المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب في الأقضية والشهادات - عون المتين على نظم رسالة القرويين

[محمد بن محمد بن المصطفى اليعقوبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشرح

- ‌مقدمة النظم

- ‌باب ما يجب منه الوضوء والغسل

- ‌فصل في الحيض والنفاس

- ‌باب طهارة الماء والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

- ‌أماكن تمنع الصلاة فيها

- ‌باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

- ‌باب في الغسل

- ‌باب التيمم

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب في أوقات الصلاة وأسمائها

- ‌باب في الأذان والإقامة

- ‌باب في الإمامة وحكم الإمام والمأموم

- ‌باب جامع في الصلاة

- ‌باب في سجود القرآن

- ‌باب في صلاة السفر

- ‌باب في صلاة الجمعة

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌باب في صلاة العيدين والتكبير أيام منى

- ‌باب في صلاة الكسوف

- ‌باب في صلاة الاستسقاء

- ‌باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

- ‌باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

- ‌باب في الصيام

- ‌باب في الاعتكاف

- ‌باب في زكاة العين والحرث والماشية وما يخرج من المعدن

- ‌باب في زكاة الماشية

- ‌باب في زكاة الفطر

- ‌باب في الحج والعمرة

- ‌باب في الضحايا والذبائح والعقيقة والصيد والختان وما يحرم من الأطعمة والأشربة

- ‌باب في الجهاد

- ‌باب في الأيمان والنذور

- ‌باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع

- ‌باب في العدة والنفقة والاستبراء

- ‌باب في البيوع وما شاكل البيوع

- ‌باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

- ‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

- ‌باب في أحكام الدماء والحدود

- ‌باب في الأقضية والشهادات

- ‌باب في الفرائض

- ‌باب جمل من الفرائض والسنن الواجبة والرغائب

- ‌باب في الفطرة والختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

- ‌باب في الطعام والشراب

- ‌باب في السلام والاستئذان والتناجي والقراءة والدعاء وذكر الله عز وجل والقول في السفر

- ‌باب في التعالج وذكر الرقى والطيرة والنجوم والخصاء والوسم والكلاب والرفق بالمملوك

- ‌باب في الرؤيا والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيرها والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك

الفصل: ‌باب في الأقضية والشهادات

‌باب في الأقضية والشهادات

1811 -

وبالشهود المدعِي يُطالَبُ

وباليمين الخصم إذ يُكذِّب

1812 -

إن تثبت الخُلطة بين ذين

ونحوها كمثل سبق دين

1813 -

كذا قضى قضاة طيبة الغرر

وذا لقول الأُمَوِي العدل عمر

1814 -

تُحدث أحكام على نظير

ما أحدث الناس من الفجور

1815 -

لا تحكمنْ لطالب إن يَنكل

من ادُّعِي عليه حتى يأتلي

1816 -

إن حقق الدعوى وحيث اتهمه

فبالنكول دون حلْف غرِّمه

قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: الهروب عن القضاء واجب، وطلب السلامة لا سيما في هذا الوقت لازم، وقد روي أن عمر - رضي الله تعالى عنه - دعا رجلا ليوليه فأبى، فجعل يديره على الرضى فيأبى، حتى قال: أنشدك الله سبحانه وتعالى يا أمير المؤمنين أي ذلك تعلم خيرا لي؟ قال: أن لا تلي، قال: فاعفني، قال: قد فعلت، وقال مالك - رحمه الله تعالى -: قال لي عمر بن حسين: ما أدركت قاضيا استقضي بالمدينة المنورة إلا رأيت كآبة القضاء وكراهيته في وجهه إلا قاضيين سماهما، وطلب القضاء والحرص عليه حسرة وندامة يوم القيامة، روي عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال:" ستحرصون على الإمارة وتكون حسرة وندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة "

(1)

فمن طلب القضاء وأراده وحرص عليه وُكل إليه، وخيف فيه الهلاك عليه، ومن لم يسأله وامتُحن به وهو كاره له خائف على نفسه فيه أعانه الله سبحانه وتعالى عليه، روي عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال:" من طلب القضاء واستعان عليه وُكِل إليه، ومن لم يطلبه ولا استعان عليه أنزل الله سبحانه وتعالى ملكا يسدده "

(2)

وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " لا تسأل الإمارة فإنك إن تؤتها من غير مسألة تُعَن عليها، وإن تؤتها عن مسألة تُوكل إليها "

(3)

(1)

رواه البخاري والنسائي والإمام أحمد.

(2)

رواه أبو داود والإمام أحمد، ولفظهما " ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه " وهو حديث ضعيف

(3)

الحديث متفق عليه، ولفظه عند البخاري " لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها " ولفظه عند مسلم " لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها " واللفظ المذكور لم أقف عليه ..

ص: 800

فيجب ألا يولى القضاء من أراده وطلبه، وإن اجتمعت فيه شروط القضاء، مخافة أن يوكل إليه فلا يقوم به، ولا يقوى عليه، قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" إنا لا نستعمل على عملنا من أراده "

(1)

ونظر عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى شاب في وفد وَفَد عليه فاستحلاه وأعجبه، فإذا هو يسأله القضاء، فقال له عمر - رضي الله تعالى عنه -: قد كدت أن تغرنا من نفسك، إن الأمر لا يقوى عليه من يحبه.

وذكر ابن ناجي - رحمه الله تعالى - أن ابن الأغلب بقي يطلب سحنون بن سعيد نحوا من عام وهو يمتنع، حتى حلف له لئن لم تتقدم لأقدمن على الناس رجلا من الشيعة، فتقدم لما تعين عليه.

وقال في التاج: ابن عرفة: قبول ولاية القضاء من فروض الكفاية إن كان بالبلد عدد يصلحون لذلك، فإن لم يكن من يصلح لذلك إلا واحد، تعين عليه، وأجبر على الدخول فيه، وقال الباجي: يجب على من هو أهله السعي في طلبه، إن علم أنه إن لم يل ضاعت الحقوق، أو وليه من لا يحل أن يولى، وكذا إن وليه من لا تحل ولايته ولا سبيل لعزله إلا بطلبه، وقيل يستحب طلبه لمجتهد خفي علمه وأراد إظهاره لولاية القضاء، أو لعاجز عن قوته وقوت عياله إلا برزق القضاء.

(1)

متفق عليه بهذا اللفظ دون كلمة " إنا ".

ص: 801

وقال في المواهب: قال ابن عبد السلام: قيل إن علم القضاء يرجع إلى تعيين المدعي من المدعى عليه، فإذا كان هذا علم القضاء أو لازما له، فلا بد من نصب إنسان يرفع النزاع الواقع بين الناس، وينصف المظلوم من الظالم، ولما كان هذا المعنى يحصل في البلد من واحد، ومن عدد قليل، كان هذا الفرض فيه على الكفاية إذا تعدد من فيه أهلية ذلك، فإن اتحد تعين، ثم قال: وهذه مرتبة القاضي في الدين حين كان القاضي يعان على ما وليه، حتى ربما كان بعضهم يحكم على من ولاه، ولا يقبل شهادته إن شهد عنده، لعدم أهلية الشهادة منه، وأما إذا صار القاضي لا يعان، بل من ولاه ربما أعان عليه من مقصودُه بلوغُ هواه على أي حال كان، فإن ذلك الواجب ينقلب محرما، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة، وبالجملة إن أكثر الخطط الشرعية في زماننا أسماء شريفة على مسميات خسيسة

ص: 802

قوله: وبالشهود المدعي البيت، معناه أن المدعي مطالب بإقامة البينة على ما يدعيه إذا أنكر المدعى عليه، فإن لم تكن له بينة، كانت على المدعى عليه اليمين، وفي الصحيح " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكنَّ اليمينَ على المدعى عليه "

(1)

والمدعِي هو من تجردت دعواه عن مرجح غير البينة من أصل أو عرف، والمدعى عليه من ترجح قوله بالأصل، أو شهادة العرف، قال في التبصرة: ومن المجموعة: وإذا جلس الخصمان بين يدي الحاكم، فلا بأس أن يقول لهما: ما لكما؟ أو ما خصومتكما؟ أو يتركهما حتى يبتدئانه، فإذا تكلم المدعي، أسكت المدعى عليه، واستمع من المدعي، ثم يأمره بالسكوت، ويستنطق الآخر، ولا يفرد أحدهما بالسؤال، فيقول له: ما لك؟ أو تكلم، إلا أن يكون علم أنه المدعي، ولا بأس إذا لم يعلم أن يقول: أيكما المدعي؟ فإن قال أحدهما: أنا، وسكت الآخر ولم ينكر، فلا بأس أن يسأله، وأحب إلي ألا يسأله حتى يقر له الآخر بدعواه، وإن قال أحدهما: هذا المدعي، فلا بأس أن يسأله، فإن قال له: تكلم، فقال: لست بمدع، فأقام على ذلك كل واحد منهما يقول لصاحبه: هذا المدعي، فللقاضي أن يقيمهما عنه حتى يأتي أحدهما إلى الخصومة، قال الشيخ: فإن اختلفا فقال كل واحد منهما: أنا الطالب، وقال الآخر: إنما أحدث الآخر الدعوى عند ما طلبته، فإن علم أن أحدهما أشخص الآخر، وأنه كان يطالبه بدأ به، وإلا صرفهما، فإن أبى أحدهما الخصومة بدأ به، وإن بقي كل واحد منهما متعلقا بالآخر، أقرع بينهما، وإن كان لكل واحد منهما طلب على الآخر، وتشاحا في من يبتدأ به، أقرع بينهما، وقيل: الحاكم بالخيار، واستحب محمد بن عبد الحكم أن يبتدئ بالنظر لأضعفهما.

(1)

متفق عليه، واللفظ لمسلم.

ص: 803

قوله: إن تثبت الخلطة البيت، معناه أن محل توجه اليمين على المدعى عليه، إذا ثبتت الخلطة والتهمة بينه وبين المدعي، وذلك لما رواه مالك - رحمه الله تعالى - عن جميل بن عبد الرحمن المؤذن أنه كان يحضر عمر بن عبد العزيز وهو يقضي بين الناس، فإذا جاءه الرجل يدعي على الرجل حقا، نظر، فإن كانت بينهما مخالطة أو ملابسة أحلف الذي ادعي عليه، وإن لم يكن شيء من ذلك لم يحلفه، قال مالك - رحمه الله تعالى -: وعلى ذلك الأمر عندنا، وقد روي نحو ذلك عن علي - رضي الله تعالى عنه - قال القاضي في الإشراف: ولا يحلف الحاكم المدعى عليه للمدعي إلا لمعنى يزيد على مجرد الدعوى من معاملة تكون بينهما أو مخالطة، ومن أصحابنا من يقول أو يكون المعنى يشبه في العادة أن يدعى مثلها عليه، إلا أن يكونا غريبين، فلا يراعى ذلك فيهما، إلى أن قال: فلو أحلفنا كل مدعى عليه بنفس الدعوى، لتطرق بذلك لكل من يريد إيذاء غيره، وإغرامه شيئا، أن يدعي عليه شيئا، فإذا أنكره أحلفه لتهمته بذلك، أو تدعوه الضرورة إلى أن يصانعه على شيء يفتدي به يمينه، فوجب حسم الباب بأن له الضرر بالمنع منه، إلا أن يكون مع الدعوى شيء يقويها لضعف التهمة.

قال في التاج: أصبغ: سبعة تجب عليهم اليمين دون خلطة الصانع، والمتهم بالسرقة، والرجل يقول عند موته: لي عند فلان دين، والرجل يمرض في الرفقة فيدعي أنه دفع ماله لرجل، وإن كان المدعى عليه عدلا، وكذلك من ادعى عليه رجل غريب نزل في مدينة أنه استودعه مالا، ابن عرفة: نقل ابن رشد هذه الخمسة غير معزوة كأنها المذهب، الباجي: ومثل الصانع تجار السوق، لأنهم نصبوا أنفسهم للناس، وقال ابن نافع بعدم اشتراط ثبوت الخلطة، قال ابن ناجي: حكاه ابن زرقون ولم يحفظه أكثر شيوخ المذهب كابن حارث وابن رشد قائلا: مذهب مالك وكافة أصحابه الحكم بالخلطة، وبقول ابن نافع قال الأندلسيون واستمر عليه العمل بإفريقية.

