المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب - عون المتين على نظم رسالة القرويين

[محمد بن محمد بن المصطفى اليعقوبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشرح

- ‌مقدمة النظم

- ‌باب ما يجب منه الوضوء والغسل

- ‌فصل في الحيض والنفاس

- ‌باب طهارة الماء والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

- ‌أماكن تمنع الصلاة فيها

- ‌باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

- ‌باب في الغسل

- ‌باب التيمم

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب في أوقات الصلاة وأسمائها

- ‌باب في الأذان والإقامة

- ‌باب في الإمامة وحكم الإمام والمأموم

- ‌باب جامع في الصلاة

- ‌باب في سجود القرآن

- ‌باب في صلاة السفر

- ‌باب في صلاة الجمعة

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌باب في صلاة العيدين والتكبير أيام منى

- ‌باب في صلاة الكسوف

- ‌باب في صلاة الاستسقاء

- ‌باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

- ‌باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

- ‌باب في الصيام

- ‌باب في الاعتكاف

- ‌باب في زكاة العين والحرث والماشية وما يخرج من المعدن

- ‌باب في زكاة الماشية

- ‌باب في زكاة الفطر

- ‌باب في الحج والعمرة

- ‌باب في الضحايا والذبائح والعقيقة والصيد والختان وما يحرم من الأطعمة والأشربة

- ‌باب في الجهاد

- ‌باب في الأيمان والنذور

- ‌باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع

- ‌باب في العدة والنفقة والاستبراء

- ‌باب في البيوع وما شاكل البيوع

- ‌باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

- ‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

- ‌باب في أحكام الدماء والحدود

- ‌باب في الأقضية والشهادات

- ‌باب في الفرائض

- ‌باب جمل من الفرائض والسنن الواجبة والرغائب

- ‌باب في الفطرة والختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

- ‌باب في الطعام والشراب

- ‌باب في السلام والاستئذان والتناجي والقراءة والدعاء وذكر الله عز وجل والقول في السفر

- ‌باب في التعالج وذكر الرقى والطيرة والنجوم والخصاء والوسم والكلاب والرفق بالمملوك

- ‌باب في الرؤيا والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيرها والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك

الفصل: ‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

1548 -

وإنما الشفعة في المشاع

دون المقسم من الرباع

1549 -

كذاك لا شفعة في ممر

وفحل نخل قسمت كالبئر

1550 -

من بعد قسم أرضه للضرر

إذا أجزناها هنا بالمشتري

1551 -

كذاك لا شفعة في عرصة دار

قد قُسمت بيوتها ولا لجار

الشفعة عرفها ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه، والأصل في تسميتها بذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا اشترى حائطا، أو منزلا، أو شقصا من حائط أو منزل، أتاه المجاور أو الشريك فيشفع إليه في أن يوليه إياه، ليتصل له الملك، أو يندفع عنه الضرر، حتى يشفعه فيه، فيسمى ذلك شفعة، ويسمى الآخذ شفيعا، والمأخوذ منه مشفوعا عليه، قاله ابن رشد - رحمه الله تعالى -.

ص: 703

قوله: وإنما الشفعة في المشاع البيت، معناه أن الشفعة لا تكون إلا في العقار المشترك خاصة، والمشترك هو المشاع، فلا شفعة في غير عقار، ولا شفعة في العقار المقسوم، إذ لا شفعة لجار، وإنما الشفعة للشريك، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ثبت أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قضى بالشفعة، وأنه قال:" الشفعة في ما لم يقسم بين الشركاء، فإذا صنعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة "

(1)

وهذا الحديث يقتضي ثلاثة أوجه من الفقه أحدها أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء، إلى أن قال: والثاني أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء في ما ينقسم من الأصول دون ما لا ينقسم، والثالث أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء في الرباع والأصول دون سائر العروض.

(1)

رواه النسائي من قول النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ بلفظ " الشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وعرفت الطرق فلا شفعة " وهو حديث صحيح، ورواه البخاري عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ بلفظ " إنما جعل النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرِّفت الطرق فلا شفعة " ورواه أبو داود وابن ماجة والإمام أحمد.

ص: 704

قوله: كذاك لا شفعة في ممر إلخ، تشبيه على مفهوم الحصر في البيت قبله، والممر: الطريق، وفحل النخل: ذكره، وعرصة الدار: القاعة التي لا بناء فيها من أرضها، والمعنى أنه لا شفعة في الطريق التي قسم متبوعها، ولا في عرصة الدار التي قسمت بيوتها، ولا في البئر التي قسمت أرضها، ولا في فحل النخل بعد قسمها، لأنها تبع لما لا شفعة فيه، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها ولا شفعة في بئر ولا في فحل النخل، قال مالك - رحمه الله تعالى -: وعلى هذا الأمر عندنا، وقال: لا شفعة في طريق صلح القسم فيها أو لم يصلح، وقال: والأمر عندنا أنه لا شفعة في عرصة دار صلح القسم فيها أو لم يصلح.

قوله: للضرر إذا أجزناها هنا بالمشتري، أشار به إلى أن عدم جريان الشفعة في هذه الأشياء لأنها منفعة من منافع ما لا شفعة فيه، فلو جرت الشفعة فيها تضرر المشتري لخلو ما اشتراه عن منفعة من المنافع التي لا يتم الانتفاع به دونها، فإذا قسمت بيوت الدار مثلا وبقيت الطريق والبئر والعرصة مشتركة، وباع بعضهم بيته أو بيوته مع حصته من هذه الأشياء، فلو قلنا بالشفعة فيها بقيت بيوت المشتري بلا طريق يسلك إليها منها، ولا بئر يشرب منها، ولا عرصة يتفسح فيها، وهكذا، وأما إذا بيعت هذه الأشياء مفردة عن أصلها المقسوم، فالشفعة فيها جارية على الخلاف في الشفعة في ما لا ينقسم، وعدم الشفعة فيه هو المشهور، وهو قول ابن القاسم ومطرف - رحمهم الله تعالى -.

قوله: ولا لجار، تصريح بمفهوم المشاع.

1552 -

وحاضر سكت طول العام

بدون عذر ساقط الكلام

1553 -

بعكس غائب فذا متى رجع

لو بعد أعوام فإن شاء شفع

1554 -

وعهدة الشقص بكاستحقاق

من مشتر له بالاتفاق

1555 -

ويوقف الشفيع كي ما يشفعا

بطلب من مشتر أو يدعا

1556 -

ولا يصح وهْب الاستشفاع

أو بيعه إلا من المبتاع

ص: 705

1557 -

وهْي إذا ما الشركا تعددوا

بقدر الانصبا على ما أيدوا

قوله: وحاضر سكت البيت، معناه أن الشفيع إذا ترك الأخذ بالشفعة مع حضوره وعلمه بالبيع زمانا تقتضي العادة أنه لا يسكت فيه إلا وهو تارك للشفعة، سقطت شفعته، وروى أشهب حد ذلك بالسنة، وقال به، وهو الذي اعتمد الشيخ - رحمه الله تعالى - وروى ابن القاسم الزيادة على السنة، وقال به، وقال ابن الماجشون: الخمس سنين قليل، إلا أن يحدث المشتري بنيانا أو غرسا، وقيل لا تسقط شفعته حتى يصرح بإسقاطها، قال ابن شاس - رحمه الله تعالى - في جواهره: والأصل في هذا الباب شواهد أحوال الشفيع القائمة مقام التسليم، وعلى ذلك يخرج ما نقل من الخلاف، ومتى مضى من المدة ما يحتمل أن يكون سكوته فيها عن الطلب تركا لحقه فللمشتري استحلافه على ذلك، وفي العتبية من رواية ابن القاسم في شفيع قام بعد شهرين أيحلف؟

قال: لا، وروى عنه فيمن قام بعد تسعة أشهر قال: يحلف، وروى في كتاب محمد أنه يحلف في سبعة أشهر أو خمسة، ولا يحلف في شهرين.

قوله: بعكس غائب البيت، معناه أن الشقص إذا بيع والشفيع غائب، كان على شفعته متى قدم، ولو علم بالشراء، قال في المواهب: قال مالك - رحمه الله تعالى -: إلا أن يقدم بعد طول الزمان مما يجهل في مثله أصل البيع ويموت الشهود، فأرى الشفعة منقطعة، فأما في قرب الأمد مما يرى أن المبتاع أخفى الثمن لقطع الشفعة، فلتقوم الأرض على ما يرى منثمنها يوم البيع، فيأخذها به.

وقال في الموطإ: وليس لذلك عندنا حد تقطع إليه الشفعة.

قوله: وعهدة الشقص البيت، معناه أن عهدة الشفيع في الشقص المشفوع فيه على المشتري خاصة، وقد أجمع على ذلك مالك وأصحابه - رحمهم الله تعالى - كما قال ابن المواز، فإذا استحق الشقص من يد الشفيع رجع على المشتري بثمنه، ثم يرجع المشتري على البائع.

ص: 706

قوله: ويوقف الشفيع البيت، معناه أن للمشتري أن يطالب القاضي بإيقاف الشفيع ليأخذ بالشفعة أو يدع، ولا يتلوم له على المشهور، وذلك لما يلحق المشتري من الضرر في تأخير البت في ذلك، وروى ابن عبد الحكم أن السلطان يؤخره اليومين والثلاثة ليستشير وينظر، واختار اللخمي الأول إن أوقف بعد طول، والثاني إن أوقف بحدثان الشراء.

