المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشرح

- ‌مقدمة النظم

- ‌باب ما يجب منه الوضوء والغسل

- ‌فصل في الحيض والنفاس

- ‌باب طهارة الماء والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

- ‌أماكن تمنع الصلاة فيها

- ‌باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

- ‌باب في الغسل

- ‌باب التيمم

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب في أوقات الصلاة وأسمائها

- ‌باب في الأذان والإقامة

- ‌باب في الإمامة وحكم الإمام والمأموم

- ‌باب جامع في الصلاة

- ‌باب في سجود القرآن

- ‌باب في صلاة السفر

- ‌باب في صلاة الجمعة

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌باب في صلاة العيدين والتكبير أيام منى

- ‌باب في صلاة الكسوف

- ‌باب في صلاة الاستسقاء

- ‌باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

- ‌باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

- ‌باب في الصيام

- ‌باب في الاعتكاف

- ‌باب في زكاة العين والحرث والماشية وما يخرج من المعدن

- ‌باب في زكاة الماشية

- ‌باب في زكاة الفطر

- ‌باب في الحج والعمرة

- ‌باب في الضحايا والذبائح والعقيقة والصيد والختان وما يحرم من الأطعمة والأشربة

- ‌باب في الجهاد

- ‌باب في الأيمان والنذور

- ‌باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع

- ‌باب في العدة والنفقة والاستبراء

- ‌باب في البيوع وما شاكل البيوع

- ‌باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

- ‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

- ‌باب في أحكام الدماء والحدود

- ‌باب في الأقضية والشهادات

- ‌باب في الفرائض

- ‌باب جمل من الفرائض والسنن الواجبة والرغائب

- ‌باب في الفطرة والختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

- ‌باب في الطعام والشراب

- ‌باب في السلام والاستئذان والتناجي والقراءة والدعاء وذكر الله عز وجل والقول في السفر

- ‌باب في التعالج وذكر الرقى والطيرة والنجوم والخصاء والوسم والكلاب والرفق بالمملوك

- ‌باب في الرؤيا والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيرها والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك

الفصل: ‌باب في الصيام

‌باب في الصيام

قال القاضي في التنبيهات: أصل الصوم في اللغة الإمساك، قال الله سبحانه وتعالى:(إني نذرت للرحمن صوما) أي: إمساكا عن الكلام، قال الشاعر:

خيل صيام وخيل غير صائمه

أي: ممسكة عن الصهيل والحركة، وقال بعضهم في هذا البيت: معناه خيل لم تعط علفا، فهو من معنى الصيام المعهود، وقال: إذا صام النهار، وقفت أفياؤه عن النقصان والزيادة، وأمسكت شمسه لرأي العين عن الحركة، وهو في عرف الشرع: إمساك مخصوص، عن أفعال مخصوصة، في أوقات مخصوصة، نقله في شفاء الغليل.

591 -

هذا وشهر رمضان صومه

عند الجميع بدَهِيٌّ حتمه

592 -

لرؤية الهلال صم وأفطرا

لو عن ثلاثين نهارا قصرا

593 -

وإن يك الشهر عليك غُمّا

فللثلاثين إذا أَتِمَّا

ص: 333

594 -

وبيِّتنْ بأول الشهر الصيام

وبعد ذا التبييت ليس ذا انحتام

595 -

وأتمم الصوم إلى اليل، وإن

جزمتَ باليل ففطرا عجِّلَنْ

596 -

فذا من السنة، والسحور

سنته عندهم التأخير

597 -

لكن إذا شككت في الفجر ذرِ

الاكل إذا على المقال الاشهر

قوله: هذا وشهر رمضان البيت، معناه أن وجوب صيام شهر رمضان، معلوم، كتابا وسنة وإجماعا، فهو ركن من أركان الإسلام، كما في حديث " بني الإسلام على خمس "

(1)

فذكر منها الصوم، فمن جحد وجوبه فهو مرتد، ومن امتنع من صومه مع الإقرار بوجوبه، قتل حدا، على المشهور من مذهب مالك، قال ابن عرفة: صوم رمضان واجب، جحده وتركه كالصلاة، قاله في المواهب.

ورمضان قيل إنه مشتق من الرمض، وهو شدة وقْع الشمس على الرمل وغيره، ويجمع على رمضانات وأرمضاء، ويقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، فسمي بذلك، قاله الجهري.

قوله: لرؤية الهلال البيتين معناه أن الصوم يجب برؤية شهر رمضان، كما يجب الفطر برؤية شوال، سواء كانت رؤيته بعد ثلاثين ليلة، أو بعد تسع وعشرين، فإن لم يروه أكملوا عدة الشهر الأول ثلاثين ليلة، ثم صاموا أو أفطروا وجوبا، ويثبت الشهر بالرؤية المستفيضة، وبشهادة عدلي شهادة بها، وإن لم يره غيرهما، ولو كان ذلك بمصر، اتفاقا إذا كان صغيرا مطلقا، أو كبيرا وغيمت السماء، فإن كانت مصحية فكذلك على المشهور، خلافا لسحنون - رحمه الله تعالى - لأن انفرادهما في تلك الحال بالرؤية موضع ظنة، ولا تقبل شهادة ظنين، وانظر هل في معنى ذلك بالأحرى اتصال خبر القطر، وهو الظاهر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

متفق عليه.

ص: 334

والشاهد الواحد كالعدم، ولو كان مثل عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه -وذهب محمد بن مسلمة إلى قبول شهادة رجل وامرأتين، وقال أشهب -رحمه الله تعالى -في المبسوط: تقبل شهادة رجل وامرأة، ولا يلتفت إلى قول أهل الحساب، قال ابن بشير -رحمه الله تعالى -: وركن إليه بعض البغداديين في الغيم.

قال في المواهب: ولو شهد عدلان برؤية الهلال، وقال أهل الحساب: إنه لا تمكن رؤيته قطعا، فالذي يظهر من كلام أصحابنا أنه لا يلتفت إلى قول أهل الحساب، وقال السبكي وغيره من الشافعية: إنه لا تقبل الشهادة، لأن الحساب قطعي، والشهادة ظنية، والظن لا يعارض القطع، ونازع في ذلك بعض الشافعية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وسيأتي الكلام إن شاء الله سبحانه وتعالى في آخر الكتاب على علم الحساب.

والوجه في ما تضمنه البيتان، خبر الموطإ وغيره " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين

(1)

" وأن الأصل في الشاهد في غير المال، وما يخفى على الرجال اشتراط الذكورة والتعدد، مع حديث " فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا "

(2)

قوله: وبيتن بأول الشهر الصيام، معناه أنه يجب تبييت الصوم عند أول ليلة من رمضان وغيره من الصيام الواجب التتابع، قال مالك -رحمه الله تعالى -: والتبييت أن يطلع الفجر وهو عازم على الصيام، قال: وإذا بيت أول الليل الصوم فليس عليه أن يكون ذاكرا لذلك إلى الفجر، نقله في المواهب.

(1)

متفق عليه.

(2)

رواه النسائي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 335

وذلك لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له "

(1)

قال ابن ناجي -رحمه الله تعالى -: وذهب ابن الماجشون وأحمد بن المعدل إلى أنه لا يفتقر إلى النية، وقال ابن رشد -رحمه الله تعالى -: والذي يوجبه النظر أن إيقاع النية قبل غروب الشمس من ليلة الصوم، لا يصح، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" لا صيام لمن لم يبيت الصيام من اليل "

قوله: وبعد ذا التبييت ليس ذا انحتام، معناه أنه لا يجب تبييت النية في كل ليلة، في حق من تجب عليه متابعة الصوم، وهو الحاضر الصحيح، على المشهور، ولكن يندب له ذلك، وروي عن مالك -رحمه الله تعالى -أيضا وجوب التبييت كل ليلة، قال في البيان: وهو شذوذ في المذهب، نقله في المواهب.

