المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب في البيوع وما شاكل البيوع - عون المتين على نظم رسالة القرويين

[محمد بن محمد بن المصطفى اليعقوبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشرح

- ‌مقدمة النظم

- ‌باب ما يجب منه الوضوء والغسل

- ‌فصل في الحيض والنفاس

- ‌باب طهارة الماء والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

- ‌أماكن تمنع الصلاة فيها

- ‌باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

- ‌باب في الغسل

- ‌باب التيمم

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب في أوقات الصلاة وأسمائها

- ‌باب في الأذان والإقامة

- ‌باب في الإمامة وحكم الإمام والمأموم

- ‌باب جامع في الصلاة

- ‌باب في سجود القرآن

- ‌باب في صلاة السفر

- ‌باب في صلاة الجمعة

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌باب في صلاة العيدين والتكبير أيام منى

- ‌باب في صلاة الكسوف

- ‌باب في صلاة الاستسقاء

- ‌باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

- ‌باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

- ‌باب في الصيام

- ‌باب في الاعتكاف

- ‌باب في زكاة العين والحرث والماشية وما يخرج من المعدن

- ‌باب في زكاة الماشية

- ‌باب في زكاة الفطر

- ‌باب في الحج والعمرة

- ‌باب في الضحايا والذبائح والعقيقة والصيد والختان وما يحرم من الأطعمة والأشربة

- ‌باب في الجهاد

- ‌باب في الأيمان والنذور

- ‌باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع

- ‌باب في العدة والنفقة والاستبراء

- ‌باب في البيوع وما شاكل البيوع

- ‌باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

- ‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

- ‌باب في أحكام الدماء والحدود

- ‌باب في الأقضية والشهادات

- ‌باب في الفرائض

- ‌باب جمل من الفرائض والسنن الواجبة والرغائب

- ‌باب في الفطرة والختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

- ‌باب في الطعام والشراب

- ‌باب في السلام والاستئذان والتناجي والقراءة والدعاء وذكر الله عز وجل والقول في السفر

- ‌باب في التعالج وذكر الرقى والطيرة والنجوم والخصاء والوسم والكلاب والرفق بالمملوك

- ‌باب في الرؤيا والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيرها والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك

الفصل: ‌باب في البيوع وما شاكل البيوع

‌باب في البيوع وما شاكل البيوع

1281 -

ألبيع قد اُحِلَّ في الكتاب

نصا كذاك حُرِّم الترابي

1282 -

وكان قبل مبعث الميمون

عندهم الربا ربا الديون

1283 -

إن شا قضاه دينَه أو زاده

مؤخرا عنه بذي الزياده

البيع مصدر، يقال باع يبيع بيعا ومبيعا، والقياس: مباع، والشيء مبيع ومبيوع، والبياعة: السلعة أيضا، ويقال للبائع والمشتري البائعان والبيعان، وأبعت الشيء: عرضته للبيع، واستبعت فلانا كذا: سألته أن يبيعه مني، والابتياع: الاشتراء، وجُمع البيع مع أنه مصدر والمصادر لا تجمع، بتأويل الأنواع والتقاسيم، وهو من الأضداد، يقال: باع الشيء إذا شراه أو اشتراه، ومن الثاني حديث " لا يبع بعضكم على بيع بعض "

(1)

وعرفه ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: البيع الأعم: عقد معاوضة على غير منافع، ولا متعة لذة، فتخرج الإجارة والكراء والنكاح، وتدخل هبة الثواب، والصرف، والمراطلة، والسلم، والغالب عرفا أخص منه بزيادة: ذو مكايسة، أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة، معين غير العين فيه، فتخرج الأربعة.

(1)

متفق عليه، واللفظ لمسلم

ص: 606

وقال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: البيع ينقسم على أربعة أقسام، بيع مساومة، وبيع مزايدة، وبيع استرسال واستيهاب، وبيع مرابحة، فالأولان جائزان بلا خلاف، وكذلك يجوز بيع المرابحة بالإطلاق، ومال المازري - رحمه الله تعالى - إلى منعه إن افتقر إلى فكرة حسابية، وكذلك بيع الاسترسال في الأكثر، وسمع عيسى ابن القاسم: من قال لبائع: بعني كما تبيع من الناس فإنه لا يصلح، ويفسخ إن كان قائما، ويرد مثله إن كان مثليا، وإلا رد قيمته، وهل لا يكون الاسترسال إلا في المشتري، أو فيه وفي البائع، قولان لابن القاسم وابن حبيب وغيره، وهو الصحيح قاله ابن رشد.

قال في المواهب: وباب البيع مما يتعين الاهتمام بمعرفة أحكامه، لعموم الحاجة إليه، إذ لا يخلو مكلف غالبا من بيع أو شراء، فيجب أن يعلم حكم الله سبحانه وتعالى في ذلك قبل التلبس به، وقول بعض الناس يكفي ربع العبادات ليس بشيء، قاله في التوضيح، ثم قال: فيجب على كل أحد أن يتعلم منه ما يحتاج إليه، ثم يجب على الشخص العمل بما علمه من أحكامه، ويجتهد في ذلك، ويحترز من إهمال ذلك، فيتولى أمر شرائه وبيعه بنفسه إن قدر، وإلا فغيره بمشاورته، ولا يتكل في ذلك على من لا يعرف الأحكام، أو يعرفها ويتساهل في العمل بمقتضاها.

وفي الحديث " أفضل الكسب بيع مبرور وعمل الرجل بيده "

(1)

والبيع المبرور هو الذي بر فيه صاحبه، فلم يعص الله سبحانه وتعالى فيه ولا به.

(1)

رواه الإمام أحمد، وهو حديث حسن.

ص: 607

قوله: والبيع قد أحل البيت، أشار به إلى آية البقرة التي افتتح الشيخ بها هذا الباب تبركا، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: لا خلاف أن البيع من حيث الجملة جائز، قال ابن عبد السلام: وهو معلوم من الدين ضرورة، فالاستدلال على ذلك من الكتاب والسنة المذكورة في الكتب والمجالس على سبيل التبرك بذكر الآي والأحاديث، مع تمرين الطلبة على الاستدلال، واختلف السلف في معنى قوله سبحانه وتعالى:(وأحل الله البيع وحرم الربا) فقيل المراد به ما كانت الجاهلية عليه من فسخ الدين في الدين، يقول المطلوب أخرني وأزيدك، فقالوا سواء علينا إن زدنا في أول البيع أو عند محل الأجل فكذبهم الله سبحانه وتعالى، وإلى هذا ذهب مجاهد وغيره، فالألف واللام لتعريف العهد، وقيل المراد به كل بيع محرم بالإطلاق، وإليه ذهب عمر بن الخطاب وعائشة - رضي الله تعالى عنهما - ولا خلاف أن من استحل الربا كافر.

قوله: وكان قبل مبعث الميمون البيتين، أشار به إلى أن الربا كان في الجاهلية في الديون، وذلك أن يقول صاحب الدين للمدين عند حلول الدين: إما أن تقضيني وإما أن تربي لي، وهذا أمر مجمع على تحريمه.

وقوله في الترجمة: وما شاكل البيوع، يريد به القرض والإجارة والكراء والجعل والشركة والقراض والمساقاة والمزارعة، والمشاكلة: المشابهة.

1284 -

وبيع فضة بفضة معا

زَيْدانٍ أو تأخرٍ قد مُنِعا

1285 -

كذهب بذهب أما ذهب

بفضة فالفضل في ذا لم يُعَب

1286 -

حيث يدا بيد الصرف وقع

وإن يكن مع نَساء امتنع

ص: 608

قوله: وبيع فضة إلى قوله: كذهب بذهب، معناه أنه لا يجوز في بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة زيادة ولا تأخير، سواء كان أحدهما أجود من الآخر أو لا، أو كان أحدهما صحيحا والآخر مكسورا، أو أحدهما تبرا والآخر مضروبا، أو أحدهما مصوغا والآخر مسكوكا، سواء كانا قائمين أو أحدهما دينا، وسواء كانت الزيادة يسيرة أو كثيرة، من جنس النقد أو لا، وقد أتي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بقلادة وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخَرْزٌ فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وبيع وحده، وقال:" الذهب بالذهب وزنا بوزن "

(1)

وقد جاء عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن رجلا قال له: إني أصوغ الذهب وأبيعه بأكثر من وزنه فأستفضل قدر عمل يدي فيها، فقال له: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلينا، وعهدنا إليكم،

(2)

(1)

رواه مسلم.

(2)

رواه الإمام مالك في الموطإ، وهو حديث صحيح ..

ص: 609

ولا فرق في التأخير كذلك بين أن يكون يسيرا أو كثيرا، وقد روى مالك - رحمه الله تعالى - في موطئه عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري أنه التمس صرفا بمائة دينار، قال فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهم - يسمع، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " الذهب بالورق ربى إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربى إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربى إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربى إلا هاء وهاء "

(1)

قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: فلا يجوز في الصرف، ولا في بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مواعدة، ولا خيار، ولا كفالة، ولا حوالة، ولا يصح إلا بالمناجزة الصحيحة، لا يفارق صاحبه وبينه وبينه عمل، قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تُشِفُّوا

(2)

بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز "

(3)

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره، إني أخاف عليكم الرماء، والرماء: الربا،

(4)

(1)

الحديث متفق عليه، وهذا اللفظ لمالك في الموطإ، ولفظ البخاري " الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء " ولفظ مسلم " الورق بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء " إلخ لفظ البخاري.

(2)

قال في الفتح: أي: تفضلوا، وهو رباعي من أشف، والشف بالكسر: الزيادة، وتطلق على النقص.

(3)

متفق عليه ..

(4)

رواه الإمام مالك في الموطإ، وهو حديث صحيح ..

ص: 610

ثم قال: والنظرة في الصرف تنقسم على ثلاثة أقسام، أحدها أن ينعقد الصرف بينهما على أن ينظر أحدهما صاحبه بشيء مما اصطرفا فيه وإن قل، فهذا إذا وقع فسخ جميع الصرف باتفاق، لانعقاده على فساد، والثاني أن ينعقد الصرف بينهما على المناجزة ثم يؤخر أحدهما صاحبه بشيء مما اصطرفا فيه، فهذا ينتقض الصرف في ما وقع فيه التأخير باتفاق، وإن كان درهما انتقض صرف دينار واحد، ما بينه وبين أن يكون الذي وقع فيه التأخير أكثر من صرف دينار، فينتقض صرف دينارين كذا أبدا على هذا الترتيب، واختلف هل يجوز من الصرف ما وقعت فيه المناجزة ولم يقع فيه تأخير أم لا على قولين، أحدهما أن ذلك لا يجوز، لأنهما متهمان على القصد لذلك والعقد عليه، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وقول محمد بن المواز، والثاني أن ذلك يجوز ولا يفسخ، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز، والقسم الثالث أن ينعقد الصرف بينهما على المناجزة فيتأخر شيء مما وقع الصرف عليه بنسيان أو غلط أو سرقة من الصراف أو ما أشبه ذلك مما يغلبان عليه أو أحدهما، فهذا يمضي الصرف في ما وقع فيه التناجز، ولا ينتقض باتفاق، واختلف هل ينتقض في ما حصل فيه التأخير إن تجاوز النقصان مثل أن يصرف منه دينارا بدراهم فيجد من الدراهم درهما ناقصا فيقول أنا أتجاوزه فلا ينتقض من الصرف شيء على قولين أحدهما قول ابن القاسم إن ذلك لا يجوز، وينتقض من الصرف صرف دينار واحد، إلا أن يكون العدد الذي نقص أكثر من صرف دينار فينتقض صرف دينارين كذا أبدا على المثال والترتيب، والثاني قول أشهب إن الصرف يجوز ولا ينتقض منه شيء إن تجاوز النقصان، كالدانق إذا رضي به، وقد روي عن ابن القاسم، وقد روى ابن القاسم مثل قول أشهب في النقصان اليسير كالدانق والدانقين، وقاله أصبغ في الدرهم من الألف درهمٍ، وذلك لأن الموازين قد تختلف في مثل هذا المقدار، وما تختلف فيه الموازين لا اختلاف عندي في جواز تجاوزه، وليس ما روي عن ابن

ص: 611

القاسم في هذا اختلافا من قوله، وإنما المعنى في ذلك أن الدانق والدانقين مرة رأى أن الموازين تختلف عليه فأجاز التجاوز عنه، ومرة رأى أن الموازين لا تختلف عليه، فلم يجز التجاوز عنه، وأما إن أراد أن يرجع بالنقصان فيأخذه فلا يجوز إلا على مذهب من أجاز البدل في الصرف، ورأى أن الغلبة على التأخير فيه بالنسيان والغلط والسرقة والتدليس وما أشبه ذلك لا يبطل الصرف ولا يفسده، فإن وجد في ما صارفه فيه بعد الافتراق زائفا أبدله، وإن وجد ناقصا أخذه، وإن استحق منه شيء أخذ عوضه، وهذا كله على مذهبهم في المجلس ما لم يفترقا على معرفة ذلك.

قوله: أما ذهب بفضة إلخ، معناه أنه إذا اختلف النوع بأن كان أحد العوضين ذهبا والآخر فضة فالفضل جائز، وأما التأخير فيمنع مطلقا اتحد النوع أو اختلف، وهذا النوع هو المسمى في الاصطلاح بالصرف، ويستعمل أيضا في ما يعم المراطلة، والحاصل أن الربا يدخل في الصرف من نوع واحد - وهو المراطلة - من وجهين الفضل والنساء، فلا بد من التماثل والتناجز، ويدخل في الصرف من نوعين من وجه واحد، وهوالنساء، ولضيق أمر الصرف كره العمل به لغير أهل الخشية، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: العتبي: كره مالك - رحمهما الله تعالى - العمل به إلا لمتق، ابن رشد - رحمه الله تعالى -: وقليل ما هو، العتبي عن أصبغ: يكره أن يستظل بظل صيرفي، وروى الشيخ: الصرف من الباعة أحب إلي من الصيارفة.

1287 -

وما من الأقوات أيضا يُدَّخَر

ففيه كل من الامرين انحظر

1288 -

إذا بجنسه يباع أما

بغيره فالفضل ليس حِرْما

1289 -

والادخار شرْط منع الفضل

أما ربا النَّسا فذا في الكل

1290 -

فإن بجَزْر بعتَه بطاطسا

فالفضل جائز ويحرم النسا

1291 -

كذاك إن بالجزر بعتَ جزرا

فالفضل في ذلك ليس حظْرا

1292 -

أما الشعير بالشعير مثلا

فالفضل كالنساء فيه حُظلا

1293 -

من كل قابل ادخار من طعام

وسائر الشراب أيضا والادام

ص: 612

1294 -

ويابس الفاكهة الذْ يُدخَر

على الذي الشيخ بذلك ذكر

1295 -

والماء ليس بطعام جمله

فجوزنَّ ذاك فيه كلَّهْ

قوله: وما من الأقوات أيضا إلى قوله: منع الفضل، معناه أن الأقوات المدخرة يحرم الفضل بينها أيضا إذا بيع بعضها ببعض، وكانت نوعا واحدا، فإن اختلف نوعها جازت المفاضلة بينها، وأما النَّساء فيمنع في المطعومات كلها، اتحد جنسها أو اختلف، ادخرت أو لم تدخر، كما أشار إليه بقوله: أما ربا النسا فذا في الكل، والأصل في منع الربا في الطعام حديث " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد "

(1)

وقد اتفق القائلون بالقياس على أن الحكم المذكور لا يختص بهذه المذكورات، بل يلحق بها ما كان مثلها في المعنى الذي هو مناط الحكم، واختلفوا فيه على أقوال كثيرة، والمشهور في المذهب أنه الاقتيات والادخار، قال في الإشراف: ودليلنا من طريق الترجيح أن علتنا يتعلق تأثيرها بكل واحد من المنصوص عليه، لأنه لو لم يذكره لم يستفد تعلق الربا بنوعه، ولا يوجد ذلك في علل مخالفنا، لأنه يستوي فيه نصه على واحد منها وعلى جميعها، لأن الأكل والكيل واحد فيها، ولا عبرة عندهم في اختلافها، فكانت علتنا أولى به، لأن علتنا تستوفي أصلها ولا تنفرد بتخصيصه، فكانت أولى من علة أبي حنيفة العائدة بمخالفة أصلها ورفع بعضه، لأن علتنا - وهي الاقتيات والادخار - معنى ثابت لازم في الأشياء المعللة به، وليس كذلك الكيل والوزن، ولأن نظير علتهم في الأصول لا تؤثر في الربا، وهو الذرع والعدد بأنهما يرادان ليعرف بهما مقدار الأشياء، كما يراد الكيل والوزن لذلك.

(1)

رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد.

ص: 613

وقال أيضا: نبه بالبر على كل مقتات تعم الحاجة إليه، وتقوم الأبدان بتناوله، ونص على الشعير منبها به على مساواته للبر وكل ما في معناه مما يقتات حال الضرورة كالذرة والدخن وغيرهما، وأن انفراد كونه علفا للبهائم لا يخرجه عن حكم القوت، وأن الربا لا يتعلق بما يقتات به في حال الرفاهة والسعة دون حال الضرورة والشدة، وذكر التمر منبها به على العسل والزبيب والسكر وكل حلاوة مدخرة غالبا للاقتيات، وأن الربا يتعلق بنوع الحلاوات، وذكر الملح تنبيها على الأبازير وما يتبع الاقتيات ويصلح المقتات، وأن الربا ليس بمقصور على نفس القوت دون ما يصلحه ويتبعه، فقد بان بما ذكرناه أن نصه على كل واحد منها أفاد ما لا يفيده اقتصاره على واحدها، وليس مثل هذا مستفادا مع التعليل بمجرد الأكل والكيل.

ولم أهتد إلى وجه الفرق بين الفضل والنساء، حيث جعلوا الثاني عاما في الأطعمة مع قوله:" فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ".

قوله: فإن بجزر البيتين، معناه أنه يجوز في ما لا يدخر من الأطعمة الفضل اتحد النوع كالجزر بالجزر، أو اختلف كالجزر بالبطاطس، وأما النساء فيحرم في ذلك كله.

قوله: أما الشعير الأبيات الثلاثة، معناه أن الشعير إذا بيع بالشعير فلا بد من التماثل والتناجز، وكذلك كل مدخر من الطعام والإدام، وهو المصلح، والشراب كاللبن، والفواكه اليابسة كالجوز، واللوز، والتين، قال في التاج: ابن المواز: الزفيزف وعيون البقر والتفاح من رطب الفواكه وإن يبس بعضه فليس بالغالب، ولا ييبس لأصل معاش، بل ليتداوى به، فله حكم رطب الفواكه، ولا بأس بالتفاضل في رطبه برطبه ويابسه بيابسه، وكذلك الموز.