قوله: ولا يصح وهب الاستشفاع البيت، معناه أن الشفعة لا تصح هبتها ولا بيعها لغير المشتري، لأنها إنما شرعت للشفيع لرفع الضرر، بأن يدخل عليه من لا يعرف شركته ولا معاملته، قاله القاضي عبد الوهاب، كما نقله سيدي زروق - رحمهما الله تعالى - فتختص أحقيته بها بما إذا أرادها لهذا المعنى، وأما بيعها للمشتري بأن يسقط شفعته في نظير مال يدفعه له المشتري فجائز.

قوله: وهي إذا ما الشركا تعددوا البيت، معناه أن الشفعة إذا تعدد الشركاء موزعة عليهم بقدر حصصهم، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: الشفعة بين الشركاء على قدر حصصهم، يأخذ كل إنسان منهم بقدر نصيبه إن كان قليلا فقليلا، وإن كان كثيرا فبقدره، وذلك إن تشاحوا فيها.

قال أشهب - رحمه الله تعالى -: لأن الشفعة إنما وجبت لشركتهم لا بعددهم، فيجب تفاضلهم بتفاضل أصل الشركة، نقله في التاج.

1558 -

ولا تتم هبة دون حيا

زتِك ما لك بها قدُ اُعطيا

1559 -

وهكذا الحبس والتصدق

بحوزها لزومها معلق

1560 -

فإن يمت فاعلها من قبل

حيازة بطل عقد الكل

1561 -

ومثل ذا مرض موته معا

فلسه فالكل حوزا منعا

الهبة عرفها ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: الهبة لا لثواب تمليك ذي منفعة لوجه المعطَى بغير عوض، والصدقة كذلك لوجه الله سبحانه وتعالى بدل لوجه المعطَى، ثم قال ما معناه: أو الأكثر على أن الهبة كذلك مع إرادة الثواب من الله سبحانه وتعالى صدقة، خلافا لمطرف.

ص: 707

قوله: ولا تتم هبة البيت، معناه أن الهبة وإن كانت تلزم بالقول على المشهور لا تتم إلا بحيازتها قبل موت الواهب، أو مرضه المتصل بموته، أو فلسه، ولو بدين حادث بعد الهبة، ولا يشترط في حوزها إذن الواهب، وإن منعه الواهب منه جبره القاضي، إلا أن يكون ذلك في يمين، فإن كانت في يمين لم يقض بها، لأنه لم يقصد البر بل اللجاج، والأصل في اشتراط الحوز قبل المانع ما رواه مالك - رحمه الله تعالى - في موطئه عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أن أبا بكر - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - كان نحلها جادَّ عشرين وَسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفات قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جادَّ عشرين وسقا فلو كنت جدَدْتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله سبحانه وتعالى، قالت عائشة - رضي الله تعالى عنه -: يا أبت والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال أبو بكر - رضي الله تعالى عنه -: ذو بطن بنت خارجة أُراها أنثى.

وروى عن عمر - رضي الله تعالى عنه ـ مثل ذلك.

قوله: وهكذا الحبس البيت، معناه أن الصدقة والحبس كالهبة في توقف تمامهما على حوز المتصدق عليه والمحبس عليه، وهذا هو المشهور، وقيل لا يتوقفان على الحوز.

قوله: فإن يمت فاعلها البيتين، معناه أن هذه المذكورات إذا لم تحز حتى مات الواهب، أو المتصدق، أو المحبس، أو مرض مرضا اتصل بموته، أو فُلس، بطلت، وهذا حيث وهب أو تصدق أو حبس وهو صحيح، فإن حصل منه ذلك في المرض فله حكم الوصية، ولو خاصم الموهوب له مثلا الواهب في الهبة والواهب صحيح ولم تعدل بينة الموهوب له حتى مرض الواهب أو مات فذلك في معنى الحوز في الصحة كما في المدونة.

1562 -

أما إذا هلك من وُهِب له

فنزلنَّ وارثيه منزله

ص: 708

1563 -

وجاز للواهب أن يعتصرا

هبته لنجله لو كبرا

1564 -

ما لم يُداينْ قصدها أو يُنكَح

أيضا لها فبعد ذا لم يُبَح

1565 -

كذاك لا يجوز أن يعتصرا

منه الذي له تغير طرا

1566 -

أما التصدق فلا اعتصار له

فيه كما وهبه قصد الصله

قوله: أما إذا هلك من وهب له البيت، معناه أنه إذا مات الموهوب له قبل أن يحوز الهبة فهي لوارثه، وذلك لما تقدم من أن الهبة تلزم بالقول، ومن مات عن مال فهو لوارثه، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: من أعطى عطية لا يريد ثوابها ثم مات المعطَىفورثته بمنزلته.

قوله: وجاز للواهب أن يعتصرا الأبيات الثلاثة، معناه أنه يجوز للأب إذا وهب لولده هبة أن يعتصرها منه، سواء كان كبيرا أو صغيرا، حاز أو لم يحز، ما لم يُنكح لها، أو يُداين لها، أو تتغير في ذاتها، قال مالك - رحمه الله تعالى -: الأمر المجتمع عليه عندنا في من نحل ولده نُحلا، أو أعطاه عطاء ليس بصدقة، أن له أن يعتصر ذلك، ما لم يستحدث الولد دينا يداينه الناس به ويأمنونه عليه من أجل ذلك العطاء الذي أعطاه أبوه، فليس لأبيه أن يعتصر من ذلك شيئا بعد أن تكون عليه الديون، أو يعطي الرجل ابنه أو ابنته، فتنكح المرأة الرجل وإنما تنكحه لغناه وللمال الذي أعطاه أبوه، فيريد أن يعتصر ذلك الأب، أو يتزوج الرجل المرأة قد نحلها أبوها النُّحل، إنما يتزوجها ويرفع في صداقها لغناها ومالها وما أعطاها أبوها، ثم يقول الأب: أنا أعتصر ذلك، فليس له أن يعتصر من ابنه ولا من ابنته شيئا من ذلك، إذا كان على ما وصفت لك.

والاعتصار: ارتجاع العطية دون عوض لا بطوع المعطى - بالفتح - ولا بد في ذلك على المشهور من الصيغة، نحو اعتصرت، أو ارتجعت، أو رددت، ولا يكون إلا بالإشهاد، فلو باع ما وهبه لابنه باسم نفسه لم يكن ذلك اعتصارا على المعول، والثمن للإبن، انظر المواهب.

ص: 709

ومثل الهبة في جواز الاعتصار للأب العمرى بخلاف الصدقة وما في معناها مما يتقرب به كما أشار إليه بقوله: أما التصدق فلا اعتصار له البيت، قال في التاج: في نوازل سحنون: هبته لابنه للصلة لا يجوز اعتصارها، وكذا هبته لضعفه أو خوف الخصاصة عليه، وقال ابن الماجشون - رحمه الله تعالى -: كل هبة لولده لوجه الله سبحانه وتعالى، أو لطلب الآخرة أو لصلة الرحم لا تعتصر، ابن رشد: هذا مثل قول عمر - رضي الله تعالى عنه - في المدونة، ونحوه في مختصر ابن عبد الحكم، وهو أظهر من قول مطرف.

1567 -

وصح حوز الاب لابن صغرا

هبته له كمن قد حجرا

1568 -

إن يكن الموهوب ذا تعين

وكان من بعد العطا لم يسكن

1569 -

أو يلبس الثوب وأما ذو الرشد

فإنما يصح حوزه فقد

1570 -

وهكذا أيضا إذا ما وقفا

على بنيه فكما قد وُصفا

قوله: وصح حوز الاب لابن صغرا، معناه أن حوز الأب ما وهبه، أو تصدق به، أو حبسه على محجوره، من صغار أولاده وسفهائهم، كاف، إذا كان ما وهبه مما يعرف بعينه كالدور والأرضين والحيوان، إذا أشهد على ذلك، ولا يشترط في الإشهاد ذكر رفع يد الملك ووضع يد الحوز، وذلك لما رواه مالك - رحمه الله تعالى - عن عثمان - رضي الله تعالى عنه - وأجمع أهل العلم على معناه، وهذا ما لم يكن ما وهبه له دار سكناه، إلا أن تشهد البينة بمعاينتها خالية من شواغله، ومثله في ذلك الأجنبي، وإلى هذا أشار بقوله: وكان من بعد العطا لم يسكن.

ومثل سكنى الدار لبس الثوب الموهوب، وما في معنى ذلك مما يقتضي بقاء يد الملك فيما سواهما، وإلى هذا أشار بقوله: أو يلبس الثوب.

وأما إذا وهبه ما لا يعرف بعينه فحوزه له لغو عند ابن القاسم وهو المشهور.

وكذلك حوز الأم هبتها لولدها المحجور، فهي لغو، إلا أن تكون وصية عليه.

وأما الولد الرشيد فلا يصح حوز الاب له ولا الأم، فحكمه حكم الأجنبي، كما أشار إليه بقوله: وأما ذو الرشد البيت.

ص: 710

قوله: وهكذا إذا ما وقفا البيت، معناه أن التفاصيل المذكورة في حوز الهبة جارية في حوز الوقف.