وأما المسافر والمريض الذي لا يجب عليه الصوم، إذا أراد الصوم، فيجب عليهما التبييت كل ليلة على المشهور أيضا، والوجه في ما ذكر من التفصيل أن وجوب السرد، يصير به الشهر مثلا قربة واحدة، فتكفي فيه نية واحدة والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: وأتمم الصوم إلى اليل، معناه أنه يجب إتمام الصوم إلى اليل، كما قال سبحانه وتعالى:(ثم أتموا الصيام إلى اليل) قال الباجي -رحمه الله تعالى -: وجوب الإمساك إلى اليل، يقتضي وجوبه إلى أول جزء منه، غير أنه لا بد من إمساك جزء منه، ليتيقن إكمال النهار.

قوله: وإن أيقنت باليل ففطرا عجلن إلى قوله: الأشهر، معناه أنه يندب للصائم إذا تيقن الغروب أن يعجل بالفطر، وينبغي له أيضا أن يؤخر السحور ما لم يشك في الفجر، فإذا شك في الفجر حرم الأكل على المشهور.

(1)

رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام مالك والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 336

والأصل في ندب تعجيل الفطر، وتأخير السحور، حديث " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر

(1)

" وحديث " فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أُكلة السحور

(2)

" وروى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: من عمل النبوة تعجيل الفطر والاستيناء بالسحور " قال ابن العربي - رحمه الله تعالى -: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على شيء يسير، لا يشغله عن الصلاة، وقال الجزولي: إنه يفطر بالشيء اليسير، ويصلي، وحينئذ يأكل، لأنه يستحب له تعجيل الفطر قبل الصلاة ولو بالماء، وروى ابن عبد البر في التمهيد عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يصلي حتى يفطر، ولو على شربة ماء، وروى أنس - رضي الله تعالى عنه - أيضا أنه كان بين سحوره صلى الله تعالى عليه وسلم وقيامه للصلاة قدر خمسين آية،

(3)

ويستحب للصائم أن يفطر على رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء، لما في سنن أبي داود عن أنس - رضي الله تعالى عنه - من أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يفعل ذلك،

(4)

وأن يدعو عند فطره بما جاء في الأخبار عنه صلى الله تعالى عليه وسلم نحو " اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت "

(5)

" ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى "

(6)

ويكره تأخير الفطر إذا فعله استنانا وتدينا، وأما لغير ذلك فلا، قال ابن حبيب -رحمه الله تعالى -: كذا قال لي أصحاب مالك -رحمه الله تعالى -نقله في التاج.

(1)

متفق عليه.

(2)

رواه مسلم وأبو داود والترمذي والدارمي والإمام أحمد.

(3)

متفق عليه.

(4)

ورواه الترمذي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

(5)

رواه أبو داود بسند ضعيف.

(6)

رواه أبو داود وهو حديث حسن.

ص: 337

وهذا كله بعد تحقق الغروب، ويحرم الفطر اتفاقا مع الشك فيه، والمشهور أيضا حرمة الفطر مع الشك في الفجر، وعليه حمل أبو عمران وغيره المدونة، وقيل لا يحرم ولكن يكره، وعليه حمل اللخمي -رحمه الله تعالى -المدونة، وقال ابن حبيب ـ رحمه الله تعالى ـ يجوز من غير كراهة، واختار اللخمي ـ رحمه الله تعالى ـ وجوب الإمساك مع الغيم، واستحبابه مع الصحو.

598 -

ولا تصم للاحتياط يوما

شك، وإن صادفتَ فاقض حتما

599 -

وصومه قاصدا التطوعا

أو قاصدا به القضاء اتسعا

600 -

وإن نهارا ثبت الشهر لزم

إمساكه كذا القضاء قد حُتم

601 -

وإن يكن من قبل الامساك لمِ

يُصِب شرابا مثلا أو يطعم

قوله: ولا تصم للاحتياط يوما شك، معناه أن صوم يوم الشك احتياطا لرمضان منهي عنه، واختلف هل النهي عنه نهي كراهة، أو نهي حرمة، قال في التوضيح: وظاهر الحديث التحريم،

(1)

وهو ظاهر ما نسبه اللخمي لمالك - رحمهما الله تعالى - لأنه قال: ومنعه مالك، وفي المدونة: ولا ينبغي صيام يوم الشك، وحملها أبو الحسن على المنع، وفي الجلاب: يكره صوم يوم الشك، وقال ابن عطاء الله: الكافة مجمعون على كراهة صومه احتياطا، ونحوه في ابن فرحون، وزاد: وأجازت صومه احتياطا عائشة وأسماء، وأجازه ابن عمر وابن حنبل في الغيم دون الصحو، وقال ابن مسلمة يكره أن يؤمر الناس بفطره، لئلا يظن أنه يجب عليهم فطر قبل الصوم، كما وجب بعده، نقله في المواهب.

ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا كانت السماء مغيمة، ولم تثبت رؤية الهلال، وأما إذا كانت مصحية ولم ير فهو من شعبان بلا شك، ويكره صيامه أيضا احتياطا، كما تقدم في كلام ابن فرحون.

(1)

كحديث عمار ـ رضي الله تعالى عنه ـ " من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم " رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي.

ص: 338

قوله: وإن صادفت فاقض حتما، معناه أنه إذا صام يوم الشك احتياطا، ثم تبين أنه من رمضان لم يجزه عن ذلك اليوم، على المشهور لعدم جزمه قبل الفجر بأنه من رمضان.

قوله: وصومه قاصدا التطوعا البيت، معناه أن صيام يوم الشك تطوعا جائز، لأنه يوم من شعبان لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " فالنهي عندهم مخصوص بصومه احتياطا لرمضان، لما في ذلك من الغلو، ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه "

(1)

كما في التاج، ونقل عن ابن مسلمة كراهة صومه مطلقا، وقال الباجي - رحمه الله تعالى -: يكره صومه إلا لمن شأنه سرد الصوم، ووجهه ظاهر الحديث المتقدم، وأما صومه قضاء فليس بمكروه اتفاقا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: وإن نهارا ثبت الشهر لزم إمساكه، معناه أنه إذا ثبت كون اليوم من رمضان بعد طلوع الفجر وجب الإمساك عما يحرم على الصائم، وإن أفطر بعد علمه بثبوته فلا كفارة عليه، إلا أن يفعل ذلك منتهكا لحرمته عالما بما على متعمد الفطر فيه، فتلزمه الكفارة، قاله مالك -رحمه الله تعالى -في المدونة.

قوله: كذا القضاء قد حتم، معناه أنه يجب على المكلف قضاء ذلك اليوم، لعدم النية، وإن لم يكن حصل منه بعد الفجر ما ينافي الصوم، من أكل أو شرب، ونحوهما، خلافا لابن الماجشون وصاحبه أحمد بن المعدل حيث أسقطا عنه القضاء إذا لم يتعاط مفطرا بعد الفجر، بناء على مذهبهما من عدم افتقار الصوم المعين إلى النية، لأنه منوي قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم

602 -

ومسك باقي اليوم ليست تؤمر

به التي من بعد فجر تطهر

603 -

كذا إذا قدم من قد سافرا

بعد انصداع الفجر أيضا مفطرا

604 -

ومن يصم تطوعا وأفسدا

عامدا أو لسفر له بدا

605 -

فليقضينْ تحتما، ولا قضا

على الذي سها به أو مرضا

606 -

وفي الفريضة إذا ما يطعم

بأي وجه القضاء يلزم

(1)

متفق عليه، واللفظ لمسلم.