وما ذكر الشيخ من جريان الربا في الفاكهة اليابسة المدخرة هو نص مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ في باب بيع الفاكهة.

ص: 614

قوله: والماء ليس بطعام جمله البيت، معناه أن الماء ليس بطعام أصلا، فيجوز بيع بعضه ببعضه متفاضلا، ويجوز بيعه بطعام إلى أجل.

1296 -

والقمح والشعير والسلت معا

جنسٌ فبينها التفاضلَ امنعا

1297 -

كذا الزبيب كله صنف فلا

يجوز فيه الفضل حيث بودلا

1298 -

وصنفٌ التمور والقطنيه

نُقل فيها القول بالجنسيه

1299 -

وعكسه عن مالك مروي

أيضا وهو هاهنا القوي

1300 -

ومن ذوات أربع على العموم

من نعم والوحش جنس اللحوم

1301 -

كذا لحوم الطير كلا لحم

ذوات ماً، وكاللحوم الشحم

1302 -

والصنف منه صنفٌ الألبان

أيضا كذا الأجبان والأسمان

قوله: والقمح والشعير البيت، معناه أن القمح والشعير والسلت جنس واحد، فيمتنع التفاضل بينها، وذهب الشافعي وغيره إلى اختلاف الشعير والقمح، وجواز الفضل بينهما للحديث المتقدم، وقد خالف مالك - رحمه الله تعالى - ذلك لعمل أهل المدينة، وروى مثله في الموطإ عن سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وابن مُعَيْقِيب الدَّوسي، وقال: هو الأمر عندنا، وبقول الشافعي - رحمه الله تعالى - أخذ السيوري وتلميذه عبد الحميد الصائغ، وهذه إحدى المسائل التي حلف الصائغ بالمشي إلى مكة المكرمة ألا يفتي فيها بقول مالك - رحمهما الله تعالى - والثانية خيار المجلس والثالثة التدمية البيضاء، وسيأتي الكلام عليهما إن شاء الله سبحانه وتعالى.

والسلت حب يشبه الشعير المقشور في صورته، ويقرب من القمح في لونه وطعمه، ويعرف بشعير النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عند أهل المغرب قاله سيدي زروق - رحمه الله تعالى -.

ص: 615

قوله: كذا الزبيب البيت، معناه أن الزبيب كله أحمره وأسوده صنف واحد، فلا يجوز أن يباع بعضه ببعض متفاضلا، وكذلك التمر، فهو صنف واحد جيده ورديئه، أحمره وغيره، وقد جاء في الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فأتاه بتمر جَنِيب،

(1)

فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أكل تمر خيبر كذا؟ قال: لا والله يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إنا لنأخذ الصاع منه بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم:" لا تفعل بع الجَمْع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا "

(2)

.

قوله: والقطنيه البيتين، معناه أن القطاني أصناف على المشهور في المذهب، وهو المرجوع عنه، وهي: الفول، والترمس، والجلبان، والعدس، واللوبيا، والحمص، والبسيلة، والكرسنة، وقيل هي كل ما له خروبة، قال سند - رحمه الله تعالى -: لاختلاف صورها وأسمائها الخاصة بها ومنافعها وعدم استحالة بعضها إلى بعض، ولأن المرجع في اختلاف الأصناف إلى العرف، وهي في العرف أصناف، ألا ترى أنها لا تجتمع في القسم بالسهم، وقيل إنها جنس واحد، وهو قول مالك - رحمه الله تعالى - الثاني، قال في الرسالة: والقطنية أصناف في البيوع، وقد اختلف فيها قول مالك - رحمه الله تعالى - ولم يختلف فيها قوله في الزكاة أنها صنف واحد، وذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - لأن الزكاة لا يعتبر فيها المجانسة العينية، وإنما يعتبر فيها تقارب المنفعة، وإن اختلفت العين، بخلاف البيع، ألا ترى أن الذهب والفضة جنس واحد في الزكاة وهما جنسان في البيع نقله في المواهب.

(1)

الجنيب كالجميل، قال في الفتح: قال مالك ـ رحمه الله تعالى ـ: هو الكبيس، وقال الطحاوي: هو الطيب، وقيل: الصلب، وقيل: الذي أخرج منه حشفه ورديئه، وقال غيرهم: هو الذي لا يخلط بغيره، بخلاف الجمع.

(2)

متفق عليه.

ص: 616

قوله: ومن ذوات إلى قوله ذوات ماً، معناه أن اللحم ثلاثة أجناس، أحدها لحوم ذوات الأربع كيف كانت إنسية أو وحشية، الثاني لحوم الطير كلها صغيرة أو كبيرة، وحشية أو إنسية، طارت أو لم تطر، الثالث لحوم الحيتان على اختلاف أنواعها.

قوله: وكاللحوم الشحم، معناه أن الشحم تابع للحم لتولده عنه، فلا تجوز مبادلة شحم الإبل مثلا بشحم الغنم إلا مثلا بمثل يدا بيد، وكذلك شحم الإبل بلحمها، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: لا يريد الشيخ بالشحم خصوصه، بل وكذلك غيره، قال في المدونة: وما أضيف للحم من شحم، وكبد، وكرش، وقلب، ورئة، وطحال، وكلى، وحلقوم، وكراع، وخصا، ورأس وشبهه، حكمه حكم اللحم.

قوله: والصنف منه صنف البيت، معناه أن لبن الصنف وجبنه وسمنه صنف، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: قال الفاكهاني: ظاهر قول الشيخ: وألبان ذلك الصنف إلخ، يقتضي جواز بيع بعضه ببعض متماثلا، لأن ذلك شأن الصنف الواحد، ولم يجز ذلك مالك ولا أحد من أصحابه، فلا يجوز لبن بجبن ولا بسمن، فانظر هذا فإنه عندي من مشكلات الرسالة.

ونقل في موارد النجاح عن الجزولي أنه قال: وتقرير كلامه ذلك الصنف صنف، وجبنه صنف، وسمنه صنف، فتلك الأصناف الثلاثة يجوز بيع كل صنف منها بعضه ببعض متماثلا، ولا يجوز متفاضلا.

وهو نحو مما للفاكهاني، والذي يفهم من كلام أهل المذهب هو ما يقتضيه ظاهر الشيخ من أن ذلك كله صنف واحد، وبه فسر في المواهب قول خليل - رحمهما الله سبحانه وتعالى: ومطلق لبن، وأما ما قاله الفاكهاني فهو - وإن سلمه ابن ناجي رحمهما الله سبحانه وتعالى غير بين، لأن مطلق الجنسية لا يستلزم جواز المبادلة، فقد يعرض معها ما يمنع من المبادلة، كتعذر تحقق المماثلة، كما في رطب التمر مثلا بيابسه، فليس في كلام الشيخ رحمهم الله سبحانه وتعالى جميعا - إشكال.

ص: 617

هذا واللبن وما تولد عنه سبعة أنواع الحليب، والمخيض، والمضروب، والزبد، والسمن، والجبن، والأقط.

والمخيض والمضروب كلاهما قد أخرج زبده، ومنهم من عدهما نوعا واحدا، قال في المواهب: واعلم أن صور بيع هذه الأنواع السبعة بعضها ببعض من نوعه أو خلاف نوعه بعد إسقاط المكرر ثمان وعشرون صورة، فبيع كل واحد بنوعه جائز إذا كان متماثلا، ولا يجوز التفاضل في هذه السبع صور، وبيع كل واحد من الحليب والزبد والسمن والجبن والأقط ببقية الأنواع لا يجوز متماثلا ولا متفاضلا، كما صرح به اللخمي - رحمه الله تعالى - لأنه من باب بيع الرطب باليابس، فلا يتحقق التماثل، وأخذ من مفهوم كلام ابن إسحاق جواز بيع الأقط بالجبن متماثلا، وفي هذه الأنواع عشر صور، ويجوز بيع المخيض بالمضروب متماثلا لا متفاضلا على المعروف، لأنهما في الحقيقة شيء واحد، وأجاز في المدونة بيع الحليب بالمضروب متماثلا، فيجوز بيع الحليب بالمخيض أيضا، لأن المضروب والمخيض سواء، فهذه ثلاث صور، وأجاز في المدونة أيضا بيع السمن بلبن قد أخرج زبده، وذلك شامل لصورتين لأن الذي أخرج زبده يشمل المخيض والمضروب، وذكر ابن عرفة عن الشيخ أبي محمد أن مالكا - رحمهم الله تعالى جميعا - أجاز بيع الزبد بالمضروب، فيجوز بيعه بالمخيض أيضا، لأنهما شيء واحد كما قد علمت، فهاتان صورتان أيضا، وذكر الشيخ أبو إسحاق أنه اختلف في بيع الجبن بالمضروب على قولين بالجواز والكراهة، وعزى ابن عرفة الجواز لابن القاسم، فيجوز عنده أيضا بيع الجبن بالمخيض، فهاتان صورتان أيضا، فجملة الصور ستة وعشرون صورة، وبقي صورتان، وهي بيع الأقط بالمخيض وبالمضروب، وظاهر كلام اللخمي والجزولي والشيخ يوسف بن عمر والزناتي أن حكمهما الجواز، كحكم بيع السمن والزبد والجبن بالمضروب.

ثم أشار إلى منع بيع طعام المعاوضة قبل قبضه فقال:

1303 -

ومن يك ابتاع طعاما حرِّم

عليه بيعَه إلى التسلم

ص: 618

1304 -

إذا على الكيل شراء ذاك كان

أو كان بالعدد أو بالاتزان

1305 -

عكس المجزَّف وكالطعام

سائر الاشربة والإدام

1306 -

والماء ذاك فيه لا يمتنع

كذاك الادوية والزرائع

1307 -

كالسِّلق لا ذات زيوت الاكل

كمثل أحمر حبوب الفجل

1308 -

وكل ذلك إذا ما أبدلا

بجنسه يجوز أن يفاضلا

1309 -

وقوت قرض بيعه من قبل

كيل ووزن مثلا ذو حل

1310 -

وجاز في الطعام قبل التوفيه

إقالة شركة وتوليه

قوله: ومن يك ابتاع طعاما الأبيات الثلاثة، معناه أن من اشترى طعاما يحرم عليه أن يبيعه حتى يقبضه، والمراد بالاشتراء أن يكون ملكه بمعاوضة، فيشمل ما كان صداقا، أو مخالعا به، أو مصالحا به عن دم، ونحو ذلك، لأن ذلك كله معاوضة، فيتناوله قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه "

(1)

ولا فرق في ذلك بين الطعام الربوي وغيره على المشهور، لعموم الأحاديث، خلافا لرواية ابن وهب اختصاص ذلك بالربوي، قال اللخمي: كأنه حمل الحديث على ما كان غالبا أنهم يبتاعونه ويسلمون فيه وهو التمر، وقاس عليه جميع المدخرات.

(1)

متفق عليه.

ص: 619

ويختص النهي بما فيه حق توفية، بأن يكون مكيلا، أو موزونا، أو معدودا، لنهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن،

(1)

وهو عند مالك - رحمه الله تعالى - خاص بالطعام، بخلاف الطعام المبيع على الجزاف، فله أن يبيعه قبل أن يقبضه لدخوله في ضمانه، وفي بعض ألفاظ الحديث " حتى يكتاله "

(2)

وقيل يمنع ذلك في الجزاف كغيره، وقيل يستحب ألا يبيعه حتى يقبضه، وأما إذا كان ملكه للطعام من غير معاوضة كالموروث والموهوب والمتصدق به، فيجوز أن يبيعه قبل أن يقبضه، وكذلك إذا اشترى غير طعام كثياب وماشية، فله أن يبيعه قبل أن يقبضه، وكذا إذا اشترى طعاما وأراد أن يهبه أو يتصدق به قبل أن يقبضه فله ذلك أيضا، وكذلك إذا أراد أن يقرضه، وكذلك إذا صار له الطعام قضاء عن قرض فله أن يبيعه قبل أن يقبضه، كما أشار له بقوله: وقوت قرض البيت، قوله: وكالطعام سائر الأشربة والإدام، معناه أن ما ذكر من منع بيع طعام المعاوضة قبل استيفائه جار في الأشربة والإدام والطعام كله.

(1)

رواه النسائي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث حسن صحيح.

(2)

رواه مسلم وأبو داود والنسائي والإمام مالك.

ص: 620

قوله: والماء ذاك فيه لا يمتنع، معناه أن الماء المعاوض عنه يجوز بيعه قبل قبضه، لما تقدم من أنه غير طعام، وكذلك ما لا يراد إلا للدواء، وكذلك الزراريع التي لا تؤكل ولا يعتصر منها زيت يؤكل كالسلق، وذلك يختلف باختلاف أعراف البلاد، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: وسمع أبو زيد ابن القاسم: كل زريعة لا تؤكل ويستخرج منها ما يؤكل، تباع قبل استيفائها، ويجوز منها واحد باثنين، وكل زريعة تؤكل ويستخرج منها طعام يؤكل لا تباع قبل استيفائها ولا متفاضلة، ابن رشد: كذا الرواية " لا تؤكل ويستخرج منها " والصواب ولا يستخرج منها، لأن التي يستخرج منها الزيت كزريعة الفجل طعام قاله في المدونة، ومعناه في البلد الذي يتخذ فيه لذلك، وتأويل الرواية إن صحت ويستخرج منها شيء يؤكل أي بأن يزرع كزريعة البصل وشبهه، وقوله: لا يؤكل، أي لا يؤكل تقوتا ولا تفكها، كالحرف، وحمل بعضهم الرواية على ظاهرها أن الزريعة التي لا تؤكل غير طعام، ولو أخرج منها الزيت، وهو خلاف قولها وقوله كل زريعة تؤكل ويستخرج منها ما يؤكل، معناه أو يستخرج منها ما يؤكل، لأنها إن كانت تؤكل فهي طعام وإن لم يستخرج منها ما يؤكل اتفاقا كالكمون ونحوه، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: ففي قوله: اتفاقا نظر، لما يأتي في كون بزر الكتان ربويا رواية زكاته، ونقل اللخمي عن ابن القاسم: لا زكاة فيه إذ ليس بعيش، القرافي: وهو ظاهر المذهب.

قوله: وكل ذلك إذا ما أبدلا البيت، معناه أن الأدوية والزراريع التي لا تؤكل ولا يستخرج منها زيت يؤكل، تجوز مبادلة النوع منها متفاضلا.

ص: 621

قوله: وجاز في الطعام قبل التوفيه البيت، معناه أن هذه العقود الثلاثة تجوز في طعام المعاوضة قبل قبضه، لأنها خرجت عن البيع بقصد المعروف، فأشبهت الهبة والصدقة، وقد حكي في جواز ذلك الإجماع، وهذا إذا وقعت بنفس الثمن، وكان الثمن عينا، ولم يشترط المولي والمشرك - بالكسر فيهما - على المولى والمشرك - بالفتح - أن ينقد عنه، لما في ذلك من السلف بمنفعة.

والتولية: تصيير مشتر ما اشتراه لغير بائعه بثمنه قاله ابن عرفة، فإن وقع ذلك في البعض فهو شركة.

والسلق - بكسر السين وسكون اللام -: ورق عريض يؤكل نيئا، يعرف عندنا بصلات، بفتح الصاد وسكون التاء، ومنهم من يقول اصلاط بسكون الصاد وفتح الطاء بدل التاء، والفجل الأحمر: ثمرة في قدر الباذنجان، إلا أنها حمراء داخلها أبيض، وزريعته شبيهة بالفلفل السوداني الذي يعرف عندنا بكرت، بكاف معقودة وراء ساكنة مرققة وتاء مفتوحة.

1311 -

وكل بيع أو إجارة كرا

بخطر أو غرر قد حُظرا

1312 -

وذاك في الثمن قد يكون

أو أجل كذلك المثمون

1313 -

والغش في البيوع والخديعه

خلابة جميعها ممنوعه

1314 -

كذاك تدليس بكتم ما دَرى

من عيب شيئه عن الذي اشترى

1315 -

وواجب بيان ما إذا دُري

منَ اَمر شيئه قلاه المشتري

1316 -

وما إذا ذُكر كان أبخسا

لثمن ككون ثوب نجسا

قوله: وكل بيع أو إجارة البيتين، معناه أن هذه العقود الثلاثة تمنع إذا وقعت على غرر أو خطر، سواء كان ذلك في الثمن أو المثمون، وهو السلعة في البيع، والمنفعة في الإجارة والكراء، أو في الأجل، والفرق بين الثلاثة أن العقد في البيع على ذات، بخلاف الإجارة والكراء، فالعقد فيهما على المنفعة، والفرق بينهما أن المنفعة في الإجارة منفعة عاقل، كإجارة الراعي، والحارس، والبناء، والخادم، والصانع، والكراء في منفعة ما لا يعقل كالدابة والسفينة والآلات.

ص: 622

والخطر غرر خاص، ومثلوه ببيع المحرم المشرف، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: والغرر الكثير المانع من صحة العقد يكون في ثلاثة أشياء، أحدها العقد والثاني أحد العوضين الثمن أو المثمون أو كليهما، والثالث الأجل فيهما أو في أحدهما، فأما الغرر في العقد فهو مثل نهي النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة،

(1)

وعن بيع العربان

(2)

وعن بيع الحصاة،

(3)

على أحد التأويلين وما أشبه ذلك مما لا جهل فيه في ثمن ولا مثمون، وإنما حصل الغرر فيه بانعقاده بين المتبايعين على هذه الصفات، إلى أن قال: وأما الغرر في الثمن والمثمون أو في أحدهما فإنه يكون بثلاثة أوجه أحدها الجهل بصفة ذلك، أو بمقداره، فأما الجهل بصفة ذلك فهو مثل أن يبيع جنينا في بطن أمه، أو غائبا على غير صفة، أو بيع سلعة بدنانير مسماة من غير صفة ونقد البلد مختلف، وما أشبه ذلك، وأما الجهل بمقداره فهو أن يبيع الطعام بكيل مجهول، أو بيع سلعة بجزاف من الدنانير والدراهم، والثاني عدم القدرة على تسليمه، إلى أن قال: وأما الغرر بالأجل في الثمن والمثمون فذلك مثل أن يبيع منه السلعة بثمن إلى قدوم زيد، أو إلى موته، أو يسلم إليه في سلعة إلى مثل ذلك الأجل وما أشبه ذلك.