1571 -

والاعتصار من سوى ذي يُتْم

من البنين جائز للام

1572 -

وكرهوا تملك المصَّدَّق

به بغير الارث للمصَّدِّق

1573 -

لكنه لا بأس في شراب

رِسْل ومنعٌ ظاهر الكتاب

قوله: والاعتصار من سوى ذي يتم البيت، معناه أن الأم كالأب في جواز اعتصار هبتها من ولدها، إلا أن يكون الولد صغيرا وهو يتيم حين الهبة، فلا اعتصار لها حينئذ، لأن الهبة له في تلك الحال في معنى الصدقة، وأما الولد الكبير فلها أن تعتصر منه ما وهبته له كان له أب أو لا، ولا اعتصار لغير الأبوين، من جد أو جدة، أو عم أو عمة، أو خال أو خالة.

قوله: وكرهوا تملك البيت معناه أن المتصدق ينهى عن تملك ما تصدق به بكل وجه كراهة على المشهور، وقيل حرمة، ولو تداولته الأملاك لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لعمر - رضي الله تعالى عنه -:" لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه "

(1)

إلا أن يعود إلى ملكه بالإرث، إذ ليس مختارا في ذلك فلا يكون عائدا، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم:" إن الله تبارك وتعالى رد عليك حديقتك وقبل صدقتك "

(2)

واختلف في تملكه ما وهبه هل ينهى عنه كالصدقة، وهو ظاهر الحديث، أو لا، إذ لا قربة فيه وهو المشهور في المذهب.

(1)

متفق عليه.

(2)

رواه البزار، وإسناده حسن.

ص: 711

قوله: لكنه لا بأس البيت، معناه أنه يجوز أن يشرب من لبن ما وهب برضى الموهوب له الرشيد، قال في المواهب: وفي الرسالة: لا بأس أن يشرب من لبن ما تصدق به، أبو الحسن: ظاهره خلاف المدونة، وفي المعونة إلا أن يشرب من ألبان الغنم يسيرا، أو يركب الفرس الذي جعله في السبيل، وما أشبه ذلك مما يقل خطره، وقيل معنى ما في الرسالة إذا كان بحيث لا ثمن له، وقيل محمل ما في الرسالة على ما ذكره ابن المواز، يعني قوله: للرجل أن يأكل من لحم غنم تصدق بها على ابنه، ويشرب من لبنها، ويكتسي من صوفها إذا رضيالولد، وكذلك الأم، محمد: وهذا في الولد الكبير، وأما الصغير فلا يفعل، قاله مالك - رحمه الله تعالى -.

والمراد بالكتاب في قوله: ومنع ظاهر الكتاب: المدونة، قال في التاج: من المدونة: من تصدق على أجنبي بصدقة لم يجز له أن يأكل من ثمرها، ولا يركبها إن كانت دابة، ولا ينتفع بشيء منها، ولا من ثمنها، وأما الأم والأب إذا احتاجا فلا بأس أن ينفق عليهما مما تصدقا به على الولد، قال محمد: ولا يستعير ما تصدق به أو أعطاه لرجل في السبيل، وإن تصدق بذلك عليه فلا يقبل، قال محمد: وإن لم يبتل الأصل وإنما تصدق بالغلة عمرى أو أجلا فله شراء ذلك قاله مالك وأصحابه إلا عبد الملك - رحمهم الله تعالى أجمعين -.

1574 -

وواهب يُظَنُّ قصدُه الثواب

بدون قيمة المتاع لا يثاب

1575 -

بل أثبنْه قيمةً إذا تَودْ

ومن أبى ذلك للهبة رد

1576 -

وبفوات بسوى حواله

سوقٍ بقيمةٍ فقط يُقضى له

1577 -

وكرهوا وهْبك كل مالكا

أو جلَّه للبعض من ولدكا

1578 -

بعكس إعطائك بعضا منه

فليس مما قد نُهي عنه

1579 -

وجوزوا تصدقا بالمال كل

على المساكين لوجه الله جل

ص: 712

قوله: وواهب يظن البيت، معناه أن من وهب هبة يظن أنه أراد أن يثاب عليها كان له فيها الثواب على الموهوب له إن فاتت، ولا يلزمه قبول ما ليس فيه وفاء بقيمتها، واختلف هل يلزمه قبول قيمتها أو لا يلزمه إلا ما زاد عليها، المشهور الأول، والثاني لمطرف، ولايتعين النقد في الثواب إذا أراده الواهب على المشهور، بل يثاب بكل متمول، إلا ما لا يثاب به عادة، كالحطب فلا يلزمه قبوله على المشهور، وأما الهبة التي اقتضت العادة عدم إرادة الثواب فيها فلا يصدق واهبها أنه أراد بها الثواب، كالهبة للفقيه، والشريف، والصالح، والزوجة، ونحوهم، وكهبة العين، حيث لم يشترط الثواب عليها، قال في الجواهر: وهي على ما اتفقا عليه من اقتضاء الثواب أو عدمه، فإن اختلفا في مقتضاها نظر إلى شواهد الحال، فإن كانت بين غني وفقير فالقول قول الفقير مع يمينه لشهادة العرف له، وكذلك الحكم حيث شهد لأحدهما، فإن استوت نسبتهما إليه فالقول قول الواهب مع يمينه.

ولا يلزم الموهوب له أن يثيب إذا كانت الهبة قائمة لا تغير فيها، بل إن شاء أثاب عليها، وإن شاء ردها، وذلك هو قوله: بل أثبنه قيمة البيت، وإنما يلزمه الثواب إذا تغيرت بزيادة أو نقص، ولا عبرة بحوالة السوق، وإلى هذا أشار بقوله: وبفوات بسوى حواله البيت، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: الأمر المجتمع عليه عندنا أن الهبة إذا تغيرت عند الموهوب له للثواب بزيادة أو نقصان، فإن على الموهوب له أن يعطي صاحبها قيمتها يوم قبضها، وروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يُرض منها.

ص: 713

وهبة الثواب تقع على ثلاثة أوجه، الأول أن يهب على رجاء الثواب من غير شرط ولا تسمية، والثاني أن يهب على ثواب يعينه، نحو أهبك شاتي هذه على أن تهبني ثوبك، والثالث أن يهب على اشتراط الثواب من غير تسمية، كأن يقول أهبك هذا الثوب على أن تثيبني، وقد اختلف في النوع الأخير، فأجازه ابن القاسم - رحمه الله تعالى - كنكاح التفويض، ومنعه ابن الماجشون للجهل بالثمن، فهو في معنى بيع السلعة بقيمتها، وبه أخذ سحنون، وأما الثاني فهو بيع صريح فيجري على تفاصيل البيع.

قوله: وكرهوا وهبك البيت، معناه أنه يكره وقيل يمنع أن يهب ماله كله أو أكثره لبعضولده، لأمره صلى الله تعالى عليه وسلم بالعدل بين الأولاد،

(1)

ولأن ذلك يسبب العقوق والتحاسد، والمشهور مضيه كالهبة لأجنبي، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: قال أصبغ: إذا حيز عنه جاز، اجتمع أمر القضاة والفقهاء على ذلك.

واحتج لهبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " أشهد على هذا غيري " والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما هبته بعض ماله لبعض ولده فجائزة لعمل الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - كما تقدم عن أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - أنه وهب لعائشة - رضي الله تعالى عنها - جاد عشرين وسقا، وإلى هذا أشار بقوله: بعكس إعطائك بعضا منه البيت وقد استبعد القرطبي اختصاص النهي في حديث النعمان السابق بهبة البعض، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

حديث " اتقوا الله واعدلوا في أولادكم "متفق عليه.

ص: 714

قوله: وجوزوا تصدقا البيت، معناه أنه يجوز للمرء أن يتصدق بعامة ماله على الفقراء لوجه الله سبحانه وتعالى، وذلك للعمومات المرغبة في الإنفاق، ولفعل أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: يريد بخمسة شروط، أن يكون رجاؤه في الله سبحانه وتعالى مانعا من ندمه، وقوة يقينه مانع من تشويشه، وأن يرجع إلى سبب لا شبهة فيه ولا ارتكاب محظور، ولا يخشى الحاجة والتكفف لغني يصرفه، أو سبب يكتسب به، كحال أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - حين خرج عن ماله كله لله سبحانه وتعالى ورسوله، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: ولما ذكر ابن بشير - رحمه الله تعالى - الخلاف في إمضاء فعله بعد الوقوع والنزول ولم يعزه، قال: وفي الشريعة ما يدل على الوجهين قبل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - الصدقة من أبي بكر بجميع ماله، ورده على كعب بن مالك وغيره، وقد قال أبو حامد الإسفرائيني: إن من يرجع إلى اليقين كما رجع إليه أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - بحيث لا يسخط فتجوز صدقته بجميع ماله، ومن يكون على خلافه في ذلك فلا، ويرد إليه، فيجعل ذلك خلافا في حال.

1580 -

ومن يكن حبس رَبْعا مثلا

فهْو على الذي عليه جعلا

1581 -

وحيث ينقرض من قد حُبسا

عليهمُ رجع أيضا حبسا

1582 -

لأقرب الناس من المحبِّس

يومَ الرجوع لا زمانَ الحبس

الحبس - بضمتين وبضمة وسكون -: الوقف، مشتق من الحبس - بفتح فسكون ـ لأن الشيء المحبس ممنوع البيع، وعرفه ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: مصدرا: إعطاء منفعة شيء مدة وجوده، لازما بقاؤه في ملك معطيها، ولو تقديرا، فيخرج عطية الذوات، والعارية، والعمرى، والعبد المخدم حياته بموت قبل موت ربه لعدم لزوم بقائه في ملك معطيه، لجواز بيعه برضاه مع معطاه.