ص: 339

قوله: ومسك البيت، معناه أن المرأة إذا كانت حائضا أو نفساء، فطهرت في نهار رمضان، ولو بفور طلوع الفجر، فليست مأمورة بإمساك بقية اليوم، لا وجوبا ولا استحبابا، وكذلك غيرها من ذوي الأعذار، كالمريض يصح، والمسافر يقدم، والمجنون يفيق، واختلف في المغمى عليه يفيق، للخلاف في إجزائه عنه، واختلف كذلك في المضطر هل يلزمه الإمساك بقية يومه، والمشهور أنه لا يؤمر بذلك، وبه قال جمهور أهل العلم، كما قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى ـ.

ونقل ابن محرز عن مالك في الذي يعالج من صنعته فيعطش، فيفطر، فقال: لا ينبغي للناس أن يتكلفوا من علاج الصنعة بما يمنعهم من الفرائض، وشدد في ذلك، قال ابن محرز: يحتمل أن يكون إنما شدد في ذلك لمن كان في كفاية من عيشه، أو كان يمكنه من التسبب ما لا يحتاج معه إلى الفطر، وإلا كره له، بخلاف رب الزرع فلا حرج عليه، وفي نوازل البرزلي: الفتوى عندنا أن الحصاد المحتاج له الحصاد، وإن أدى إلى الفطر، وإلا كره له بخلاف رب الزرع، فلا حرج عليه مطلقا، لحراسة ماله، وقد نهى عن إضاعة المال، نقله في التاج.

وقوله: بعد انصداع، الظرف فيه متعلق بفعل قدم.

قوله: ومن يصم تطوعا البيتين، معناه أن من صام يوما تطوعا، وجب عليه إتمامه، ولا يجوز له أن يفطر إلا من ضرورة، وعليه القضاء إن أفطره، وأما الناسي والمكره ومن لحقه من الجوع أو العطش أو الحر ما يخاف معه تجدد مرض أو زيادته، أو تأخر برئه فلا شيء عليه، وكذا من عزم عليه والداه أو أحدهما رقة عليه، لإدامة صومه، واختلف في السفر، فروى ابن حبيب أنه عذر مسقط للقضاء، ومذهب المدونة أنه ليس بعذر، وهو المشهور، وذهب الشافعي إلى جواز فطر المتطوع مطلقا.

ص: 340

قوله: وفي الفريضة البيت معناه أن من أفطر في رمضان وغيره من الصيام الواجب المضمون يجب عليه قضاؤه، بأي وجه أفطره، وأما الواجب المعين غير رمضان، فيقضيه في النسيان على المشهور، وبالسفر اتفاقا، ولا يقضيه بالمرض أو الحيض أو النفاس.

607 -

لا بأس بالسواك كل اليوم

إن لم يكن بمفسد للصوم

608 -

ولا قضا بالقيء حيث ذرْعا

كان بعكس ما يجي باستدعا

609 -

وليس تكره حجامةٌ لَّهْ

إلا لخشية حصول علهْ

قوله: لا بأس بالسواك البيت، معناه أن السواك جائز للصائم عامة يومه، بل مندوب للأحاديث المرغبة في السواك جملة، فظاهرها العموم في الصائم والمفطر، لكن لا ينبغي للصائم أن يستاك بالعود الرطب، قال مالك في المدونة: لا بأس بالسواك أول النهار وآخره بعود يابس، وإن بله بالماء، وأكرهه بالعود الرطب، خوف تحلله، نقله في التاج.

ويحرم السواك بالعود الذي يتحلل، وإن وصل لحلقه كفر، وذلك هو قوله: إن لم يكن البيت، وذهب الشافعي -رحمه الله تعالى -وأشهب في رواية البرقي عنه إلى كراهة السواك للصائم بعد الزوال، لحديث الخلوف،

(1)

وقد أجيب عنه بأن الخلوف من قبل الجوف، والسواك لا يذهبه، وبالغ ابن العربي -رحمه الله تعالى -في إنكار اقتضاء الحديث الأمر بإبقائه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: ولا قضا بالقيء البيت، معناه أنه لا قضاء في ذرْع القيء، أي غلبته إذا لم يرجع منه شيء إلى جوفه بعد إمكان طرحه، فإن رجع عمدا أفسد، وإن رجع غلبة، فروى ابن أبي أويس أنه يقضي، وإن رجع سهوا، فروى ابن شعبان أنه لا يقضي، وخرج اللخمي قول كل منهما في مسألة الآخر.

وأما إذا قاء باستدعاء بأن استقاء فقاء، فصومه فاسد، ويجب عليه قضاؤه على ظاهر الشيخ، وحمل عليه أبو يعقوب المدونة، وحملها الأبهري على استحباب القضاء، وقيل يقضي في الفرض دون التطوع.

(1)

متفق عليه.

ص: 341

قوله: وليس تكره البيت، معناه أن الصائم لا تكره له الحجامة والفصادة إلا إذا خشي أن يضعفه ذلك، بأن يعلم ذلك أو يجهل الحال، فتمنع له في الأول، وتكره له في الثاني ما لم يخش الضرر بالتأخير، فتجوز مطلقا، وأما من علم من نفسه السلامة فتجوز له على المشهور، وقيل تكره، وإن احتجم من يخشى بالحجامة ضعفا، ثم احتاج إلى الفطر فأفطر فلا كفارة عليه، لأنه لم يتعمد الفطر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

610 -

وإن على الجنين بالصيام

حبلى تخفْ، تفطرْ بلا إطعام

611 -

كمرضع تخشى اعتلال الولد

وقد أبى الأظآر أو لم توجد

612 -

لكنها تطعم، والإطعام

لمفطر عن كبر يعتام

613 -

والقصد بالإطعام إعطا ذي افتقار

أسلم مدا معْ قضا كلِّ نهار

614 -

وواجب إطعام من فرط في

قضاء بعض رمضان السالف

615 -

حتى انقضى شعْبان دون سبب

هنا لتأخير القضاء موجِب

قوله: وإن على الجنين البيت، أشار به إلى أن الحامل إذا أفطرت لأجل الحمل، لا تؤمر بالإطعام لا وجوبا ولا ندبا على المشهور، ونقل سحنون من موطإ ابن وهب بالتأويل وجوبه عليها، وقال أشهب تطعم استحبابا، لا وجوبا، وقيل غير ذلك، والحامل إذا كانت تخاف بالصوم على نفسها، أو على جنينها، هلاكا أو شديد أذى، وجب عليها الفطر، وإن كان يجهدها ويشق بها، إلا أنها لا تخاف على نفسها، ولا على جنينها لم يجب عليها الصوم ولا الفطر، بل هي بالخيار، وإن كانت لا تخاف منه على نفسها ولا على جنينها، وكان لا يجهدها ولا يشق بها، وجب عليها الصوم نقله سيدي زروق - رحمه الله تعالى ـ.

ص: 342

قوله: كمرضع، إلى قوله: لكنها تطعم، معناه أن المرضع إذا كانت تخاف بالصوم على نفسها، أو على ولدها، ولم تجد من تستأجر على إرضاعه، أو لم يقبل رضاع غيرها، أو قبله ولم يوجد مال يستأجر به، وجب عليها الفطر، والإطعام كما في المدونة، وفي مختصر ابن عبد الحكم أنها لا تطعم، قال اللخمي -رحمه الله تعالى -: وهو أحسن، قياسا على المريض والمسافر، قال: والحامل والمرضع كلاهما أعذر من المسافر، نقله في التاج.

وإن كانت لا تخاف بالصوم على نفسها ولا على ولدها، إلا أنه يجهدها، جاز لها الفطر مع الإطعام على الخلاف المتقدم، فصومها جار على التفصيل المتقدم في الحامل، عند تعذر إرضاع غيرها والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: والإطعام لمفطر لكبر يعتام، معناه أن الهرم الذي لا يقدر على الصوم في زمن من الأزمنة، يستحب له الإطعام كما في الموطإ، وهو المشهور، وقيل يجب عليه، وقيل لا يؤمر به أصلا لا وجوبا ولا استحبابا، وهو ظاهر كلام اللخمي -رحمه الله تعالى ? وأما الذي يقدر على الصوم في زمن من الأزمنة فيؤخر إليه، ولا قائل بإطعامه في المذهب، كما نقل في المواهب.