(1)

رواه الترمذي والنسائي والإمام مالك والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

(2)

رواه أبو داود والإمام مالك والإمام أحمد، وفيه راو لم يسم.

(3)

رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد.

ص: 623

قوله: والغش في البيوع البيتين، أشار به إلى ما ذكره الشيخ - رحمه الله تعالى - من أن التدليس والغش والخلابة والخديعه ممنوعة في البيع، وكذلك في الإجارة والكراء وغيرها من عقود المعاوضات، وهذه الألفاظ قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: قيل إنها مترادفة، والصحيح أنها متباينة، فمثال التدليس أن يعلم بسلعته عيبا فيكتمه، ومثال الغش أن يجعل في اللبن ماء، ومثال الخلابة أن يكذب في الثمن، أو يرقم على السلعة أكثر مما اشتراها به، ومثال الخديعة أن يخدعه بالكلام.

وذلك كله راجع إلى الكذب والكتمان الذي هو سبب محق البركة كما في حديث الصحيح " فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحا ويمحقا بركة بيعهما "

(1)

وفي الصحيح أيضا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " من غشنا فليس منا "

(2)

.

وإذا وصف البائع مثلا السلعة بوصف عند العقد ووجدت على غيره ثبت الخيار، كما لو كان اتصافها بذلك مشترطا، قال في التاج: قال مالك - رحمه الله تعالى - في الأمة تباع في الميراث فيقول الصائح عليها: إنها تزعم أنها بكر، ولا يشترطون ذلك، فتوجد غير بكر فله الرد، وكذلك لو قال: إنها تزعم أنها طباخة ثم لم توجد كذلك فلترد.

قال في المواهب: قال ابن رشد - رحمه الله تعالى - وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه سواء قال في الجارية: أبيعها منك على أنها عذراء، أو على أنها رقامة، أو خبازة، أو وصفها بذلك، فقال: أبيعها منك وهي عذراء، أو رقامة، أو صباغة، أو أبيعها وهي تزعم أنها عذراء، أو رقامة، أو خبازة، ذلك كله كالشرط، لأنه إذا قال: إنها تزعم أنها على صفة كذا وكذا، وقالت عند البيع: إني على صفة كذا، ولم يكذبها ولا تبرأ منه، فقد أوهم أنها صادقة في ما زعمت، فكأنه قد باع على ذلك وشرطه للمبتاع.

(1)

متفق عليه، واللفظ للبخاري.

(2)

رواه مسلم.

ص: 624

ويثبت الخيار أيضا إذا فعل في المبيع فعلا يظن به المشتري كمالا فلا يوجد كذلك، قال ابن شاس - رحمه الله تعالى -: من أسباب الخيار التغرير الفعلي، وهو أن يفعل في المبيع فعلا يظن به المشتري كمالا، فلا يوجد كذلك، والأصل في اعتبار هذا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" لا تصروا الإبل "

(1)

انتهى.

قوله: وواجب بيان ما إذا دري البيتين، معناه أنه يجب على البائع أن يبين ما يعلم في سلعته مما إذا اطلع عليه الآخر كرهه، أو نقص من رغبته فيها وكانت عنده به أبخس مما إذا سلمت منه، ولا يكفي ذكره للعيب على وجه مجمل إذا كان فيه تفاوت، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: البراءة من عيب معين إن لم يقبل التفاوت برئ بذكره، الباجي: كالعور، وإلا لم يبع حتى يبين قدره، كالكي منه المتفاحش وغيره، لا يبرئه إلا أن يخبره بشنيع الكي، أو يريه إياه.

وقال النخعي - رحمه الله تعالى -: لو قال: أبيعك لحما على بارية لم يبرأ حتى يسمي العيب، قال شريح - رحمه الله تعالى -: حتى يضع يده عليه.

وما ذكر من وجوب البيان لا يختص بالبائع كما هو ظاهر، بل المشتري كذلك، وكذلك الكلام في سائر عقود المعاوضات.

1317 -

ومن على عيب بما اشترى اطلع

فإن يشأْ رَدَّ ويُعطى ما دفع

1318 -

وحيث ما أحب أن يستمسكا

به فلا أرش له عن ذلكا

1319 -

وإن يكن قبل العثور عنده

أيضا تعيب، فإن شا رده

1320 -

معَ اَرش طارئ وإن يُبقِ استحَق

أيضا على البائع أرشَ ما سبق

(1)

متفق عليه.

ص: 625

قوله: ومن على عيب البيتين، معناه أن من اشترى سلعة وظهر على عيب فيها سابق الحدوث على العقد، فهو بالخيار إن شاء ردها وأخذ ثمنه، وإن شاء تماسك بها ولا شيء له، وذلك أن الخيار ينفي الضرر، والمراد بوجودها معيبة أن يجدها متصفة بأمر تقتضي العادة أنه إنما دخل على السلامة منه، وكان يحط من الثمن، وكانت السلعة تنفك عنه، والأصل في هذا حديث المصراة " لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلُبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر "

(1)

وظاهر الشيخ أنه لا فرق في العيب بين اليسير والكثير، وهو المشهور في العروض، وإن رضي بعد أن ظهر على العيب - قولا أو فعلا - فلا رد له.

قوله: وإن يكن قبل العثور عنده البيتين، معناه أنه إذا لم يطلع على العيب حتى تعيبت السلعة عنده، كان بالخيار بين أن يردها مع أرش العيب الحادث عنده ويأخذ ثمنه، أو يتماسك بها ويأخذ أرش العيب القديم، خلافا للشافعي وأبي حنيفة حيث قالا ليس له أن يرد، بل يعطى أرش العيب القديم فقط، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: والدليل على صحة قولنا قول رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " من ابتاع شاة مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعا من تمر " وجه الدليل من هذا الحديث أن المبتاع لما أتلف بعض المبيع وهو البن المصرى فى الضرع خيره النبيعليه الصلاة والسلام بين أن يرد ويغرم قيمة ما أتلف من اللبن وهو الصاع، وبين أن يمسك، وهذا نص في موضع الخلاف، ومن جهة المعنى والقياس أن هذين عيبان حدث أحدهما عند البائع والثاني عند المبتاع، وكل واحد منهما غير راض بالتزام ما حدث عند صاحبه بقيمته فلما تعارض الحقان كان أولاهما بالتغليب حق المبتاع، لأنه لم يدلس ولا أخطأ على صاحبه، والبائع لا يخلو من أن يكون دلس على المبتاع أو أخطأ عليه بأن باع منه معيبا على أنه صحيح ولم يتثبت في ذلك.

(1)

متفق عليه.

ص: 626

وما ذكره من جهة المعنى بين.

وأما كون اللبن جزءا فلا يخلو من نظر خاصة مع ما يأتي من فوز المشتري بما استغل والله سبحانه وتعالى أعلم.

ومحل ما ذكر إذا لم يكن العيب الحادث عنده مخرجا عن المقصود، وإلا رجع بقيمة العيب القديم دون خيار، لأن الخروج عن المقاصد في معنى التلف، ومحل تخييره ما لم يرض البائع بالسلعة بالعيب الذي حدث فيها، فإن رضي بها بذلك كانت كالسلعة التي لم يحدث فيها عيب جديد، فيخير بين أن يردها ويأخذ ثمنه، أو يتماسك بها بلا شيء.

1321 -

والرد بالعيب إذا ما قبلهْ

كان استغل لا يرد الغلهْ

1322 -

وجوزوا البيع على الخيار

لأجل دنا للاختبار

1323 -

أو المشورة وشرط النقد

مع الخيار عندهم ذو حرْد

1324 -

كعهدة الثلاث والمواضعه

فشرطَ نقد في الثلاثة امنعه

1325 -

ومُؤْنة المبيع سائر زمانْ

جميعِها من بائع كذا الضمان

قوله: والرد بالعيب إذا ما قبله البيت، معناه أنه إذا استغل السلعة قبل أن يطلع على العيب ثم اطلع عليه وأراد أن يرد لم يرد الغلة، وفي الحديث أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله سبحانه وتعالى أن يقيم، فوجده به عيبا فخاصمه إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فرده عليه فقال الرجل يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قد استغل غلامي، فقال عليه الصلاة والسلام:" الخراج بالضمان "

(1)

وليس من الغلة الولد، فإذا اشترى شاة وولدت عنده، ثم اطلع على عيب فيها، وأراد أن يردها ردها مع ولدها، وليس من الغلة أيضا الصوف التام وقت الشراء، ولا الثمرة المؤبرة قبل الشراء فكلاهما مبيع، فإذا رد الغنم رد معها الصوف، وإذا رد النخل رد معه الثمرة أو مثلها.

(1)

رواه أبو داود وابن ماجة، وهو حديث حسن.

ص: 627

قوله: وجوزوا البيع على الخيار البيت، معناه أنه يجوز البيع على شرط الخيار للبائع أو المشتري أو لهما معا، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار "

(1)

وهو مستثنى من بيع الغرر للتردد في العقد أجازه الشرع للحاجة إليه، لأن العاقد قد لا تكون له معرفة بقيمة شيئه، أو شيء صاحبه، أو غير عارف بحال شيء صاحبه، وهل هو مما يصلح له أو لا ونحو ذلك، فرخص له الشرع في اشتراط الخيار، ليختبر أو يستشير من هو أعلم منه بذلك.

قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: لولا الخبر عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ما جاز الخيار لا في ثلاث ولا في غيرها، والزمن الذي يجوز اشتراط الخيار إليه يختلف عند مالك - رحمه الله تعالى - بحسب سرعة دخول التغير في السلعة وبطئه، فيجوز في الدواب والعروض ثلاثة أيام، ويجوز في الرقيق جمعة، ويجوز في الرباع شهرا، فإن اشترطا مدة زائدة على ذلك فسد البيع للغرر، وأما إذا اشترطا الخيار وسكتا عن تحديد الزمن فيرجع إلى التحديد المتقدم، ولا يفسد البيع، وإذا اشترطا أقل من المدة المذكورة لم يزد على ما اشترطا، ولا يجوز عند الشافعي - رحمه الله تعالى - إلى أكثر من ثلاثة أيام مطلقا.

قوله: وشرط النقد البيت، معناه أن شرط النقد في بيع الخيار ممنوع مفسد للبيع، لتردده بين الثمنية إن مضى البيع، والسلفية إن رد، وأما النقد من غير شرط فيجوز إلا في ما لا يمكن التناجز فيه بعد أمد الخيار، كالسلم والغائب والمواضعة، لأنه إن تم البيع دخله فسخ الدين في الدين.

قوله: كعهدة الثلاث البيت، معناه أنه يمتنع شرط النقد أيضا في الرقيق المبيع على عهدة الثلاث، والأمة المواضعة، للعلة المذكورة في الخيار، وسيأتي الكلام قريبا إن شاء الله سبحانه وتعالى على العهدة والمواضعة.

(1)

متفق عليه.

ص: 628

قوله: ومؤنة المبيع البيت، معناه أن ضمان المبيع بالخيار، والأمة المواضعة، والرقيق المبيع على عهدة الثلاث، على البائع، لعدم تمام انتقال الملك، وعليه نفقته وله غلته، قال في التاج: ابن يونس: القضاء أن الضمان في أمد الخيار مما يحدث بالسلعة من البائع إذ هو أقدم ملكا فلا ينتقل الضمان عنه إلا بتمام انتقال ملكه عنها، والضمان منه في ما قبضه المبتاع مما لا يغاب عليه، وفي ما ثبت هلاكه مما يغاب عليه، لأن هلاكه ظاهر بغير صنعه، وأنه غير متعد في قبضه كالرهن والعارية، وأما ما لم يثبت هلاكه مما يغاب عليه فالمبتاع يضمنه، لأن قبضه خارج من قبض الأمانة، وإنما قبضه لمنفعة نفسه، وعلى وجه المبايعة دون الأمانة، وكقبض الرهن والعارية التي جعلها صلى الله تعالى عليه وسلم مضمونة في السلاح، فكان ما يغاب عليه مثله.

1326 -

وفي العلية من الإماء

أوجب تواضعا للاستبراء

1327 -

كغيرها أيضا إذا أقرا

بائعها بأنه قدَ اَرَّا

معناه أن الأمة تجب مواضعتها إذا كانت علية شأن مثلها أن يراد للفراش، أو أقر بائعها بوطئها، ولو كانت دنيئة لا يشتهى مثلها غالبا، وهذا ما لم تكن متزوجة، أو معتدة، أو مستبرأة من زنى أو غصب، والمواضعة عرفها ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: جعل الأمة مدة استبرائها في حوز مقبول خبره على حيضتها.

وهذا في من تحيض، وأما غيرها فتتواضع ثلاثة أشهر، سواء كانت مأمونة الحمل أو لا، ولا مواضعة في الصغيرة التي لا يوطأ مثلها اتفاقا.

وقوله: أر معناه وطئ.

1328 -

ومنعوا تبرؤا من حمل

نعم إذا بدا فذا ذو حل

1329 -

وبيعك الرقيق بالتبري

يجوز إن بعيبه لم تدري

1330 -

تفريقَ الام مع نجلها احظرا

ببيع واحد إلى أن يثغرا

ص: 629

قوله: ومنعوا تبرءا البيت، معناه أن بيع الأمة على البراءة من الحمل لا يجوز، إلا أن يكون ظاهرا، ومعنى البراءة منه اشتراط ألا ترد عليه به، وقد اعترض بعض الشيوخ كلام الشيخ بأن فيه إجمالا، لاختصاص هذا بالجواري الرفيعة، والمتبادر أنه لا إجمال فيه، لأن البراءة إنما تكون في العيوب، والحمل ليس عيبا في الجواري غير الرفيعة، بل يزيد في ثمنها، وأما عكس صورة المصنف وهو البيع على شرط الحمل فهو ممنوع على المشهور، لأنه من قبيل بيع الأجنة.

قوله: وبيعك الرقيق البيت، معناه أنه يجوز في الرقيق مطلقا البيع على البراءة مما لا يعلم فيه من العيوب، إذا طالت إقامته عنده، قال في التاج: المتيطي: وجه بيع البراءة عند مالك - رحمه الله تعالى - في ما اختبره البائع وطالت إقامته عنده، وأما ما لم يختبره ولا طال مكثه عنده، فروى ابن القاسم - رحمه الله تعالى - المنع منه، قال ابن القاسم: وتبطل البراءة منه إذا وقع.

ولا تجوز البراءة في ما سوى الرقيق على المشهور، قال القاضي في الإشراف: البيع بشرط البراءة جائز في الرقيق دون غيره، ويبرأ البائع منه مما لا يعلم، ولا يبرأ مما علمه وكتمه، هذا هو المعمول عليه في المذهب، وفيه رواية أخرى أنه يبرأ من الرقيق وغيره، ورواية ثالثة أن بيع البراءة لا ينفع، ولا يقع به البراءة، وللشافعي - رحمه الله تعالى - فيه اختلاف أقوال كثيرة، فدليلنا على جوازه وبراءة البائع مما لا يعلمه حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - لما باع عبدا له بالبراءة فلم ينكره عثمان ولا غيره - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - ولأن شرط البراءة من عيب لم يدلس به ولا كتمه، في جنس يقدرون على كتمان عيوبهم، فأشبه إذا أراه إياه ووقف عليه.

ص: 630

قوله: تفريق الام البيت، معناه أنه لا يجوز التفريق بين الأم وولدها الصغير في البيع لحديث الترمذي

(1)

" من فرَّق بين الوالدة وولدها فرّق الله سبحانه وتعالى بينه وبين أحبته يوم القيامة " سواء كانت الأم مسلمة أو كافرة، وسواء كان من زوج أو زنى، لعموم الحديث، قال في التاج: وفي الإشراف: أجمع أهل العلم على القول بهذا الخبر إذا كان الولد طفلا لم يبلغ سبع سنين.

قال مالك - رحمه الله تعالى -: وحد ذلك الإثغار ما لم يعجل به، جواري كن أو غلمانا، وقال الليث - رحمه الله تعالى -: حد ذلك أن ينفع نفسه ويستغني عن أمه، فوق عشر سنين، أو نحو ذلك، وروي عن ابن حبيب - رحمه الله تعالى - حده بسبع، وعن ابن وهب حده بعشر، وروى ابن غانم عن مالك أنه ينتهي إلى البلوغ، وعن ابن عبد الحكم لا يفرق بينهما ما عاشا، والمشهور أن التفريق بينه وبين أبيه جائز، و قيل هو كالأم، واختاره اللخمي - رحمه الله تعالى - والمشهور أيضا جوازه في الحيوان، والإثغار سقوط الرواضع، وقيل نبات بدلها.

1331 -

والبيع حيث كان ذا بطلان

فبائع السلعة ذو ضمان

1332 -

إلا إذا ما المشتري تسلما

فمن هناك بالضمان أُلزما

1333 -

فحيث حال سوقه أو بدنه

بقيمة ساعة قبض يضمنه

1334 -

ولا يرده نعم ما يوزن

وما يكال المثل فيه يضمن

1335 -

وفوت ما بيع بأن تحولا

أسواقه لا يشمل الأصولا

(1)

ورواه أيضا الدارمي والإمام أحمد، وهو حديث حسن.

ص: 631

قوله: والبيع حيث كان البيتين، معناه أن السلعة في البيع الفاسد باقية على ضمان البائع إذا لم يقبضها المشتري، إذ لم يقع إلا مجرد العقد وهو فاسد، والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا، فإن قبضها كان الضمان منه من يوم القبض، وذلك لما علم من أن خراجه له، وهو علامة الضمان، ولأنه لم يقبضها على وجه الأمانة، وإنما قبضها لنفسه، فأشبهت السلعة المعيبة، ولأنه لو تصرف فيها بمفيت لها كما لو ذبح الشاة لم يكن متعديا، ولا فرق في هذا على المشهور بين المتفق على فساده والمختلف فيه، ولا بين ما ثبت ببينة هلاكه بغير سببه وغيره، ويفسخ البيع ما دامت السلعة قائمة من غير تغير، ولا يجوز الانتفاع به ولا التصرف فيه، فإن حصل فيه مفوت نظر، فإن كان مما اختلف في فساده بين أهل العلم مضى، فيكون لكل ما بيده، ولا يرجع على صاحبه بشيء، مراعاتا للخلاف، وأصل ذلك أن ما وقع على وفق الصواب على مقتضى اجتهاد بعض أهل العلم لا ينقض لغير قاطع، إذ لا ينقض اجتهاد لاجتهاد، وقد جاء عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه أقر قضاءه الأول في المشتركة وعمل بما ترجح عنده من خلافه في ما حضر.