قال الرصاع: فإن قلت إذا اكترى أرضا عشر سنين ليصيرها حبسا في تلك المدة فكيف يصدق عليها حد الشيخ؟

ص: 715

قلت هذه الصورة ذكروها في الحبس، وقالوا لا يشترط أن يكون المحبس مالك الرقبة، بل هو أعم كالمنفعة، وإلى ذلك أشار خليل - رحمه الله تعالى - بقوله: وإن بأجرة، فيحتاج هنا إلى تأمل في دخولها رحمه الله تعالى ونفع به والله سبحانه وتعالى أعلم بقصده رضي الله تعالى عنه.

قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: وهو مندوب إليه، لأنه من الصدقة، ويتعذر عروض وجوبه، بخلاف الصدقة.

وقد يتصور وجوبه في تحبيس الإمام الذي وقع في سماع محمد بن خالد من ابن القاسم

وذهب أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - إلى منعه مستدلا بآية البحيرة والسائبة وما معهما، وآيات أخرى في نحو ذلك المعنى، وقد قيل لمالك - رحمه الله تعالى - إن فلانا كان لا يرى الحبس، ويقول: لا حبس عن فرائض الله سبحانه وتعالى، فقال: تكلم ببلاده ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - وأصحابه، والتابعين بعدهم، هلم جرا إلى اليوم، وما حبسوا من أموالهم لا يطعن فيه طاعن، وهذه صدقات النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - سبعة حوائط نقله في المقدمات.

قوله: ومن يكن حبس البيت، الربع قال في الصحاح: الدار بعينها حيث كانت، وجمعها رباع، وأربع، وربوع، وأرباع، والربع: المحلة، يقال ما أوسع ربع بني فلان.

ص: 716

والمعنى أن من حبس ربعا مثلا أو غيره على شيء مما يجوز أن يحبس عليه، كان حبسا على ما حبسه عليه خاصة، لا يصرف في غيره، كالصدقة المبتلة، وإن تعذر الصرف في الوجه الموقوف عليه من المرافق العامة، كما لو وقف على مسجد بعينه، أو قنطرة بعينها، فارتحل الناس عن ذلك البلد مثلا، أو عرض ما يمنع من بقائه، صرف في مثله من مسجد آخر، أو قنطرة أخرى، إذا لم يرج عود الموقوف عليه، وإلا وقف له، ويجوز أن يستعان ببعض المرافق العامة في بعض، إذا احتيج إلى ذلك، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: ابن سهل: قال ابن الماجشون في مقبرة ضاقت عن الدفن بجانبها مسجد ضاق بأهله: لا بأس أن يوسع المسجد ببعضها، لأن المقبرة والمسجد حبس للمسلمين.

وإذا لم يعين الواقف مصرفا سئل عنه، فإن تعذر سؤاله صرف في غالب ما يوقف عليه في بلاده، فإن لم يغلب شيء كان حبسا على الفقراء.

قوله: وحيث ينقرض إلخ، معناه أن الجهة المحبس عليها إذا انقطعت رجع الحبس حبسا لأقرب فقراء عصبة المحبس، قال في المدونة: إن قال حبس عليك وعلى عقبك، قال مع ذلك: صدقة، أو لا، فإنما ترجع بعد انقراضهم لأولى الناس بالمحبس يوم المرجع من ولد أي عصبة ذكورهم وإناثهم سواء يدخلون في ذلك حبسا، فلو لم تكن إلا ابنة واحدة كانت لها

حبسا، لا ترجع إلى المحبس وإن كان حيا، هي لذوي الحاجة من أهل المرجع دون الأغنياء، فإن كانوا كلهم أغنياء فهي لأقرب الناس بهم انتهى.

وقيل يرجع إلى عصبته وإن كانوا أغنياء، قيل وهو ظاهر قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" أرى أن تجعلها في الأقربين "

(1)

.

قلت: هو ظاهر لفظ الأقربين، والأول هو ظاهر معناه، لأن شأن الصدقة أن يقصد بها الفقراء، وذلك هو وجه اختصاص الفقراء من العصبة عن أغنيائهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

متفق عليه.

ص: 717

قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: ولو لم يكن قريب بوجه، فهو لمطلق الفقراء، لقول اللخمي - رحمه الله تعالى -: المرجع لا شرط فيه هو فيه كحبس لم يبين مصرفه، لأن المحبس مات ظانا أن العقب لا ينقرض، فصرف في الأقربين لحديث أبي طلحة - رضي الله تعالى عنه - ولذا قال مالك - رحمه الله تعالى -: الذكر كالأنثى، ولو اشترط فيه أن له ضعف حظ الأنثى.

وهذا كله في الحبس المؤبد خاصة على المشهور، كعلى فلان وعقبه، وإنما لم يرجع إلى المحبس لأن ذلك رجوع في الصدقة، وأما الحبس الذي ليس بمؤبد كعلى زيد، فيرجع للمحبس بعد موت زيد إن كان حيا، ولمن يرثه إن كان ميتا كالعمرى، والعبرة في ذلك بيوم موت المحبس، لا المحبس عليه، وقيل هو كالمؤبد المنقطع، والمشهور الأول.

1583 -

وحيث أعمرتَ فتى وهلكا

رجع ما أعمرتَه لملككا

1584 -

كذا إذا أعمرته وعقبَه

فانقرضوا لك تعود الرقبه

1585 -

أو وارثيك حيث قبل ذا تموت

يوم تموت أنت لا يوم يموت

1586 -

وحيث مات بعض من عليهمُ

وُقف فاقسم قسطه بينهمُ

1587 -

وآثرنْ بسكن والغله

إن لم يُعيَّنْ أهله ذا الخله

1588 -

ولا تخرجْ ساكنا لغيره

قالوا ولو بعد زوال فقره

1589 -

إلا لشرط واقف إذ وقفا

إجراءَه على سوى ما سلفا

ص: 718

العمرى كدنيا، مأخوذة من العمر - بضمتين أو بفتح وسكون - لتأجيلها بعمر المتبرع، أو المتبرع عليه، واصطلاحا عرفها ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: تمليك منفعةحياة المعطَى بغير عوض إنشاء، إلى أن قال: وحكمها الندب لذاتها، ويتعذر عروض وجوبها، لا كراهتها، أو تحريمها، قال الرصاع: أخرج بالمنفعة إعطاء الذات، وأخرج بحياة المعطى الحبس والعارية، والمعطى بفتح الطاء، وظاهره أن تمليك المنفعة مدة حياة المعطي بكسرها ليس بعمرى، وانظر تقسيم العمرى في كلام اللخمي وغيره، قوله: بغير عوض، أخرج به ما إذا كان بعوض، لأن ذلك إجارة فاسدة، وقوله: إنشاء أخرج به الحكم باستحقاق العمرى، ثم قال: فإن قلت: العمرى المعقبة هل تدخل في هذا أم لا، قلت: اختلف فيها هل حكمها حكم الحبس أم لا، بناء على أنها ترجع ملكا، أو ترجع مراجع الأحباس.

قوله: وحيث أعمرت الأبيات الثلاثة، معناه أنه إذا أعمر رجلا مثلا دارا ومات، رجعت له ملكا إن كان حيا، ولورثته يوم مات إن كان قد مات، أو ورثتهم إن ماتوا، وإن أعمره وعقبه رجعت له كذلك إذا انقرضوا، قال اللخمي - رحمه الله تعالى -: والعمرى ثلاثة مقيدة بأجل أو حياة المعمر، ومطلقة، ومعقبة، فإن كانت مقيدة بأجل، فقال: أعمرتك هذه الدار سنة، أو عشرا، أو حياتي، أو حياتك، كانت على ما أعطى، وإن أطلق ولم يقيد كان محمله على عمر المعطى، حتى يقول عمري، أو حياتي، وإن عقبها فقال: أعمرتكها أنت وعقبك لم ترجع إليه إلا أن ينقرض العقب انتهى.

قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: ابن فتوح والمتيطي: للمعمر جعل مرجعها بعد مدتها بتلا لمن شاء، ولو لوارث، ما لم يشترط المعمر رجوعها له إن كان حيا، لأنها وصية لوارث.

ص: 719

وقال: أبو عمر الإفقار والإخبال ونحوه من ألفاظ العطايا، كلفظ العمرى، قال ابن عرفة: في الصَّحاح: أفقرت فلانا ناقتي، أي: أعرته فقارها ليركبها، وأخبلته المال إذا أعرته ناقة لينتفع بلبنها ووبرها، أو فرسا ليغزو عليه، قال: وفي عاريتها: لم يعرف مالك - رحمه الله تعالى - الرقبى، ففسرت له فلم يجزها، وهي تحبيس رجلين دارا بينهما على أن من مات منهما أوَّلا فحظه حبس على الآخر.

قوله: وحيث مات البيت، معناه أنه إذا مات بعض المحبس عليهم رجع نصيبه لهم، قال مالك - رحمه الله تعالى - في المدونة: من حبس حائطا على قوم معينين، فكانوا يلونه ويسقونه، فمات أحدهم قبل طيب الثمرة، فجميعها لبقية أصحابهم، وإن لم يلوا عملها وإنما تقسم عليهم الغلة، فنصيب الميت لرب النخل، ثم رجع مالك - رحمه الله تعالى - إلى رد ذلك لمن بقي، وبهذا أخذ ابن القاسم نقله في التاج.

وقال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: ففي نقل حظ معين من طبقة بموته لمن بقي فيها، أو لمن بعدها قولان، بالأول أفتى ابن الحاج، وبالثاني أفتى ابن رشد، وألف كل منهما على صاحبه.