قوله: والقصد بالإطعام البيت معناه أن المراد بالإطعام في ما سبق إطعام مد بمده صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو ملء اليدين المتوسطتين من معتدل الأعضاء، مع القضاء في حق من يقضي، وهو الحامل والمرضع، على الخلاف المتقدم.

ص: 343

قوله: وواجب إطعام من فرط البيتين، معناه أن الفدية واجبة عن كل يوم، على من فرط في قضاء ما أفطره من رمضان، بأن أخره اختيارا مع إمكان القضاء في شعبان، حتى دخل عليه رمضان الآخر، وهي الإطعام المتقدم ذكره في البيت قبل، قال في التاج: من المدونة: قال مالك - رحمه الله تعالى -: من أفطر في رمضان لمرض، أو سفر، ثم صح، أو قدم قبل دخول رمضان الثاني بأيام أقل من شهر، أو شهر، فلم يصمها حتى دخل عليه رمضان المقبل، فعليه عدد هذه الأيام التي فرط فيها أمدادا يفرقها، إذا أخذ في القضاء أو بعده، وإن تمادى به المرض أو السفر إلى رمضان الثاني، فليصم هذا الداخل، ثم يقضي الأول ولا إطعام عليه، لأنه لم يفرط، يريد وكذلك لو صح أو قدم بعد خروج رمضان، فتمادت به الصحة، أو الإقامة، حتى دخل شعبان، فمرض كله، أو سافر فيه، فلا إطعام عليه، لأن له أن يؤخر القضاء إلى شعبان، وهذا كمن أخر الظهر والعصر إلى قدر خمس ركعات من النهار، ثم أغمي عليه، أو حاضت امرأة، فإنها لا قضاء عليها لذلك، إذ الوقت قائم بعد، فكذلك هذا.

وقد جاء عن عائشة -رضي الله تعالى عنها -أنها كانت تؤخر القضاء لشعبان، لمكان رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم ـ

(1)

.

هذا ولا تتعدد الفدية بتعدد رمضان على المشهور، ولا يجزئ الإطعام قبل وجوبه، وذلك بحيث يكون ما بقي من شعبان كافيا للقضاء، وإخراجه بعد الوجوب قبل القضاء مجزئ، ولكن المستحب أن يطعم مسكينا كل ما صام يوما، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: ومصرفها مسكين واحد، وفيها: لا تجزئ أمداد كثيرة لمسكين واحد، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: يريد من رمضان واحد، لأن فدية أيام الرمضان الواحد، كأمداد اليمين الواحدة، والرمضانان كاليمينين.

616 -

وصوم الاصبياء غير فرض

إلى احتلام أو مجيء حيض

617 -

وعند ذاك عمل الأبدان

يفرض كله على الصبيان

618 -

وحائض تطهر قبل الفجر

يصح صومها بدون طهر

(1)

متفق عليه.

ص: 344

619 -

ومثل ذا لجنب قد حلا

لكن ذلك خلاف الاولى

قوله: وصوم الأصبياء البيتين، معناه أن الصبي لا يجب عليه الصوم، بل لا يجب عليه شيء أصلا، لما في الحديث من رفع القلم عنه حتى يحتلم،

(1)

وهو محمول على الاحتلام المعتاد، فإذا احتلم الغلام في سن من لا يقع له ذلك عادة، لصغر لم يعتد به، وكذلك محيض الجارية، قاله سيدي زروق - رحمه الله تعالى - قال: ومن لم يحتلم ففي الحكم باحتلامه ثلاثة، لابن وهب خمس عشرة سنة، ولابن القاسم سبع عشرة، وعنه ثمان عشرة، وهو المشهور، قاله المازري - رحمه الله تعالى - وفي كون الإنبات علامة قولان، وهما في المدونة، وفي كتاب السرقة منها: أصغى مالك - رحمه الله تعالى - إلى الاحتلام، حين كلمته بالإنبات، وقال يحيى بن عمر: وهذا في ما يلزم في الحكم الظاهر، من طلاق وحد ونحوه، وفي ما بينه وبين الله سبحانه وتعالى لا يلزمه، قالوا ويصدق فى الاحتلام ما لم تكن ريبة.

والمشهور أن الصبي لا يؤمر بالصوم، وإنما يؤمر بالصلاة للحديث في ذلك، وقال أشهب يؤمر به استحبابا إذا أطاقه.

وقول الشيخ -رحمه الله تعالى -: وبالبلوغ لزمتهم أعمال الأبدان فريضة، قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: فيه تنبيه على أن أعمال غير الأبدان لا يشترط فيها البلوغ، كالزكاة ونحوها.

قوله: وحائض تطهر البيت، معناه أن الحائض إذا انقطع عنها الدم قبل الفجر -وإن بلحظة -وجب عليها الصوم، ويصح صومها مع عدم غسلها، خلافا لمن قال يقدر لها الطهر كالصلاة، ولمن قال لا يصح منها حتى تغتسل بالفعل قبل الفجر، وعلى المشهور إن شكت في تقدم الطهر على الفجر، وجب صوم اليوم وقضاؤه.

(1)

رواه أبو داود والترمذي والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 345

قوله: ومثل ذا لجنب البيت، معناه أن ما ذكر من صحة الصوم مع عدم الاغتسال جار في الجنب أيضا، قال أشهب - رحمه الله تعالى -: ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم، لحديث عائشة وأم سلمة -رضي الله تعالى عنهما -أنهما قالتا: كان رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -يصبح جنبا من جماع يدركه الفجر ولم يغتسل، فيغتسل ويصوم،

(1)

نقله سيدي زروق -رحمه الله تعالى ? وقد اقتضت ذلك آية البقرة أيضا، (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) فالظرف صادق بآخر جزء من اليل الذي لا يتأتى غسل بينه وبين الفجر.

620 -

وصوم يوم الفطر والنحر على

سائر الاحوال اتفاقا حظلا

621 -

ويومي النحر الاخيرين امنعا

صومَهما إلا لمن تمتعا

622 -

وهكذا انْه عن صيام الرابع

أيضا إذا ما صيم للتطوع

623 -

لا إن يكن من قبل ذاك في صيام

واجبِ سرْدٍ، أو يصمْه للتزام

معنى الأبيات أن صيام يومي العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى ممنوع باتفاق، لحديث الصحيح " لا صيام في يومين يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان "

(2)

وأما اليومان الذان يليان يوم النحر، فالمشهور في صيامهما المنع أيضا، إلا للمتمتع الذي لا يجد هديا، ومن في معناه، للآية الكريمة (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) الآية

وروي عن مالك -رحمه الله تعالى -النهي عن صيامهما مطلقا، والأصل في منع صيامهما قوله -صلى الله تعالى عليه وسلم ـ:" أيام التشريق أيام أكل وشرب "

(3)

واختلف في الرابع، والمشهور كراهة صومه، إلا لمن كان في صيام متتابع، أو من نذر صومه، وهو المراد بقوله: أو يصمه للتزام، أي نذر.

624 -

ومَن نهارَ رمضانَ يفطرِ

سهوا قضى فقط، ولم يكفر

625 -

ومن يكن أفطره لضر

من مرض فذاك فيه يجري

626 -

ومن يكن سفرَ قصر سافرا

جاز بلا ضرورة اَن يفطرا

627 -

والصوم عندنا مع اقتدار

عليه أفضل من الإفطار

(1)

متفق عليه.

(2)

متفق عليه.

(3)

رواه مسلم وأبو داود والنسائي والإمام أحمد.

