستحب التيامن فيه، فأما ما كان مثل دخول الخلاء، والخروج من المسجد، والاستجمار، والاستنجاء، وخلع الثوب، والسراويل، وما أشبه ذلك، فيستحب التياسر فيه، وذلك لكرامة اليمنى وشرفها.
ومقتضى كلام أصحابنا أن التيامن مطلوب أيضا في ما ليس فيه تشريف ولا ضده، كدخول المنزل والخروج منه، فيطلب التيامن فيهما جميعا، وهو ظاهر قول عائشة - رضي الله تعالى عنها -: وفي شأنه كله، وقد خرج بالنص ما كان من قبيل التنزه، ونحوه، كالاستطابة، والامتخاط، وذكر بعض أهل العلم أن في معنى الكنيف أماكن السوء، كمواضع الظلم والجور، وبيوت الظلمة، وحوانيت الصيارفة ونحوهم، فيطلب التياسر عند دخولها، والتيامن عند الخروج منها، وأن في معنى المسجد الأماكن الشريفة كلها، كالبيوت المعهودة لتعليم القرآن الكريم، والشرع الشريف، وحوائط المساجد ونحو ذلك، وهو مقتضى القاعدة التي تقدم ذكرها.
قوله: والانتعال قائما قد حلا، معناه أن لبس الرجل مثلا نعليه وهو قائم جائز، كلبسهما قبل أن يقوم.
(1)
متفق عليه.
قوله: والمشي في مفرد نعل يقلى، معناه أن المشي في النعل الواحدة منهي عنه، فقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:" لا يمشين أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعا أو ليحفهما جميعا "
(1)
قال أبو العباس القرطبي - رحمه الله تعالى -: ولا خلاف في أن أوامر هذا الباب ونواهيه إنما هي من الآداب المكملة، وليس شيء منها على الوجوب، ولا الحظر، عند معتبر بقوله من العلماء، وفي جامع ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى -: قال مالك - رحمه الله تعالى - ولا بأس بالانتعال قائما، ولا يمشي في نعل واحدة، إلا أن يكون أقطع الرجل، وقال في النعل: أحب إلي المُدَوَّر والمختصَر، ويكون له عاقب مؤخر، وقال: ورأيت نعل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلى التقدير ما هي، وهي مختصرة يختصرها من مؤخرها، ومعقبة من خلفها، وكان لها زمامان في كل نعل.
وفي حاشية الحطاب على الرسالة ما نصه: وقال في مختصر الوقار: ومن نزع خفيه فلا يلبسهما حتى ينفضهما، فإنه لا يدري ما خالفه إليهما، وفيها في الكلام على كراهة المشي في نعل واحدة قال الأقفهسي: وكذلك إذا مشى في نعلين مختلفتين، لأن مثل هذا يخل بالمروءة.
وجاء في مسند الإمام أحمد بإسناد رجاله ثقات أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان ينهاهم عن كثير من الإرفاه، ويأمرهم أن يحتفوا أحيانا.
(2)
2162 -
كذا التماثيل على الأسِرَّهْ
…
أو القباب فهْي أيضا تكْرَهْ
2163 -
وذاك في الخاتم والجدار
…
كذاك في الحيطان أيضا جار
2164 -
والرقم بالثياب ليس داخلا
…
بذا ولكن ترْكه قد فضلا
(1)
متفق عليه.
(2)
ورواه أيضا أبو داود، وهو حديث صحيح.
تكلم في هذه الأبيات على كراهة التماثيل والتصاوير التي ليست مجسدة، وقد جاء في حديث الصحيح الوعيد الشديد على التصوير، وأن المصورين يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة،
(1)
قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: والمحرم من ذلك بإجماع ما كان مخلوقا له ظل، قائم على صفة الإنسان، أو ما يحيى من الحيوان، وما سوى ذلك من المرسوم في الحيطان، والمرقوم في الستور التي تنشر، أو البسط التي تفرش، أو الوسائد التي يرتفق بها، ويتكأ عليها مكروهة، وليست بحرام في الصحيح من الأقوال.
وقيل بحرمة ذلك كله، وقيل بجواز ما عدا المجمع عليه، ثالثها جواز ما عدا المرسوم في الحيطان والجدر، ورابعها جواز ما عدا المرسوم في الحيطان والجدر والستائر التي لا تمتهن ببسطها والجلوس عليها، ذكر الأقوال كلها ابن رشد - رحمه الله تعالى - ومثار الخلاف النظر إلى المعنى الذي لأجله وقع النهي، قال في الجواهر: قال القاضي أبو بكر بن العربي – رحمهما الله تعالى -: وقد قيل الذي يمتهن من الصور يجوز، وما لا يمتهن مما يعلق فيمنع، لأن الجاهلية كانت تعظم الصور، فما يبقى فيه جزء من التعظيم والارتفاع يمنع، وما كان مما يمتهن فهو مباح، لأنه ليس مما كانوا فيه.
(1)
متفق عليه من حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ
وفي جامع ابن أبي زيد عن مالك - رحمهما الله تعالى - أنه قال: وبلغني أن أول ما اتخذت الصور في موت نبي فصور لهم ليأنسوا بصورته، فما زال ذلك حتى صار إلى أن عبدت، وقد وقع في الحديث استثناء الرقم في الثوب، ووجه فرق من فرق بين الثوب والستائر مراعاة امتهان الثوب أكثر، ووجه قول من لم يفرق عدم التعظيم في كل، ووجه المنع مطلقا حديث النمرقة، ووجه الكراهة قول أبي طلحة لسهل بن حنيف - رضي الله تعالى عنهما - لما قال له: ألم يقل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " إلا ما كان رقما في ثوب " قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي،
(1)
وفي جامع ابن أبي زيد - رحمه الله تعالى - في الكلام على على ما يوطأ ويمتهن: وتركه أحب إلي، ومن ترك ما فيه رخصة غير محرم له، فلا بأس عليه، وأكره أن يشتري الرجل لابنته الصور، وأن يجعل في فص خاتمه التماثيل.
وقال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: والذي يباح من ذلك للعب الجواري به ما كان غير تام الخلقة، لا يحيى ما كان على صورته في العادة، كالعظام التي يجعل لها وجوه بالرسم، وكالتزويق في الحائط، وقد قال أصبغ الذي يباح من ذلك ما يسرع إليه البِلى والفساد، وليس ذلك ببين في وجه القياس والنظر، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
والحاصل أن الصور منهي عنها على كل حال، فمنها ما هو ممنوع، ومنها ما هو مكروه كراهة شديدة، ومنها ما هو مكروه كراهة دون ذلك، والفرق بين موضعي الكراهة أن الكراهة الأولى اجتهادية، وهي أشد من المنصوصة، لأنها لمراعاة دليل الحرمة، بخلاف المكروه بالنص، فإنه قد علم فيه انتفاء الحرمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1)
ورواه الترمذي والنسائي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.