قوله: وآثرن البيت، معناه أنه إذا كان الوقف على من لا يحاط بهم، أو على قوم وأعقابهم، فإن الناظر يؤثر أهل الحاجة والعيال في الغلة والسكنى باجتهاده، فإن استووا أوثر الأقرب فالأقرب، بخلاف الحبس على معينين، فالغني منهم والفقير فيه سواء، والخلة: الحاجة.

ص: 720

قوله: ولا تخرج ساكنا البيت، معناه أن الحبس المذكور - أعني المحبس على من لا يحاطبهم كالفقراء، أو على قوم وأعقابهم ليسكنوا فيه - إذا كان لا يسعهم اجتهد الناظر كذلك، فإن سكن بعضهم لم يخرج لغيره، ولو زال فقره في مسألة الوقف على قوم وأعقابهم، وله إذا سافر لبعض حوائجه أن يكريه، فإن سافر سفر انقطاع أو مات أعطي لغيره، وأما مسألة الوقف على الفقراء فيخرج من سكن إذا استغنى لخروجه عن الاستحقاق جملة، وأما الموقوفة على معينين فهم فيها سواء، حاضرهم وغائبهم، وغنيهم وفقيرهم، فإن لم تسعهم أكريت وقسم كراؤها بينهم.

وهذا كله ما لم يشترط الواقف إجراءه على غير ما ذكر، كأن يشترط أن يسكن الواحد مدة معلومة ثم يخرج لغيره، أو إيثار أهل العبادة، أو الصلاح، أو العلم، أو نحو ذلك، فيجرى على ما شرط، وإليه الإشارة بقوله إلا لشرط واقف البيت.

1590 -

ولا يباع حبس وإن خرب

نعم يباع فرس إذا كلب

1591 -

ويُشترى آخرُ منه بالثمن

إلا بمثل ذا به فليُستعن

1592 -

وفي مناقلة ربع خرب

بعامر خلاف أهل المذهب

ص: 721

قوله: ولا يباع حبس البيتين، معناه أن الحبس لا يجوز بيعه إلا أن يكون غير عقار وذهبت منفعته التي وقف لها كالفرس يكلب، أو يهرم بحيث لا ينتفع به، أو الثوب يخلق بحيث لا ينتفع به في الوجه الذي وقف له، فيباع ويصرف ثمنه في مثله، ويجعل مكانه، فإن لم يصل إلى كامل من جنسه جعل في شقص من مثله، ويباع ما فضل من ذكور الحيوان عن النزو، وما كبر من الإناث، ويجعل في إناث، وذلك لتعين المصلحة في ما ذكر، وتمحض الفساد والضيعة في عدمه، مع القطع بأن ذلك قصد المحبس، وأما العقار فلا يجوز بيعه وإن خرب، أو خرب ما حوله، لبقاء أحباس السلف داثرة، وذلك لرجاء وجود من يصلحه بكرائه، ورجاء عود العمارة، وطرو الرغبة في ذلك الموضع، وخوف التذرع إلى بيع الأحباس، واختلف في المناقلة به لربع عامر، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: إن كانت هذه القطعةمن الأرض المحبسة انقطعت منفعتها جملة، وعجز عن عمارتها وكرائها فلا بأس بالمعاوضة فيها بمكان يكون حبسا مكانها، ويكون ذلك بحكم من القاضي بعد ثبوت ذلك السبب، والغبطة في ذلك المعوض عنه، ويسجل ذلك ويشهد به، نقله في التاج.

وإلى هذا أشار بقوله: وفي مناقلة البيت.

واستثنوا من بيع الحبس الدار تكون بجوار المسجد الجامع فيضيق عن الناس، فإنها تباع لتوسيعه، وقد أدخلت في مسجده صلى الله تعالى عليه وسلم دور كانت محبسة، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: وسمع ابن القاسم: إن باع قوم دارا كانت لهم حبسا وأدخلوها في المسجد اشتروا بثمنها دارا أخرى يجعلونها في صدقة أبيهم، ولا يقضى عليهم بذلك، ثم قال: ولمالك وابن القاسم - رحمهم الله تعالى جميعا - إن استحق حبس فعل بثمنه ربه ما شاء.

1593 -

والرهن جائز وللحوز افتقر

فإن أتى المانع قبلُ فهدر

1594 -

والحوز لا تنفع فيه بينه

حيث له لم تك بالمعاينه

1595 -

والرهن لا يضمنه المرتهن

إن كان الاخفاءُ له لا يمكن

ص: 722

1596 -

أو لم يكن بحوزه أو شهدا

له عدول مثلا على الردى

1597 -

وحيث ما جميع ذا لم يكن

كان ضمانه من المرتهن

الرهن في اللغة: الحبس، ومنه قوله سبحانه وتعالى:(كل نفس بما كسبت رهينة) الآية الكريمة، وهو في الاصطلاح عرفه خليل - رحمه الله تعالى - مصدرا بقوله: الرهن بذلمن له البيع ما يباع، أو غررا، ولو اشترط في العقد وثيقة بحق.

وهو جائز لقوله سبحانه وتعالى: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) ولما في الصحيح من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رهن درعه ليهودي في شعير،

(1)

ولإجماع الأمة على جوازه في الجملة، وهو لازم بالعقد لقوله سبحانه وتعالى:(أوفوا بالعقود) ولا يتم إلا بالقبض لقوله سبحانه وتعالى: (فرهان مقبوضة) فوصفها بالقبض يقتضي توقف حصول المقصود عليه، فإذا لم يحز حتى فلس الراهن أو مات بطل، وكان المرتهن أسوة الغرماء، ولا تكفي البينة على تصادقهما على الحوز، بل لا بد من شهادتها على معاينة الحوز، قال في المقدمات: لأن في تقارر المتراهنين بالحيازة إسقاط حق غيرهما، إذ قد يفلس الراهن، فلا يقبل منه إقراره بعد الفلس بالحيازة.

ونقل في التاج أيضا التعليل بأنه يتهم على أن يقول دعني أنتفع برهني وأشهد لك أنك قبضته فتكون أحق به من الغرماء، ثم قال: ولأن المقر على نفسه إنما يقبل في ما لا يسقط حق غيره.

قال في المقدمات: ولو لم يتعلق بذلك للغرماء حق لوجب أن يصدق الراهن ويقبل إقراره أنه قد حاز الرهن، فيكون بإقراره له شاهدا على حقه إلى مبلغ قيمته.

وقال ابن عات - رحمه الله تعالى -: العمل أنه إذا وجد بيده وقد حازه قبل الموت أو الفلس، كان رهنا وإن لم تحضر الحيازة، لأنه قد صار مقبوضا، وكذلك الصدقة نقله في التاج.

وإلى ما سبق أشار بقوله: والرهن جائز البيتين.

(1)

رواه البخاري والنسائي والإمام أحمد.

ص: 723

قوله: والرهن لا يضمنه المرتهن إلخ، معناه أن المرتهن لا ضمان عليه، إذا كان الرهن مما لا يغاب عليه، أو لم يكن بحوزه، بأن أودعاه عند أمين، أو شهدت بينة بتلفه بلا تفريط، قالمالك - رحمه الله تعالى -: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا في الرهن أن ما كان من أمر يعرف هلاكه من أرض أو دار أو حيوان فهلك في يد المرتهن وعلم هلاكه فهو من الراهن، وأن ذلك لا ينقص من حق المرتهن شيئا، وما كان من رهن يهلك في يد المرتهن فلا يعلم هلاكه إلا بقوله فهو من المرتهن، وهو لقيمته ضامن، يقال له: صفه، فإذا وصفه أحلف على صفته وتسمية ماله فيه، ثم يقومه أهل البصر بذلك، فإن كان فيه فضل عما سمى فيه المرتهن أخذه الراهن، وإن كان أقل مما سمى أحلف الراهن على ما سمى المرتهن وبطل عنه الفضل الذي سمى المرتهن فوق قيمة الرهن، وإن أبى الراهن أن يحلف أعطي المرتهن ما فضل بعد قيمة الرهن، فإن قال المرتهن: لا علم لي بقيمة الرهن حُلِّف الراهن على صفة الرهن وكان ذلك له، إذا جاء بالأمر الذي لا يستنكر، قال: وذلك إذا قبض المرتهن الرهن ولم يضعه على يدي غيره.

ص: 724

قال في المقدمات: والحجة لمالك - رحمه الله تعالى - في تفرقته بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه، هي أن الرهن لم يجر مجرى الأمانة المحضة، ولا مجرى المضمون المحض، لأنه أخذ شبها من الأمرين، فلم يكن له حكم أحدهما على التحديد، وذلك لأن الأمانة المحضة هي التي لا نفع فيها لقابضها، بل النفع فيها للمالك كالوديعة، أو جل النفع كالقراض، والمضمون المحض هو ما كان النفع كله لقابضه كالقرض، أو تعدى جناية كالغصب، وفي مسألتنا لما لم يكن تعد ولا جناية فيضمن، ولا ينفرد المالك بالمنفعة فيسقط الضمان عن المرتهن، وكانت المنفعة لهما، أما للمالك فبأن حصل له ما ابتاعه أو سلفه وبقي الدين في ذمته لأجل الرهن، ولولاه لم يملكه، والمرتهن بحصول التوثق له فلم يقبضه لمالكه لم يجز أن ينفرد بحكم أحدهما على التحديد، لأخذه شبها منهما جميعا، وإذا وجب بهذه الجملة ألا يحكم فيه بحكم أحدهما، ووجب الفصل بينهما، حصل من ذلك ما قلناه، لأن أحدا لم يفصل بينهما إلا بما ذكرناه، فهذه نكتة المسألة وفقهها.