ص: 804

قوله: كذا قضى قضاة طيبة الغرر، أشار به إلى ما تقدم في كلام مالك - رحمه الله تعالى - من أن الأمر عندهم على ما روى جميل عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله تعالى عنهم أجمعين -.

قوله: وذا لقول الأموي البيتين، معناه أن القاضي يعامل الخصوم بما يقتضيه وقتهم، من ركوب الحيل المستحدثة، فيجتهد في معاملتهم بما يندفع به فجورهم، ويراعي القرائن المنتصبة مما مردوا عليه من خداع وروغان، بحسب ما تشهد له الأصول، وتشير به القواعد، وتقتضيه المعاني التي بني عليها الباب، ومن هنا استحدث القضاة بعض الأمور التي لم تكن معروفة في الصدر الأول.

قوله: لا تحكمن لطالب البيتين، معناه أن المدعي إذا لم تكن له بينة ونكل المدعى عليه عن اليمين، لم يقض للمدعي حتى يحلف على دعواه، وذلك إذا كانت الدعوى دعوى تحقيق، وأما التهمة فقد اختلف في توجه اليمين بها، وفي ردها، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: قال ابن رشد في أجوبته: واختلف في توجيه يمين التهمة، وفي انقلابها، والأظهر أنها إذا توجهت أن لا ترجع، إذ لا يكلف أحد أن يحلف على ما لا يعرف، قال: والذي أراه في ذلك أن تلحق يمين التهمة إذا قويت، وتسقط إذا ضعفت.

1817 -

وصيغة اليمين شرط ويقف

شرطا على ما شهروا حال الحلِف

1818 -

وغلظت برُبُع الدينار

للمدني بمنبر المختار

1819 -

صلى وسلم عليه الله

والال والصحب ومن تلاه

1820 -

وغيره بموضع يُعظم

من جامع المصر هناك يُقسم

1821 -

ويحلف الكافر بالله ولا

يزيد توحيدا على ما نقلا

1822 -

يحلفها بموضع مقدس

لديه كالبيع والكنائس

ص: 805

قوله: وصيغة اليمين البيت، أشار به إلى أن كيفية اليمين في مشهور المذهب أن يقول: بالله الذي لا إله إلا هو، وقيل: يزاد عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم، رواه ابن كنانة، وبه قال الشافعي - رحمهما الله تعالى - والصيغة المذكورة شرط، فلو قال: بالله أو والذي لا إله إلا هو، لم يقبل منه ذلك في ما نص عليه أشهب وهو ظاهر المدونة.

قوله: وغلظت بربع الدينار الأبيات الثلاثة، معناه أن اليمين تغلظ إذا كان الحق المحلوف فيه ربع دينار فأكثر، ويكون التغليظ بالمكان فيؤمر المدني بالحلف عند منبره صلى الله تعالى عليه وسلم على نحو ما تقدم في الكلام على القسامة، فإن امتنع من الحلف في ذلك المكان فله حكم الناكل، وتغلظ بالقيام أيضا كما تقدم، فإن امتنع كان ناكلا على المشهور.

قوله: ويحلف الكافر البيتين، معناه أن الكافر يحلف بالله، ولا يقبل منه الحلف إلا به، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: ولا يزاد على قوله والله في مشهور المذهب.

قوله: يحلفها بموضع البيت، معناه أنه يؤدي اليمين في ذلك بالمواضع التي يعظمها، كالكنائس بالنسبة للنصارى، وبيوت الصلاة، والبيع، بالنسبة لليهود، وبيت النار بالنسبة للمجوس.

1823 -

وطالب ألفى شهودا بعد ما

كان الذي ادُّعيِ عليه أقسما

1824 -

يقضى له بهم إذا لم يَعلم

بهم لدى طلبه للقسم

1825 -

بعكس من كان بهم قد علما

حينئذ على المقال المعتمى

1826 -

وشاهد معْ قسم في المال

يكفي وما إليه ذو مآل

1827 -

لا بنكاح أو طلاق حدِّ

ولا بنفس أو جراح العمد

1828 -

وقيل بالقضاء في الجراح

به وصحح لدى مِلاح

ص: 806

قوله: وطالب ألفى شهودا الأبيات الثلاثة، معناه أن المدعي إذا لم يقم بينة، واستحلف المدعى عليه، وحلف، ثم جاء ببينة تشهد له، لم تقبل منه، إن لم يكن له عذر في عدم القيام بها، من نسيان، أو عدم علم بها أصلا حين استحلافه للمطلوب، وذلك لإعراضه عنها، وفي الحديث " شاهداك أو يمينه "

(1)

وروى ابن نافع أنها تقبل منه، وبه أخذ ابن وهب وأشهب، ولا يستحلف القاضي المطلوب إلا بإذن من الطالب، وقد ذكر عن بعض القضاة أن رجلا ادعى على آخر ثلاثين دينارا، فأنكر المدعى عليه، فاستحلفه القاضي، فقال الطالب: لم آذن في هذه اليمين، ولم أرض بها، ولا بد أن تعاد اليمين، فأمر القاضي غلامه أن يدفع عن المطلوب من ماله ثلاثين دينارا، كراهة أن يكلفه إعادة اليمين التي قضى عليه بها.

قوله: وشاهد مع قسم الأبيات، معناه أن من أقام شاهدا في حق مالي وحلف معه قضي له بذلك، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد،

(2)

قال مالك - رحمه الله تعالى -: مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد، يحلف صاحب الحق مع شاهده ويستحق حقه، فإن نكل وأبى أن يحلف، أحلف المطلوب، فإن حلف سقط عنه ذلك الحق، فإن أبى أن يحلف، ثبت عليه الحق لصاحبه، قال: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة، ولا يقع ذلك في شيء من الحدود، ولا في نكاح، ولا في طلاق، ولا في عتاقة، ولا في سرقة، ولا في فرية.

والمراد بدعوى النكاح دعواه فيحياة المدعى عليه، ولو كان ذلك بعد موته وأقام المدعي شاهدا، فقال ابن القاسم: يحلف مع شاهده، ويستحق الميراث، والصداق، إن كان المدعي امرأة، لأن الدعوى آئلة إلى المال، وقال أشهب: لا يستحق ذلك إلا بشاهدين.

(1)

متفق عليه، واللفظ للبخاري.

(2)

ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد.

ص: 807

قوله: وقيل بالقضاء في الجراح البيت، يشير به إلى أنه اختلف في القضاء بالشاهد واليمين في جراح العمد، وقد تقدم القول به لمالك في المدونة، وأن ابن القاسم لما قيل له في ذلك قال: قد كلمت مالكا - رحمهما الله تعالى - في ذلك، فقال إنه شيء استحسناه، وما سمعت فيه شيئا، وروى عنه عبد الملك القضاء بذلك في صغير الجراح دون كبيرها، واختاره سحنون كما قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -.

وقال في المواهب: قال ابن يونس: لما كانت النفس تقتل بشاهد واحد مع القسامة، فلذلك اقتص بشاهد مع يمين المجروح، وقاله عمر بن عبد العزيز - رضي الله تعالى عنه -.

1829 -

وتشهد النساء في المال معا

ما كان كالبت إليه راجعا

1830 -

ومائة منهن كاثنتين

لشاهد توقف أو يمين

1831 -

كذاك تشهد بالاستهلال

وكل ما يخفى على الرجال

1832 -

مثل الولادة والاثنتان

ألعدلتان فيه تكفيان

قوله: وتشهد النساء الأبيات، معناه أن شهادة النساء لا تجوز إلا في الأموال وما لا يطلع عليه الرجال، وذلك أن القرآن الكريم إنما ذكر شهادتهن في المال خاصة، وذكر الشهود في غير ذلك من المواضع بالتذكير، وقد ذكرت الشهادة في القرآن الكريم في خمسة مواضع أخرى، فيقضى في المال وحقوقه، كالأجل، والخيار، والشفعة، والإجارة، وقتل الخطإ، وجروح المال، بشهادة رجل وامرأتين، أو شاهد ويمين، أو امرأتين ويمين.

قوله: ومائة منهن كاثنتين نحوه في المدونة، وحمله اللخمي على المبالغة، وأن المراد أن العدد الذي لا يحصل القطع بخبره منهن إذا كان فيه عدلتان لا بد معه من الشاهد أو اليمين، وأما شهادتهن في ما لا يظهر للرجال فللضرورة، كما قبلت شهادة الصبيان في ما يحدث بينهم من الجنايات، وذلك كالاستهلال والحيض وعيوب النساء، ولا بد فيهما من العدالة، لأن خبر غير العدل كالعدم.

1833 -

ولم تجز شهادة الخصم ولا

متهم ولا رقيق مسجلا

1834 -

وكافر وغير عدل وصبي

كذاك محدود إذا لم يتب

ص: 808

1835 -

ومطلقا بما به حُد تُرَدْ

وهكذا أبٌ اَوُ اُمٌّ للولد

1836 -

وعكس ذلك، كذا الزوجان

يُرَد كل منهما للثاني

قوله: ولم تجز شهادة الخصم ولا متهم، معناه أن شهادة الخصم على خصمه مردودة، وكذلك المتهم في ما شهد به، وهو أعم مما قبله، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، وذلك لأنها في معنى الدعوى، والتهمة أنواع منها أن يتهم على إيصال نفع له أو دفع ضرر عنه، الأول كشهادته على مورثه المحصن بالزنى، والثاني كشهادة أحد العاقلة بفسق شهود القتل، ومنها أن يتهم على مثل ذلك في من له به صلة قوية، كشهادته بحق لأحد أبويه، أو أبنائه، أو زوجته، أو أبويها، أو صديقه الملاطف، إلا أن يكون مبرزا في الأخير، أو شهادته بجرح شاهد على بعض من ذكر، ومنها أن يتهم على قصد نفع من يحصل له بوصوله إلى المشهود فيه نفع، كشهادته لمدينه، وشهادة المدين لغريمه، والأجير لمستأجره، إلا أن يكون مبرزا، ونحو ذلك، ومنها أن يتهم على إزالة نقص، كشهادته في ما ردت شهادته فيه بعد زوال مانع قبولها، من صبوة، أو رق، أو فسق، ونحو ذلك، ومنها أن يتهم على تخفيف النقص، كشهادة المحدود في ما حد فيه، وكشهادة ابن الزنى في الزنى، وإلى بعض هذه المعاني الإشارة بقوله: ومطلقا بما به حد البيتين.

ص: 809

قوله: ولا رقيق وكافر وغير عدل وصبي، أشار به إلى ما يشترط في الشاهد، فذكر من ذلك الحرية، والإسلام، والبلوغ، وهي شرط باتفاق وقت الأداء، ويشترط العقل أيضا اتفاقا وقت الأداء ووقت التحمل، وتشترط العدالة، وقد عرفها ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: صفة مظنة لمنع موصوفها البدعة، وما يشينه عرفا، أو معصية، غير قليل الصغائر، فالصغائر الخسيسة مندرجة في ما يشين، ونادر الكذب في غير عظيم مفسدة عفو، مندرج في قليل الصغائر، لدليل قولها في آخر شهاداتها: مما يجرح به أنه كذاب في غير شيء واحد

والأصل في اعتبار العدالة قوله سبحانه وتعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقوله سبحانه وتعالى: (ممن ترضون من الشهداء).

قوله: كذاك محدود إذا لم يتب، معناه أن المحدود لا تقبل شهادته قبل توبته، وذلك لفسوقه، وقد قال سبحانه وتعالى:(إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا).

1837 -

ورُدَّ أيضا من عليه الكذب

بما يحدث به يجرب

1838 -

مرتكبا كبيرة ومن يجر

نفعا لنفس أو يرد ما يضر

1839 -

كذا وصي ليتيمه وإن

عليه يشهدْ فقبوله قمن

1840 -

أما شهادة أخ فأجز

ظاهره لو كان لم يُبَرِّز

1841 -

ولم يجز تعديل مرأة ولا

تجريحها على الذي قد عُولا

1842 -

وصيغة التعديل أن يقولا

عدل رضى إلا فلا قبولا

1843 -

والشاهد الواحد لا يعدل

وهكذا تجريحه لا يقبل

قوله: ورد أيضا من عليه الكذب الأبيات الثلاثة، معلوم المعنى مما سبق، فشهادة الكذاب مردودة بإجماع، لانعدام الثقة بالجملة، وكذلك مرتكب الكبيرة، فشهادته مردودة لفسقه، وكذلك المتهم على قصد جر منفعة، وقد تقدم تفصيل ذلك، ومنه شهادة الوصي لليتيم في حجره، والمتهم على دفع مضرة، وقد تقدم تفصيل ذلك أيضا.