ص: 346

628 -

ومن يسافر سفرا أقلا

من سفر القصر، فظن حِلا

629 -

فطرٍ، فأفطر لذلك، فلا

يطلب بالتكفير إذ تأولا

630 -

ومن على تأوُّلٍ قدَ اَفطرا

ليس مطالبا بأن يكفرا

631 -

وإنما التكفير في تعمد

أكلٍ، أو الشراب، أو وطء قدي

قوله: ومن نهار رمضان البيت، معناه أن من أفطر في نهار رمضان ساهيا، فعليه القضاء دون الكفارة، قال ابن ناجي -رحمه الله تعالى -: ما ذكر من وجوب القضاء هو المعروف، وقال عياض -رحمه الله تعالى -: مشهور مذهب مالك -رحمه الله تعالى -قضاء من أفطر في رمضان ناسيا، فظاهره أن في المذهب قولا بأنه لا يقضي، وهو غريب.

ولا فرق في من أفطر ناسيا بين أن يكون فطره بجماع أو غيره، خلافا لابن الماجشون - رحمه الله تعالى -في الأول، حيث قال يكفر، وهو مذهب الشافعي وأحمد، لعدم استفصاله صلى الله تعالى عليه وسلم للأعرابي الذي قال:" هلكت وأهلكت " وأجيب بأن قرائن حاله ومقاله تقتضي أنه تعاطى ذلك على وجه العمد، وذهب جمهور أهل العلم إلى عدم القضاء في الفطر ناسيا، لظاهر حديث الصحيح " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه. "

(1)

(1)

متفق عليه، واللفظ لمسلم.

ص: 347

ولم ير مالك - رحمه الله تعالى - وأصحابه سقوط قضاء الصوم عمن أفطر ناسيا، وكأنهم راعوا في ذلك الاحتياط وأن الأصل عمارة الذمة، فلا ينتقل عنه إلا بأمر واضح في خلافه، والذي في الحديث إسناد الإطعام والسقي إلى الله سبحانه وتعالى، بمعنى أن الناسي في معنى من لم يحصل منه أكل أصلا ولا شرب، وذلك محتمل لأن يكون في معناه من كل وجه، فلا إثم عليه، ولا كفارة، ولا قضاء، ويحتمل أن يكون في معناه في الجملة، فلا يلزم منه سقوط القضاء، وهو الجاري على الاعتبار بأصحاب الأعذار، (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) فيكون المراد نفي الكفارة والإثم خصوصا، وتبيين أنه لا داعي للتحسر بحصول ذلك، كمثل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للقوم يوم غلبهم النوم عن الصبح حتى طلعت الشمس، وأيقظه تكبير عمر لما رأى ما بالناس:" لا ضير " أو " لا يضير " وذكرهم بأن الله سبحانه وتعالى الذي كلفهم بالصلاة هو الذي قبض أرواحهم حتى طلعت الشمس

(1)

.

فإن قيل إن الكفارة لا تكون في ما لا إثم فيه، وقد علم أن الناسي غير مؤاخذ على نسيانه.

أو قيل إن النسيان معفو عنه فكيف يفسد به الصوم.

أجيب عن الأول بأنا لا نسلم أن الكفارة لا تكون إلا في ما فيه إثم، بل قد تشرع في الخطإ لما عسى أن يكون من تقصير في الجملة، ولدفع ما يقع في النفس من التحسر على حصول صورة الذنب، وقد قال الله سبحانه وتعالى:(ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) الآية.

وقد أوجب قوم من أهل العلم الكفارة على المجامع نسيانا، مستدلين بعدم استفصاله صلى الله تعالى عليه وسلم للأعرابي، وبظاهر الحديث المذكور من التقييد بالأكل والشرب.

(1)

أصل الحديث متفق عليه، وهذه الألفاظ عند البخاري من أكثر من طريق.

ص: 348

وعن الثاني بأنا لا نسلم أيضا عدم التلازم بين عدم المؤاخذة والصحة، فالمكره مأمور بإتمام صومه وقضائه، ولو كان الأمر كذلك لم يفسد صوم المضطر بالشيء اليسير الذي يرتفع به عنه الاضطرار.

وأما الرواية التي فيها التصريح بسقوط القضاء، فمن أهل العلم من لم يطمئن إليها -وإن كان راويها ثقة -لمخالفتها للرواية المشهورة، وقد جزم ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق بأنها رواية بالمعنى، ونصه: والمشهور في هذا الحديث، هذا اللفظ المخرج في الصحيح، وهذا مروي بالمعنى والله تعالى أعلم.

وزعم بعض أهل العلم أن مالكا -رحمه الله تعالى -لم يبلغه هذا الحديث، كأنه يرى أنه صريح في الأمر لا يطرقه احتمال، ورده الكاندهلوي بأنه لو لم يبلغه لما فرق بين الفرض والتطوع، وما قاله غير بين، فإن الفرق بينهما في النسيان هو مقتضى اعتباره بالأعذار الأخرى، من المرض والحيض والنفاس والإكراه حيث لا يجب معها القضاء في النفل خاصة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: ومن يكن أفطره لضر البيت، معناه أنه يجوز الفطر في رمضان لضرورة، من خوف حدوث مرض به، أو زيادته، أو تأخر البرء منه، قال اللخمي -رحمه الله تعالى -: صوم ذي المرض إن لم يشق واجب، وإن شق فقط خير، وإن خاف طوله أو حدوث آخر منع، فإن صام أجزأه، وقال ابن بشير: يحرم الصوم مع المرض إذا أدى إلى التلف أو الأذى الشديد، نقله في التاج.

وقال في المواهب: ويقبل قول الطبيب المأمون أنه يضر به، ويفطر الزمن إذا أضر به الصوم، وكذا كل صوم مضر يبيح الفطر.

وقال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: ضعف بنية الصحيح وشيخوخته كالمرض، نقله في التاج.

وذهب بعض السلف -رحمهم الله تعالى -إلى أن مطلق المرض، ولو قل، يبيح الفطر.

والأول أقعد بمعنى الآية.

ص: 349

قوله: ومن يكن سفر قصر سافرا البيت، معناه أن الفطر في السفر جائز أيضا، وإن لم تلحقه بالصوم فيه مشقة، وذلك بشروط، أحدها أن يكون السفر سفر قصر، وقد تقدم بيانه، الثاني أن لا يكون منهيا عنه شرعا، الثالث أن يشرع فيه بأن يبلغ موضعا يحل له فيه قصر الصلاة، وقد تقدم بيانه، ولله الحمد، فلا يفطر لمجرد السفر، لأن الفطر إنما أبيح للمسافر، وهذا لا يصدق عليه اسم المسافر.

الرابع أن يكون شروعه فيه قبل الفجر، فإن لم يشرع فيه إلا بعد الفجر، فالمشهور أنه لا يحل له الفطر، لأنه وقت انعقاد النية لم يكن مسافرا، وهو وقت توجه الخطاب بالصوم، كما لا يؤمر القادم بإمساك بقية يوم قدومه.

الخامس أن لا يبيت الصيام في سفره، فإذا أصبح صائما في السفر لم يكن له أن يفطر من غير ضرورة، لأنه كان في سعة أن يفطر أو يصوم، فلما اختار الصوم كان في حكم الحاضر.

والمفطر لأجل السفر مع عدم جوازه له -اتفاقا أو على المشهور -له من حيث التكفير أحوال: الأول أن يعزم على السفر بعد الفجر، ويبيت الفطر، ثم لا يقع السفر منه في ذلك اليوم، فهذا تجب عليه الكفارة بلا خلاف -تأول أو لا -على ظاهر أبي الحسن عند الحطاب.

الثاني أن يبيت الصوم في الحضر، ثم يعزم على السفر فيفطر، فإن أفطر قبل خروجه، ففي تكفيره أقوال، ثالثها يكفر إن لم يأخذ في أهبة السفر، ورابعها يكفر إن لم يتم سفره، واستظهر ابن رشد -رحمه الله تعالى -القول بعدم التكفير، قال: لأن الكفارة إنما هي تكفير للذنب، ومن تأول لم يذنب، والله سبحانه وتعالى تجاوز عن الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وإن أفطر بعد خروجه فلا كفارة عليه على المشهور -تأول أو لا ـ.