1598 -

والرهن للرباع ليس يشمل

غلتَها بما عليه عولوا

1599 -

كثمرة النخل ومال العبد

ما لم يقع بالكل شرط الضد

1600 -

بعكس رهن أمة فيقع

على الذي من بعد رهن تضع

قوله: والرهن للرباع البيتين، معناه أنه إذا رهنه ربعا مكترى كدار أو حانوت لم يكن كراؤه رهنا معه، بل يأخذه الراهن، وكذلك إذا رهنه نخلا لم يتناول ذلك ثمرتها، سواء كانت مؤبرة وقت الرهن أو لا، مزهية أو لا، وإذا رهنه عبدا لم يتناول رهنه له غلته، إلا أن يشترط المرتهن دخول هذه الأشياء في الرهن، فتكون رهنا، وقيل إنها داخلة في الرهن وإن لم يشترط المرتهن ذلك.

ص: 725

قوله: بعكس رهن أمة البيت، معناه أن رهن الأمة يتناول جنينها الذي في بطنها وقت الرهن، أو حملت به بعد الارتهان، وكذلك القول في الحيوان، لأن الولد جزء، وكذلك الشجر أيضا، فرهن النخل رهن لفسلانه، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: وفُرق بين الثمر وولد الجارية أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: " من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع " قال: والأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن من باع وليدة أو شيئا من الحيوان وفي بطنها جنين أن ذلك الجنين للمشتري، اشترطه المشتري أو لم يشترطه، فليست النخل مثل الحيوان، وليس الثمر مثل الجنين في بطن أمه.

قال: ومما يبين ذلك أيضا أن من أمر الناس أن يرهن الرجل ثمر النخل ولا يرهن النخل، وليس يرهن أحد من الناس جنينا في بطن أمه من الرقيق ولا من الدواب.

1601 -

وأجر في الضمان للعوار

ما بضمانك الرهان جار

1602 -

والمستعير ضامن إن يتعد

أو يتبين أن ما ادعى فند

العواري ـ بالتخفيف والتشديد ـ: جمع عارية، والعارية مشددة وقد تخفف، وهي مصدرا: تمليك منفعة عين بغير عوض مؤقتا، وهي مندوبة، لأنها إحسان وإرفاق، واستحباب ذلك في الجملة معلوم ضرورة، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: ويعرض وجوبها كغني لمن يخشى بعدمها هلاكا، وحرمتها ككونها معينة على معصية، وكراهتها ككونها معينة على مكروه، وتباح لغني عنها، وانظر ذلك، فإن استغناءه عنها لا يخرجها عن كونها إحسانا.

قوله: وأجر في الضمان البيت، معناه أن العارية في الضمان كالرهن، قال ابن يونس - رحمه الله تعالى -: كل ما في الرهون وتضمين الصناع يجري مثله في العارية.

ص: 726

فيفرق فيها بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه، فيسقط الضمان في الثاني حيث لم يتعد، عملا بقياس العكس في إيجاب الضمان بالاستيلاء على الشيء تعديا، فإن تعدى المستعير بأن خرج عن المشروط أو المقصود أو المعهود ضمن، وكذلك إن ظهر كذبه، وإلى هذا أشار بالبيت الثاني.

ويتوجه إليه الضمان في الأول، لإمكان إخفائه، إلا أن تقوم بينة على تلفه، أو يعلم أنه بغير سببه كالسوس في الثوب، وقرض الفأر، ويحلف أنه لم يفرط، وذهب أشهب وابن عبد الحكم إلى ضمانه ما يغاب عليه، وإن شهدت البينة بتلفه، وتمسكا في ذلك بظاهر حديث صفوان بن أمية في عارية السلاح " بل عارية مضمونة "

(1)

.

1603 -

وصدقنَّ مودَعا إن يَدَّع

ردَّ الوديعة إلى المستودع

1604 -

ما لم يكن قبض بالإشهاد

فلا يصدق في الاسترداد

1605 -

وصدقنْه مطلقا في التلف

وكلفنْ متهما بالحلف

1606 -

وضمننَّه إذا تعدى

واختلفوا إن بعد ذاك ردا

1607 -

إن تك مثليا وحيث في السلف

أُذِن لم يبرأ بغير مختلف

الوديعة عرفها ابن شاس - رحمه الله تعالى - مصدرا بقوله: استنابة على حفظ المال، قال: وهي عقد أمانة، وهو جائز من الجهتين، قال: ولا يشترط في المودع والمودع إلا ما يشترط في الوكيل والموكل، ومن أودع عند صبي شيئا بإذن أهله أو بغير إذنهم فأتلف الصبي أو ضيعه لم يضمن لأنه مسلط عليه، كما لو أقرضه أو باعه، وكذلك السفيه.

(1)

رواه أبو داود والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 727

وقال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: المودع يعني بكسر الدال: من له التصرف في الوديعة بملك، أو تفويض، أو ولاية، كالقاضي في مال اليتيم، والغائب والمجنون والمودع - يعني بفتح الدال - من يظن حفظه، والأظهر أن شرطها باعتبار جواز فعلها وقبولها حاجة الفاعل وظن صونها من القابل، فتجوز من الصبي الخائف عليها إن بقيت بيده، وكذا العبد المحجور عليه، ويجوز أن يودعا ما خيف تلفه بيد مودعه إن ظن صونه بيد أحدهما لاحترامهما وثقتهما، كأولاد المحترمين وعبيدهم عند نزول بعض الظلمة ببعض البلاد ولقاء الأعراب القوافل، والأصل في هذه النصوص الرأفة على حفظ المال والنهي عن إضاعته، قال اللخمي - رحمه الله تعالى - في البخاري ومسلم قال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" نهى عن إضاعة المال " نقله في المواهب.

قوله: وصدقن مودعا الأبيات الثلاثة، معناه أن المودع إذا قال: رددت إليه وديعته صدق بيمين، حيث لم يكن قبضها ببينة مقصودة للتوثق، وإلا فلا يصدق إلا ببينة، ومثله عامل القراض والمستأجر، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: وهذا في من دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه، وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعت إليه فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد، قال الله عز وجل:(فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) فإن لم يشهد فلا يصدق في الدفع إذا أنكر القابض، لا أحفظ في هذا الوجه نص خلاف إلا على قول ابن الماجشون في من بعث ببضاعة مع رجل إلى رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها إليه وهو مصدق، وإن أنكر القابض كانت دينا أو صلة.

وأما إذا ادعى المودع التلف فإنه يصدق مطلقا، كان الإيداع ببينة أو لا، ويحلف إذا كان متهما، والفرق بين الموضعين عدم تيقن كذب مدعي التلف، بخلاف مدعي الرد فهو كاذب قطعا على دعوى المودع قاله سيدي زروق - رحمه الله تعالى -.

ص: 728

قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: الأمانة التي بين المخلوقين أمرهم الله سبحانه وتعالى فيها بالتقوى والأداء، ولم يأمرهم بالإشهاد كما فعل في ولي اليتيم، فدل ذلك على أنهم مؤتمنون في الرد إلى من ائتمنهم دون إشهاد، فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن أكذبه المودع.

إلى أن قال: إلا أن يكون دفعها إليه بإشهاد، فيتبين أنه إنما ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في الضياع الذي ائتمنه عليه، ولا يصدق في الرد الذي استوثق منه فيه ولم يأتمنه عليه، هذا قول مالك - رحمه الله تعالى - وجميع أصحابه ابن القاسم وغيره، حاشا رواية أصبغ عن ابن القاسم في دعوى المستأجر رد ما استأجره من العروض أنه يصدق قبض ذلك منه ببينة أو بغير بينة.

قوله: وضمننه إذا تعدى، معناه أنه إذا تعدى على الوديعة بالانتفاع بها أو تفويتها فهو ضامن لها، وكذلك إذا قصر في أمرها بأن أودعها عند غيره لغير عذر، أو نقلها من بلد إلى بلد، أو خلطها بما لا تتميز عنه، أو خالف في كيفية حفظها، ولا يضمن إذا فعل ما هو العرف فيها، لأن ربها داخل على ذلك، قال في التبصرة: ومن أودع وديعة فقد جعل النظر فيها إليه، فإن أخرجها عن نظره إلى نظر غيره ضمن، إلا أن تكون هناك عادة أو عذر خوف عورة بيته أو سفر، فأما الزوجة فلا بأس أن يدفعها لترفعها، أو لتكون وديعة عندها، وهذا الشأن أن لا يصون الرجل ماله عن زوجته، إلا أن يعلم منها خيانة، إلا أنه لا يرفع نظره وتفقده، وكذلك أم ولده إذا علم منها الأمانة، وقال ابن القاسم: إذا دفعها إلى خادمه لترفعها له لم يضمن، وقال أشهب: إن أودعها خادمه ضمن، وليس دفع ذلك إلى

خادمه أو أجيره الذي علم منه الأمانة والخير ليبلغاها البيت، أو تكون في البيت فيقول لهما اجعلاها في المخزن أو في التابوت مما يضمن به.