وإن كان فساده مجمعا عليه فسخ على كل حال، فيرد من فات عنده شيءُ صاحبِه قيمتَه يوم قبضه إن كان مقوما، أو مثله إن كان مثليا وكان معروف القدر مثلا، فإن جهل فقيمته اجتهادا، وإلى هذا الإشارة بقوله: فحيث حال سوقه أو بدنه البيتين، وحال معناه تغير، وحوالة السوق: تغير الأثمان بالزيادة أو النقص، وتغير البدن المراد به تغير ذات العبد أو الأمة أو الدابة، وكذلك تغير ذات السلعة.

وقوله: نعم ما يوزن وما يكال المراد به المثلي، وقوله: وفوت ما بيع البيت، معناه أن حوالة الأسواق ليست مفوتة في الأصول وهي العقارات، لأن شأنها في الغالب أن تراد للقنية، لا للتجارة، وما شأنه ذلك لا يؤثر فيه الأمر اليسير.

1336 -

والقرض حيث جر لانتفاع

مقرِضه فهو ذو امتناع

ص: 632

1337 -

وهكذا إن مع بيع اجتمع

أو الكرا أو الإجارة امتنع

1338 -

وكل ما سوى تراب الفضه

أو الجوار جوزنَّ قرضَهْ

قوله: والقرض حيث جر البيت، معناه أن السلف إذا قصد به المسلف انتفاعا امتنع، وهو من قبيل الربا، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: قال عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: السلف على ثلاثة أوجه، سلف تريد به وجه الله سبحانه وتعالى، فلك وجه الله سبحانه وتعالى، وسلف تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك، وسلف تسلفه لتبدل خبيثا بطيب، فذلك الربا، قال: فكيف أصنع؟ قال: أن تشق الصحيفة، فإن أعطاك مثل الذي أعطيته قبلته، وإن أعطاك دون ما أسلفته فأخذته، أجرت، وإن أعطاك فوقه طائبة به نفسه فذلك شكر شكره لك، ولك أجر ما أنظرته به

(1)

.

والقرض عرفه ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: دفع متمول في عوض غير مخالف له لا عاجلا تفضلا، وحكمه من حيث ذاته الندب، وقد يعرض ما يوجبه أو كراهته أو حرمته، وإباحته تعسر.

قوله: وهكذا إن مع بيع البيت، معناه أن اجتماع البيع والسلف ممنوع، وفي الحديث " لا يحل سلف وبيع "

(2)

وذكر الباجي - رحمه الله تعالى - الإجماع على ذلك، واختلف إن وقع هل يصح إذا أسقط - وهو المشهور - إن كان قبل الغيبة على السلف، وقيل يصح ولو غيب عليه، وقيل لا يصح مطلقا، بناء على أنه من البيوع الفاسدة، والمشهور أنه من بيوع الشروط، ومثل البيع في ذلك الإجارة والكراء.

قوله: وكل ما سوى البيت، معناه أن القرض جائز في ما سوى تراب الفضة والجواري، أما تراب الفضة فلعدم الانضباط، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: متعلق القرض ما صح ضبطه بصفة كيلا، فيخرج تراب المعادن والصواغين والدور والأرضون والبساتين.

(1)

رواه الإمام مالك في الموطإ.

(2)

رواه أبو داود والترمذي والنسائي والإمام أحمد، وهو حديث حسن صحيح.

ص: 633

وأما الجواري فإنما يمتنع قرضها إذا كانت تحل للمستقرض، التاج: اللخمي: لا يجوز قرض الجواري إلا أن تكون في سن من لا توطأ، أو يكون المستقرض لا يمكن التذاذه بها لسنه، أو امرأة، أو محرما عليه وطؤها، أو مدينا تقضى عنه، ابن يونس: أو لمن تعتق عليه.

وذلك لأن المقترض بالخيار أن يرد عين الشيء المقترض إذا لم يحصل فيه تغير، أو مثله، فيؤدي ذلك في الجواري إلى إعارة الفروج.

1339 -

ووضع بعض الدين في نظير

تعجيله له من المحظور

1340 -

كذاك أن يزيده فيه على

تمديده نظير ذاك الاجلا

1341 -

والعرض من بيع إذا يقدم

نظير زيده كذاك يحرم

1342 -

وجاز في العرض الذي قدَ اَسلفه

إن يكن الزيدان فيه في الصفه

1343 -

ومن يكن بمجلس القضاء رد

بالقرض زائدا عليه في العدد

1344 -

من غير شرطه ولا وعد ولا

عرف فأشهب لذاك حللا

1345 -

وعدم الجواز لابن القاسم

وهْو المعول عليه ينتمي

1346 -

ومن عليه دين عين جاز له

من قبل أن يحل أن يعجله

1347 -

وهكذا أيضا ديون العرض

إن تك قد تربت من قرض

ص: 634

قوله: ووضع بعض البيت، معناه أنه لا يجوز لمن عليه دين لرجل مثلا أن يعجله له قبل أجله على أن يحط عنه بعضه، ويعرف عند الفقهاء بضع وتعجل، وقد روى مالك -رحمه الله تعالى- أن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - نهى عنه، وهو عائد إلى السلف بمنفعة لأن تعجيله له قبل حلوله سلف، وقد انتفع في نظير ذلك بإسقاط البعض، فلا فرق بينه وبين ربا الجاهلية الذي هو الزيادة في الدين في نظير الزيادة في الأجل، قال زيد بن أسلم: كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا حل الأجل قال: أتقضي أم تربي؟ فإن قضى أخذ، وإلا زاده في حقه وأخر عنه في الأجل رواه مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ، وقال: الأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب، وذلك عندنا بمنزلة الذي يؤخر دينه بعد محله عن غريمه ويزيده الغريم في حقه، قال: فهذا الربا بعينه لا شك فيه.

وما ذكر أنه ربا الجاهلية هو المراد بقوله: كذاك أن يزيده فيه البيت.

ص: 635

قوله: والعرض من بيع البيتين، معناه أنه لا يجوز تعجيل العرض الذي في الذمة على أن يزيده فيه، سواء كانت الزيادة في الصفة أو في القدر، كأن يسلمه دينارا في ثوبين رديئين إلى شهر، فيرضى المسلم بالتعجيل قبل الشهر على أن يزيده ثوبا ثالثا، أو يعطيه ثوبين جيدين، لأن حط الضمان بزيادة في معنى الضمان بجعل، وقد نقلوا الإجماع على منعه، وأما العرض من قرض فيجوز فيه ذلك، إذا كانت الزيادة في الصفة، لأن الحق في أجل القرض للمقترض، لا للمقرض، فله جبره على قبوله قبل الأجل بلا زيادة، فكانت زيادته له تبرعا، وحسن قضاء، وليست لحط الضمان، وقد استسلف صلى الله تعالى عليه وسلم بَكرا ورد رَباعيا، وقال:" إن خيار الناس أحسنهم قضاء "

(1)

واختلف إذا كانت الزيادة في القدر، فمنع ذلك ابن القاسم - رحمه الله تعالى - إلا كرجحان ميزان، وأجازه أشهب، ونقل عنه التقييد باليسارة كالدرهمين في المائة، ومنعه ابن حبيب مطلقا، وإلى هذا أشار بقوله: ومن يكن بمجلس القضاء رد الأبيات الثلاثة، وهذا حيث لم تشترط الزيادة عند العقد، ولم يعده بها، ولم تكن له بها عادة خاصة، لأن ذلك في معنى الشرط، فيكون سلفا بزيادة، وهو عين الربا، لا فرق في ذلك بين زيادة القدر وزيادة الصفة، وقوله: بمجلس القضاء، يعني عند قضاء القرض، ويحترز بذلك من الزيادة قبل القضاء المعروفة بهدية المديان، وهي ممنوعة بلا تفصيل، كان الدين من قرض أو من غيره، لأنه من أكل أموال الناس بالباطل، ما لم يكن ذلك لسبب غير الدين، كطرو مصاهرة وجوار، أو يكون لعادة سابقة.

(1)

متفق عليه.

ص: 636

قوله: ومن عليه دين عين البيتين، معناه أن الدين المؤجل إما أن يكون عينا أو عرضا، فإن كان عينا كان لمن عليه أن يعجله قبل أجله، ويجبر صاحبه على القبول، إذ لا مؤنة في حمله ولا نماء فيه، إذ لا ترصد به الأسواق، فلو خاف عليه لم يجبر، وإن كان عرضا فإن كان من قرض فكذلك، لما تقدم من أن الحق في الأجل فيه للمقترض، وذلك إذا كان في البلد، وإن كان من بيع لم يكن له تعجيله إلا إذا رضي صاحبه، لأن الحق في الأجل فيه لهما معا، وهو مما ترصد به الأسواق، والله سبحانه وتعالى أعلم.

1348 -

وبيع ما صلاحه لم يبدُ

من الحبوب والثمار حَرْدُ

1349 -

لكن إذا ببعض حائط ظهر

كفى جميع ما به من الثمر

1350 -

وليس بالجائز بيع سمك

يسبح في الأنهار أو في البِرَك

1351 -

وهكذا بيع أجنة الابل

بظهرها أو بطنها ليس يحل

1352 -

كغيرها كذا البعير الشارد

وهكذا الآبق أيضا يحرد

1353 -

كالكلب إن يك اتخاذه امتنع

وفي المجَوَّز خلاف قد وقع

1354 -

لكن من قتل ما قدُ اُذنا

فغرمه قيمته تعينا

قوله: وبيع ما صلاحه لم يبدو البيت، معناه أنه لا يجوز بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، لما في ذلك من الغرر، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم:" أرأيت إذا منع سبحانه وتعالى الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه "

(1)

وبدو الصلاح يختلف باختلاف الثمار، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: وجامع ذلك أن يصلح للأكل والانتفاع، ففي التين حلاوته، وفي العنب جريان الماء فيه، وفي الزيتون أن ينحو إلى السواد، وفي القثاء والفقوس أن ينعقد ويبلغ مبلغا يوجد له طعم، وروى أصبغ وأشهب أن يؤكل فقوسا قد تهيأ للتبطيخ.

وكذلك أيضا لا يجوز بيع الحبوب حتى تيبس عند مالك - رحمه الله تعالى - لما في الصحيح من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة.

(2)

(1)

متفق عليه من حديث أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ.

(2)

رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

ص: 637

قال في التاج: سمع يحيى: سألته عن الرجل يبيع الزرع وقد أفرك، والفول وقد امتلأ حبه وهو أخضر، والحمص والعدس وما أشبه ذلك، فيتركه مشتريه حتى ييبس ويحصد، أيجوز بيعه؟ فقال: إن علم به قبل أن ييبس فسخ البيع، وإن لم يعلم به إلا بعد أن يبس مضى البيع ولم يفسخ، وليس هو مثل من يشتري الثمرة قبل أن تزهي، لأن النهي جاء في بيع الثمار قبل أن تزهي من رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - واختلف العلماء في وقت بيع الزرع فقال بعضهم إذا أفرك، وقال بعضهم حتى ييبس، فأنا أجيز البيع إذا فات باليبس لما جاء فيه من الاختلاف، وأرده إذا علم به قبل أن ييبس، ابن رشد: لا يجوز عند مالك وأصحابه بيع شيء من ذلك حتى ييبس ويستغني عن الماء، إلا أنه إذا بيع عندهم بعد أن أفرك وقبل أن ييبس لا يحكمون له بحكم البيع الفاسد مراعاة لمن أجاز ذلك منهم.

قوله: لكن إذا البيت، معناه أنه إذا بدا الصلاح في بعض ثمار الحائط جاز أن يباع جميعه بذلك، وكذلك ما جاوره، وهذا إذا كان بدو صلاح ذلك على الوجه المعتاد، لا إن كان عن مرض، أو كانت باكورة، وذلك لما في التأخير إلى بدو الصلاح من الضرر بالمالك، لأنه إذا حبس أوله على آخره فسد، وبالمشتري لفوات التفكه، ولجريان العمل بذلك في سائر البلاد والأزمنة، وروى مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ عن زيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنه - أنه كان لا يبيع ثماره حتى تطلع الثريا.

قوله: وليس بالجائز بيع سمك البيت، معناه أنه لا يجوز على المشهور بيع السمك في البرك: جمع بركة، كسدرة وسدر، وهو الماء الذي انقطعت جريته، للغرر، قال ابن عرفة: وفي بيع الحيتان في البرك إذا حظر عليها قول أشهب: لا بأس، وقول ابن القاسم فيها: كرهه مالك، قال: كيف يباع الحوت في الماء؟!

ص: 638

قوله: وهكذا بيع أجنة الإبل البيت، معناه أنه لا يجوز بيع الجنين في بطن أمه، وهو المعروف ببيع المضامين، ولا بيعه في ظهر الفحل، وهو المعروف ببيع الملاقيح، ولا نتاج النتاج، بأن يبيعه ولد ما تلده ناقته مثلا، وهو المعروف بحبل الحبلة، وقيل هو بيع السلعة بثمن مؤجل إلى أن ينتج النتاج، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: اشتهر في كتب الفقهاء والأصوليين حديث النهي عن بيع المضامين والملاقيح، ولا أعرفه في كتاب حديث إلا في الموطإ مرسلا، روى مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا ربا في الحيوان، وإنما نهي من الحيوان عن ثلاثة من المضامين والملاقيح وحبل الحبلة، فالمضامين: ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح: ما في ظهور الجمال، ونقله الصقلي عن مالك مطلقا لا بقيد كونها في الإبل، وعزى لابن حبيب عكس قولي مالك فيهما، وخرج مسلم ومالك في الموطإ عن نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهم - عن رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أنه نهى عن بيع حبل الحبلة، زاد مسلم في رواية ابن عمر وهو في الموطإ قال: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت، الصقلي عن ابن حبيب وغيره: هو نتاج ما تنتج الناقة، وعزاه أبو عمر لأبي عبيد وابن حنبل وغيرهما.

قوله: كغيرها، أشار به إلى أن غير الإبل مثلها.

ص: 639

قوله: كذا البعير البيت، معناه أنه لا يجوز بيع البعير الشارد ولا العبد الآبق ولو قربت غيبته، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: وسمع ابن القاسم: لا أحب شراء الرجل بعيرا رآه مهملا في الرعي، لأنه لا يدري متى يؤخذ كإبل الأعراب المهملة في المهامه، ابن رشد: لأنه في حكم الآبق والشارد، زاد الصقلي والتونسي: إنما كرهه للغرر لعجزه عن أخذها، وإن قدر فقد لا يقدر إلا بعيب يدخلها، وسمع أصبغ ابن القاسم: لا يحل بيع صعاب الإبل للغرر في أخذها، لأنها ربما عطبت، ولجهل ما فيها من العيوب، وكذا المهارات في الفلا، كل ذلك مفسوخ.

قوله: كالكلب البيتين، معناه أن الكلب لا يصح بيعه لنهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن،

(1)

وتسميته ثمنا لا تقتضي الصحة، فهي كتسمية ما تأخذه البغي على بغائها مهرا، وهذا متفق عليه في الكلب المنهي عن اتخاذه، واختلف في المأذون فيه على سبعة أقوال، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: وفي المأذون فيه ثالثها إلا ما وقع في المغانم، ورابعها: لا بأس بشرائه مطلقا، ولا يعجبني بيعه، وخامسها: ولا يجوز بيعه، بدل لا يعجبني، وسادسها يجوز في الميراث والدين والمغانم، ويكره في غيرها، وسابعها الكراهة مطلقا.

(1)

متفق عليه.

ص: 640

قال في التاج: ابن رشد: مثل قول سحنون يعني الجواز قال ابن نافع وابن كنانة وأكثر أهل العلم، وهو الصحيح في النظر، لأنه إذا جاز الانتفاع به وجب أن يجوز بيعه، وإن لم يحل أكله كالحمار الأهلي يجوز بيعه ولا يحل أكله، قال ابن القاسم: ولا شيء على من قتل كلبا من كلاب الدور، بخلاف ما إذا قتل كلب صيد أو زرع، فعليه قيمته، ابن المواز: ويجوز اقتناء الكلاب للزرع والأجنة، لأنها من الزرع، أبو عمر في تمهيده: وكذا عندي يجوز اقتناؤه للمنافع كلها، ودفع المضار في غير البادية من المواضع المخوف فيها السرقة، ابن يونس: قال مالك - رحمه الله تعالى -: يقتل من الكلاب المؤذي، وما يكون بموضع لا ينبغي، وقال ابن لبابة: إن كان الكلب متخذا بموضع لا يجوز اتخاذه به، فصاحبه ضامن لما نقص الرداء، يقوم صحيحا، ويقوم بالذي أصابه، فما كان بين القيمتين ضمنه، ويوفيه صاحب الكلب، قال ابن سهل: لم يوجب ابن القاسم ضمان ما أصاب العقور إلا بوجهين، أحدهما أن يتقدم إليه، والآخر اتخاذه بموضع لا يجوز له اتخاذه فيه، انظر آخر نوازل ابن سهل - رحمه الله تعالى -.

1355 -

وبيع لحم مطلقا بحي

من جنسه ممتنع للنهي

1356 -

كذاك لا تجوز بيعتان

أيضا ببيعة وذا ضربان

1357 -

فبيعها نقدا له بعشرَهْ

أو اثنتي عشَرَةٍ مؤخره

1358 -

معَ لزوم أحد البيعين

بذاك هو أحد النوعين

1359 -

وبيع إحدى سلعتي نوعين

بتا بعشر هو ثاني ذين

ص: 641

قوله: وبيع لحم البيت، أشار به إلى أنه لا يجوز بيع الحيوان باللحم من جنسه، وقد تقدم الكلام على أجناس اللحوم، وذلك لما روى مالك - رحمه الله تعالى - من النهي عن الحيوان باللحم، قال في التبصرة: ومحمل الحديث إذا كانا من جنس واحد، وإن كانا من جنسين جاز، فيجوز أن يباع لحم ذوات الأربع بحي من الطير، ولحم الطير بحي ذوات الأربع، والحيتان بحي ذوات الأربع، وبحي الطير كل ذلك جائز يدا بيد، ويفترق الجواب إذا كان إلى أجل، فإن كان الحي يراد للقنية جاز إلى أجل وأن لا يكون يدا بيد، واختلف إذا كان لا يراد للقنية فمنعه مالك - رحمه الله تعالى - إذا كان الحي لا تطول حياته، واختلف عنه إذا كانت تطول، فمنعه مرة وأجازه أخرى، إلى أن قال: واختلف إذا كان الحي واللحم من جنس واحد، فقال مالك وابن القاسم لا يجوز، كان الحي يراد للقنية أو للذبح، لا نقدا ولا إلى أجل لظاهر الحديث، ورأيا أنه شرع غير معلل، وقال ابن القصار معنى الحديث إذا كان الحي لا يراد إلا للحم، وهو من المزابنة بمنزلة الرطب باليابس، وإليه ذهب الأبهري وأبو محمد عبد الوهاب وغيرهم من البغداديين، ورأوا أن الحديث معلل، وإن كان الحي يراد للقنية جاز، وقال ابن القاسم في المدونة إن المنع لأجل المزابنة، إلا أنه مر على المنع جملة، وإذا سلم أن المنع لأجل المزابنة جاز إذا كان الحي يراد للقنية.