قوله: وإن عليه يشهد فقبوله قمن، معناه أن من لا تقبل شهادتك له لذلك المعنى، تقبل شهادتك عليه، وجرح شهوده، ومن لا تقبل شهادتك عليه لعداوة مثلا، تقبل شهادتك له، وتعديل شهوده، وهذا ظاهر.

ص: 810

قوله: أما شهادة أخ البيت، معناه أن شهادة الأخ لأخيه مقبولة، ظاهره برز أو لا، وقيل إنما يقبل إذا كان مبرزا، وقيل لا يقبل مطلقا، وقيد اللخمي - رحمه الله تعالى - بما لا تقوى تهمته فيه، ونصه: لا تجوز شهادته له في ثلاث، في ما يدرك في مثله الحمية والغضب له، ولا في ما يكسب به حظوة ومنزلة، ولا في ما يدفع بها معرة، واختلف في شهادته له في الأموال على أربعة أقوال، فقيل جائزة، وقيل لا تجوز، وقيل إن كان مبرزا جازت وإلا لم تجز، وقيل تجوز في اليسير دون الكثير، وأرى أن ترد في الكثير الذي يؤدي إلى شرفه، ولا ترد في الوسط إذا كان مبرزا، ولا في اليسير مع عدم البروز إلا أن يكون قد جرى بين الأخ المشهود له والمشهود عليه شنآن ومقابحة، وما تدرك في مثله الحمية والغضب فلا تجوز بحال.

وقال القاضي في الإشراف: تقبل شهادة الأخ لأخيه، إلا في ما يتهم له فيه من دفع عار، أو ما أشبه ذلك.

ص: 811

قوله: ولم يجز تعديل مرأة البيت، معناه أن شهادة المرأة لا تقبل في التعديل ولا في التجريح، لا لرجل ولا لامرأة، لما تقدم من قصر شهادتهن على الأموال وما في معناها، والتزكية هي مبنى الشهادات، فكما لا يقبلن في الشهادات لا يقبلن في مبناها، وكذلك القول في الجرح فهو إبطال لحق أيضا، ولهذا المعنى لم تقبل تزكية من شهد مع الشاهد، أو نقل معه، لأن ذلك يؤول إلى ثبوت الحق بواحد، ولا فرق في ما ذكر بين الشاهد في المال وغيره، لأن العدالة صفة توجب نفوذ الشهادة في الحقوق كلها، وكذلك الجرح كما هو بين، والذي عليه أكثر أصحاب مالك أنه لا بد في المزكي من أن يكون مبرزا، قال سحنون - رحمه الله تعالى - لا يجوز في التزكية في العلانية إلا المبرز الناقد الفطن الذي لا يخدع في عقله، ولا يستنزل في رأيه، وقال مالك - رحمه الله تعالى -: لا يقبل في التزكية أقل من رجلين، وإن ارتضى القاضي رجلا للكشف جاز أن يقبل منه ما نقل إليه من التزكية عن رجلين، لا أقل من ذلك، نقله في التاج.

قوله: وصيغة التعديل البيت، معناه أن صيغة التعديل أن يقول: هو عدل رضى، وذلك لقوله سبحانه وتعالى:(وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقوله سبحانه وتعالى: (ممن ترضون من الشهداء) ولا يكفي أحد اللفظين على ظاهر قول مالك، وقال اللخمي: إن قال هو عدل رضى، صحت العدالة، واختلف إن اقتصر على إحدى الكلمتين، هل هو تعديل أم لا، فإن قال إحدى الكلمتين ولم يسأل عن الأخرى فهو تعديل، لورود القرآن الكريم بقبول شهادة من وصف بإحداهما، وإن سئل عن الأخرى فوقف فهو ريبة في تعديله، فيسأل عن سبب وقفه، فقد يذكر ما لا يقدح في العدالة، أو يذكر ما يريب فيوقف عنه، نقله عنه ابن عرفة - رحمهما الله سبحانه وتعالى قال: وفي الموازية: قوله: اختبرته وعاملته فما علمت إلا خيرا، أو أنه فاضل صالح ثقة، ليس تعديلا، حتى يقول عدل، أو أراه عدلا.

ص: 812

ويشترط في المزكي الاعتماد على طول العشرة، قال في التاج: سحنون: لا يزكي إلا من خالطه في الأخذ والإعطاء، وطالت صحبته إياه في الحضر والسفر، اللخمي: ولا يقبل التعديل بيسير المخالطة، وقال أيضا: لا يقبل تعديله من غير سوقه ومحلته، فإن وقف أهل سوقه ومحلته عن تعديله فذلك ريبة، فإن لم يكن فيهم عدل قبل من سائر بلده، المتيطي: لا يزكي الشاهد إلا أهل مسجده، وسوقه، وجيرانه، رواه أشهب، وقال مطرف وابن الماجشون: ولا يزكي الشاهد من شهد معه، أو نقل معه شهادة في ذلك الحق.

قوله: والشاهد الواحد البيت، معناه أن العدالة لا تثبت بشهادة شاهد واحد، وكذلك الجرح للمعنى الذي تقدم بيانه.

1844 -

وقبلت شهادة الصبيان في

جرح بشرط عدم التخالف

1845 -

كذا انتِفا افتراقِهم وعدمُ

دخولِ شخص بالغ بينهم

1846 -

وحيث ما اختلف من تبايعا

حلف بائع على الذي ادَّعى

1847 -

وحلف المبتاع إن يمتنع

منَ اَخذها بعدُ بقول البائع

1848 -

والمتداعيان حيث اختلفا

بما يحوزان معا فليحلفا

1849 -

واقتسماه بعد ذا نصفين

كإن يُقِم كلاهما عدلين

1850 -

إن استووا وإن تزد عداله

بينة فربها يُقضى له

قوله: وقبلت شهادة الصبيان البيتين، معناه أن شهادة الصبيان تقبل في ما يقع بينهم من الجراح للضرورة، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ أن عبد الله بن الزبير - رضي الله تعالى عنهما - كان يقضي بشهادتهم في ما بينهم من الجراح، قال مالك - رحمه الله تعالى -: الأمر المجتمع عليه عندنا أن شهادة الصبيان تجوز في ما بينهم من الجراح، ولا تجوز على غيرهم، وإنما تجوز شهادتهم في ما بينهم من الجراح وحدها، لا تجوز في غير ذلك، إذا كان ذلك قبل أن يتفرقوا، أو يخببوا، أو يعلموا، فإن افترقوا فلا شهادة لهم، إلا أن يكونوا قد أشهدوا العدول على شهادتهم قبل أن يتفرقوا.

ص: 813

وظاهر هذا كظاهر الشيخ عدم قبول شهادتهم في القتل، وقيل تقبل في القتل أيضا، وهو قول مالك - رحمه الله تعالى - في المدونة، قال في التبصرة: فأما شهادة الصبيان في ما يقع بينهم من الجراح والقتل، فاختلف فيها على ثلاثة أقوال، فقال مالك تجوز في الجراح والقتل، وقيل تجوز في الجراح خاصة، وقال محمد بن عبد الحكم لا تجوز في جراح ولا قتل، لأن الله سبحانه و تعالى إنما أجاز شهادة العدل الرضى، والأول أحسن، لأن القتل والجرح موجود، والشأن صدقهم عند أول قولهم، والضرورة تدعو إلى معرفة ذلك منهم، وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: تقبل شهادتهم بتسعة شروط، أحدها أن يكونوا ممن يعقل الشهادة، أحرارا، ذكورا، محكوما لهم بالإسلام، والمشهود به جرح أو قتل، ويكون ذلك في ما بينهم، لا لكبير على صغير، ولا لصغير على كبير، ويكونا اثنين فصاعدا، وتكون الشهادة لهم قبل تفرقهم وتخبيبهم، وتكون متفقة غير مختلفة، وقد اختلف في هذه الجملة في سبعة مواضع، أحدها هل تجوز شهادتهم في ما بينهم في المعارك، أو شهادة من لم يحضر معهم في ذلك، والثاني شهادة الإناث مع الذكور، والثالث شهادتهم لكبير أو عليه، والرابع القسامة إذا لم يمت بالحضرة، وهل يقسم مع شهادة واحد، والخامس إذا اختلفت الشهادة ولم يخرجوا بالقتيل عن جملتهم، والسادس هل يراعى ما كان بينهم من عداوة أو قرابة.

ص: 814

قوله: وحيث ما اختلف من تبايعا البيتين، معناه أن المتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن، استحلف البائع على نفي دعوى المشتري وإثبات دعواه، فإن حلف خير المشتري بين أن يأخذ بما حلف عليه البائع، أو يحلف أيضا على نفي دعوى البائع وإثبات دعواه، وينفسخ البيع، وهذا في رواية ابن القاسم وقوله إذا لم تفت السلعة، سواء حصل قبض من المشتري أو لا، بان بالسلعة أو لا، فإن فاتت بتغير سوق أو بدن، كان القول للمشتري بيمينه، وقيل يتحالفان ويتفاسخان ما لم يقبض المشتري السلعة، فإن قبضها كان القول له، وإن لم يبن بها، وقيل إنما يكون القول له بالبينونة بالسلعة، والقولان رواهما ابن وهب - رحمه الله تعالى - وقيل يتحالفان ويتفاسخان مطلقا، وإن قبض المشتري السلعة وبان بها وفاتت، ويرد في الفوات القيمة، وهذا هو رواية أشهب وقوله، وهو ظاهر الشيخ، قال في الجواهر: قال الإمام أبو عبد الله: وهذا المذهب الذي كان يفتي به شيخنا - رحمه الله تعالى - قال: وأنا أفتي به أيضا، قال ابن شاس - رحمهم الله تعالى جميعا -: وسبب اختلاف هذه الروايات أنه نظر في رواية أشهب إلى أن كل واحد منهما مدعى عليه، إذ البائع يقول لم أُخرج سلعتي إلا على صفة لم يقر بها المشتري، والمشتري يقول لم أشتر إلا بما سميته، وهذا يقتضي التحالف والتفاسخ مطلقا، وأما رواية ابن القاسم فنظر فيها إلى أن بفوات السلعة يفوت ردها، وإنما تجب على المشتري قيمة، فصار البائع يدعي عليه عمارة ذمته بشيء وهو منكر له، ونظر في روايتي ابن وهب إلى ترجيح جانب المبتاع، فتارة اقتصر على وجود اليد، وتارة أضاف إليها البينونة حتى تتأكد بها، ثم نقل عن أبي الطاهر ابن بشير أنه لا خلاف في مراعاة الشبه مع فوات السلعة، قال: وأما إن كانت قائمة فقولان المشهور أنه غير مراعى لوجود السلعة والقدرة على ردها، والبيع مظنة التغابن، والشاذ أنه يراعى، قال وصوبه الأشياخ، ثم قال: وهذا ينبغي أن يكون خلافا

ص: 815

في حال، فإن ادعى أحدهما أشبه، وأبعد الآخر إلى ما لا يشبه، فينبغي ألا يختلف أن القول قول من ادعى الأشبه، وإن ادعى الآخر ما هو ممكن، ويتغابن الناس بمثله، فلا يلتفت إلى الأشبه.

وأما إذا اختلفا في جنس الثمن، كأن يقول بعتك سلعتي بدينار، فيقول الآخر: بل بهذه الشاة، فيتحالفان ويتفاسخان مطلقا، إذ ليس أحدهما أولى بالتصديق من الآخر.

واختلف في الاختلاف فى النوع، كأن يقول البائع بدينار، ويقول المشتري بثمانية أو عشرة دراهم، فقيل كالاختلاف في الجنس، وقيل كالاختلاف في القدر.