ص: 729

قوله: واختلفوا إن بعد ذاك ردا إلخ، معناه أنه اختلف إذا تعدى عليها فتسلفها ثم ردها هل يبرئه الرد من الضمان، وهو المشهور، ولا بد من يمينه أو لا، وهذا خاص بالمثلي، ومحل البراءة فيه ما لم يؤذن له في التسلف، قال أبو إسحاق بن شعبان: إذا أذن له صاحبه أن يتسلفها لم يبرأ إلا بردها إليه، ولا يختلف في هذا لأن السلف من المالك وصارت كسائر الديون، فلا تخرج من الذمة إلا بالأداء للمسلف، نقله في التبصرة.

وكذلك الحكم أيضا إذا كانت مقوما، لأنه تعد باتفاق، فترتبت في ذمته القيمة كما لو لم يكن الشيء مودعا له.

1608 -

وكرهوا تجرا بما أودعتا

والربح إن يقع به قد فزتا

1609 -

ومن يبع عرضا له قدُ اُودعا

فربه مخير أن يرجعا

1610 -

بثمن أو قيمة إن فاتا

إلا فإن يشا استرد الذاتا

قوله: وكرهوا البيت، معناه أن التجر بالوديعة مكروه، ما لم يعلم المستودع طيب نفس ربها بذلك وهو مليء، وإن اتجر بها وربح فالربح له، لأنه ضامن، قال في المواهب: قال أبو الحسن الصُّغَيِّر: وكذلك الوصي يتجر بمال الأيتام أن الربح له، بخلاف المبضع معه والمقارض، قال عبد الحق: الفرق بينهما أن المبضع معه والمقارض إنما دفع المال إليهما على طلب الفضل فيه، فليس لهما أن يجعلا ذلك لأنفسهما دون رب المال، والمودِع لم يدخل على طلب الفضل، وإنما أراد حفظها له، فله أصل المال دون الربح.

قوله: ومن يبع عرضا إلخ، معناه أنه إذا أودعه عرضا فباعه فذلك من قبيل بيع الفضول، فإن كان العرض قائما كان بالخيار بين إمضاء البيع وأخذ الثمن، ورده وأخذ شيئه، وإن فات كان بالخيار كذلك بين الإمضاء فيأخذ الثمن، أو تغريمه قيمته.

1611 -

وأوجبوا تعريف لقطة على

ملتقط كُلف حولا كاملا

1612 -

من غير ذكر جنسها ببلد

وجودها بنحو باب المسجد

1613 -

ثم بها اصَّدَّق بعد ذلك

إن شاء أو حبسها للمالك

1614 -

وضمننْه قيمة لربها

إذا أتى بعد التصدق بها

ص: 730

1615 -

وهكذا يضمن أيضا بالتعدْ

مثل ركوبه له حتى برد

1616 -

ولا ضمان إن بلا تعدِّ

تلف قبل الحول أو من بعد

1617 -

وأعطها لعارف الوكاء

مع العِفاص دون ما استيناء

1618 -

وأخْذ ما ضل من الآبال

إن كان في صحراء ذو انحظال

1619 -

وجاز أخْذُ شاتها والاكلُ

إذا إلى العمران شق الحمل

اللقطة: اسم للشيء الملتقط، والالتقاط وجود الشيء على غير طلب وقصد، وفيها أربع لغات: ضم اللام وفتح القاف، وضم اللام وسكون القاف، ولقاطة كنخالة، قال ابن العربي - رحمه الله تعالى -: والسكون أولى - يعني من الفتح - لأنه بناء للمفعول في باب

فُعْلة وفُعَلة، نقله في الشفاء.

وعرف ابن عرفة - رحمه الله تعالى - اللقطة بقوله: مال وجد بغير حوز محترما ليس حيوانا ناطقا ولا نعما.

والالتقاط ليس بواجب، قال في الجواهر: إلا أن يكون بين قوم غير مأمونين والإمام غير عدل، لكن إن وثق بأمانة نفسه فالأخذ مستحب له، وروي تخصيص الاستحباب بما له بال، فإن علم الخيانة من نفسه فالأخذ محرم عليه، وإن خافها كره له الأخذ، وروى ابن القاسم كراهية التقاطها إلا أن يكون لها قدر، وروى أشهب: أما الدنانير وشيء له بال فأحب إلي أن يأخذه، وليس كالدرهم وما لا بال له، ولا أحب أن يأخذ الدرهم، وحكى القاضي أبو بكر عن مالك الكراهة مطلقا، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق.

وقال في التبصرة: فأما أخذها فمستحب، وواجب، ومكروه، وممنوع، وذلك راجع إلى حال الملتقط، وإمام الوقت، والناس الذين هي فيهم، وقدر اللقطة.

ص: 731

قوله: وأوجبوا تعريف البيتين، معناه أن الملتقط يجب عليه تعريف اللقطة عقب الالتقاط سنة، ولا يجوز له التأخير، لأن ذلك داع ليأس ربها، وانقطاعه عن البحث، يعرفها بنفسه أو ثقة، حيث وجدها، وبالأماكن المطروقة كالسوق، ومواضع اجتماع الناس كالمسجد، ويعرفها ببابه، قال في التاج: روى ابن نافع عن مالك رحمهم الله سبحانه وتعالى جميعا -: ينبغي للذي يعرف اللقطة أن لا يريها أحدا، ولا يسميها بعينها، لكن يعمي بذلك، لياتي متخيل فيصفها بذلك بصفة العرف، فيأخذها وليست له، ويعرفها في اليومين والثلاثة، ولا يجب عليه أن يدع صنعته ويعرفها.

ويستثنى من طلب التعريف الذي لا يعود صاحبه إليه فهو لواجده من غير تعريف، قال

ابن رشد - رحمه الله تعالى -: أصله ما روي أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - مر بتمرة في الطريق، فقال:" لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها "

(1)

ولم يذكر فيها تعريفا، ولا خلاف في وجوب تعريف الكثير، لما في الصحيح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرِّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها "

(2)

واختلف في ما بين الكثير والتافه، قال في المقدمات: ما قل وله قدر ومنفعة ويشح به ربه ويطلبه يعرف اتفاقا، وفي تعريفه سنة، أو أياما قولان.

وقال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: سمع القرينان: واجد العصا والسوط أيعرف ذلك؟

قال: لا يأخذه، قيل: قد أخذه، قال: يعرفه، فإن لم يعرف فأرجو خفته.

ابن رشد - رحمه الله تعالى -: معناه انتفاعه به على وجه التملك له ما لم يجد ربه خفيف، وإن أبى الانتفاع عليه، وهذا في اليسير الذي لا قيمة له، وتعريفه غير واجب، فقوله: يعرفه، يريد على وجه الاستحباب.

(1)

متفق عليه.

(2)

متفق عليه.

ص: 732

وليس من اللقطة ما تركه صاحبه إعراضا عنه، قال في التبصرة: وإن كان متاع يشق نقله وتركه صاحبه على أن لا يعود إليه، وأخذه رجل ونقله، كان لمن أخذه، لأن صاحبه أباحه للناس لما مضى على أن لا يعود، وإن تركه ليعود كان لصاحبه، ولهذا أجر حمله، إلا أن يرجع صاحبه بدوابه يحمله فلا أجر له.

وإذا عرف الملتقط اللقطة سنة ولم يجد صاحبها كان بالخيار بين أن يمسكها لربها، أو يتصدق بها، او يتملكها، ضامنا في الوجهين الأخيرين، وإلى هذا أشار بقوله: ثم بها اصدق البيتين.

تنبيه

قال في المواهب: مسألة من كتاب اللقطة في سماع ابن القاسم وسئل مالك - رحمه الله تعالى - عن رجل دخل حانوت رجل بزاز ليشتري منه ثوبا، ثم خرج منه فاتبعه صاحب الحانوت فقال: يا أبا عبد الله هذا دينار وجدته في حانوتي، ولم يدخل علي اليوم أحدغيرك، فعمد الرجل فافتقد دينارا منها، أترى أن يأخذه؟

فقال مالك - رحمه الله تعالى -: لا أدري، هو أعلم بيقينه، إن استيقن أنه ديناره فليأخذه، قيل له التاجر: يقول لم يدخل علي غيرك، وقد افتقد الرجل من نفقته دينارا، قال: إن استيقن أنه له فليأخذه.

ص: 733

قال ابن رشد - رحمه الله تعالى - في قوله: إن استيقن فليأخذه، دليل على أنه لا يأخذه إلا إن استيقن أنه له بزيادة على ما ذكره، يحصل له بها اليقين أنه له، وهذا على سبيل التورع والنهاية فيه، أنه إذا لم يعترضه شك في أنه له فأخْذه له سائغ حلال، لأن الغالب على ظنه أنه له، إذ قد افتقد دينارا، ولو لم يعلم عدد نفقته لساغ له عندي أن يأخذه، لقول صاحب الحانوت إنه لم يدخل علي اليوم أحد غيرك، وإن كان التورع من أخذه أولى وأحسن، وكذلك لو قال له صاحب الحانوت: هذا الدينار وجدته في مكانك بعد خروجك، ولا أدري هل هو لك أو لغيرك ممن دخل الحانوت، فعد الرجل نفقته، فافتقد دينارا، وأما لو قال له: هذا الدينار وجدته في مكانك بعد خروجك، ولا أدري هل هو لك أو لغيرك ممن دخل الحانوت، والرجل لا يعلم عدد نفقته، لما ساغ له أن يأخذه بالشك، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

قوله: وهكذا يضمن أيضا بالتعد البيت، معناه أن الملتقط يضمن اللقطة بتعديه عليها بالانتفاع، كركوبه الحمار أو الفرس في حوائجه فيموت، ولبسه الثوب ونحو ذلك، وبرد معناه هلك.