بل قال ابن حبيب -رحمه الله تعالى -: يجوز له الفطر، وقال ابن القصار يكره له.

ص: 350

الثالث أن يبيت الصيام في السفر ثم يفطر، فإن كان عن تأول، فظاهر المدونة التكفير، وقال أشهب -رحمه الله تعالى -لا كفارة عليه، واستظهره ابن رشد -رحمه الله تعالى -وإن كان عن غير تأول، فالمشهور وجوب الكفارة، وقد قال ابن الماجشون - رحمه الله تعالى -بجواز فطره ابتداء.

الرابع أن يبيت الصيام في السفر ثم يقدم على أهله فيفطر، وعليه الكفارة، انظر المواهب.

قوله: والصوم عندنا لذي اقتدار البيت، معناه أن الصوم في السفر المبيح للفطر لمن يقوى عليه، أفضل عند مالك -رحمه الله تعالى -في المشهور عنه، وذلك لفعله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال ابن الماجشون الفطر أفضل لقوله سبحانه وتعالى:(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وروى أشهب -رحمه الله تعالى -استواءهما، وقال ابن حبيب -رحمه الله تعالى -الصوم أفضل إلا في الجهاد.

قوله: ومن يسافر سفرا أقلا البيتين، معناه أن من سافر سفرا لا تقصر فيه الصلاة لقصره، فظن جواز الفطر فأفطر فلا كفارة عليه، لأنه متأول تأويلا قريبا، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز فطره، ومفهوم الظن أنه لو شك أو توهم فقط وجبت عليه الكفارة، قال في المواهب: وهو ظاهر لأنهم مع ظن الإباحة يسقط عنهم الإثم، كما سيأتي في كلام ابن رشد - رحمه الله تعالى - وأما مع عدم ظن الإباحة فلا يجوز لهم الإقدام على الفطر، وهم آثمون في إقدامهم على الإفطار مع الشك، أو مع التوهم، فإن أفطروا فعليهم الكفارة والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 351

قوله: ومن على تأول قد أفطرا البيت، معناه أن من أفطر في رمضان عن تأول، لا تجب عليه كفارة، ظاهره سواء كان تأويله بعيدا أو قريبا، وهو قول ابن عبد الحكم - رحمه الله تعالى - والمشهور اختصاص ذلك بالتأويل القريب، والتأويل القريب هو ما يكون فيه السبب الذي يستند إليه في جواز الفطر موجودا، والبعيد بخلافه، ومثل للتأويل القريب في المدونة بمن أفطر ناسيا، فظن بطلان صومه، فأفطر متعمدا، والمرأة ترى الطهر ليلا في رمضان، فلا تغتسل، فتظن أن من لم يغتسل ليلا لا صوم له فتأكل، والرجل يدخل من سفره ليلا، فيظن أنه لا صوم له، إلا أن يدخل نهارا فيفطر، والعبد يخرج راعيا على مسيرة ثلاثة أيام، فيظن أنه سفر يبيح الفطر، قال ابن القاسم - رحمه الله تعالى -: كل ما رأيت مالكا - رحمه الله تعالى - يسأل عنه من هذا الوجه، على التأويل، فلم أره يجعل فيه كفارة، إلا المفطرة على أنها تحيض، فتفطر ثم تحيض، والمفطر على أنه يوم الحمى، فيفطر ثم يحم، قال اللخمي - رحمه الله تعالى -: ومعروف المذهب أن حكم الجاهل كذي تأويل قريب، فلو جامع حديث عهد بإسلام، لظنه قصر الصوم على منع الغذاء لعذر، قال: وعلة المذهب الانتهاك، فمن جاء مستفتيا صدق، ولا كفارة، ومن ظهر عليه، نظر فيما يدعيه، فإن كان مما يرى أن مثله يجهل ذلك، صدق، وإن أتى بما لا يشبه لم يصدق، وألزم الكفارة.

قوله: إنما التكفير في تعمد البيت، معناه أن الكفارة إنما تجب في تعمد وطء أو إنزال أو أكل أو شرب، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: وتجب الكفارة في إفساد صوم رمضان انتهاكا له، بموجب الغسل، وطأ وإنزالا، والإفطار بما يصل إلى الجوف أو المعدة من الفم.

وقال ابن رشد -رحمه الله تعالى -: لا خلاف في سقوط الكفارة في الواصل إلى المعدة أو الحلق من غير الفم، خلافا لأبي مصعب -رحمه الله تعالى -ظن أن الشريعة علقت الكفارة بوصول شيء إلى المعدة مع القصد والعمد نقله في التاج.

ص: 352

632 -

وذلك التكفير بالإطعام

يكون والإعتاق والصيام

633 -

ولكن الإطعام في الكفاره

إمامنا على سواه اختاره

634 -

يطعم ستين من الأمداد

ستين مسكينا بمد الهادي

635 -

صلى وسلم عليه الله

والال والصحب ومن تلاه

636 -

وصام شهرين ولاء حيث رام

أداء تكفير بخصلة الصيام

معنى الأبيات أن التكفير يكون بواحد من هذه الخصال الثلاث، إطعام ستين مسكينا، لكل واحد مد بمده صلى الله تعالى عليه وسلم، أو عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب الفاحشة، أو صيام شهرين متتابعين، وذلك لما رواه في الموطإ عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا، فقال: لا أجد، فأتي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعَرَق تمر، فقال:" خذ هذا، فتصدق به " فقال: يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ما أجد أحوج مني، فضحك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال": كله "

(1)

فظاهر هذا اللفظ أنها على التخيير، والإطعام أفضل عند مالك - رحمه الله تعالى - في المشهور عنه، لأنه أعم نفعا، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: وبادر يحيى بن يحيى الأمير عبد الرحمن حين سأل الفقهاء عن وطء جارية له في رمضان، بكفارته بصومه، فسكت حاضروه، ثم سألوه لم لا تخيره في أحد الثلاثة؟

فقال: لو خيرته وطئ كل يوم وأعتق، فلم ينكروا، عياض: وحكاه فخر الدين عن بعضهم، وتعقبه بأنه مما ظهر من الشرع إلغاؤه، واتفق العلماء على إبطاله، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: وتأول بعضهم أن المفتي بذلك رأى الأمير فقيرا، ما بيده إنما هو للمسلمين، قال: ولا يرد هذا بتعليل المفتي بما ذكر، لأنه لا ينافيه، والتصريح به موحش.

(1)

متفق عليه بمعناه.

ص: 353

وقال في التاج: نقل عياض أن الرشيد -رحمهما الله تعالى -حنث في يمين، فقال له غير مالك -رحمهم الله تعالى جميعا -عليك عتق رقبة، فقال له مالك -رحمه الله تعالى - عليك صيام ثلاثة أيام، فقال الرشيد -رحمه الله تعالى -: قد قال الله سبحانه وتعالى: (فمن لم يجد) الآية، فأقمتني مقام المعدم، فقال: يا أمير المؤمنين كل ما في يدك ليس لك، عليك صيام ثلاثة أيام.

وروي عن مالك - رحمه الله تعالى - التخيير بين الثلاثة على السوية، وقال ابن حبيب - رحمه الله تعالى - هي على الترتيب العتق، ثم الصيام، ثم الإطعام، وقيل يتعين الإطعام في الشدة، والعتق في الرخاء، وقيل غير ذلك، وهذا في حق الحر الرشيد، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: الصقلي والشيخ عن ابن حبيب: ويكفر السفيه بالصوم فقط، ابن بشير - رحمه الله تعالى -: على تعيين الإطعام، يكفر به عنه وليه، وعلى التخيير، بالصوم فقط، وعلى الترتيب، على الخلاف في كفارة ظهاره، الشيخ: والعبد بالصوم فقط، فإن أضر بربه، بقيت دينا عليه، وبالإطعام إن أذن ربه، ويؤدب عامد فطره انتهاكا، إن ظُهر عليه، وفي الآتي مستفتيا، ثالثها ذو الهزء، لا الستر، لتخريج اللخمي على قولها: يعاقب المعترف بشهادة الزور، وعلى قول سحنون: لا يؤدب، مع رواية المبسوط واختياره.