قوله: والمتداعيان حيث اختلفا الأبيات، معناه أنه إذا تداعى رجلان مثلا في شيء، وكان بأيديهما، وكان مما يصلح أن يكون ملكا لكل منهما، ولم يقم واحد منهما بينة، قسم بينهما بعد حلفهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي للحالف، وهذا إذا كان كل منهما يدعي ملك جميعه، فإن اختلفت الدعوى، بأن ادعى أحدهما جميعه، وادعى الآخر نصفه، قسم على حسب الدعوى عند مالك وأكثر أصحابه، فيعال بالنصف، ويكون لمدعي الكل الثلثان، ولمدعي النصف الثلث، وقال ابن القاسم وعبد الملك يقسم على التنازع، فيكون لمدعي الكل النصف إذ لا منازع له فيه، ويقسم النصف الثاني بينهما نصفين، لأنه المتنازع فيه ولا مرجح لدعوى أحدهما، وهذا أبين وأقعد بالأصل الذي هو مبنى الحكم، لأن النزاع إنما هو في النصف خاصة، وإن أقام كل منهما بينة، فإن كانت إحداهما أعدل، قضي بها، وإلا تساقطتا، وقسم بينهما، وأما إذا لم يكن بيد أحدهما فإنه يستؤنى به، فإن كان مما لا يخاف عليه مثل الدور والأرضين ترك، فإن طال الزمان ولم يأت أحدهما بغير ما أتيا به قسم بينهما، وإن كان مما يخشى تغيره مثل الحيوان والعروض والطعام استؤني به قليلا، لعل أحدهما يأتي بأثبت مما جاء به صاحبه فيقضى له به، فإن لم يأت بشيء وخيف عليه قسم، وأما إذا كان بيد أحدهما خاصة فإنه يحلف ويبقى بيده، حيث لا مرجح لبينة صاحبه.

ص: 816

قوله: وإن تزد عداله بينة فربها يقضى له، معناه أنه يرجح عند تعارض البينتين بمزيد العدالة، ولا ينظر إلى زيادة العدد، قال مالك - رحمه الله تعالى -: حتى لو كانت بينة أحدهما رجلين أو رجلا وامرأتين فيما تجوز فيه شهادة النساء، وبينة الآخر مائة رجل فاستووا كلهم في العدالة سقطوا، وبقي الشيء بيد حائزه، ويحلف، وتقدم شهادة العدلين على شهادة الواحد إذا أراد أن يحلف معه، وإن كان أعدل أهل زمانه، وقيل يقدم إن كان أعدل، ويقدم الشاهد الأعدل مع امرأتين على شاهدين دونه في العدالة، فإن استووا فقال أشهب يقدم الشاهدان على الشاهد والمرأتين، وقال ابن القاسم: لا ترجيح نقله في التاج.

ومما يشهد لأصل هذه المسألة قضاء أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - بإشراك الجدتين في فرض السدس على ما سيأتي بيانه إن شاء الله سبحانه وتعالى.

1851 -

وشاهد رجع بعد الحكم

فهْو لما فوَّته ذو غرم

1852 -

إن يعترف بكونه قد شهدا

زورا بذا الشيخ لذاك قيدا

1853 -

وزاعما على الذي قد وكله

أن رد ما وكله عليه له

1854، أو ثمن المبيع أو ما اُودعا

أو القراض صدقنْ بما ادعى

1855 -

وزاعم دفع الذي قدُ اُمرا

بدفعه إلى فلان آخرا

1856 -

فحيث لم تشهد بذاك بينه

وأنكر الآخر قبضا ضمنه

1857 -

كذا ولي ليتيم زعما

أن كان ماله له قد سلما

1858 -

فلا يصدق كذا إن يقل

عليه قد أنفقته لم يقبل

1859 -

ما لم يكن بحضنه فصدقه

بمشبه زعم أن قدَ اَنفقه

ص: 817

قوله: وشاهد رجع البيتين، معناه أن الشاهد إذا رجع عن شهادته بعد الحكم بها، واعترف أنه شهد بزور، مضى الحكم، وغرم ما فوت بشهادته للمشهود عليه، وقول الشيخ: قاله أصحاب مالك، يشير به إلى أن مالكا - رحمه الله تعالى - لم يحفظ عنه جواب في الغرم، وقد نقل ذلك في النوادر عن محمد بن المواز، كما نقله عنه ابن عرفة رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين - ونصه: الشيخ: قول محمد: لم يحفظ عن مالك في غرم الشهود جوابا إذا شهدوا بحق فحكم به ثم رجعوا، ولكن قال ذلك أصحابه أجمع، المدنيون والمصريون، قال ابن القاسم: أخبرني من أثق به عن عبد العزيز بن أبي سلمة في رجوع أحد الشاهدين بعد الحكم قال: يغرم نصف الحق، ولا يرد الحكم، قال ابن القاسم: فسألت عنه مالكا - رحمهما الله سبحانه وتعالى تعالى - فقال: يمضي الحكم، ولم يتكلم في ما وراء ذلك، وقال ابن القاسم وأشهب وابن وهب وابن عبد الحكم وعبد الملك وأصبغ إنه يغرم نصفه، قال ابن القاسم: ولا شيء عليهما حتى يقرا بتعمد الزور، ولو قال ذلك أحدهما، وقال الآخر: وهمت، أو شبه علي، أو كان قضاه المدين ونسيت، فهذا لا يغرم، ويغرم الآخر نصف الحق، وكذا قال عبد الملك وابن عبد الحكم وأصبغ، وقال أشهب يضمنان إذا رجعا وإن لم يتعمدا واعتذرا بسهو أو غلط.

ص: 818

وذكر ابن عرفة - رحمه الله تعالى - أن الثاني رجحه غير واحد، لقاعدة أن الخطأ في أموال الناس كالعمد اتفاقا في المذهب، ولم يرتض ذلك قائلا: إنما وقع الاتفاق على أن الخطأ كالعمد في أموال الناس في فعل غير المأذون له في الفعل، والمأذون له في الفعل ليس كذلك، كالراعي يضرب الشاة ضرب مثلها فتهلك لا يضمنها، والوكيل على شراء عبد فيشتري أبا الموكل خطأ لا ضمان عليه، والشاهد مطلوب بالشهادة، فالقول بعدم ضمانه بناء على أنه بطلب الشهادة منه كالمأذون له في الفعل، منضما إلى أن الأصل عدم التفريط وعدم الضمان، وعزى ابن رشد - رحمه الله تعالى - في سماع عيسى القول الأول لسماع عيسى ابن القاسم، قال: وهو قول ابن الماجشون حكاه عنه ابن حبيب، وقال: هو قول جميع أصحابنا المغيرة وابن دينار وابن أبي زيد وغيرهم، وعزى الثاني لظاهر قول ابن القاسم في السرقة من المدونة، وهو ظاهر ما في أول رسم من سماع ابن القاسم، ونص قول ابن حبيب عن مطرف وابن القاسم وأصبغ.

ص: 819

قوله: وزاعما على الذي البيتين، معناه أن الوكيل إذا ادعى أنه رد إلى موكله ما وكله عليه، أو ما وكله على شرائه، أو ثمن ما وكله على بيعه، وأنكر الموكل ذلك، أو ادعى المودع أنه رد الوديعة لصاحبها، وأنكر المودع، أو ادعى عامل القراض أنه رده إلى ربه، صدقوا بيمين، لأنهم أمناء، إلا أن يشهد بينة عند التوكيل، أو الإيداع، أو القراض، قاصدا التوثق بها، فلا يصدقون في الرد دون بينة، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: فالأمانة التي تكون بين المخلوقين أمرهم الله سبحانه وتعالى فيها بالتقوى والأداء، ولم يأمرهم بالإشهاد كما فعل في ولي اليتيم، فدل ذلك على أنهم مؤتمنون في الرد إلى من ائتمنهم دون إشهاد، فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن أكذبه المودع، كما تصدق المرأة فيما ائتمنها الله سبحانه وتعالى عليه مما خلق في رحمها من الحيض والحمل، لقوله سبحانه وتعالى:(ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) إلا أن يكون دفعها إليه بإشهاد، فيتبين أنه إنما ائتمنه على حفظها، ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في الضياع الذي ائتمنه عليه، ولا يصدق في الرد الذي استوثق منه فيه ولم يأتمنه عليه، هذا قول مالك وجميع أصحابه ابن القاسم وغيره - رحمهم الله تعالى جميعا -.

ثم قال: وهذا في من دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه، وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعت إليه، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد، قال الله عز وجل:(فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) فإن لم يشهد فلا يصدق في الدفع إذا أنكر القابض، لا أحفظ في هذا الوجه نص خلاف، إلا على قول ابن الماجشون في من بعث ببضاعة مع رجل إلى رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها إليه، وهو مصدق وإن أنكر القابض، كانت دينا أو صلة.

وإلى هذا أشار بقوله: وزاعم الأبيات الأربعة.

ص: 820

وقوله: ما لم يكن بحضنه، يعني أنه إذا كان بحضنه وادعى أنه أنفق عليه كذا، على مقدار العادة، أو فوقها بيسير، صدق في ذلك بيمين، لمشقة الإشهاد في ذلك، ولشهادة العرف له، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: وفي المجموعة لابن كنانة: وينفق في عرسه بقدر حاله، وحال من تزوج، وقدر ماله، فإن خشي أن يتهم رفع إلى الإمام.

وإذا ادعى أنه أنفق ما لا يشبه لم يصدق.

1860 -

والصلح إن لم يك ذا جرٍّ إلى

محرم ـ منكِرا أو لا ـ حُللا

1861 -

وحيث ما شخص تزوج أمه

لعدم الرق عليها زاعمه

1862 -

أخذها سيدها مع قِيَم

ما ولدت يومَ له بها حُكم

1863 -

ومستحق أمة ذات ولد

فليأخذ القيمة عنهما فقد

1864 -

وقيل بل يأخذ عين الجاريه

وقيمةَ النجل كمثل الماضيه

1865 -

وقيل بل قيمة الام لا الولد

فقط له أو ثمنا إذا يَود

1866 -

من غاصب باع لمن منه استحق

والحكم في استيلاد غاصب سبق

ص: 821

قوله: والصلح إن لم يك البيت، معناه أن الصلح جائز إذا لم يؤد إلى محرم، سواء أقر المدعى عليه بالحق أو أنكر، أو سكت، وقد دلت على جواز الصلح الآيات القرآنية الكريمة كقوله سبحانه وتعالى:(لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) وقوله سبحانه وتعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) والأحاديث الصحيحة كإشارته صلى الله تعالى عليه وسلم على كعب بن مالك أن يضع شطر دينه على عبد الله بن أبي حدرد،

(1)

وكصلحه بين ثابت بن قيس بن شماس وزوجته الذي تقدم ذكره، والصلح على الإقرار أن يقول: هذه شاتي، فيقول: نعم، هي شاتك، ولكن أصالحك عنها بهذا الثوب مثلا، والصلح على الإنكار أن ينكر المدعى عليه كون الشاة للمدعي، ثم يصالحه عنها بثوب مثلا، والصلح عن السكوت أن يصالحه عنها من غير إقرار له بكونها له، ولا إنكار لذلك، وإذا كان الصلح على غير المدعى به كالمثال المذكور كان بيعا، فتجري فيه التفاصيل المتقدمة في البيع، وإذا كان على بعضه كقصة كعب بن مالك - رضي الله تعالى عنه - فهو هبة، ويمتنع الصلح إذا وقع على صورة ممنوعة على دعوى كل واحد منهما وعلى ظاهر الحكم، كأن يدعي عليه بدراهم فيقر ببعضها ويصالحه عنه بثوب مؤجل، فهذا على دعوى كل منهما فسخ دين في دين، وأما لو أنكر وصالح على شيء مؤخر فذلك جائز على دعوى المدعى عليه، إذ لا دين له عليه أصلا، ممنوع على دعوى المدعي لما سبق، ولو ادعى عليه طعاما من قرض، وأقر به، لكن قال هو من سلم، فصالحه عنه بشيء، كان ذلك ممتنعا على دعوى المدعى عليه، لاقتضائها أن الصلح بيع لطعام معاوضة قبل قبضه، ولا يمتنع على دعوى المدعي لجواز بيع طعام القرض قبل قبضه، والمشهور منع هذين النوعين وأنهما يفسخان خلافا لأصبغ.

(1)

متفق عليه.