ص: 642

قوله: كذاك لا تجوز بيعتان إلخ، معناه أن من البيوع الفاسدة بيعتين في بيعة، لنهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك،

(1)

وذلك يكون في الثمن، كأن يبيعه سلعة بخمسة نقدا أو عشرة إلى أجل، على وجه اللزوم لهما أو لأحدهما، فلو وقع مع خيارهما معا جاز، ويكون في المثمن، كأن يقول أبيعك هذا الثوب أو هذه الشاة بدينار على مثل ما سبق من اللزوم، وأما إذا اتفق نوع السلعتين فيجوز ذلك، قال في التاج: فيها لمالك - رحمه الله تعالى -: لا بأس بشراء ثوب من ثوبين يختاره بثمن كذا، أو خمسين من مائة ثوب في عدل يختارها إن كانت جنسا واحدا، ووصف رقاعها وجنسها وطولها، وإن اختلفت القيم بعد أن تكون كلها مروية أو هروية، فإن اختلفت الأجناس لم يجز، يريد على الإلزام، ولو كان كله على غير الإلزام لجاز.

وقال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: وقال ابن المواز إذا لم يختلفا اختلافا يبيح سلم أحدهما في الآخر، ومنع ابن حبيب حتى يستويا في الصفة والقيمة، ابن عرفة: وهو الأقرب، قائلا: ولو قيل بالمنع مطلقا لكان له وجه، لاختلاف الأغراض في المقومات والله سبحانه وتعالى أعلم.

وظاهر أن هذا لا يجري في الثياب اليوم ولا في أغلب المصنوعات، لأنها مثلية كما هو بين والله سبحانه وتعالى أعلم.

1360 -

ولا يجوز بيع تمر بالرطب

وهكذا بيع الزبيب بالعنب

1361 -

فبينها تمتنع المبادله

مع التماثل أو المفاضله

1362 -

وبيع رطب سائر الثمار

بيابس جانَسَ ذو انحظار

1363 -

وهكذا الكلام في الفواكه

إذ المزابنة عنها قد نُهِي

1364 -

وبيع ما جُزِّف بالمكيل

من صنفه أيضا من المحظول

1365 -

كذا الجزاف بالجزاف ذو انحراد

أيضا إذا ما الجنس كان ذا اتحاد

1366 -

إلا لفضل بين إن حُللا

في الجنس من ذلك أن يفاضلا

(1)

تقدم قريبا.

ص: 643

قوله: ولا يجوز بيع تمر الأبيات الأربعة، معناه أنه لا يجوز بيع التمر بالرطب ولا الزبيب بالعنب، لا متماثلا ولا متفاضلا، ولا رطب بيابس من جنسه، من سائر الثمار والفواكه، لنهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن المزابنة،

(1)

قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: المازري: المزابنة عندنا بيع معلوم بمجهول، أو مجهول بمجهول من جنس واحد فيهما، وتبعه ابن الحاجب وقبلوه، ويبطل عكسه ببيع الشيء بما يخرج منه حسبما يأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى، وتكون في الربوي وغيره.

وفي الموطإ أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - سئل عن شراء التمر بالرطب؟ فقال: " أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك "

(2)

قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: واختلف في المذهب هل يجوز بيع الرطب بالرطب أم لا، والمشهور جوازه، وقال ابن عبد الحكم لا يجوز لنقصه إذا جف، قال ابن عبد السلام: وهو أجرى على الأصل، لأنه لا يتحقق مقدار ما ينقص كل واحد منهما، وأما الزيتون بالزيتون مثلا بمثل، فإنه جائز، نص عليه اللخمي قائلا: وإن كان زيت أحدهما أكثر من الآخر، وزعم ابن الحاجب الاتفاق عليه.

قوله: وبيع ما جزف الأبيات، معناه أنه لا يجوز أن يباع جزاف بمكيل من صنفه، ولا جزاف بجزاف من صنفه، لما تقدم من نهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن المزابنة إلا لفضل بين في أحدهما إذا كان ذلك في غير ربوي، وأما الربوي فلا بد فيه من تحقق المماثلة.

1367 -

وبيع غائب على الوصف يحل

وشرط الانتقاد فيه ينحظل

1368 -

ما لم يكن قريبا أو عقارا

كشجر إلا فلا انحظارا

(1)

متفق عليه.

(2)

ورواه أبو داود أيضا والترمذي والنسائي وابن ماجة، وهو حديث صحيح.

ص: 644

قوله: وبيع غائب على الوصف يحل، معناه أن بيع الغائب على الصفة جائز، وكذلك بيعه على رؤية متقدمة لا يتغير بعدها، للإجماع على أنه لا يشترط في السلعة إذا كان قد رآها بالقرب أن تحضر وقت العقد، وسواء كان البيع فيهما على البت أو الخيار، وهذا ما لم يبعد جدا كخراسان من إفريقية، وإلا امتنع البت لكثرة الخطر والغرر، ويجوز بيع الغائب دون وصف ولا رؤية سابقة إذا كان على الخيار بالرؤية على المشهور، وقيل لا يجوز، قال في الجامع: قال عبد الوهاب: المبيع على ثلاثة أضرب عين حاضرة مرئية، وغائبة عن العقد، وسلم في الذمة، فلا خلاف في الحاضرة وفي السلم، وأما الغائبة فتجوز عندنا على الصفة أو على تقدم رؤية، خلافا للشافعي، في منع بيعها على الصفة، ودليلنا قوله سبحانه وتعالى:(وأحل الله البيع وحرم الربا) ولأن ما تتعذر رؤيته تقوم الصفة فيه مقام الرؤية كالسلم، قال: ولا يجوز بيعه بغير صفة ولا رؤية ولا مع خيار الرؤية، قال: وذكر في المدونة جواز ذلك إذا اشترط خيار الرؤية، وكان شيخنا أبو بكر بن صالح وأصحابه يقولون إنه خارج عن الأصول، قال ابن يونس - رحمه الله تعالى -: لا وجه لمنعهم جوازه، لأنه لا غرر فيه، ولا ما يمنع جوازه، وكأن المشتري لم يتحقق عنده الصفة ولا وثق بوصف غيره فاشترط رؤية نفسه، ولأن الصفة في الحقيقة لا تقوم مقام الرؤية، وقد توصف الجارية بصفة يظنها الموصوف له أنها فائقة في الجمال، فإذا نظرها لم تكن كذلك، قال غيره: بيع الشيء الغائب على الصفة أو الرؤية المتقدمة التي لا تتغير السلعة بعدها جائز، وقد تبايع عثمان وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنهما - فرسا غائبة، قال أبو جعفر الأبهري: وأجاز بيع الحيوان الغائب عمر وابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - ولا يعلم مخالف في الصحابة لهما، وقد أجمع الناس على جواز السلم على الصفة فهذا مثله.

ص: 645

قوله: وشرط الانتقاد إلخ، أشار به إلى أن اشتراط النقد في بيع الغائب لا يجوز، إلا أن يكون عقارا، كالدار والأرض والشجر، أو يكون قريبا يؤمن تغيره، وهذا في الغائب المبيع على البت، وأما الغائب المبيع على الخيار فلا يجوز النقد فيه مطلقا، لا طوعا ولا عن شرط، كما تقدم في الكلام على بيع الخيار.

1369 -

وفي الرقيق جوزنَّ العهده

إن تشترط أو تك عرف البلده

1370 -

وعهدة الثلاث كل طار

فيها يكون موجب الخيار

1371 -

وعهدة السنة ردها يخص

بجنه أو الجذام والبرص

معناه أنه يقضى في الرقيق المبيع بعهدة الثلاث وعهدة السنة، إذا كانتا عرف البلد، أو اشترطتا، فيرد في عهدة الثلاث بكل حادث من مرض أو عيب، ويرد في عهدة السنة بحدوث جذام، أو برص، أو جنون، دون ما سواها، والأصل في ذلك عمل أهل المدينة المنورة، وروى مالك في الموطإ أن أبان بن عثمان بن عفان وهشام بن إسماعيل كانا يقولان في خطبتهما العهدة ثابتة، عهدة الثلاث وعهدة السنة.

قال في الإشراف: وأما الخلاف فيه اليوم فعلى تقدير أنه إن اتفق عليه أهل بلد وتصالحوا عليه هل يلزم بينهم من لم يشترطه ودخل على البيع المطلق أم لا، هاهنا يتصور الخلاف، فعندنا يلزمه، وعند أبي حنيفة والشافعي لا يلزم، ودليلنا حديث الحسن عن عقبة أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال:" عهدة الرقيق ثلاثة أيام "

(1)

ولأن ذلك إجماع أهل المدينة المنورة من طريق النقل.

1372 -

لا بأس بالسلم في الطعام

والعرض كله وفي الإدام

1373 -

والحيوان والرقيق إن وُصِف

بكل ما القيمة منه تختلف

1374 -

معْ كونه لأجل قد عُلما

وكونِ رأس ماله مقدَّما

1375 -

بحيث في ثلاثة الأيام

من عقده يكون ذا استلام

1376 -

فللثلاث لم يكن منحظرا

ولو مع اشتراطٍ أن يؤخرا

1377 -

ونصف شهر عندنا هو أقل

ما ينبغي اتخاذه به أجل

(1)

رواه أبو داود وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث ضعيف.

ص: 646

1378 -

ما لم يكن يقبضه ببلد

آخرَ غير بلد التعاقد

1379 -

إن يك سير ذلك المكان

من ثم أدنى وقته يومان

1380 -

وبالثلاثة من الأيام

تأجيله جاز لدى أعلام

1381 -

ببلد السلم والفسخ نُمي

فيه لقوم منهم ابن القاسم

1382 -

وسلم الشيء بجنسه وما

قرب منه سلم قد حرما

السلم عرفه ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة، غير متماثل العوضين، فيخرج شراء الدين، وإن ماثل حكمه حكمه، لأنه لا يصدق عليه عرفا، والمختلفان يجوز اشتراكهما في شيء واحد، والكراء المضمون، والقرض، ولا يدخل إتلاف المثلي غير عين ولا هبة غير معين، والأصل فيه حديث الصحيح " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم "

(1)

وحديث عبد الله ابن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - أنه ابتاع البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة بأمر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -

(2)

(1)

متفق عليه.

(2)

رواه أبو داود والدارقطني وصححه، والحاكم، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه ..

ص: 647

واحتج له أيضا بعموم قوله سبحانه وتعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) وجوازه مجمع عليه، وهو رخصة مستثناة من بيع ما ليس عندك، ويجوز في العروض، والرقيق، والحيوان، والطعام، والإدام، كالبيع، وتشترط في السلم شروط، منها أن تبين صفات المسلم فيه التي يترتب عليها تفاوت قيمته، لرفع الخطر والغرر، وذلك يختلف باختلاف البلاد، قال في الجواهر: قال الإمام أبو عبد الله: الصفات التي تجب الإحاطة بها هي التي يختلف الثمن باختلاف أحوالها، فيزيد عند وجود بعضها، وينتقص عند انتقاص بعضها، ولا طريق إلى العلم بهذه الصفات التي يختلف الثمن باختلافها إلا بالرجوع إلى العوائد، واعتبار المقاصد، قال: وقد تختلف العوائد باختلاف البلاد وأغراض سكانها، فيجب على الفقيه أن يجعل العمدة في هذا الإسناد إلى عوائد سكان البلد الذي يفتي أهله، فينظر ما يقصدون إليه من الصفات ويزيدون في الثمن لأجله فيضبطه، ويشترط في صحة السلم ذكره.

قال في الجواهر: ثم يترك كل شيء على الغالب، فإن لم يكن فالوسط.

وإلى هذا الشرط أشار بقوله: إن وصف البيت، ومن الشروط أيضا أن يكون مؤجلا، قال في الإشراف: الصحيح من المذهب أنه لا يجوز السلم الحال خلافا للشافعي، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم " ولأن السلم إنما جوز ارتفاقا للمتعاقدين، لأن المسلم يقدم الثمن للارتخاص، والمسلم إليه يرغب فى ارتخاص الثمن للرفق الذي له في استعجال الانتفاع به، و في الصبر والتأخير، وإذا زال الرفق فكان كالقرض، لما كان الرفق بالمقترض كان ما أخرجه عن ذلك يبطله، ولأن السلم مشتق من اسمه الذي هو السلف، وهو أن يتقدم رأس المال، ويتأخر المسلم فيه، فوجب منع ما أخرجه عن ذلك، ولأنه بدل في السلم فوجب أن يقع على وجه واحد اعتبارا برأس المال.

ص: 648

وحد مالك - رحمه الله تعالى - أقل الأجل بما تتغير فيه الأسواق، وقال ابن القاسم خمسة عشر يوما، وعده بعضهم تفسيرا لقول مالك، لأن الأسواق تتغير في ذلك غالبا، وقال ابن عبد الحكم يجوز إلى يوم، وقال ابن وهب إلى يومين، وقيل إلى خمسة أيام، والمشهور الأول، وإلى هذا أشار بقوله: مع كونه لأجل قد علما، وقوله بعد: ونصف شهر البيت، واختلف إذا وقع السلم إلى ثلاثة أيام هل يمضي ولا يفسخ وهو لأصبغ، قال: لأنه ليس بحرام بين، ولا مكروه بين، واختاره ابن حبيب، وقال ابن المواز فسخه أحب إلينا، وهو ظاهر المدونة عند ابن رشد، قاله سيدي زروق - رحمه الله تعالى -.

وإلى هذا أشار بقوله: وبالثلاثة من الأيام البيتين، فمراده بالجواز المضي بعد الوقوع، ويقوم مقام ضرب الأجل الذي تتغير فيه الأسواق اشتراط القبض ببلد غير بلد العقد، مما تغير الأسواق بينهما كاليومين والثلاثة، قال في التاج: ابن أبي زمنين: إن اشترط أن يقبضه ببلد آخر فلا يجوز إلا أن يضرب أجلا، ويَشترط أن يخرج إليه حالا، فيكون بمنزلة الأجل، ابن يونس: هذا أحسن مما ذكر ابن المواز، قال: وهذا إذا كان الطريق في البر، فأما إن كان في البحر فلا يجوز هذا، لأن السير ليس له وقت معروف.

وإلى هذا أشار بقوله: ما لم يكن يقبضه ببلد البيتين.

ومن الشروط أيضا تعجيل رأس المال، لنهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن الكالئ بمثله،

(1)

قال ابن شاس - رحمه الله تعالى -: ولا يشترط قبضه في المجلس، ولا يفسد العقد بتأخيره بالشرط اليوم واليومين، وفي كتاب بيع الخيار الثلاثة أيضا، وحكى ابن سحنون وبعض البغداديين فساد السلم إذا افترقا قبل القبض، وهو خلاف في حكم المقارب للشيء هل هو لحكم الشيء أم لا، ويرجع الخلاف أيضا إلى اعتبار ما يسمى دينا بدين وما لا يسمى بذلك.

(1)

رواه البيهقي والحاكم، وقال الإمام أحمد: لم يصح فيه حديث، ولكن هو إجماع.

ص: 649

وإلى هذا أشار بقوله: وكون رأس ماله مقدما إلى قوله: أن يؤخر.

قوله: وسلم الشيء بجنسه البيت، معناه أنه لا يجوز أن يسلم الشيء في أكثر منه أو أجود من جنسه، أو ما قاربه، أو أقل منه أو أردأ، لأنه في الأولين سلف بزيادة، وقد تقدم أنه عين الربا، وفي الأخيرين ضمان بجعل، وقد تقدم الكلام عليه أيضا، وأما سلمه في قدره بصفته من جنسه أو ما قاربه فقرض، فإن كان لنفع المقترض خاصة صح وندب، وإن كان لمنفعة المقرض أو منفعتهما معا منع، وهذا ما لم تختلف المنافع بأن يكون كل يراد لغير ما يراد له الآخر، وإلا جاز، كالأجناس المختلفة، والمدرك في ذلك العرف فتجب مراعاته في كل بلد، وقد كنت قلت:

إن يتحد في السلم الجنس نُظِر

فإن يك النفع كذاك ينحظر

وحيث في الجنس اختلاف المنفعه

يحصل فالسلم فيه ذو سعه

لكن إذا ما الاختلاف ضعُفا

شُرط في العدد أن يختلفا

فجمل الركوب فيه سلمُ

جملِ حملٍ عندهم لا يحرم

دون شريطة اختلاف العدد

كمثل ما في الجنس لم يتحد

أما إذا الكل لحمل قُصدا

فالشرط ثم الاختلاف عددا

فيسلم الرديء ذو التعدد

بجيد من جنسه منفرد

وهكذا العكس والاختلاف

مرجعه عندهم الأعراف

والله سبحانه وتعالى أعلم.

1383 -

والدين بالدين كذاك امتنعا

فالنهي عنه في الحديث وقعا

1384 -

وفسخ ما بذمة لك على

آخر في مؤخر قد حُظلا

1385 -

وبيع شيء ليس عندك معا

حلوله عليك أيضا مُنعا

ص: 650

قوله: والدين بالدين البيتين، أشار به إلى ما جاء في الحديث من النهي عن الكالئ بالكالئ، والكالئ: الدين، وهو أنواع، منها ابتداء الدين بالدين، كتأخير رأس مال السلم على ما تقدم بيانه، ومنها بيع الدين بالدين، كأن تبيع الشاة المترتبة لك في ذمة زيد من عمرو، بدنانير مترتبة له في ذمة شخص ثالث، ومنها فسخ الدين في الدين، كأن تكون لك على شخص دنانير فتشتري منه بها ثيابا إلى أجل، والمراد بالدين ما لا تتعجله، فيدخل ما إذا جعل لك في دينك عليه شيئا غائبا، كبعير في بلد كذا، أو منافع، سواء كانت مضمونة، بأن لم يعين ما تستوفى منه، أو كانت معينة، خلافا لأشهب في الغائب والمنافع المعينة.