637 -

ولا يكفر الذي قدَ اَفسدا

صومَ قضاء رمضان عامدا

638 -

وليقضينْ من لم يُفِقْ مِنِ اِغما

باليل قبل الفجر ذاك اليوما

639 -

وينبغي حفظ اللسان والجوا

رح جميعا عن مَنازع الهوى

640 -

وعظمنَّ ما الإله جلا

من ذلك الشهر له أجلا

قوله: ولا يكفر الذي قد افسدا البيت، معناه أنه لا كفارة على من أفطر في قضاء رمضان متعمدا منتهكا، واختلف هل لا يلزمه إلا يوم واحد، قال ابن يونس -رحمه الله تعالى -: لأنه إذا قضى القضاء فقد صح القضاء الأول لرمضان، فلا شيء عليه غير ذلك، وهذا أحب إلي، نقله في التاج.

ص: 354

أو يلزمه يومان: يوم عن يوم رمضان، ويوم عن يوم القضاء، ونقل في المواهب عن وجيز ابن غلاب تشهيره.

قوله: وليقضينْ من لم يفق البيت، معناه أن المغمى عليه لا يصح صومه، على المشهور، إذا كان متصفا بذلك وقت طلوع الفجر -طال إغماؤه أو قصر -لفوات وقت النية وهو غير عاقل، وإن كان الإغماء طارئا بعد الفجر، فإن كان يسيرا لم يفسد صومه، وظاهر اللخمي الاتفاق على ذلك، وحكي فيه الخلاف، وإن كان نصف اليوم، فالمشهور الصحة، وإن كان أكثر اليوم، فالمشهور عدم الصحة.

ص: 355

قوله: وينبغي حفظ اللسان البيتين، معناه أنه ينبغي للصائم على وجه التأكد أن يحفظ لسانه عن فضول الكلام المباح، فلا يتكلم إلا بذكر ونحوه، مما يثاب عليه، أو ما تدعو إليه الحاجة، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم:" الصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم "

(1)

ومعلوم أن سب الساب غير حرام، ويندب له مثل ذلك في أفعاله، فلا يشتغل بلعب ونحوه، وأن يعظم من شهر رمضان ما عظمه الله سبحانه وتعالى، فيقبل على أنواع الطاعات، ملاحظا أنه في أوقات شريفة، تتضاعف فيها الأجور، وأنه قد لا يصادفها مرة أخرى، كما هو الحال بالنسبة لكثيرين، في الوقت الذي هو فيه، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: ومن وجوه تعظيم هذا الشهر المبارك، أن الله سبحانه وتعالى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وجعل فيه ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر قيامها وصيامها، فيجب على كل ذي إيمان ويقين، ويتعين على كل من له تلبس بأعمال المتقين، أن يقدر هذا الشهر قدره، ويوفيه من التعظيم والاحترام حقه، ويتحفظ فيه من كل شيء يكرهه الشارع - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - كان واجبا أو مندوبا - ويرى ذلك من أكبر ذخائره عند ربه، ولا يهمل ذلك بحال، ويستعين على ذلك بمطالعة الأحاديث المروية فيه، وهي كثيرة، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

641 -

ولتتركنْ فيه النهارَ سائرَه

قرب النسا بوطء أو مباشره

642 -

وقبلةٍ للذةٍ، واليلُ

جميعُه يحل فيه الكل

643 -

ومن يقبلْ أو يباشرْ ثما

أمذى لذا، فليقض ذاك الصوما

644 -

ويجب التكفير حيث استرسلا

بذاك عامدا إلى أنَ اَنزلا

(1)

متفق عليه، واللفظ للبخاري.

ص: 356

قوله: ولتتركن فيه، إلى قوله: وقبلة للذة، معناه أن الصائم مأمور بالكف عن الوطء ومقدماته، من قبلة ومباشرة ولمس، أما الوطء فحرام إجماعا، وذلك هو مفهوم الظرف في قوله سبحانه وتعالى:(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) الآية، وقد تقدم حديث الأعرابي الذي قال: هلكت وأهلكت، وأقره صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك، وأمره بالتكفير، وأما مقدماته فالمشهور في المذهب كراهتها، وقيل تباح للشيخ، وتكره للشاب، وقيل تباح في التطوع، وتكره في الفرض، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: قسم غير واحد القبلة والمباشرة والملاعبة، على ثلاثة أقسام، فإن علم من نفسه السلامة لم تحرم، وعكسه عكسه، وإن شك ففي ذلك قولان الكراهة والتحريم، إلى أن قال: وظاهر كلام الشيخ أن الفكرة والنظر ليس منهيا عنهما، وجعلهما ابن الحاجب كالقبلة ونحوها، وجعل اللخمي - رحمه الله تعالى - النظر المستدام كالقبلة، وقال ابن بشير: لا يختلف أنهما لا يحرمان، وإنما اختلف في القبلة والمباشرة، هل تحرم أو تكره.

وصرح في التوضيح بتشهير كراهة ذلك -أعني النظر والتفكر -قال: وقد جعلوا مراتب الكراهة تتفاوت بالأشدية على نحو ما رتب المؤلف: المبادئ، فالفكر أخفها، وأشدها الملاعبة، نقله في المواهب.

ص: 357

وقال في التاج: اللخمي: القبلة والمباشرة والملامسة، غير محرمات في أنفسهن، وأمرهن متعلق بالإباحة والتحريم بما يكون عنها، فمن كان يعلم من حاله السلامة من ذلك، وأن لا يكون عنه إنزال ولا مذي، كان مباحا، ومن كان يعلم من عادته أنه لا يسلم عند ذلك من الإنزال، أو يسلم مرة، ولا يسلم أخرى، كان ذلك محرما عليه، وعلى هذا يحمل قول مالك - رحمه الله تعالى - في المدونة في من قبل امرأته قبلة واحدة في رمضان، فعليه القضاء والكفارة، وإن كان لا يسلم من الإمذاء كان على الخلاف، فمن أفسد به الصوم كان الإمساك عن مسببه واجبا، ومن لم يفسد به، كان الإمساك مستحبا، والقول إن المذي لا يفسد أحسن، وإنما ورد القرآن بالإمساك عما ينقض الطهارة الكبرى، دون الصغرى، ولو وجب القضاء بما ينقض الطهارة الصغرى لفسد الصوم بمجرد القبلة والمباشرة والملامسة، وإن لم يكن مذي، واتفق الجميع أنه لا يجب في عمده كفارة، ولا يقطع التتابع إذا كان الصيام ظهارا أو قتل نفس، وقال أبو عمر - رحمه الله تعالى -: في تقبيل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أهله وهو صائم،

(1)

أن من أمن فله ذلك، ومن خاف على أمة محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - ما لم يخفه عليها نبيها - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقد باء من التعسف بما لا يخفى، ولما كان التأسي به صلى الله تعالى عليه وسلم مندوبا إليه استحال أن يأتي منه خصوصا له ويسكت عليه.

قوله: واليل جميعه يحل فيه الكل، معناه ظاهر، وقد تقدمت الآية المقتضية لذلك.

قوله: ومن يقبل أو يباشر البيت، معناه أن من أمذى عن قبلة أو مباشرة، يجب عليه قضاء ذلك اليوم دون تكفير، وذهب البغداديون إلى استحباب قضائه من غير إيجاب، وفصل ابن حبيب -رحمه الله تعالى -فأوجبه إن كان عن لمس أو قبلة أو عمد نظر، وأسقطه إن كان عن نظر من غير عمد.