ص: 822

واختلف كذلك إذا جاز على دعوى كل منهما وامتنع على ظاهر الحكم، كأن يدعي عليه دراهم حالة فيصالحه على تأخيرها، فهذا جائز على دعوى المدعي لأنه أخره بدينه، وعلى دعوى المدعى عليه إذ ليس له عليه دين أصلا، لكنه ممتنع على ظاهر الحكم، لأن المدعي أسلف بالتأخير وقد انتفع بثبوت حقه بلا يمين، فهذا جائز عند أصبغ وابن القاسم، فالمشترط عند ابن القاسم استجماع شروط البيع، والمشترط عند أصبغ أن لا يمتنع على دعوى كل منهما، والمشترط على القول المصدر به أن يجوز على دعوى كل منهما وعلى ظاهر الحكم، واعلم أنه كل ما امتنع على دعوى أحدهما، امتنع على ظاهر الحكم بلا عكس، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: وحيث ما شخص البيتين، معناه أن الأمة الغارة بالحرية إذا ولدت من زوجها الحر، فولدها حر، وعليه قيمته لسيدها يوم الحكم على المشهور، وقيل يوم الولادة، ويترتب على ذلك الخلاف في لزوم القيمة إذا مات قبل الحكم، ويتعين فسخ النكاح أبدا، إذا لم يكن بإذن السيد، وهذا إذا كان المغرور حرا، فإن كان عبدا كان الولد عبدا لسيدها.

ص: 823

قوله: ومستحق أمة الأبيات الثلاثة، معناه أن الأمة إذا استحقت بعد ما استولدها الذي هي في يده، وهو حر، غير غاصب، ففي ذلك ثلاثة أقوال لمالك - رحمه الله تعالى - فمرة قال يأخذ الأمة وقيمة الولد يوم الحكم، ومرة قال له قيمتهما معا يوم الحكم، ثم رجع إلى أنه يأخذ قيمتها وحدها يوم الحمل، قال في التبصرة: وهو آخر قوله، وبه أفتى لما استحقت أم ولده إبراهيم، وبه أخذ ابن كنانة وابن أبي حازم وابن دينار وابن الماجشون والمغيرة، وأخذ ابن القاسم بالأول، وقال المغيرة يأخذ الأم وقيمة الولد يوم ولد، فأجاز في الأول أخذها قياسا على رد عتقها لو أعتقها المشتري، ومنع في القول الآخر قياسا على ولدها، قال اللخمي - رحمه الله تعالى -: وأرى إذا كان الأب ممن له قدر أن تقبل منه القيمة، وإذا كان على غير ذلك كان لسيدها أن يأخذها، إلا أن يكون لسيدها تعلق بها فيكون له أخذها في الوجهين جميعا، فرفع الضرر عنه أولى من رفع الضرر عمن لا ملك له

قوله: أو ثمنا إذا يود من غاصب باع لمن منه استحق، معناه أنه بالخيار بين ما ذكر وبين إمضاء البيع إذا كان المستولد اشتراها من الغاصب من المستحق، غير عالم بكونه غاصبا، وإذا أمضى أخذ الثمن من الغاصب.

قوله: والحكم في استيلاد غاصب سبق، معناه أنه تقدم الكلام على استيلاد الغاصب في الغصب وذلك قوله:

وإن يجامع أمة فالحد

وما به تحمل منه عبد

ومدار الباب على حديث " ليس لعرق ظالم حق "

(1)

منطوقا في الغاصب، ومفهوما في غيره، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: والعرق الظالم: كل ما احتفر أو أخذ أو غرس بغير حق.

1867 -

ومستحق بقعة عُمِرت

فليدفعنَّ عَدْلَ ذي العمارة

1868 -

قائمةً، وحيث يأبى دَفْعَه

أعطاه من عَمَر عدل البقعه

1869 -

واشتركا فيه إذا أبى حسب

قيمةِ ما للكل منهما انتسب

(1)

رواه أبو داود والترمذي والإمام مالك والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 824

1870 -

وغاصب البَراح حيث عمَره

فربه بالقلع إن شا أمره

1871 -

وإن يشأ أخذه معوضا

عنه له قيمتَه منتقضا

1872 -

معْ نقص أجر القلع والهدم وما

ليس بنافع إذا تهدما

قوله: ومستحق بقعة الأبيات الثلاثة، معناه أن الأرض إذا استحقت من ذي شبهة، بعد أن عمرها بالبناء أو الغرس، أمر المستحِق أن يدفع للمستحق منه قيمة عمارته قائمة، وتكون البقعة له بما فيها، فإن أبى قيل للمستحق منه ادفع له قيمة أرضه خالية، فإن أبى أيضا كانا شريكين بنسبة ما لكل منهما، فإذا كانت قيمة البقعة خالية مائة دينار، وكانت قيمتها بعمارتها ثلاثمائة دينار، كان المستحق شريكا بالثلث، وروي عن مالك - رحمه الله تعالى - أيضا أن المستحَق منه يجبر على دفع قيمة الأرض، إذا أبى المستحق من دفع قيمة العمارة، لأنه فوتها عليه بذلك.

قوله: وغاصب البراح الأبيات الثلاثة، معناه أن من غصب أرضا، وبنى فيها، أو غرس، يؤمر بقلع بنائه، أو غرسه، لعدائه، وإن شاء صاحب الأرض أعطاه قيمته منقوضا بعد إسقاط أجرة القلع، أو الهدم، إذا لم يكن الغاصب ممن يتولى ذلك، وإسقاط ما يضيع بالقلع كالجص، والنقش، ومدار الباب كما تقدم على حديث " ليس لعرق ظالم حق " منطوقا ومفهوما.

1873 -

وصاحب الشبهة ما استغله

قبلُ له فلا ير د الغله

1874 -

نعم يرد نجل ما منه استُحق

لو أمة إن لم يكن به لحِق

1875 -

وصاحب السُّفل عليه رَمُّه

وعلق العُلْو إذا يؤمه

1876 -

كذا عليه سقفه وجُبِرا

عليه إن أنِف حين أُمرا

1877 -

أو باعه لمصلح، ولا ضرر

ولا ضرار خبر قد اشتهر

1878 -

فلا يجوز فعل ما بالجار

من الأمور كان ذا إضرار

1879 -

كفتح كَوة له تظهر ما

منَ اَمره عليه قد تكتما

1880 -

وفتحه بابا نظير آخرا

وحفره حفرا به تضررا

1881 -

ولتقض بالجدار حيث ما عليه

تنازعا لمن عُقوده إليه

ص: 825

تقدم الكلام على أن الغاصب يرد غلة المغصوب على ما تقدم في الغصب، إذ " ليس لعرق ظالم حق " وذكر هنا أن المستحق منه إذا كان ذا شبهة - ومثله مجهول الحال - لا يرد ما استغله قبل الحكم بالاستحقاق، لما تقدم من أن " الخراج بالضمان " ولا يدخل في الغلة ولد الذات المستحقة - دابة أو أمة - فهو للمستحِق، إلا أن يكون استولد الأمة فهو قوله السابق: ومستحق أمة ذات ولد الأبيات، وإلى هذا الإشارة بقوله: وصاحب الشبهة ما استغله البيتين.

قوله: وصاحب السفل إلى قوله: أو باعه لمصلح، معناه أنه إذا كانت دار بعضها فوق بعض، وكان العلو لرجل، والسفل لآخر، فانهدمت، كان على صاحب السفل إعادة بنائه، ليتمكن صاحب العلو من بناء علوه، وعلى صاحب السفل كذلك تعليق العلو إذا ضعف السفل على عمد ونحوها، حتى يرمه، وإذا امتنع صاحب السفل من الإصلاح، جبر على أن يصلح، أو يبيع ممن يصلح، قال سيدي زروق رحمه الله سبحانه وتعالى: قال سحنون رحمه الله سبحانه وتعالى: إنما يجوز البيع بشرط الإصلاح إذا كان البائع لا مال له، وإلا لم يجز، قال: يريد ويجبر على الإصلاح، كما نقله ابن يونس رحمه الله سبحانه وتعالى وقال ابن القصار يجبر مطلقا، إلا أن يختار صاحب العلو بناءه من ماله، ويمنع رب السفل من النفع به حتى يعطيه ما أنفق والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 826

قوله: " لا ضرر ولا ضرار " هو حديث الموطإ،

(1)

ساقه برهانا للمسألة السابقة ولما بعدها من امتناع فعل ما يضر بالجار، وعلى هذا الحديث ونحوه مدار هذا الباب، والضرر ما كان من جانب، والضرار من جانبين، وقيل غير ذلك، ومثل للضرر بالجار بفتح الكوة التي يشرف منها عليه، وجاء أن عمر - رضي الله تعالى عنه - كتب في ذلك أن يوقف على سرير فإن نظر إلى ما في دار جاره منع، وإلا لم يمنع، قال القاضي عياض رحمه الله سبحانه وتعالى: معنى قوله: فإن نظر إلى ما في دار جاره منع، معناه إذا اطلع من هذه الكوة واستبان منها من دار الآخر الوجوه، فإن لم يستبن الوجوه، لم يكن ذلك الاطلاع ضررا، نقله في المواهب.

وأما الكوة القديمة فلا يقضى بسدها على المشهور، وقال ابن فرحون: في وثائق ابن الهندي: ويجب في التحفظ بالدين أن يتطوع بغلقها من جهة الاطلاع على العورات، وأن يكون التحفظ بالدين أوكد من حكم السلطان نقله في المواهب.

قوله: وفتحه بابا نظير آخر، معناه أنه ليس له أن يستحدث بابا نظير باب جاره في السكة التي ليست بنافذة، لتضرره بالاطلاع على من يدخل عليه، وما يستجلب، ونظر الجلوس عنده أعني الباب إليه، فإن نكبه قدر ما لا يضر به، ولا يضر بالجار الآخر، جاز على ظاهر الشيخ، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وابن وهب في العتبية، قال ابن ناجي: وقال ابن زرب يمنع مطلقا إلا بإذن جميع أهل الزقاق، وبه جرى العمل بقرطبة، وعليه العمل عندنا بإفريقية.

(1)

ورواه أيضا ابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 827

وفي مختصر أبي بكر الوقار: وإذا كان القوم في زقاق غير نافذ، وأراد بعضهم أن يشرع في الزقاق بابا، أوسقيفة، أو عسكرا، فلهم أن يمنعوه من ذلك، فإن أذن بعضهم وأبى بعض، فإن كان من أذن له هم آخر الزقاق، وممرهم إلى منازلهم على الموضع الذي يريد أن يحدث فيه ما يحدث، فإذنهم جاز، ولا حق لمن ليس له عليه ممر في شيء مما يريد أن يحدثه، وإن كانت الدار بطريق مسلوكة في حظ للمارة نافذ، فليس لأحد أن يمنعه من باب يشرعه، ولا من قناة كنيف ينشئها، إذا كان بئرها مغيبة في حائطه، ولا من سقيفة يعليها إذا كانت غير مضرة بما يمر تحتها، من محمل عليه قبة ونحوها، ولا من عسكر يشرعه إذا أعلاه ولم ينل المارة منه أذى، وإن كان له جار محاذيه وشاحه في العسكر قسم بينهما من الهواء ما بينهما نصفين، نقله في المواهب.

قال: وفي المنتخب لابن أبي زمنين في باب ما يحدث فى الطرق والأفنية: في كتاب ابن حبيب: قلت لمطرف وابن الماجشون: والكنف التي تتخذ في الطريق، يحفرها الرجل بلصق جداره ثم يواريها، أله أن يمنع من ذلك؟ قال: لا إذا واراها وغطاها وأتقن غطاءها وسواها بالطريق، حتى لا يضر مكانها بأحد، فلا أرى أن يمنع، وما كان من ذلك ضرر بأحد منع منه.

قوله: وحفره حفرا به تضررا، معناه أنه يمنع من حفر ما يضر بجاره في أرضه، وذلك كأن يحفر بئرا بقرب بئر جاره، فتهدم إذا كانت تضر بمائها، وقيل يجوز له ذلك، ويمنع من إحداث ما يضر بجدار جاره، حفرا أو غيره، ويمنع من إحداث ما له رائحة كريهة كالأندر، والحمام، والفرن، والمدبغ.

ص: 828

قوله: ولتقض بالجدار البيت، معناه أنهما إذا تنازعا في الجدار الواقع بينهما فادعى كل منهما أنه له، قضى به لمن تقع في جهته العقود، لدلالة ذلك عرفا على أنه الذي بناه، وعقود الحائط: تلاقي الآجر وتناكحه، وقيل معاقد القمط، والقمط بكسر القاف: الحبل الذي تشد به قوائم الشاة، وبفتحها مصدر قمطه إذا شد يديه ورجليه، والمراد الحبال أو العيدان التي يشد بها الحائط في عرضه.