قوله: وبيع شيء البيت، أشار به إلى أن السلم الحال ممنوع، لنهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن أن يبيع المرء ما ليس عنده،

(1)

قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: وهذا ما لم يكن الغالب وجوده عند المسلم إليه، فإن كان الغالب وجوده فإنه يجوز أن يسلم إليه على الحلول، إجراء له مجرى النقد، كالقصاب والخباز الدائم، وأخذ اللخمي - رحمه الله تعالى - منه جواز السلم على الحلول، وأجيب بأنه إنما أجيز هنا لتيسره عليهم بخلاف غيرهم.

وقد كنت قلت:

وبيع أمر غالب الحصول

عندك معْ سهولة التحصيل

من غير تعيين على الحلول

ليس لدى الإمام بالمحظول

فذا يقوم عنده مقاما

تعيينه فلم يكن حراما

وزاعم بذا إباحة سلم

حلَّ عن الإمام عندهم وهم

لذا أبو الضياء بالإيجاز

أومأ بالشرا من الخباز

والله سبحانه وتعالى أعلم.

1386 -

وحيث بعتَ سلعة لرجل

بثمن مؤجل لأجل

1387 -

وابتعتها منه فإما بأقل

أو مثل أو لا نقدا أو إلى أجل

1388 -

فبأقل نقدا أو مؤجلا

بأجل أقرب من ذا حُظلا

1389 -

وهكذا بأزيدٍ من الثمن

لزمن وراء ذلك الزمن

1390 -

ومعْ تساوي الاجلين الكل حل

ويتساقطان إن أتى الأجل

(1)

رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 651

أشار بهذه الأبيات إلى بيوع الآجال، وعرفها ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: لقب لمتكرر بيع على عاقدي الأول، ولو بغير عين، قبل اقتضائه، وعرفها ابن الحاجب - رحمه الله تعالى - بقوله: هو لقب لما يفسد بعض صوره منها لتطرق التهمة بأنهما قصدا إلى ظاهر جائز ليتوصلا إلى باطن ممنوع، حسما للذريعة، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى - بعد أن ساق أدلة من أدلة سد الذرائع: وأبواب الذرائع في الكتاب والسنة يطول ذكرها، ولا يمكن حصرها، من ذلك قول النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "

(1)

وقوله: " الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كان كالواقع حول الحمى يوشك أن يقع فيه "

(2)

وقال: " ألا لكل ملك حمى، وإن حمى الله تعالى محارمه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " والربا أحق ما حميت مراتعه، ومنع منها لئلا يستباح الربا بالذرائع، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: كان من آخر ما أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله آية الربا، فتوفي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم يفسرها، فدعوا الريبة والريبة، وأيضا فإن مراعاة التهمة أصل يبني الشرع عليه، قال صلى الله تعالى عليه وسلم:" لا تجوز شهادة خصم ولا ظِنين ولا جار إلى نفسه "

(3)

ولم يجز أهل العلم شهادة الأب لابنه، ولا شهادة الابن لأبيه، من طريق التهمة، ومنه منعوا القاتل عمدا الميراث، وورثوا المبتوتة في المرض، ومثل هذا كثير.

(1)

رواه الترمذي والنسائي والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

(2)

متفق عليه.

(3)

ذكر مالك في الموطإ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، وأما الجار إلى نفسه، فلم أقف على شيء فيه، إلا أن ذلك تهمة.

ص: 652

وقال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: وذكر أهل المذهب طرقا في الدليل على اعتبار سد الذرائع، وأحسنها أن الأمة اجتمعت على المنع من بيع وسلف، وذلك أن البيع على انفراده جائز إجماعا، وكذلك السلف على انفراده إجماعا، والإجماع على المنع من اجتماعهما في عقد واحد، فإذا ثبت ذلك فالمنع ليس لأجل هذا العقد، وإنما هو للهيئة الاجتماعية، وليس ذلك المنع لذاتها، لأن الأحكام الشرعية إنما تتبع الصفات غالبا، فيتعين أن يكون الحكم بالمنع تابعا للصفة في هذا العقد، ولا معنى بعد البحث إلا ما يتقى في هذا العقد أن يكون أسقط شيئا من الثمن أو زيد فيه لأجل انضمامه للبيع، وهذا هو القول بسد الذرائع من حيث الجملة، فلم يبق بعد ذلك نظر إلا في تحقيق الذريعة، فحيث تحققت منع منها.

وقد استبعد ابن عبد السلام رعاية مثل هذه الذرائع وأطال في ذلك، وتتبع ابن عرفة - رحمهما الله تعالى - في مختصره كلامه بالنقض جملة جملة، وكلام ابن عرفة أقعد بالصواب.

ص: 653

وكيفية النظر في هذا الباب أن لا تعتبر الصورة المتحيل بها، بأن تسقط السلعة التي خرجت من يد البائع أولا وعادت إليها، وتركب العقد دونها، فإن كان العقد على ذلك الوجه ممنوعا، نظرت، فإن كان ذلك مما يكثر قصد الناس إليه، كبيع وسلف، وسلف بمنفعة، فذلك ممنوع، وإن كان القصد إليه قليلا كان جائزا، وذلك كضمان بجعل، وأسلفني وأسلفك، ومعنى الأبيات أن من باع سلعة لأجل ثم اشتراها بجنس الثمن، فإما أن يشتريها بأقل مما باعها به، أو بأكثر منه، أو بمثله، وإما أن يكون ذلك على الحلول، أو إلى أجل، ثم الأجل إما أن يكون أبعد، أو أقرب، أو مساو، فتلك اثنتا عشرة صورة، تمنع من ذلك ثلاث صور، وهي شراؤه بأقل نقدا، أو لدون الأجل، لما في ذلك من السلف بزيادة، فإذا باعه شاة بعشرة إلى شهر، واشتراها منه بثمانية حالة، أو إلى نصف شهر، فكأنه أسلفه ثمانية يأخذ عنها بعد شهر عشرة، والشاة ملغاة، لأنها عادت إلى صاحبها، وإنما تذرعا بها للسلف بزيادة، والصورة الثالثة أن يشتريها منه بأكثر لأبعد من الأجل، للعلة المذكورة، فكأن أول ما حصل بينهما دفع الأقل، الذي يأخذ عنه أكثر منه بعد أجل، والضابط أنه متى اتفق الثمنان أو الأجلان فالجواز، وإن اختلفا نظر إلى اليد السابقة بالعطاء بعد إلغاء السلعة، فإن دفعت أقل وعاد إليها أكثر فالمنع، وإلا فالجواز، وصور بيوع الآجال كثيرة جدا، ونقل سيدي زروق - رحمه الله تعالى - عن الديباج المذهب أن الشارمساحي لما دخل بغداد ليقرأ فيها قال له بعض الناس: كم تعرف في مسألة بيوع الآجال من وجه؟ قال ثمانين ألف وجه، فكأنهم استبعدوا ذلك، فأخذ يسرد حتى جاوز المائتين، فاستثقلوها فترك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 654

ومثال ما يتهم فيه على قصد البيع والسلف، أن يبيعه سلعتين بدينارين إلى شهر، ثم يشتري إحداهما بدينار نقدا، فقد آل الأمر إلى أنه أعطاه سلعة ودينارا يأخذ عنهما بعد شهرين دينارين، فكأنه باعه السلعة بدينار وأسلفه دينارا، ومثال ما يتصور فيه قصد الضمان بجعل، أن يبيع ثوبين بعشرة دراهم إلى شهر، ثم يشتري منه عند الأجل أو قبله أحدهما بالعشرة، فآل أمره إلى أنه دفع له ثوبين ليضمن له أحدهما إلى أجل، ويكون الثاني جعلا له على الضمان، ومثال تصور قصد أسلفني وأسلفك، أن يبيع ثوبا بدينارين إلى شهر، ثم يشتريه بدينار نقدا ودينار إلى شهرين، فالسلعة قد رجعت إلى صاحبها و دفع الآن دينارا ويأخذ بعد شهر دينارين أحدهما عوض بما كان أعطاه، والثاني كأنه أسلفه ليرده بعد شهر.

قوله: بثمن مؤجل لأجل، مقتضاه أن البيعة الأولى إذا كانت على النقد جاز ذلك كله، وهو كذلك، إلا أن يكونا أو أحدهما من أهل العينة.

قوله: ويتساقطان إلخ، معناه أنه يقضى بالمقاصة في الصور الجائزة، سواء شرطاها أو سكتا عنها، فإن اشترطا عدمها فالمنع للدين بالدين، وإذا اشترطاها في الصور الممنوعة جازت.

1391 -

والبيع للموزون والمكيل

على الجزاف ليس بالمحظول

1392 -

وهُو في مسكوك نقد امتنع

أما النُّقار فجزافه اتسع

1393 -

وكل ما آحاده ذات اختلاف

معتبرٍ فلا يباع بالجزاف

1394 -

مثلِ ثياب لا كبيض مثلا

فبيعه على الجزاف حللا

1395 -

وهو في المعدود ذو انحراد

ما لم يشق العد للآحاد

ص: 655

أشار بهذه الأبيات إلى البيع على الجزاف، والجزاف مثلث الجيم، فارسي معرب، وهو بيع الشيء على التقدير والتخمين، من غير كيل ولا وزن، وعرفه ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: بيع الجزاف: بيع ما يمكن علم قدره دون أن يعلم، والأصل منعه، وخفف في ما شق علمه، أو قل جهله، وقد أجيز البيع على الجزاف رفقا وتيسيرا لما في الكيل والوزن من المشقة، مع أن الفرق بين المكيل مثلا والمجزف من العارف بالجزاف يسير غالبا، شبيه بما تتفاوت به المكاييل، ولا يجوز الجزاف في ما يعد، لأن شأن العد السهولة، فإن شق عده جاز فيه الجزاف، هذا هو المراد بالبيت الأول: والبيع للموزون البيت، والبيت الأخير: وهو في المعدود إلخ.

وتشترط في صحة البيع على الجزاف أمور، منها أن يكون المجزف مرئيا، فلا يصح في الغائب، ومنها أن يكون كل من المتبايعين جاهلا بقدر ذلك الشيء، ومنها استواء مكانه، لأنه إن انخفض زاد على التقدير، وإن علا نقص عنه، ومنها أن يمكن حزره، فلو كثر جدا امتنع الجزاف فيه لغلبة الخطإ، ومنها أن يكون كل منهما قد اعتاد الحزر، ومنها أن لا تتفاوت آحاد المعدود تفاوتا تختلف به الرغبات، كالثياب والرقيق والماشية، إلا أن يقل ثمنه كالبيض، وإلى هذا أشار بقوله: وكل ما آحاده البيتين، قال في التاج: قال ابن بشير: إن قلت أثمان المعدودات جاز بيعها جزافا، وإن كثرت أثمانها واختلفت آحادها اختلافا بينا، لم يجز بيعها جزافا، لأن الغرر فيها من وجهين معرفة الآحاد ومعرفة المبلغ، وإذا كثر الغرر منع البيع، وإذا كان المطلوب الجملة دون الآحاد، فالغرر من وجه واحد، وإذا قل الغرر لم يحرم البيع، القباب: قيدوا الجواز في المعدودات بما تساوت أفراده، أو يكون المقصود مبلغه لا آحاده كالبطيخ.

ص: 656

قوله: وهو في مسكوك البيت، معناه أن النقد المسكوك الذي يتعامل به عددا لا يجوز فيه الجزاف، لما في ذلك من الغرر والمخاطرة، وأما نقار الذهب والفضة فبيعه على الجزاف جائز، وكذلك المسكوك الذي يتعامل به وزنا، هذا هو المشهور، وقيل بالمنع في الجميع، والجواز في الجميع، قال في التاج: ابن رشد: فإن كان التعامل في المسكوك بالوزن فجل أهل المذهب أنه يجوز بيعه جزافا، لأن المطلوب حينئذ مبلغه لا آحاده، وأما ما كان من العين مكسورا أو مصوغا فهو بمنزلة العروض يجوز بيعه جزافا.

1396 -

وحيث بعتَ شجرا بعد الِابار

فلك لا للمشتري منك الثمار

1397 -

إلا لتصريح لدى عقد الشرا

بكونه يشمل ذاك الثمرا

1398 -

ثم إِبار النخلة التذكير

والزرع معناه به الظهور

1399 -

وإن تبع عبدا فماله لكا

ما لم يك اشترط غير ذلكا

قوله: وحيث بعت شجرا البيتين، معناه أن من باع نخلة قد أبرت فثمرتها له، إلا أن يشترطها المشتري لحديث الصحيح " من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع "

(1)

وألحق بالنخل غيره من الشجر، وتأبير النخل: لقاحها، بأن يعلق طلع الذكر على الأنثى، ويسمى بالتذكير، وذلك هو قوله: ثم إبار النخلة التذكير، وإن أبر بعضه دون بعض، نظر فإن كان أحدهما أكثر فالحكم حكمه في الجميع، وإن تساويا فكل على حكمه، قوله: والزرع معناه به الظهور، معناه أن الإبار في الزرع ظهوره وخروجه من الأرض، فإذا باع أرضا بها زرع قد ظهر فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، هذا هو المشهور، وقيل إباره أن يفرك، وقيل أن يسنبل.

قوله: وإن تبع عبدا البيت، معناه أن من باع عبدا له مال، فماله لبائعه، إلا أن يشترطه المبتاع، وقد جاء ذلك في الحديث الصحيح،

(2)

ولا خلاف في هذا عند أهل المذهب، ويتناول العقد عليه ثياب المهنة دون ثياب الزينة.

1400 -

وبيع ما في العِدل بالبرنامِج

معْ وصفه ليس به من حرج

(1)

متفق عليه.

(2)

متفق عليه.

ص: 657

1401 -

والبيع للثوب بدون نشر

ودون ما وصف له ذو حظر

1402 -

كذاك بيعه بليل أظلما

بدون ما تأمل قد حرما

1403 -

وفي ذوات الحافر البيع معا

ظلام ليلٍ عندهم قد منعا

1404 -

وأشهب جوزه في النعم

وليس جائزا لدى ابن القاسم

أشار بالبيت الأول إلى أن البيع على البرنامج جائز، والبرنامج - بفتح الباء وكسر الميم -: فارسي معرب، اسم للدفتر الذي تكون فيه صفة ما في العدل، وإنما أجيز البيع على البرنامج لما يلحق صاحب الأعدال من الضرر بالنشر والطي، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ في الرجل يقدم له أصناف من البز، ويحضره السوام، ويقرأ عليهم برنامجه، ويقول في كل عدل كذا وكذا مِلحفة بِصرية، وكذا وكذا رَيطة سابِرية، ذرعها كذا وكذا، ويسمي لهم أصنافا من البز بأجناسه، ويقول اشتروا مني على هذه الصفة، فيشترون الأعدال على ما وصف لهم، ثم يفتحونها فيَسْتَغِلونها ويندمون: إن ذلك لازم لهم إذا كان موافقا للبرنامج الذي باعهم عليه، قال: وهذا الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا يجيزونه بينهم، إذا كان المتاع موافقا للبرنامج ولم يكن مخالفا له.

قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: أبو عمر: لا بأس ببيع البز والقطن والكتان في أعداله بغير برنامج إذا فتح ونظر لبعضه على أن آخره على صفة ما رأى، فإن وجد فيها خلافا يسيرا، والصنف واحد وأشبه بعضه بعضا إلا أن الأول أجود لأن وجه الشيء لزم البيع، وإن جاء بخلاف الصفة أو تغير كثيرا فله الرد، قال ابن عرفة: هذا نص في ما عليه بيع زكائب الكتان وسلل التين والعنب ونحوهما ببلدنا، وكان بعض قضاة شيوخنا يتوقف في بيع الزكائب كذلك، والصواب جوازه، لأن نثر ذلك فساد له.

ص: 658

قوله: والبيع للثوب بدون نشر البيتين، أشار به إلى أن بيع الثوب دون نشر ولا وصف، أو بيعه في ليل دون تأمله، ولا معرفة حقيقة أمره، لا يجوز، وقد جاء في الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة،

(1)

قال في التاج: مالك: من اشترى ثيابا مطوية ولم ينشرها، ولا وصفت له فالبيع فاسد، والملامسة: شراؤك الثوب لا تنشره ولا تعلم ما فيه، أو تبتاعه ليلا ولا تتأمله، والمنابذة: أن تبيعه ثوبك وتنبذه إليه بثوبه وينبذه إليك من غير تأمل منكما، فذلك غرر.

قوله: وفي ذوات الحافر البيتين، أشار به إلى أن بيع الحيوان في اليل كذلك لا يجوز - مأكول اللحم أو لا - خلافا لأشهب في الأول، لأن سمنه يدرك باللمس.

وحاصل المقام أنه لا يجوز بيع السلعة برؤيتها على وجه لا تحصل به معرفتها معرفة كافية، بحيث يمكنه أن يدرك حقيقة ما يقع فيه التغابن من أمرها والله سبحانه وتعالى أعلم.

1405 -

والبيع ينعقد بالكلام

بدون شرط فرقة الأجسام

أشار بقوله: والبيع ينعقد بالكلام، إلى أن البيع ينعقد بما يدل على التراضي عرفا، من قول أو فعل، لقوله سبحانه وتعالى:(إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وأشار بقوله: بدون شرط فرقة الأجسام، إلى أن انعقاده لا يتوقف على فرقة الأجسام، وأما حديث " البيعان بالخيار " المتقدم في الكلام على الخيار بالشرط فلم يأخذ به مالك - رحمه الله تعالى - وذلك كما قال ابن رشد - رحمه الله تعالى - لاستمرار العمل بالمدينة المنورة على خلافه، وما استمر عليه العمل بالمدينة المنورة واتصل فهو عنده مقدم على أخبار الآحاد العدول، لأن المدينة المنورة دار النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وبها توفي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه متوافرون، فيستحيل أن يتصل العمل منهم في شيء على خلاف ما روي عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلا وقد علموا النسخ فيه.

(1)

متفق عليه.

ص: 659

وبقول مالك - رحمه الله تعالى - أخذ فقهاء المدينة المنورة السبعة غير سعيد بن المسيب، وأخذ بالخيار بالمجلس الشافعي وابن حبيب والسيوري، وهي إحدى المسائل التي حلف لا يأخذ فيها بقول مالك رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين -.