(1)

متفق عليه من حديث عائشة.

ص: 358

قوله: ويجب التكفير البيت، أشار به إلى أنه إذا قبل أو باشر، فأنزل، فإن كان استدام ذلك قضى وكفر، وإن لم يستدم قضى فقط، ما لم يكن ذلك عن استنكاح أو علة فلا قضاء.

645 -

ورمضان من يقمه غفرا

له من الذنوب ما قد غبرا

646 -

إن قامه مصدقا محتسبا

وإن يقمه لا لذاك فهبا

647 -

وفضل ذا يُرجى، وأن يُكفَّرا

عن من يقومه بما تيسرا

648 -

وبمساجد الجماعات القيام

يطلب أن يكون جمعا بإمام

649 -

والانفراد للذي قدَ اَمنا

أن تضعف النية منه استحسنا

قوله: ورمضان من يقمه البيتين، لا يخفى أن معناه نص حديث الصحيح " من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه

(1)

" وقوله: إيمانا، قالوا معناه تصديقا بوجوبه والأجر عليه، وقوله: احتسابا، قالوا معناه طلبا للأجر وابتغاء الثواب، وهذا التكفير خاص بالصغائر، حملا على التقييد المذكور في الحديث الآخر " ما لم تغش الكبائر " وهو قيد في عموم التكفير، لا في أصله، فالتكفير حاصل وإن غشيت الكبائر، لأن اجتناب الكبائر وحده مكفر، كما هو نص الآية، فمذهب الجمهور أن الكبائر لا يكفرها من أعمال العبد إلا التوبة، ويختص التكفير المذكور أيضا بما بين العبد وربه، وأما حقوق المخلوقين فلا بد من أدائها إليهم، أو تحليلهم منها، كما هو ظاهر حديث المفلس،

(2)

وقد اختلف في حكم القيام، فقال ابن حبيب - رحمه الله تعالى - هو فضيلة، وقال أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله تعالى - هو سنة، ولا فرق في هذا بين رمضان وغيره.

قوله: وفضل ذا البيت، أشار به إلى أن التكفير المذكور لا يتقيد بقيام اليل كله، ولا بقيامه على وجه مخصوص، بل يرجى حصوله على كل ما يصدق عليه أنه قيام.

(1)

متفق عليه.

(2)

يعني حديث " أتدرون من المفلس " وهو حديث صحيح، رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد.

ص: 359

قوله: وبمساجد الجماعات البيت، معناه أنه يطلب أن تقام التراويح في مساجد الجماعات جماعة، كما فعل سيدنا عمر -رضي الله تعالى عنه - وقد أمر بالاقتداء به

(1)

مع الإجماع، ونقل في التمهيد عن الطحاوي أنه قال: أجمعوا على منع تعطيل المساجد منها.

قوله: والانفراد البيت، معناه أن قيامه في البيت إذا لم تعطل المساجد أفضل من إيقاعها بالمسجد كما هو سنة النوافل، وقيل قيامه في المساجد أفضل، وهو مبني على الخلاف في حكمه المتقدم، وهذا بالنسبة لمن لا يخاف إذا انفرد أن يتكاسل عنها، أو يوقعها على وجه دون ما يوقعها عليه في الجماعة.

650 -

وكانتَ اَيام الصحابة الغرر

عشرين ركعة بفعل من عمر

651 -

ثمت يشفعون ثم يوترون

وبين ذين بالسلام يفصلون

652 -

ثم على عهد سميه الأغر

زيدتْ على ذلك ستة عشر

653 -

وكل ذاك واسع، وكلما

تمم ركعتين فليسلما

654 -

وجاء عن عائشة المطهره

أن لم يصل فوق ثنتي عشَره

655 -

من قبل الايتار مدى الزمان

نبينا لبُّ بني عدنان

656 -

صلى وسلم عليه الله

والال والصحب ومن تلاه

أخرج مالك -رحمه الله تعالى -في الموطإ عن عائشة -رضي الله تعالى عنها -أن رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -صلى في المسجد ذات ليلة، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى اليلة القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من اليلة الثالثة، أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -فلما أصبح، قال:" قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم، إلا أني خشيت أن تفرض عليكم " وذلك في رمضان

(2)

.

(1)

كما في حديث " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين " وهوصحيح، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد.

(2)

متفق عليه.

ص: 360

وأخرج أيضا عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه -أن رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -كان يرغب في قيام رمضان، من غير أن يأمر بعزيمة، فيقول:" من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " قال ابن شهاب -رحمه الله تعالى -: فتوفي رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر -رضي الله تعالى عنهما

(1)

-.

وأخرج عن عبد الرحمن بن القاري أنه قال: خرجت مع عمر - رضي الله تعالى عنهما - في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: والله إني رأيت لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، فجمعهم على أبي بن كعب - رضي الله تعالى عنه - قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون - يعني آخر اليل - وكان الناس يقومون أوله،

(2)

وعن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري - رضي الله تعالى عنهم - أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر، وعن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في رمضان بثلاث وعشرين ركعة، وإلى هذا الإشارة بقوله: وكانت أيام الصحابة البيت، يعني بعد أن كانت إحدى عشرة ركعة طويلة القيام، فخفف في قيامها وزيد في ركوعها.

(1)

متفق عليه.

(2)

ورواه عنه البخاري.

ص: 361

قوله: وبين ذين بالسلام يفصلون، يعني أنهم كانوا يفصلون بين ركعتي الشفع وركعة الوتر، وقد جاء أن أبيا -رضي الله تعالى عنه -كان يفعل ذلك، فأم بعده زيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنه -فلم يسلم بينهما، فسأله ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما -لم فعل ذلك؟

فقال: إنما فعلت ذلك ليلا ينصرف الناس، فلا يوترون، وروى مالك في الموطإ عن نافع أن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهم -كان يسلم بين الركعتين، والركعة في الوتر، حتى يأمر ببعض حاجته

(1)

.

قوله: ثم على عهد سميه الأغر البيت، أشار به إلى ما أخرجه سحنون أن عمر بن عبد العزيز أمر القراء أن يقوموا بست وثلاثين ركعة غير الشفع والوتر، ويقرءوا في كل ركعة عشر آيات.

قوله: وكل ذاك واسع، معناه أنه لا حد في ذلك يتعين الوقوف عنده، كما تقدم في حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه ـ.

قال مالك -رحمه الله تعالى -: الذي آخذ به في نفسي ما كان عليه الصلاة والسلام يفعله، وهو الاثنتا عشرة ركعة، ثم يوتر بواحدة، نقله سيدي زروق -رحمه الله تعالى ـ.

قوله: وكلما تمم ركعتين فليسلما، معناه أن يؤمر بالسلام بعد كل ركعتين، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " صلاة اليل مثنى مثنى

(2)

"

(1)

ورواه عنه البخاري.

(2)

متفق عليه.

ص: 362

قوله: وجاء عن عائشة المطهره إلخ، أشار به إلى ما جاء عن عائشة -رضي الله تعالى عنها -أنها قالت: كان رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة،

(1)

وجاء عنها أيضا أنه كأن يصلي سبعا وتسعا

(2)

وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر،

(3)

وجاء عنها أيضا أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، فقالت: يا رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -أتنام قبل أن توتر؟ فقال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي،

(4)

وكل ذلك ثابت عنها، ووفق بينه بأنها تارة تعتد بالركعتين الخفيفتين التين كان يفتتح بهما قيامه، وتارة لا تعتد بهما، وهو ظاهر في قولها: أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

متفق عليه.

(2)

روى الترمذي عنها أنها قالت: كان رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كان يصلي من الليل تسعا، فلما أسن وثقل صلى سبعا، وهو حديث صحيح.

(3)

متفق عليه.

(4)

متفق عليه.

ص: 363