1882 -

ومنْعُ فضل الما ليمنع به

ما حوله من كلإ عنه نُهي

1883 -

وأهل آبار المواشي أجدر

بما بها من ماً إلى أن يُصدروا

1884 -

والناس بعدهم في الاستقاء

مما بقِي بها على السواء

1885 -

ومن بأرضه كبئر مثلا

له احتكار ما به قد فضلا

1886 -

نعم إذا انهدم بئر الجار مع

خشية أن يتلف ما بها زرع

1887 -

جبر أن يعطيه ما بقيا

عنه وفي الثمن خلف رُويا

1888 -

وندبت إعارة الجدار

لغرز الاخشاب به للجار

ص: 829

قوله: ومنع فضل الما الأبيات الثلاثة، معناه أنه ينهى عن منع فضل الماء استبقاء للكلإ، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:" لا يُمنع فضل الماء ليُمنع به الكلأ "

(1)

وروى أيضا أنه قال: " لا يُمنع نَقْع بئر "

(2)

(1)

متفق عليه.

(2)

ورواه ابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح ..

ص: 830

وقد تقدم حديث " ثلاثة لا يكلمهم الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ولا ينظر إليهم رجل يحلف على سلعته لقد أعطى فيها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف يمينا بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء فيقول الله سبحانه وتعالى: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمله يداك " وهذا محمول في المشهور على آبار الماشية ونحوها في الصحراء، فأصحابها أحق بها حتى يسقوا، ثم يدعون الفضل للناس، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ووجه التبدئة في الشرب في بئر الماشية إذا اجتمع أهل البئر والمارة وسائر الناس بمواشيهم والماء يقوم بهم، أن يبدؤوا أولا أهل الماء فيأخذوا لأنفسهم حتى يرووا، ثم المارة حتى يرووا، ثم دواب أهل الماء حتى يرووا، ثم دواب المارة حتى يرووا، ثم مواشي أهل الماء حتى يرووا، ثم الفضل لسائر مواشي الناس، وبدأ أشهب بدواب المسافرين قبل دواب أهل الماء، فأما إن لم يكن في الماء فضل، وتبدئة أحدهم يجهد الآخر، فإنه يبدأ بأنفسهم ودوابهم من كان الجهد عليه أكثر بتبدئة صاحبه، فإن استووا في الجهد تساووا، هذا مذهب أشهب، وعلى ما ذهب إليه ابن لبابة أنهم إذا استووا في الجهد فأهل الماء أحق بالتبدئة لأنفسهم ودوابهم، وأما إن قل الماء جدا، أو خيف على بعضهم بتبدئة بعض الهلاك، فإنه يبدأ أهل الماء فيأخذوا لأنفسهم ما يذهب عنهم الخوف، فإن فضل فضل أخذ المسافرون لأنفسهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم، فإن فضل فضل أخذ أهل الماء لدوابهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم، فإن فضل فضل أخذ المسافرون لدوابهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم، ولا اختلاف عندي في هذا الوجه، هذا الذي يتحصل عندي من قول أشهب وابن لبابة.

ص: 831

قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: وهذه البئر لا تباع ولا تورث على وجه الملك، إلا أن الورثة يتنزلون منزلة مورثهم في التبدئة بالشرب، وإن أوصى بثلث ماله لرجل فلا يبدؤون بالشرب، ولا ينزلون منزلة الموصي في ذلك، هذه رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية، فإن تشاح أهل البئر في التبدئة، فقد قال ابن الماجشون: إن كانت لهم سنة من تقديم ذي المال الكثير، أو قوم على قوم، وكبير على صغير، حملوا عليها، وإلا استهموا، وهذا عندي إذا استوى بعدهم من حافرها، وأما إن كان بعضهم أقرب إليه فهو أحق بالتبدئة، قلت ماشيته أو كثرت، ولا حظ فيها لزوجة ولا زوج بالزوجية، وهما كالأجنبي إذا لم يكونا من ذلك البطن، والبئر والمأجل والجب في ذلك سواء عند مالك - رحمه الله تعالى - خلاف قول المغيرة في أن له أن يمنع فضلة ماء جب الماشية، ووجه قوله أن الجب يتكلف فيه نفقة كثيرة، وليس بمعين كالبئر التي إذا نزف منها شيء عاد فيه مثله، فلا يحمل أمره على أنه أراد به الصدقة، إلا ببيان، وهو في بئر الماشية يحفرها في المهامه محمول على أنه إنما أراد به الصدقة، فإن ادعى أنه لم يرد الصدقة وأنه أراد أن يبيع ماءها لم يصدق، ومنع من ذلك بالحكم، ولو أشهد عند حفره إياها أنه إنما يحفرها لنفسه، لوجب أن لا يمنع من بيع مائها، وأن يستحقها ملكا بالإحياء، على حكم إحياء الموات.

قوله: ومن بأرضه الأبيات الثلاثة، أشار به إلى أن البئر التي يحفرها الرجل في الأرض المملوكة، أو العين التي يفجرها فيها، أو المتفجرة بنفسها فيها، أو الغدير له منع مائها، وبيعه، كماء في آنية عنده، نعم إذا كان لجاره زرع زرعه على أصل ماء فغارت عينه وأخذ في إصلاحها وخيف على زرعه، جبر على إعطائه فضل مائه، واختلف هل يلزمه الثمن له إن وجد عنده أو لا، وإن كان لا يجده لم يلزمه قولا واحدا كما قال ابن رشد كما قال سيدي زروق - رحمهما الله سبحانه وتعالى.

ص: 832

قوله: وندبت إعارة البيت، معناه أنه يندب لمن أراد جاره أن يغرز خشبة في جداره يرتفق بها في بعض أموره أن يمكنه من ذلك، ولا يقضى عليه به، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن أبي هريرة - رضي الله سبحانه وتعالى عنه - أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:" لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره "

(1)

قال أبو هريرة - رضي الله سبحانه وتعالى: ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله الكريم لأرمينّ بها بين أكنافكم.

وهو عند مالك - رحمه الله تعالى - خارج مخرج الإرشاد عملا بالأصل المتقرر بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه "

(2)

وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه على الوجوب لقضاء عمر - رضي الله سبحانه وتعالى عنه -

وهذا كله حيث لم يضر بحائطه.

وقوله في الأبيات: الأخشاب بالجمع يصلح أن يكون إشارة إلى رواية خشبه في الحديث بضمتين، ويلحق بمسألة الخشبة ما في معناها من الإرفاق بالماء والطريق ونحوه مما لا يضره فكل ذلك مندوب إليه.

1889 -

وما بليل تفسد البهائم

ضمانه من ربها منحتم

1890 -

مثل الحوائط أو الزروع

لا ما نهارا كان ذا وقوع

1891 -

وواجد بفلس ما باعه

فإن يشأ فليأخذنْ متاعه

1892 -

إن كان معروفا أو الحصاصا

والموت عن ذا فيه لا مناصا

1893 -

وضامنَ المال اقضيَنْ بغرمه

بغيبة المدين أو بعُدْمه

1894 -

وضامن للوجه لم يَشرط عدم

غرم كذا إن لم يجئ به اغترم

(1)

متفق عليه.

(2)

رواه الإمام أحمد والدارقطني والبيهقي، وهو حديث صحيح.

ص: 833

قوله: وما بليل تفسد البهائم البيتين، معناه أن ما أفسدت البهائم ليلا من الحوائط والزروع على ربها، وإن زاد على قيمتها، وليس له أن يسلمها كما في العبد، لأن الجاني هنا هو رب الماشية، لما تقدم من أن فعلها جبار، وما أفسدته نهارا فهو هدر، وقد روى مالك رحمه الله سبحانه وتعالى في الموطإ أن ناقة للبراء بن عازب - رضي الله تعالى عنه - دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن على أهل الحوائط حفظَها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي باليل ضامن على أهلها

(1)

.

قال في التاج: قال مالك رحمه الله سبحانه وتعالى: سواء كان محظرا عليه، أو غير محظر، ابن القاسم: وجميع الأشياء في ذلك سواء، الباجي: وهذا في موضع تتداخل فيه المزارع والمراعي، وقال: من المواضع ضرب تنفرد فيه المزارع والحوائط، ليس بمكان مسرح، هذا لا يجوز إرسال المواشي فيه، وما أفسدت فيه ليلا أو نهارا فعلى أربابها، وضرب ثالث جرت عادة الناس بإرسال مواشيهم فيه ليلا أو نهارا، فأحدث رجل فيه زرعا لا ضمان فيها على أهل المواشي ليلا أو نهارا، وقال أبو عمر: إنما يسقط الضمان نهارا عن أرباب المواشي إذا أطلقت دون راع، وإن كان معها راع فلم يمنعها فهو كالقائد والراكب والسائق، وقد ضمن مالك - رحمه الله تعالى - القائد والسائق والراكب.

قال ابن ناجي رحمه الله سبحانه وتعالى: وهذا كله إذا لم تكن من المواشي التي شأنها العداء على الزرع، فإن كانت كذلك، وتقدم إلى أربابها، ضمنوا ما أصابته ليلا أو نهارا كالكلب العقور.

(1)

ورواه أبو داود وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 834

قوله: وواجد بفلس البيتين، معناه أن من باع سلعة، وفلس المشتري قبل أن يدفع له الثمن أو مات، ووجد سلعته قائمة لم تفت، بأن كانت معروفة العين، أو شهدت له بذلك بينة، أو عينها المفلس قبل التفليس، أو بعده على خلاف، فهو أحق بها في الفلس من غيره من الغرماء، وللغرماء أن يفتكوها منه بالثمن، وإن شاء تركها وحاصص بثمنها، وأما في الموت فهو أسوة للغرماء، وقد روى مالك رحمه الله سبحانه وتعالى في الموطإ أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:" أيما رجل باع متاعا، فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا، فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء "

(1)

وإذا كان قد قبض بعض الثمن كان بالخيار بين أن يرده ويأخذ سلعته، أو يحاص بما بقي من الثمن، وهذا كله حيث كان المشتري قد قبض السلعة، فإن فلس أو مات قبل أن يقبضها كان صاحبها أحق بها مطلقا في الموت والفلس.

قوله: وضامن المال البيتين، معناه أن من ضمن دينا على رجل مثلا، فحل الدين والمدين معسر، أو غائب، فهو ضامن له، لحديث " الزعيم غارم "

(2)

وليس له أن يطالبه والمدين حاضر موسر، قال في التاج: ابن يونس: قال بعض أصحابنا: لأن الحميل إنما أخذ توثقة، فأشبه الرهن، فلما كان لا سبيل إلى الرهن إلا عند عدم المطلوب، فكذلك لا سبيل على الكفيل إلا عند عدم المطلوب.

وهذا ما لم يشترط صاحب الحق اتباع أيهما شاء، فيكون له شرطه على المشهور المعلوم من مذهب ابن القاسم رحمه الله سبحانه وتعالى ويتبع الضامن المدين بما أدى عنه.

(1)

ورواه أبو داود، وهو حديث صحيح، وروى الشيخان " من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره ".

(2)

رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 835

وأما ضامن الوجه فلا ضمان عليه إن جاء بالمدين عند حلول الدين، ولو عديما، فإن لم يأت به ضمن، إلا أن يشترط عدم الغرم، فلا يضمن، إلا أن يفرط، مثل أن يلقاه فيتركه بحيث يعد مفرطا، أو يهربه، فيغرم، لأنه كالقاصد بذلك إتلاف مال غيره.

1895 -

ومن يُحَل بدينه ويقبلِ

فما له أوب إذا للاول

1896 -

وإن يك الثاني به ذا عُسْره

إن لم يكن محيله قد غره

1897 -

وحيث لم يكن لمن أحاله

دين على الثاني تكن حماله

1898 -

لو وقعت باسم الحوالة على

ما من خلافهم بذاك عولا

قوله: ومن يحل بدينه البيتين، معناه أن من كان له دين على رجل مثلا، فأحاله على دين له على آخر، ورضي بذلك، فإن حقه يتحول على المحال عليه، وقد برئت منه ذمة المحيل، وليس له رجوع على المحيل، وإن غاب المحال عليه، أو كان معدما، حيث لم يكن المحيل عالما بذلك وكتمه عنه، ولو كان ظاهر اليسر، قال اللخمي: وأرى أن له الرجوع، لأنه لو علم فقره ما قبل الحوالة، نقله ابن عرفة - رحمهما الله سبحانه وتعالى وقال المازري رحمه الله سبحانه وتعالى: انظر لو شك المحال في حال المحال عليه، والمحيل عالم بفقره هل هو دلسة، أو قبوله الإحالة مع شكه دخول على فقره، وعلم المحيل بفقره وهو ظاهر الملاء تدليس، والأظهر على أصل المذهب أن له مقالا، ولو شاكا، ثم قال ابن عرفة: الباجي: إن جهل كون المحيل غارا قال مالك - رحمه الله تعالى -: إن اتهم أحلف.