1406 -

وجوزوا إجارة على عمل

محدد أو ضربا له أجل

1407 -

إن سميا أجرا وفي الجعل احظلا

ضربَهما للفعل فيه أجلا

1408 -

برد آبق وفي بعير

شرد مثل حفره لبير

1409 -

وبيعه ثوبا ونحوه ولا

شيء له ما لم يُتم العملا

1410 -

ومن على بيع يؤاجر حيث تم

أجله فأجره له انحتم

1411 -

لو لم يبع وإن يبع خلاله

فأعطه قدر الذي مضى له

ص: 660

لما أنهى الكلام على البيوع، شرع في الكلام على الإجارة والكراء والجعل، والإجارة مثلثة الهمزة، مأخوذة من الأجر، وعرفها عياض - رحمه الله تعالى - بقوله: بيع منافع معلومة بعوض معلوم، وهي جائزة بالكتاب العزيز، كقوله سبحانه وتعالى:(على أن تأجرني ثماني حِجج) وبالسنة المطهرة، كاستئجاره صلى الله تعالى عليه وسلم الرجل الدِّيلي دليلا في الهجرة،

(1)

(1)

رواه البخاري ..

ص: 661

وبالإجماع، وهي كالبيع في العاقد، فيشترط في الانعقاد تمييز المتعاقدين، ويشترط في اللزوم التكليف والطوع، ولا يشترط في المستأجر - بفتح الجيم - الرشد باطراد، وإنما يشترط باطراد في المستأجر - بالكسر - بغير منفعة تستوفى منه، وتنعقد بما ينعقد به البيع مما يدل على الرضا من قول أو غيره، ويشترط في الأجر ما يشترط في عوضي البيع، ويشترط في المنفعة أن يقدر على تسليمها، وأن تكون مما أذن الشرع فيه، بخلاف تعليم غناء ونحوه، وأن لا تكون أمرا متعينا على المستأجر - بالفتح - كركعتي الفجر، بخلاف الكفائي كتجهيز الميت، ولا بد في الإجارة من تحديد المستأجر عليه، بأن يكون معلوم القدر، إما بضرب الأجل كأن يستأجره يوما أو شهرا في العمل كذا، كخياطة الثياب، أو بعمل كأن يستأجره على خياطة ثياب معلومة، وإلى هذا أشار بقوله: وجوزوا إجارة البيت، ولا بد فيها من تسمية الأجر، إلا أن يكون هناك عرف منضبط به، فيكفي عن التسمية، وإلى هذا أشار بقوله: إن سميا أجرا، ويعجل الأجر للعامل إذا اشترط تعجيله، أو كانت العادة جارية بذلك، أو كانت المنافع مضمونة ـ بأن لم يعين ما تستوفى منه ـإذا تأخر الشروع فيها، خوف الدين بالدين، وهذا كله إذا كان الأجر غير معين، وأما إذا كان معينا كأن يستأجره بشياه معينة على حفر بئر فلا بد من اشتراط التعجيل إن لم يكن العرف جاريا بالتعجيل، وإلا فسدت عند ابن القاسم - رحمه الله تعالى - لأن الأصل في الأجر عنده التأخير، وذهب المدنيون كالأخوين إلى أنه إنما يضر اشتراط تأخيره، فإن لم يشترط عجل، ولا يضر كون العرف التأخير.

ص: 662

قوله: وفي الجعل احظلا البيت، أشار به إلى أن الجعل لا يجوز فيه ضرب الأجل، لأن ذلك يزيده غررا، إلا أن يشترط مع ذلك الترك متى شاء، والجعل عرفه ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: معاوضة على عمل آدمي يجب عوضه بتمامه لا بعضه ببعضه، وهو جائز بالكتاب العزيز كقوله سبحانه وتعالى:(ولمن جاء به حمل بعير) وبالسنة المطهرة كحديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله تعالى عنه ـفي رقية الملدوغ بالفاتحة،

(1)

وهو منحل من قبل العامل مطلقا، فله الترك متى شاء، وأما الجاعل فمنحل من قبله ما لم يشرع العامل، بخلاف الإجارة فإنها لازمة لهما معا بمجرد العقد، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ومن شروط صحة المجاعلة أن يكون الجعل معلوما، وأن لا ينقد، وأن يكون لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمامه، وأن لا يضرب للعمل المجعول فيه أجلا، فإن ضرب له أجلا ولم يشترط أن يتركه متى شاء لم يجز، واختلف إن اشترط ذلك.

إلى أن قال: وليس من شروط الجعل أن يكون الجعل في القليل، وإن كان قد قال ذلك عبد الوهاب وغيره فليس بصحيح، وإنما الصحيح أنه جائز في كل ما لا يصح للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه ـ كما قدمناه ـ كان قليلا أو كثيرا، وغير جائز فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمامه، كان قليلا أو كثيرا، ولذلك قال ابن المواز إن الجعل على حفر الآبار لا يجوز إلا في ما لا يملك من الأرضين، لأن ما يملك من الأرضين إن ترك المجعول له العمل بعد أن حفر بعض البئر انتفع الجاعل بما حفر منها بوجوه كثيرة من وجوه المنافع، وما لا يملك من الأرضين لا منفعة للجاعل في ما حفر المجعول له منها إن لم يتم حفرها، فإذا لم يكن للجاعل في العمل المجعول فيه منفعة إلا بتمامه جاز الجعل، قياسا على قوله سبحانه وتعالى:(ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) لأنه إذا لم يأت المجعول له في الطلب بالمطلوب، لم ينتفع الجاعل بغايته في الطلب، وهذا بين.

(1)

متفق عليه.

ص: 663

وعد اللخمي - رحمه الله تعالى - من شروط الجعل أن يكون في ما يقل الاشتغال به

وقد كنت قلت:

ألجعل يختص بأفعال البشر

كما به العَرَفِي جا في المختصر

وشرطُ أن يكون مما قد ندر

شغل به اللخمي أيضا قد ذكر

ومثل الشيخ للجعل برد البعير الشارد، والعبد الآبق، بأن يقول إن جئتني ببعيري الشارد أو عبدي الآبق، أو من جاءني بذلك فله دينار، ومثل بحفر البئر، ولا يكون ذلك إلا في ما لا يملك الجاعل من الأرض، وأما إذا كان في أرضه فلا يصح فيه إلا الإجارة كما تقدم عن ابن المواز، ونقل ابن عرفة - رحمه الله تعالى - عن المتيطي أن الجم الغفير عليه.

ومثل ببيع الثوب ونحوه، كأن يقول إن بعت هذا الثوب فلك دينار، ومثل البيع الشراء، كأن يقول إن اشتريت لي الشيء كذا فلك كذا، ويشترط في الجعل على البيع أن تبقى السلعة أو السلع عند ربها، فإذا باع منها شيئا أخذه منه مشتريه، وأن يكون للعامل في التعدد إذا باع بعضا فقط منابه، بمثابة عقود متعددة بعدد السلع، فلو كان العامل يأخذ السلعة أو السلع قبل البيع منع، لأن ربها ينتفع بحفظه إياها، وكذلك إذا كان العامل لا يستحق شيئا إلا ببيع الجميع، لانتفاع الجاعل في بيع البعض، وذهاب عمل العامل هدرا.

قوله: ومن على بيع البيتين، معناه أن من استأجر آخر على بيع سلع معينة، كثياب معينة شهرا مثلا، فإن تم الشهر ولم يبع شيئا فله ما سمى له كاملا، وإن باعها أول يوم مثلا كان له من الأجر بحسابه من الشهر، وأما إن استأجره شهرا على بيع ثياب مثلا غير معينة وأعطاه ثيابا وباعها فليأته بثياب أخرى، وليبع له حتى يتم الشهر، ولا يجوز في الصورة الأولى اشتراط النقد، إذ لا يدرى هل يستحق الأجر بتمامه أو لا، فيكون ما يعطيه مترددا بين الأجر والسلف، بخلاف الصورة الثانية فللأجير فيها اشتراط النقد.

1412 -

هذا والاكرية كالبيوع

بما يُجَوَّز وفي الممنوع

1413 -

وحيث ما اكتريت منه جملا

معيَّنا إلى بلاد مثلا

ص: 664

1414 -

ثم توى من قبلها فالعقدُ

منفسخ بما بقي بعدُ

1415 -

كذا الاجير زمنا إن هلكا

وهْو معين خلال ذلكا

1416 -

والدار تنهدم قبل أن يتم

زمن الاكراء الذي له بُرم

1417 -

بعكس موت ساكن أو راكب

فليس ذا لفسخه بموجب

1418 -

كذاك موت غنم قدُ اُوجرا

لرعيها أو حيوان آخرا

1419 -

وليأتينْ بغنم أو رجل

يركب أو يسكن مثل الاول

1420 -

وهكذا إن لم يُعيَّن الجمل

ألمكترى فحيث مات فالبدل

قوله: هذا والاكرية البيت، معناه أن الكراء بالمعنى الأعم كالبيع في ما يحل ويحرم، فيجب فيه من البيان ما يجب في البيع، ويحرم فيه من الكتمان ما يحرم فيه، وكما يمنع البيع لمن يريد بما يناله معصية، كذلك تمنع الإجارة له، وقد تقدم أنها مثله في الأجر، فيشترط فيه ما يشترط في الثمن، وذلك أن الفرق بين الإجارة والبيع اصطلاحي، واعتراض التادلي الذي نقله ابن ناجي - رحمهما الله تعالى - غير بين، فالبابان سواء في أصل امتناع الدين بالدين،

وإن اختلف صدق اسم الدين فيهما، وقوله في الكراء المضمون الذي لم يشرع فيه إن وجوب تعجيل الأجر فيه لأنه سلم غير بين، ولعل الصواب أنه شبيه بالسلم، وإلا لجاز تأخيره ثلاثا مع الشرط، وأكثر مع عدمه، وكان من شرط المنافع أن تؤجل إلى ما تتغير فيه الأسواق على ما تقدم في السلم والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 665

قوله: وحيث ما اكتريت منه جملا البيتين، معناه أن من اكترى دابة معينة إلى بلد فتعذر ركوبها بأن ماتت أو مرضت أو استحقت فإن الكراء ينفسخ، وإذا كان ذلك قد حصل بعد أن ركبها بعض المسافة انفسخ الكراء في ما بقي، ولربها بحساب ما سار، وكذلك إذا آجره عبدا معينا فمات قبل انتهاء المدة، أو أكراه داره شهرا فانهدمت، أو انهدم منها ما يضر به قبل تمام المدة، بخلاف موت الراكب في مسألة الدابة، أو الساكن في مسألة الدار، وموت الماشية المستأجر على رعيها، فلا ينفسخ الكراء في شيء من ذلك، والقاعدة أن المكترى - بفتح الراء - المعين إذا تعذر استيفاء المنفعة منه بموت ونحوه تنفسخ الإجارة، لأن العقد إنما وقع على عينه، ويتحاسبان، وأما تعذر الاستيفاء من قبل المستأجر له فإن كان مما يلزم تعيينه عند العقد كصبي الرضاع والتعليم وفرس النزو أو الروض، أو يتعذر خلفه كمسألة عفو القصاص فكذلك، وإلا فلا تنفسخ الإجارة، وليستوف المنفعة بمثل ذلك، أو يؤجرها لمن يستوفيها بمثله، وقد كنت قلت:

إن يتعذر في الكرا استيفاءُ

منافعٍ ينفسخ الكراء

وذاك إن بجهة المنافع

وقع لا بجهة المنتفع

إلا بما التعيين ذو تحتم

به كمرضَع وذي تعلم

وما به الخلَف قد تعذرا

كالسن تبرأ فيفسخ الكرا

وأما المنفعة المضمونة إذا أعطاه ما يستوفيها منه فتلف فلا تنفسخ الإجارة، لأن العقد لم يقع على عينه، ويلزمه أن يأتيه ببدله، وإلى هذا الإشارة بقوله: بعكس موت ساكن الأبيات الثلاثة، وأشار إلى عدم الانفساخ في الكراء المضمون إذا مات الجمل مثلا، بقوله: وهكذا إن لم يعين الجمل البيت.

ص: 666

قوله: كذاك موت غنم قد اوجرا البيت، معناه أنه إذا استأجره على رعي غنم مثلافتلفت أو باعها لم ينفسخ الكراء، وليأته بغنم مكانها، واختلف إذا استأجره على غنم معينة هل يلزمه شرط الخلف، فإن لم يشترط فسد العقد وهو لمالك وابن القاسم - رحمهما الله تعالى - أو لا يلزمه، ويقضى بالخلف، وهو قول سحنون وابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب - رحمهم الله تعالى جميعا - قال ابن يونس - رحمه الله تعالى -: وهو عندي أصوب، لأن الأشياء المستأجر عليها لا تتعين، لو استأجر على حمل طعام أو شراب ما يحتاج إلى شرط خلفه إن هلك، والحكم يوجب خلفه، وكذلك في المدونة وكتاب محمد، نقله في التاج.

1421 -

وجاز تعليم على الحِذاق

أي حفظه قدرا على شقاق

1422 -

كذا مشارطته للاسي

على الشفا ليس بها من باس

1423 -

ومكترِي الماعون أو سواه

ليس بضامن لدى تواه

1424 -

وهْو مصدق به ما لم يبنْ

كذبه وحيث يظهر ضمن

قوله: وجاز تعليم البيت، معناه أن تعليم القرآن على الحذاق جائز، والحذاق: الحفظ، ولا يضرب فيه أجل، فإن فعل نظر، فإن كانت المدة التي سمى لا يدرى هل يمكن حفظ القدر الذي سمى فيها أم لا فسدت الإجارة، واختلف بالجواز والمنع إذا كان الغالب أن يحفظ ذلك فيها، وقيل لا تجوز الإجارة على تعليم القرآن إلا مدة معلومة مشاهرة أو وجيبة، ولا بد من اختبار الصبي إذا وقع العقد على الحذاق، وأما إذا كان مشاهرة أو وجيبة فلا يشترط ذلك.

ص: 667

قوله: كذا مشارطته للاسي البيت، معناه أن الطبيب - وهو المراد بالآسي - تجوز مشارطته على الشفاء، قياسا على ما جاء في حديث أبي سعيد - رضي الله تعالى عنه - في الرقية، ويكون الدواء حينئذ من عند المريض، ولا يجوز أن يكون من عند الطبيب، وتجوز مؤاجرته على المداوات، ويجوز حينئذ أن يكون الدواء من عند الطبيب أو من عند المريض، ولا بد من ضرب الأجل، ولا يجوز اشتراط النقد، إذ قد لا يستحقه كاملا، فيكون المأخوذ مترددا بين السلف والأجر، وقد اختلف في المشارطة على الحذاق والبرء هل هي إجارة أو جعل، وكذلك المعاقدة على استخراج المياه من الآبار والعيون على صفة معلومة من شدة الأرض ولينها وقرب الماء وبعده، وكذلك المغارسة لتردد هذه الأمور بين الأمرين قاله بمعناه ابن شاس.

ص: 668

قوله: ومكتري الماعون البيتين، أشار به إلى أنه لا ضمان على المكتري في ما اكتراه، وهو مصدق في تلفه لأنه أمين، إلا أن يتبين كذبه، وإليه أشار بقوله: وحيث يظهر ضمن، ولا فرق في ما ذكر بين أن يكون ما اكتراه مما يغاب عليه كالماعون - وهو الآلات المنزلية كالسكين والقدر والجفنة - أو لا كالحيوان، وقيل يضمن في ما يغاب عليه، قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى -: قال التادلي: وقول الشيخ: وصدق، يريد ويحلف إن كان متهما لقد ضاع وما فرطت، ولا يمين عليه إن كان غير متهم قاله ابن القاسم، وقيل يحلف مطلقا، وقيل يحلف غير المتهم أنه ما فرط، قال: ولو أخرجه من يده فهلك فإن كان مما يجوز له أن يكريه من غيره فلا ضمان عليه وإلا ضمن وقال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: قال في المدونة: ومن استأجر فسطاطا أو بساطا أو غرائر أو آنية إلى مكة المكرمة ذاهبا راجعا جاز، فإن ادعى حين رجع ضياع هذه الأشياء في البداءة صدق في الضياع ولزمه الكراء كله، إلا أن يأتي ببينة على وقت الضياع، وذكر عن الغير سقوط الكراء مطلقا إلا ما قال أنه انتفع به، وروى أشهب كقول مالك وابن القاسم في الدمياطية تضمينه بالقصعة.

1426 -

ويضمن الصانع ما فيه معا

غيبته عليه كان استُصنعا

1427 -

وإن يكن عمله مجانا

إلا لعدلين فلا ضمانا

1428 -

وصاحب الحمام لم يُضَمَّنِ

وهكذا أيضا قُواد السفن

1429 -

وما لصاحب السفينة كرا

إلا على البلاغ في ما اشتهرا

ص: 669

قوله: ويضمن الصانع البيتين، يعني أن الصانع ضامن ما استصنع فيه إذا نصب نفسه لذلك، سواء عمله بأجر أو لا، إذا غاب عليه، قال في التبصرة: إن ادعى المنتصب التلف فإنه لا يخلو ذلك من ثلاثة أحوال، إما أن يغيب على ما يعمله، فيعمله في حانوت نفسه أو في بيته، أو يعمل بحضرة صاحبه، أو يدعوه صاحبه إلى داره فيعمله عنده، فإن غاب عليه كان ضامنا له ولم يصدق في تلفه، لأن الغالب من الصناع عدم الأمانة، فلو صدقوا لاجترؤوا على أموال الناس، وإذا علموا أنهم لم يصدقوا لم يجترؤوا عليها، قال مالك - رحمه الله تعالى -: يضمنون لأن ذلك على وجه الحاجة إلى عملهم، وليس على وجه الاختيار لهم والأمانة، ولو كان ذلك إلى أمانتهم لاجترؤوا عليها، ولم يجد الناس مستعملا لتلك الأعمال، فيضمنوا لمصلحة تلك الناس، قال: ومما يشبه ذلك من منفعة العامة قول النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " لا يبع حاضر لباد "

(1)

" ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق "

(2)

وإن دعاه لعمل ذلك عنده كان القول قول الصانع في تلفه، وسواء حضر صاحب المتاع في حين عمله أو غاب عنه، فهو المصدق، ويختلف إذا عمله الصانع في حانوت نفسه بحضرة صاحبه، فقال محمد القول قول الصانع في تلفه، وفي كتاب ابن حبيب في مثل ذلك أنه ضامن وليس بحسن ومحل ضمان الصانع ما لم تقم بينة أن هلاكه من غيره، وإلا فلا ضمان عليه ولا أجر له، ومحل ضمانه بسبب الصنعة إذا لم يكن فيها تغرير، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: وأما إن كان فيها تغرير كثقب اللؤلؤة ونقش الفصوص، وتقويم السيوف، واحتراق الخبز عندالفران، والثوب عند الصباغ، فلا ضمان عليه فيها، إلا أن يعلم أنه تعدى فيها، أو أخذها على غير وجه مأخذها، نقله في التوضيح، قال: ونحوه لابن المواز، نقله في المواهب.