قوله: ولا ضمان إن بلا تعد البيت، معناه أن اللقطة إذا تلفت بلا تعد منه عليها قبل مضي الحول فلا ضمان عليه، وكذلك إذا هلكت عنده بعد الحول إذا كان قد أبقاها لربها، فإن تملكها بعد الحول ضمنها، وهذا كله إذا أخذها ليحفظها لمالكها، فإن أخذها بنية اختزالها لنفسه ضمن على سائر الأحوال لأنه غاصب لا ملتقط.

ص: 734

قوله: وأعطها لعارف الوكاء البيت، معناه أنه إذا ادعى اللقطة مدع، ووصف عفاصها - وهو ما تشد فيه - ووكاءها - وهو ما تشد به - ردت له، لقوله صلى الله تعالى عليهوسلم:" احفظ عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبر بها وإلا فاستنفقها "

(1)

وفي معرفة العدد إن كانت دنانير أو دراهم خلاف، اعتبره ابن القاسم، ولم يعتبره أصبغ، وسبب الخلاف ذكره في حديث أبي، والإضراب عنه في حديث زيد بن خالد، قاله في الجواهر

(2)

.

وإن عرف العفاص دون الوكاء أو العكس استؤني بها، فإن لم يأت أحد أعطيت له وإلى هذا أشار بمفهوم قوله: دون ما استيناء.

وإذا خالف في وصف أحدهما لم تدفع إليه وإن ادعى الغلط، وإن ادعاها اثنان مثلا ووصفاها معا قسمت بينهما.

قوله: وأخذ ما ضل البيت، معناه أن ضالة الإبل إذا وجدها في صحراء لا يحل له أخذها لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وترعى الشجر حتى يلقاها ربها "

(3)

قال في التبصرة: كان الحكم في الزمان الأول الترك، لوجود النبوة والصحابة، ثم كذلك في خلافة عمر - رضي الله تعالى عنه - لعدل الخليفة وصلاح الناس، ثم لم تترك في زمان عثمان - رضي الله تعالى عنه - لعدل الخليفة وفساد الناس، ثم تغير الأمر ففسد السلطان والناس، فرأوا أن تؤخذ ولا ترفع إليه، وعلى هذا يجري أمرها اليوم، تعرف فإن لم يأت صاحبها بيعت، وإن خشي السلطان إن عرفت لم تؤخذ، وإن كان إنما يخشى عند عدم صاحبها إذا صارت ثمنا أرسلت حيث وجدت ولم تبع، وإن كانت بموضع فيه السباع أخذت وعرفت، لأنه لا مشقة في بلوغها، بخلاف الشاة، إلا أن يخاف عليها من سلطان الموضع متى عرفت فتترك، فقد يعود صاحبها بقرب قبل أن تهلكها السباع.

(1)

متفق عليه.

(2)

الحديثان متفق عليهما، وقد روي كل منهما بذكر العدد وعدمه.

(3)

متفق عليه.

ص: 735

قوله: وجاز أخذ شاتها البيت، معناه أن ضالة الغنم إذا وجدها في الفلوات والمهامه التي يخاف عليها فيها من الذئاب أو العطش ونحوه، وعسر عليه حملها للعمران، كان له أكلها، ولا ضمان عليه لظاهر قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" هي لك أو لأخيك أو للذئب "

(1)

فإن لم يعسر حملها إلى العمران حملها وجوبا إلى البلد، وعرفها به، وكذلك إذا وجدها بقرب العمران، وأما ضالة البقر فإن كانت بموضع يخاف عليها من السباع والذئاب، فهي كالغنم، وإن كانت لا تخاف عليها السباع والذئاب، فهي كالإبل، وذلك لأن الحديث أناط إباحة الأكل بظن التلف، حيث قال في الغنم " هي لك أو لأخيك أو للذئب " وأناط حرمته بظن عدمه حيث قال في الإبل:" ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وترعى الشجر، حتى يلقاها ربها " والله سبحانه وتعالى أعلم.

1620 -

ومن يكن أتلف مالا لزما

ضمانه قيمته إن قُوما

1621 -

إلا فمثله وقيل الكل

إتلافه يلزم فيه المثل

1622 -

وهكذا الغاصب في ما قد غصب

ضمانه القيمةَ والمثل وجب

1623 -

ما لم يرده بلا تغير

إلا فربه على التخير

1624 -

إن شاء أخْذ قيمة وإن شا

أخَذ عينَ شيئه والارشا

(1)

متفق عليه.

ص: 736

قوله: ومن يكن أتلف مالا البيتين، معناه أن من أتلف مالا لغيره عامدا أو مخطئا ضمن قيمته إن كان مقوما، ومثله إن كان مثليا معروف القدر، وإن لم يكن معروف القدر ضمن قيمته بالاجتهاد، كصبرة طعام، وقيل يضمن المثل مطلقا، حكاه الباجي عن مالك - رحمهما الله تعالى - وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي كما في ابن ناجي، ووجه الأول اختلاف الأغراض في المقومات مع العمل، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: الأمر عندنا في من استهلك شيئا من الحيوان بغير إذن صاحبه أن عليه قيمته يوم استهلكه، ليس عليه أن يؤخذ بمثله من الحيوان، ولا يكون له أن يعطي صاحبه في ما استهلك شيئا من الحيوان، ولكن عليه قيمته يوم استهلكه، القيمة أعدل ذلك في ما بينهما في الحيوان والعروض، وقال في من استهلك شيئا من الطعام: إنما يرد على صاحبه مثل طعامه بمكيلتهمن صنفه، وإنما الطعام بمنزلة الذهب والفضة، إنما يرد من الذهب الذهب، ومن الفضة الفضة، وليس الحيوان بمنزلة الذهب في ذلك، فرق بين ذلك السنة والعمل المعمول به.

ولعل وجه الضعيف الاعتبار بالقرض والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: وهكذا الغاصب إلخ، معناه أن الحكم كذلك في الغاصب إذا أفات ما اغتصبه، والمعول اعتبار القيمة يوم الغصب، وقال ابن وهب وأشهب وعبد الملك بن عبد العزيز يضمن بأرفع القيم ما بين زمني الغصب والتلف، واختاره الشيخ أبو إسحاق، وإن كان المغضوب قائما لا تغير فيه رده، وإن تغير في ذاته كان ربه بالخيار إن شاء أخذ قيمته وتركه، وإن شاء أخذه مع أرش النقص الحادث فيه، وقال أشهب وسحنون ربه بالخيار بين أخذه بغير أرش، وبين أخذ قيمته يوم الغصب.

1625 -

وفي التعدي الحكم هو ما ذُكِر

على اختلاف عنهمُ فيه أُثِرْ

ص: 737

التعدي عرفه ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: التصرف في شيء بغير إذن ربه دون قصد تملكه، وإذا أحدث المتعدي في السلعة نقصا فإن كان يسيرا أصلحه، ولربه ما نقص من قيمته بعد إصلاحه، وإن كان كثيرا خير بين تغريم قيمته أو أخذه مع أرش النقص، خلافا لأشهب حيث قال يخير بين تغريم قيمته وأخذه ناقصا بلا أرش، وفي معنى الكثير اليسير المفيت للمقصود كقطع ذنب دابة ذي هيئة.

1626 -

وليردد الغاصب كل ما استغل

مما به انتفع أو له أكل

1627 -

وإن يجامع أمة فالحدُّ

وما به تحمل منه عبد

1628 -

وربح ما اغتصب لا يطيب ما

لم يعط عنه ربه ما لزما

1629 -

بل بعض صاحب مالك قال الاحب

له التصدق بما منه كسب

قوله: وليردد الغاصب البيت، معناه أن الغاصب يلزمه رد غلة المغصوب، سواء أكلها أو انتفع بها، سواء كان المغصوب ربعا أو غيره، سواء سكن أو آجر، وهذه رواية أشهب وعلي بن زياد، قال في الجواهر: وذكر القاضي أبو الحسن عكسها، وهو أنها لا تضمن على الإطلاق، وروى ابن القاسم أن الغاصب يضمن غلة الرباع والإبل والبقر والغنم، ولا يضمن غلة العبيد والداوب، وقال أيضا يغرم ما استعمل، وقال ابن المعذل يغرم غلة ما لا يسرع إليه التغير، كالدور والأرضين والنخل، ولا يغرم غلة ما يسرع إليه التغير كالعبيد والحيوان، وقال القاضي أبو بكر الصحيح أن المنافع مال، وأنها مضمونة، سواء تلفت تحت اليد العادية أو أتلفها المتعدي.

قوله: وإن يجامع أمة البيت، معناه أنه إذا غصب أمة فوطئها فهو زان، فيحد ولا يلحق به الولد، وهو عبد لسيدها.

قوله: وربح ما اغتصب البيت، معناه أن الغاصب إذا اتجر بما غصب وربح فالربح لا يطيب له حتى يرد إلى المغصوب منه رأس المال، ومقتضاه أنه إذا رد الأصل طاب له الربح

قوله: بل بعض صحب مالك البيت، معناه أن بعض أصحاب مالك وهو أشهب - رحمهما الله تعالى - استحب له أن يتصدق بما ربح منه، وفي التبصرة استحسان الفرق بين أن يكون المغصوب منه ممن يتجر وأن يكون ممن لا يتجر، فيكون له الربح في الأول، وإن لم يتجر بها الغاصب على تفصيل في قدر ما يجب منه.

ص: 738