ولو اشترط المحال الرجوع على المحيل إذا أفلس المحال عليه كان له شرطه عند المغيرة، قال ابن عرفة: ونقله الباجي كأنه المذهب، وقال ابن رشد: هذا صحيح لا أعرف فيه خلافا، قال ابن عرفة - رحمهم الله تعالى جميعا - وفيه نظر، لأنه شرط مناقض لعقد الحوالة، وأصل المذهب في الشرط المناقض للعقد أنه يفسده، وفي بعضها فيسقط الشرط، ويصح العقد، كالبيع على أن لا جائحة فتأمله.

ص: 836

ولا يبعد أن يفرق بأن الحوالة من عقود المعروف، أو أنها بذلك تكون حوالة إذن لا قطع، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ويشترط في الحوالة أن تكون على دين للمحيل، فإذا أحاله على غير دين فهي حمالة على المشهور، سواء كان ذلك بلفظ الحوالة أو الحمالة، وقال ابن الماجشون - رحمه الله تعالى - إنما تكون حمالة إذا وقعت بلفظ الحمالة، وإن وقعت بلفظ الحوالة فلها حكم الحوالة، فيبرأ المحيل، ولا يكون للمحال الرجوع إليه، وذلك بخلاف الحمالة، فإن المدين لا يبرأ بها، وإلى هذا الشرط أشار بالبيتين الأخيرين، ومن شروطها كذلك أن تكون على دين لازم، وحلول المحال به، لأنه إن لم يكن حالا كان بيع ذمة بذمة، فيدخله ما نهي عنه من الدين بالدين، ومن بيع الذهب بالذهب والورق لا يدا بيد، إن كان الدينان ذهبا أو ورقا، إلا أن يكون الدين الذي ينتقل إليه حالا، ويقبض ذلك مكانه قبل أن يتفرقا مثل الصرف، فيجوز ذلك، نقله في التاج عن ابن رشد.

ويشترط تساوي المحال به والمحال عليه قدرا وصفة، وأن لا يكونا طعامين من بيع، لما في ذلك من بيع طعام المعاوضة قبل قبضه، فإن كانا من قرض، أو أحدهما، جازت إن حلا جميعا، ولا بد من صيغتها، ورضى المحيل والمحال، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:" مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع "

(1)

.

1899 -

ومن يكن عليه دين لأجل

فإن يفلس أو يمت من قبلُ حل

1900 -

وما من الدين له باق على

أجله الذي إليه أُجلا

1901 -

ولا تبع رقبة المأذون

في ما به يُتبع من ديون

1902 -

كذا به سيده لا يطلب

إذ ليس في ذاك له تسبب

1903 -

ويحبس المديان لاستبراء

ألحال حيث كان ذا خفاء

1904 -

وللقضا يحبس من قدَ أيسرا

ولا يجوز حبس من قدَ اَعسرا

(1)

متفق عليه.

ص: 837

قوله: ومن يكن عليه دين البيت، معناه أن الذي عليه دين مؤجل إذا مات قبل الأجل حل ما عليه بموته، قال القاضي في الإشراف: لأن الدين كان متعلقا بالذمة، فإذا خربت لم يبق له محل يتعلق به، فوجب انتقاله إلى التركة، وذلك يقتضي حلوله، ولأنا لو قلنا لا يحل، لم يخل أن يبقى على ذمة الميت، وذلك باطل بخرابها، أو يتعلق بذمة الوارث، وذلك باطل أيضا، أو بالتركة فيجب قضاؤه منها، ولا يجوز تركه، لأن فيه إضرارا بالورثة، أو تعريض المال للتلف، من حيث لا منفعة للغرماء فيه.

ومثل موت المدين فلسه، قال في الإشراف: لأنه معنى يوجب تعلق الديون التي في الذمة بأعيان الأموال كالموت.

قوله: وما من الدين له باق البيت، معناه أن من مات، أو فلس، وله دين مؤجل، فهو على أجله، لأن الذمة المدينة لم تزل على حالها وقت العقد، فهي باقية على حقها في الأجل.

قوله: ولا تبع رقبة المأذون البيتين، معناه أن الرقيق المأذون له في التجارة إذا ركبته ديون تستغرق ما لديه، يحجر عليه كما يحجر على الحر، وإذا كان السيد قد داينه كان أسوة الغرماء، إذا ثبت ذلك، وليس للغرماء بيع رقبته، لأنها لسيده، ولأنهم لم يداينوه إلا على ما في يده وما ينشأ عنه، فدينهم في ذمته، لا رقبته كالحر، وليس لهم اتباع سيده، إذ لم يتعامل معهم أصلا، ولا ضمنه لهم، وهو أحق بكسبه، وعمل يده، وأرش جرحه، وقيمته إن قتل، لأنه عبده، وليس لهم شيء، إلا إذا وهب للعبد مال، أو تصدق به عليه، أو أوصي له به فقبله، إذا كان المتبرع بذلك عليه يقصد إعانته على قضاء الدين، وإن لم يقصد ذلك فقال القابسي: إن ذلك في معنى كسبه، فيكون للسيد، وقال أبو محمد هو كالأول.

ص: 838

قوله: ويحبس المديان البيتين، أشار به إلى أن المدين على ثلاثة أنواع، وذلك أنه إما أن يكون مجهول الحال، أو معلوم الملاء، أو العدم، أما مجهول الحال، فلا يحبس إلا قدر ما يكشف عن حاله، إن لم يأت بمن يضمن وجهه، وإن لم يتبين أن له مالا، أطلق بعد يمينه أنه لا مال له وإن وجد ليقضينّ، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: وذلك يختلف باختلاف الدين في ما روى ابن حبيب عن ابن الماجشون، فيحبس في الدريهمات اليسيرة قدر نصف شهر، وفي الكثير من المال أربعة أشهر، وفي الوسط منه شهرين، ووجه ذلك أنه يسجن على وجه اختبار حاله، فوجب أن يكون على قدر الحق الذي يسجن من أجله.

ومن يتهم أنه خبأ مالا وغيبه، حبس حتى يؤدي، أو يثبت عدمه، بأن تشهد البينة أنه لا يعرف له مال ظاهر ولا باطن، ويحلف على ما شهدت عليه، لأنها إنما تشهد على العلم، لا القطع، ويزيد في يمينه إن وجد ليقضينّ.

وأما معلوم الملاء الملد فيحبس حتى يؤدي، أو يموت، وكذلك من تقعد على أموال الناس، وادعى العدم، وتبين كذبه، قال ابن رشد: وروي عن سحنون - رحمهما الله تعالى - أنه يضرب بالدرة المرة بعد المرة، حتى يؤدي أموال الناس، وليس قوله هذا بخلاف مذهب مالك - رحمه الله تعالى - فقد قال مالك - رحمه الله تعالى - يضرب الإمام الخصم على اللدد، وأي لدد أبين من هذا، فالقضاء بما روي عن سحنون في مثل هؤلاء الذين يقعدون على أموال الناس، ويرضون بالسجن ويستخفونه، ليأكلوا أموال الناس ويستهضمونها هو الواجب الذي لا تصح مخالفته إن شاء الله سبحانه وتعالى، وقد قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.

ص: 839

وما حكى ابن الهندي عن سحنون أنه قال في أمر ابن أبي الجواد إذ ضربه حتى مات، إن صح فلا يدل على رجوعه عن مذهبه، وإنما يدل على ثبوته عليه، واستبصاره فيه، مع ورعه وفضله، لأنه قال: لم أقتله أنا، وإنما قتله الحق، وأشفق مع ذلك إشفاق المؤمن الحذر الخائف لربه، مخافة أن يكون جاوز في اجتهاده، ائتساء بعمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في قوله: لو مات حَمَل بشاطئ الفرات ضياعا لخشيت أن يسألني الله سبحانه وتعالى عنه.

وفي الحديث " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه "

(1)

.

وأما معلوم العدم فهو في نظرة الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى:(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم في الذي ابتاع ثمارا فكثر دينه " تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك "

(2)

فليس لهم أن يؤاجروه، ولا أن يستعملوه، ولا أن يبيعوه إذا كان رقيقا.

1905 -

ويقسم العقار حيث يقبل

قسما بلا ضر بذاك يحصل

1906 -

إلا فإن لبيعه البعض دعا

فاجبر له من كان منه امتنعا

1907 -

والشرط في القرعة الاتحاد

في الصنف حيث أمكن الإفراد

1908 -

وهكذا أيضا إذا ما يدفع

بعضهمُ للغير نفدا تمنع

1909 -

فما به تراجع قد امتنع

إلا إذا على التراضي قد وقع

(1)

رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث حسن، ورواه البخاري معلقا بلفظ ويذكر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم " لي الواجد " إلخ.

(2)

رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.

ص: 840

قوله: ويقسم العقار البيتين، معناه أن الشيء المشترك إذا كان ينقسم بلا ضرر، وطلب أحد الشركاء قسمته، قسم وأعطي نصيبه، سواء كان ذلك عقارا أو غيره، وأما ما لا ينقسم بلا ضرر، فإن تشاحوا فيه وطلب بعضهم بيعه، وامتنع غيره، أجبر الممتنع على البيع معه، إذا لم يبذل له ما ينقص به ثمن حصته، إذا بيعت مفردة، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: وظاهر المدونة والرسالة ولو دخل أحد الشريكين على الآخر، وليس كذلك، إذ لا حجة في بخس الثمن في حظه منفردا، لأنه كذلك اشترى قاله عياض - رحمه الله تعالى-.

وفهم من هذا أنه إنما يجبر على البيع معه، إذا كان بيع حصته مفردة أبخس للثمن، فلو لم يكن أبخس لم يجبر، كما يقع في رباع الغلة، وهو ظاهر، لأن مبنى الحكم على رفع الضرر ولا ضرر هنا.

والقسمة أنواع القرعة، والمراضاة، والمهايأة، والقرعة لا تكون إلا في ما تماثل أو تجانس، من الأصول، والحيوان، والعروض، دون ما اختلف وتباين، وهي القسمة التي يوجب الحكم، لأنها تمييز للحق، ولذلك يقام فيها بالغبن، ويفرد فيها كل صنف، ويقسم على حدته، فإن كان لا يحمل القسمة بيع وقسموا ثمنه بينهم، إلا أن يتراضوا على أمر لا فساد فيه، ولا يجوز أن يقتسموه بالقرعة على أن من وقع في سهمه كذا يرد للآخر نقدا مثلا، للغرر، وإنما يجوز ذلك على وجه التراضي، وهذا هو معنى قوله: والشرط في القرعة الاتحاد الأبيات.

ص: 841

وصفة القرعة أن يكتب أسماء الشركاء بعد تعديل الأنصباء في رقاع، وتجعل في طين أو شمع، ثم ترمى كل بندقة في جهة، فمن وقع اسمه في جهة أخذ حقه متصلا في تلك الجهة، وقيل تكتب الأسماء والجهات مثلا، ثم تخرج أول بندقة من الأسماء، ثم أول بندقة من الجهات مثلا، فيعطى من خرج اسمه نصيبه في تلك الجهة، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: والقرعة إنما جعلت في القسمة تطييبا لأنفس المتقاسمين، وأصلها قائم من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، وذكر آية (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم) إلى أن قال: وأما السنة فهي ما روي أن رجلا أعتق أعبدا له ستة عند موته فأسهم رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بينهم فأعتق ثلث ذلك الرقيق،

(1)

وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا "

(2)

.

وأما قسمة المراضاة فهي نوعان، لأنها تكون بعد تقويم وتعديل، وتكون دون ذلك، ويرد في الأولى بالغبن، دون الثانية، والثانية بيع اتفاقا، وأما قسمة المهايأة، فهي قسمة منافع مع بقاء الشركة في الأعيان، وهي من قبيل الإجارة.

1910 -

وتجر من أوصي لليتيم

بماله ليس بذي تحريم

1911 -

كذاك تزويج الإما له يحل

ومثله وصيه ولو سفل

1912 -

وشرط الاوصيا الامانة فمن

لم يك بالأمين عزله قمَن

(1)

رواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمامان مالك وأحمد.

(2)

متفق عليه.

ص: 842

قوله: وتجر من أوصي البيت، معناه أن تجر الوصي لليتيم بماله تبرعا منه جائز، ولا ضمان عليه بل هو مندوب، وقد جاء من فعل قوم من السلف - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - وله أن يدفعه لغيره من الأمناء قراضا، أو بضاعة، وقد روى مالك ـ رحمه الله تعالى ـ في الموطإ أن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ كانت تعطي أموال اليتامى الذين في حجرها من يتجر لهم فيها، ويكره أن يعمل هو فيه قراضا مثلا، قال في المواهب: قال أبو الحسن: مخافة أن يحابي نفسه، لأنه معزول عن نفسه خوف أن يحابي نفسه، فإن عمل به بنفسه، فإن كان عمله مثل الجزء الذي سمى كان الربح بينهما على ما شرط، وإن خسر لم يضمن، وإن كان الجزء أكثر من العمل، كان له قراض مثله، فإن خسر اختلف هل يضمن أم لا والتضمين ضعيف.

وفي عقد الجواهر: قال محمد بن عبد الحكم: وله أن يبيع له بالدين، إن رأى ذلك نظرا، قال ابن كنانة: وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب ومصلحته بقدر حاله، وحال من تزوج إليه، وبقدر كثرة ماله، قال مالك - رحمه الله تعالى -: وكذا في ختانه، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان، فيأمره بالقصد، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز.

وفي التاج: قال مالك: قال ربيعة - رحمهم الله تعالى جميعا -: ولو أن يشتري له ما يلهو به، وإن كان له سعة وسع عليه.

قوله: كذاك تزويج الإما له يحل، معناه أنه يحل للوصي أن يزوج إماء اليتيم إذا كان نظرا، لأنه ينظر له بما ينظر به لنفسه، فمدار الباب على النظر والمصلحة كما تقرر بقوله سبحانه وتعالى:(والله يعلم المفسد من المصلح).

قوله: ومثله وصيه ولو سفل، معناه أن وصي الوصي، كالوصي كما في المدونة، وذلك لرضى الميت بنظر وصيه.

ص: 843

قوله: وشرط الاوصيا الأمانة البيت، أشار به إلى بعض شروط الوصي وموانعه، وشروط الوصي أربعة: التكليف، فلا تصح الوصية إلى صبي، ولا مجنون، أو أبله، لرد تصرفهم لأنفسهم، فكيف تكون لهم ولاية على غيرهم، والإسلام، فلا تصح الوصية إلى كافر، لأنها ولاية، والعدالة في ما أسند إليه، فلا تصح الوصية إلى من لا يعدل، ولو أوصي إليه وهو عدل ثم طرأ فسق عزل، وهذا الشرط هو المراد بالبيت، والكفاية نظرا، بأن يقدر على التصرف على وفق المصلحة، وإن كان أعمى، فإن لم يكن كذلك لم تصح الوصية إليه، لعدم أهليته لما أسند إليه.

1913 -

وقدمنْ من مال هالك مؤن

تجهيزه كغسله وكالكفن

1914 -

وبعد ذاك الدين فالوصيه

من ثلْثه وتورث البقيه

1915 -

ومن يكن قد ادعى ربْعا بيد

من حازه عشرة أعوام عدد

1916 -

وهو حاضر بها لم يدعي

بها عليه دون عذر مانع

1917 -

ولم يكن بينهما صهر ولا

قرابة فقوله لن يقبلا

1918 -

وليس للدنِف أن يعترفا

لوارث له بدين أو وفا

قوله: وقدمن من مال البيتين، معناه أن آكد الحقوق المتعلقة بمال الميت التي ليست بمعينة، مؤن تجهيزه، من غسل، وكفن، وحمل، وحفر، وغير ذلك بالمعروف، لأنها في معنى نفقة الحي وكسوته مثلا، وقد عامله الغرماء على أن يأكل ويكتسي، ثم يلي ذلك ما للناس عليه من الديون، فإن بقي شيء بعد ذلك، نفذت وصاياه على التفاصيل المتقدمة في الوصية من ثلثه، وورث الباقي على الفرائض، كما في الآية الكريمة (من بعد وصية يوصي بها أو دين) وتقدم الدين على الوصية معلوم، إذ لا وصية للإنسان في ما لا يملك، أما الحقوق المعينة، كالرهن الذي حيز قبل المانع، وأمهات الأولاد، وجناية الأرقاء، وزكاة ماله الحالة، فهي مقدمة على كل شيء، لإناطة الشرع لها بذوات تلك الأشياء، فكانت أسبق من غيرها فيها في ما فيه بقية، بخلاف أمهات الأولاد.

ص: 844

قوله: ومن يكن قد ادعى الأبيات الثلاثة، معناه أن من حاز عقارا، دارا، أو أرضا، أو نخيلا، أو غير ذلك، عشر سنين فأكثر على المشهور، ثم ادعى عليه حاضر في هذه المدة مع السكوت عن الدعوى بلا مانع، من خوف ككون الحائز ذا سلطان، أو من ناحية ذي سلطان يخاف بأسه، أو قرابة، أو صهر، أو نحو ذلك، لم تسمع دعواه لقضاء العرف بكذبه، ولا تقبل بينته، ويصدق الحائز أن ذلك ملكه بيمين على المشهور، قال في المواهب: قال ابن رشد - رحمهما الله تعالى -: الحيازة لا تنقل الملك عن المحوز عنه إلى الحائز باتفاق، ولكنها تدل على الملك، كإرخاء الستور، ومعرفة العفاص والوكاء، وما أشبه ذلك، فيكون القول معها قول الحائز بيمينه.

ويشترط في الفوت بالحيازة أن يكون القائم مكلفا رشيدا، فلو كان في تلك المدة صبيا، أو مجنونا، أو سفيها، لم يفت عليه حتى تمضي تلك المدة بعد زوال تلك الأمور، ولا بد أن يكون عالما بحيازة الأجنبي، وبالملكية، فلو قال: ما كنت أعلم أنه ملكي، وقد وقفت على وثيقة أنه ملكي، قبل قوله مع يمينه، ويشترط جهل أصل مدخل الحائز في الحيازة، فإذا عرف لم ينتقل عنه بتطاول العهد، قال في المواهب: مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل أصدق امرأة عن ابنه منزلا، فلما دخل ابنه بالمرأة، أخذت المنزل إلا حقولا يسيرة، تركتها في يد حموها، فلم تزل في يده حتى مات، بعد طول زمان، ثم أرادت المرأة أخذها، فمنعها ورثة الحمو، وقالوا قد عاينتها زمانا من دهرك وهي في يده، ولاتشهدي عليه بعارية، ولا كراء، ولا ندري لعلك أرضاك من حقك، أترى للمرأة في ذلك حقا؟ قال: نعم، لها أن تأخذ تلك الحقول التي هي مما كان أصدقها الحمو عن ابنه، ولا يضرها طول ما تركت ذلك في يد الحمو، لأنها ليست بالصدقة فتلزم حيازتها، وإنما الصداق ثمن من الأثمان، وكذلك لو تركت كل ما أصدقها في يد الحمو لم يضرها ذلك.

ص: 845

قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها، ولا اختلاف، لأن حقها تركته في يد حموها، فلا يضرها ذلك، طال الزمن أو قصر، لقول رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم "

(1)

وليس هذا من وجه الحيازة التي ينتفع بها الحائز ويفرق بين القرابة والأجنبيين والأصهار فيها، إذ قد عرف وجه كون الأحقال بيد الحمو، فهي على ذلك محمولة، حتى يعرف مصيرها إليه بوجه صحيح، لأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها، وهذا أصل في الحكم بالحيازة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

وأما الأقارب فلا تكون الحيازة بينهم إلا بالزمن الطويل، كخمسين سنة، إلا بنقل الملك، وقال في التاج: ومن نوازل البرزلي: الحوز لا يقطع حق القرابة، إلا أن يثبت أن بينهم من عدم المسامحة والتشاح ما لا يترك فيه الحق هذه المدة، فيكون لذلك الزمان الإسقاط.

وقال في المواهب: قال ابن رشد - رحمهما الله تعالى -: وتحصل الحيازة في كل شيء بالبيع، والهبة، والصدقة، والعتق، والتدبير، والكتابة، والولاء، ولو بين أب وابنه، ولو قصرت المدة، إلا أنه إن حضر مجلس البيع فسكت حتى انقضى المجلس لزمه البيع في حصته، وكان له الثمن، وإن سكت بعده العام ونحوه استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه، وإن لم يعلم بالبيع إلا بعد وقوعه، فقام حين علم، أخذ حقه، وإن سكت العام ونحوه، فليس له إلا الثمن، وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة لم يكن له شيء، واستحقه الحائز، وإن حضر مجلس الهبة والصدقة والعتق والتدبير، فسكت حتى انقضى المجلس، فلا يكون له شيء، وإن لم يحضره، ثم علم، فإن قام حينئذ كان له حقه، وإن سكت العام ونحوه فلا شيء له، ويختلف في الكتابة هل تحمل على البيع أو العتق.

(1)

لم أقف عليه.

ص: 846

قوله: وليس للدنف البيت، معناه أن المريض مرضا مخوفا لا يقبل اعترافه لوارثه أن له عليه دينا، أو أنه قضاه ما كان له عليه من الدين، لأن ذلك في معنى الوصية، ولا وصية لوارث، وهذا إذا كان متهما في ذلك، كإقراره لزوجة علم ميله لها، وصبابته بها، وإقراره لوارث أقرب له من غيره من الورثة، أو مساو، وإن لم يتهم صح إقراره، كإقراره لزوجة علم بغضه لها، وإقراره لولد عاق مع وجود ولد بار إن لم يعلم ميله للعاق.

1919 -

ونفذت وصية بالحج في

ما من خلاف فقهائنا اصطفي

1920 -

ولكن الإيصاء بالتصدق

له على الإيصاء بالحج انتقي

1921 -

وإن يمت أجير حج معْ عدم

وصوله بسيره إلى الحرم

1922 -

فأعطينَّه إذا منَ اَجره

بقدر ما مضى له من سيره

1923 -

ورَدَّ ما زاد على ذاك وإن

تلف ما بيده منه ضمن

1924 -

ما لم يكن على البلاغ أوجرا

فيضمن الذي له قدَ آجرا

1925 -

وإن يكن بقي بعض عنده

بعد وصوله إيابا رده

قوله: ونفذت وصية البيت، معناه أن المشهور أن الميت إذا أوصى أن يحج عنه، تنفذ وصيته بذلك من ثلث ماله، وهو مذهب المدونة، وقال ابن كنانة لا تنفذ وصيته بذلك، ويصرف القدر الموصى به في هدايا، وقيل يصرف في وجوه الخير، وقال أشهب تنفذ وصيته من رأس ماله إن كان صرورة، وإن لم يوص لم يحج عنه ولو كان صرورة.

قوله ولكن الإيصاء بالتصدق البيت، معناه أن الأفضل إيصاؤه بالصدقة، أو العتق، أو الإهداء، فذلك أعظم أجرا، وليس له في الإيصاء بالحج إلا أجر المساعدة على أصل مالك - رحمه الله تعالى - من أنه لا يحج أحد عن أحد.

ص: 847

قوله: وإن يمت أجير حج الأبيات، معناه أن أجير الحج في مسألة الوصية المذكورة، إذا مات قبل أن يصل، كان له من الأجر بحساب ما سار، ويرد مناب ما بقي، ويستأجر للميت آخر، من حيث وصل هو، وإذا تلف منه ما أخذه من الأجر، أو بعضه، فضمانه منه، لأنه قبض لنفسه، وهذا في إجارة الضمان، وهي الإجارة بقدر معين على وجه اللزوم، وأما الأجير على البلاغ، فيضمن مستأجِره إذا ضاع عليه المال بعد الإحرام، أو لم يف بنفقته، بدل الضائع في الأول، وباقي النفقة في عدم الوفاء، وإنما لم يضمن الأجير لأنه أمين، وضمن المستأجر لتفريطه بعدم استئجاره إجارة ضمان، فلو أوصى الميت أن يستأجر له على البلاغ كان ذلك في بقية ثلثه.

وإذا بقي عن الأجير في البلاغ شيء من المال بعد نفقته ذهابا وإيابا، رده، لأنه إنما عوقد على النفقة، فالزائد عليها ليس له، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 848