(1)

متفق عليه.

(2)

نهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن تلقي الركبان متفق عليه، وهذا اللفظ للبخاري.

ص: 670

ويلحق بالصناع من الأجراء في الضمان الأجراء على حمل الأطعمة، لسرعة الأيدي إليها، قال في التاج: ابن يونس: القضاء أن الأكرياء والأجراء في ما أسلم إليهم كالأمناء عليه لا يضمنونه، إلا الصناع والأكرياء على حمل الطعام والشراب والإدام خاصة، إذ لا غنى عنه، فضمنا لصلاح العامة كالصناع، إلا أن تقوم بينة بهلاكه بغير سببهم، أو يكون معه أربابه لم يسلموه إليهم فلا يضمنوا، وسواء حملوه على سفينة أو دابة أو رحل.

قوله: وصاحب الحمام لم يضمن، معناه أنه لا ضمان على صاحب الحمام في ما أخذ من ثياب الناس إذا لم يفرط، لأنه أمين، ولا ضمان أيضا على من يتخذه حارسا، قال في التبصرة: وقال ابن حبيب يضمن لأنه أجير مشترك، وأن لا ضمان عليهما أحسن، لأن صاحب الثياب إنما اشترى منافع هو يتولى قبضها بنفسه، وهو الانتفاع بالحمام، والثياب خارج وديعة لا صنعة فيها ولا إجارة عليها، وإذا دفع صاحب الثياب أجرة الحارس كانت الأجرة للأمانة، وهو بمنزلة من أودع وديعة بإجارة، فليس أخذ الأجرة عليها مما يخرجه عن أن يكون أمينا، إلا أن يظهر على الحارس الخيانة فينتقل الحكم فيه ويضمن.

قوله: وهكذا أيضا قواد السفن، معناه أنه لا ضمان على النوتي إذا غرقت سفينته إن صنع ما يجوز له من المد والعمل، وإن تعدى في مد أو علاج ضمن ما هلك من الناس والحمولة.

ص: 671

قوله: وما لصاحب السفينة البيت، أشار به إلى أن كراء السفن على البلاغ، فلا يجب لأصحابها شيء إلا بالتمام كالجعل، سواء أكريت على قطع الواسطة كما بين إفريقية والأندلس، أو صقلية، أو الريف كما بين الفسطاط والإسكندرية، وهذا هو قول ابن القاسم وروايته، وقال ابن نافع في المدونة لربها بحساب ما بلغت، وفرق يحيى بن عمر فقال إن أكريت على قطع البحر كما بين إفريقية والأندلس، فذلك على البلاغ، وإلا فله بحساب ما سار، واستظهر ابن رشد قول ابن نافع - رحمهما الله تعالى - معللا بأن رد الكراء إلى الإجارة أولى من رده للجعل.

1430 -

لا بأس بالشركة بالأبدان

بشرط الاتحاد في المكان

1431 -

مع اتحاد أو تقارب العمل

لا إن تباعد فذا فيه انحظل

1432 -

وشركة المال تجوز إن على

تساوي الاعمال وربح دخلا

1433 -

حسب رأس مال كل منهما

فالاختلاف لا كذاك حرما

قوله: لا بأس بالشركة بالأبدان البيتين، أشار به إلى أن الشركة في العمل جائزة إذا كان العمل واحدا أو متقاربا، وكانا يعملان في موضع واحد، لاختلاف نفاق السلع باختلاف المواضع، وكانا متساويين أو متقاربين في الإبطاء والسرعة، والجودة والرداءة، وكانا شريكين في الآلة بملك أو كراء، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: ويجوز أن يؤاجر أحدهما نصف آلته بنصف آلة صاحبه، وهذا ظاهر الكتاب، فإن لم يذكرا كراء وتساويا فظاهر المدونة المنع، فإن وقع مضى، وأجازه سحنون ابتداء نقله في التاج.

واحتج ابن رشد - رحمه الله تعالى - لشركة الأبدان بآية المغانم.

ص: 672

قوله: وشركة المال تجوز البيتين، أشار به إلى أن الشركة في المال جائزة، وحكى ابن رشد - رحمه الله تعالى - الإجماع على جوازها في الجملة، وقد وردت في الأخبار الصحيحة من عمل الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - واستدل لها ابن عبد السلام بقوله سبحانه وتعالى:(فابعثوا أحدكم بورقكم) وبحديث السفينة، وهو قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" مثل القائم على حدود الله سبحانه وتعالى والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذااستقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجواونجوا جميعا "

(1)

.

ويشترط لجواز الشركة في المال أن يعقدا على أن الربح والخسر بينهما بقدر رأس مال كل واحد منهما، وأن على كل واحد منهما من العمل بمناب ما أخرج وما ينوبه من الربح والخسر، ولا يلزم تساوي رأس مالهما، فيجوز أن يكون لأحدهما ثلث المال، وللآخر ثلثاه، وإذا عقدا على اختلاف الربح أو العمل على خلاف ما لكل من رأس المال كانت فاسدة، وهو المراد بقوله: فالاختلاف لا كذاك حرما.

ولا يضر تبرع أحدهما بعد العقد للآخر بمزيد عمل أو نقص من ربح، وتجوز بذهبين أو ورقين اتفق صرفهما، وبذهب وبورق من كل منهما كذلك، ولا تجوز بذهب من جانب وورق من جانب، لما في ذلك من اجتماع الشركة والصرف، وتجوز بعين من جانب، وعرض من جانب، إذا استوت القيمة في ذلك، وإن كان فيه اجتماع البيع والشركة، لأن البيع هنا داخل في الشركة، وإنما يمنع اجتماعهما مع بيع خارج عنها كما لسحنون - رحمه الله تعالى -.

1434 -

وجوزوا القراض بالنقدين

وإن يكونا غير مضروبين

1435 -

وهو بالعروض غير حِلِّ

فإن يقع أُعطِي أجرَ المثل

(1)

رواه البخاري والترمذي والإمام أحمد.

ص: 673

1436 -

عن بيعه لها وفي الذي ورا

يُعطى قراضَ مثله إن تجرا

1437 -

وعامل القراض حيث سافرا

لأجله وكان مالا كثرا

1438 -

كان له فيه طعامه معا

كسوته لكن إذا ما شسعا

1439 -

وقسم الارباح ورأس المال

غير نقود ليس بالحلال

القراض عرفه ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: القراض تمكين مال لمن يتجر به بجزء من ربحه، لا بلفظ الإجارة، ويسمى مضاربة، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ومما يحتج به في جواز القراض قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان رحيما) وقوله سبحانه وتعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام) الآية الكريمة، لأن القراض تجارة من التجارات، والقراض هو مما كان في الجاهلية فأقر في الإسلام، لأن الضرورة دعت إليه لحاجة الناس إلى التصرف في أموالهم وتنميتها بالتجارة فيها، وليس كل امرئ يقدر على ذلك بنفسه، فاضطر فيه إلى استنابة غيره، ولعله لا يجد من يعمل فيه بإجارة، لما جرت عادة الناس في ذلك على القراض، فرخص فيه لهذه الضرورة، واستخرج بسبب هذه العلة من الإجارة المجهولة، على نحو ما رخص في المساقات، وبيع العرية، والشركة في الطعام، والتولية فيه، وصار لهذا الوجه سنة، فلا خلاف في جوازه بين الأمة في الجملة، وإن اختلفوا في كثير من شروطه وأحكامه، عمل به الصحابة والسلف، واتبعهم عليه الخلف، ثم قال: وأول قراض في الإسلام قراض يعقوب مولى الحرقة مع عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - وذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - بعث من يقيم من السوق من ليس بفقيه، فأقيم يعقوب في من أقيم، فجاء إلى عثمان - رضي الله تعالى عنه - فأخبره، فأعطاه مزود تبر قراضا على النصف، وقال له إن جاء من يعرض لك فقل المال لعثمان، فقال ذلك فلم يقم، فجاء بمزود رأس المال ومزود ربح.

ص: 674

قوله: وجوزوا القراض البيت، معناه أن القراض جائز بالنقدين الذهب والفضة إذا كانا مضروبين دنانير أو دراهم، ويجوز بالنقار إذا تعومل به اتفاقا، وإن لم يتعامل به ففيه خلاف بالمنع والكراهة والجواز، ولا يجوز بالعروض كما أشار إليه بقوله: وهو بالعروض غير حل، قال القاضي عبد الوهاب في الإشراف: موضوع القراض أن ينفرد رب المال برأس ماله، ويكون حق العامل في الربح مشتركا هو ورب المال فيه على شرطهما، وتجويز القراض بالعروض يؤدي إلى مشاركة العامل لرب المال في رأس ماله، وأن ينفرد رب المال بالربح ويذهب عمل العامل باطلا، لأن رأس المال إذا كان عرضا لم يخل أن يكون مما له مثل أو لا مثل له، فإن كان مما له مثل كالطعام وغيره، فإن العامل يحتاج عند المفاصلة إلى رد مثله، وقد يعقدان القراض على كر حنطة يساوي وقت العقد عشرة دنانير، فيعمل العامل ويربح عشرة أخرى، فإذا أراد المفاصلة جاز أن يغلو ثمنه فيساوي الآن عشرين، فيتفرد رب المال برأس المال وبالربح، وجاز أن يرخص فيساوي خمسة دنانير فيشارك العامل رب المال في قطعة من رأس ماله، وإن كان مما لا مثل له فالاعتبار بقيمته، فلا يخلو أن تكون معتبرة وقت العقد أو وقت المفاصلة، ولا يجوز اعتبارها وقت العقد لأنه يؤدي إلى ما ذكرناه، وكذلك وقت المفاصلة، وإذا أدى إلى هذا وجب منعه.

ص: 675

قوله: فإن يقع إلى قوله: إن تجرا، معناه أنه إذا وقع بالعروض فهو فاسد مفسوخ، ولا شيء له إذا اطلع عليه قبل أن يتصرف فيها، وإن لم يطلع عليه حتى باعها فله أجر مثله في بيعها، وإذا كان قد اتجر بثمنها فله قراض مثله في الربح، ولا ينظر إلى ما عقدا عليه، وقيد اللخمي - رحمه الله تعالى - المسألة بما إذا كان في بيع العروض كلفة، قال: إن كان لا خطب لبيع العرض، أو علم أنه يبيعه له ولو لم يأخذه قراضا، أو قال له: كلف من يبيعه ويأتيك بالثمن اجعله قراضا جاز، فإن دخلا على رد مثل العرض الذي أعطاه أو قيمته لم يجز، نقله في التاج.

قوله: وعامل القراض البيتين، معناه أن عامل القراض إذا سافر لأجل القراض كانت له نفقته فيه بالمعروف من غير سرف إذا احتمل المال ذلك، قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: ولا نفقة له في المال ولا كسوة إلا أن يسافر به سفرا بعيدا والمال كثير، فله فيه النفقة والكسوة، وإن كان السفر بعيدا والمال قليلا، فلا نفقة له ولا كسوة، وإن كان السفر قريبا والمال كثيرا، فله فيه النفقة دون الكسوة، وإن كان السفر قريبا والمال قليلا فله النفقة دون الكسوة، على ما في سماع عيسى عن ابن القاسم، وظاهر ما في الواضحة أنه لا نفقة له ولا كسوة.

ومحل هذا إذا لم تكن له في البلد الذي يسافر إليه زوجة، قال في المواهب: فإن سافر من بلد له بها أهل إلى بلد له بها أهل أيضا فلا نفقة له في ذهابه ولا رجوعه، ولو أخذه من بلد ليس فيه أهله ثم خرج إلى بلد له فيها أهل فلا نفقة في ذهابه ولا في إقامته، وله النفقة في رجوعه قاله في المدونة.

ص: 676

وقيد اللخمي - رحمه الله تعالى - ذلك بما إذا لم تكن إقامته لأجل المال خاصة، قال: وإن تزوج بعد أخذه المال فإن كان تزويجه لأجل مقامه للعمل بالقراض ولو لا ذلك لم يقم ولم يتزوج لم تسقط نفقته، وإن كان ذلك لأنه نوى المقام وإن أخذ المال منه، سقطت النفقة، ثم قال: ومحمل قول مالك - رحمه الله تعالى - في سقوط النفقة مع الإقامة على أن ذلك العمل لم يقطعه عن الوجوه التي كانت تقوم منها نفقته، فقد يكون الرجل قبل أخذه القراض متعطلا عن العمل، وإن كانت له صناعة يقوم منها عيشه أو تجره فعطل عما كان فيه لأجل العمل بالقراض، كانت له النفقة كالذي يسافر به.

وشسع في البيت معناه بعد، أي ليس له أن يكتسي إلا في السفر البعيد.

قوله: وقسم الارباح البيت معناه أنه لا يجوز تقاسم الربح قبل نضوض رأس المال، لاحتمال الزيادة والنقص في ثمن العرض، فيضيع لأحدهما مال، وإن طلب رب المال من العامل بيع السلع لينض المال، فقال مالك - رحمه الله تعالى - ليس له جبره على ذلك، قال: وينظر الإمام فيها إن رأى وجه بيعها عجله، وإلا أخره إلى إبان سوقها، كالحبوب تشترى في الحصاد ترفع لإبان نفاقها، والضأن تشترى قبل أيام النحر ترفع ليومه، اللخمي: وكذا العامل إن أراد تعجيل بيعها وأبى ربها نقله في التاج.

1440 -

ثم المساقات على الأصول

تجوز كالأعناب والنخيل

1441 -

بالجزء من ثمرها والعمل

جميعه به يقوم العامل

1442 -

وشرط صاحب الأصول عملا

يزيده به الأجير حظلا

1443 -

وهكذا اشتراطه إنشاء

ما لم يكن في الحائط ابتداء

1444 -

إلا يسيرا ما له من خطر

كمثل شرط السد للحظائر

1445 -

كذاك إصلاح الضفيرة فقط

دون بنائها فليس بشطط

1446 -

نعم على العامل كنس العين

ونحوه كالجَذِّ والجَرِين

1447 -

كذاك إصلاح مكان صب

ألماء عند نزعه بالغَرْب

1448 -

وكنسه منقِع كل شجره

وهكذا عليه أن يُذَكِّره

ص: 677

المساقاة: مفاعلة من السقي، لأن سقي الشجر هو أهم عمل المساقاة وأعظمه، وعرفها ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بقوله: عقد على عمل مؤنة النبات بقدر لا من غير غلته، لا بلفظ بيع، أو إجارة، أو جعل، قال: فيدخل قولها: لا بأس بالمساقاة على أن كل الثمرة للعامل، ومساقاة البعل.

وهي رخصة مستثناة من بيع الغرر وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، والإجارة بمجهول، وذلك للضرورة إليها على نحو ما سبق في القراض، وأصلها ما في الصحيح من أن الأنصار قاسموا المهاجرين ثمار أموالهم في كل عام على أن يكفوهم المؤنة والعمل،

(1)

وما فيه أيضا من أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - شطر ثمرها،

(2)

وكان يبعث عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - فيخرص بينه وبين يهود خيبر، وروى مالك - رحمه الله تعالى - أنهم جمعوا له حَليا من حَلْي نسائهم وقالوا له: هذا لك، وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه -: يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله سبحانه وتعالى إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السماوات والارض.

وأقرهم من بعده - صلى الله تعالى عليه وسلم - أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - على ذلك، ثم عمر - رضي الله تعالى عنه - من بعده، إلى أن بعث إليهم ابنه عبد الله ليخرص عليهم فسحروه فتوكعت يده، فأجلاهم عمر - رضي الله تعالى عنهما - إلى الشام، والمساقاة من العقود التي تلزم باللفظ، ولا تنعقد عند ابن القاسم إلا بلفظ المساقاة خاصة، فلو قال: عاملتك لم تصح خلافا لسحنون.

(1)

متفق عليه.

(2)

متفق عليه.

ص: 678

والمساقاة جائزة في كل أصل بلغ أن يثمر، كان فيه ثمر وقتها أو لا، ما لم يحل بيعه، إذا كان ثابتا كالنخيل، والأعناب، والزيتون، والرمان، والفِرْسِك، والياسمين، والورد، وإلى هذا أشار بقوله: ثم المساقاة على الأصول البيت، ولا تجوز في غير ثابت الأصل كالمقاثي والباذنجان والزرع إلا إذا عجز صاحبه عنه وظهر وخيف عليه.

قوله: بالجزء من ثمرها، أي: مثلا، وإلا فهي جائزة بكله كما سبق.

قوله: والعمل جميعه به يقوم العامل، معناه أن عمل الحائط الذي يتعلق بإصلاح الثمرة على العامل، ولا يشترط تفصيل ذلك عند العقد، كالسقي والإبار والجذاذ، وإليه أشار بقوله

: نعم على العامل كنس العين الأبيات الثلاثة، ويجوز أن يشترط عليه رب الحائط زائدا على ذلك مما لا بال له كسد الحظيرة، وإصلاح الضفيرة، وإلى هذا أشار بقوله: إلا يسيرا ما له من خطر البيتين.

ولا يجوز أن يشترط عليه أمرا له بال، أو عملا خارجا عن الحائط، قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: والسنة في المساقات التي يجوز لرب الحائط أن يشترطها على المساقى شد الحظار، وخم العين، وسَرْو الشرَب، وإبار النخل، وقطع الجريد، وجذ الثمر، هذا وأشباهه على أن للمساقى شطر الثمرة، أو أقل من ذلك أو أكثر، إذا تراضيا عليه، غير أن صاحب الأصل لا يشترط ابتداء عمل جديد يحدثه العامل فيها من بئر يحتفرها، أو عين يرفع رأسها، أو غراس يغرسه فيها يأتي بأصل ذلك من عنده، أو ضفيرة يبنيها تعظم فيها نفقته، وإنما ذلك بمنزلة أن يقول رب الحائط لرجل من الناس: ابن لي هاهنا بيتا، أو احفِر لي بئرا، أو أجر لي عينا، أو اعمل لي عملا بنصف ثمر حائطي هذا قبل أن يطيب ثمر الحائط ويحل بيعه، فهذا بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وقد نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها.

ص: 679

وسد الحظيرة: تحصين الجدار وتزريبه، والضفيرة: محبس الماء، كالصهريج، قال عياض - رحمه الله تعالى -: والضفيرة: عيدان تنسج وتضفر وتطين، فيجتمع فيها الماء كالصهريج، وكنس العين: إخراج ما وقع فيها من تراب وقمامة مما يسد منابع الماء، والجذ: قطع الثمرة، والجرين كأمير: الموضع الذي يجعل فيه الرطب ليجف، كالأندر للقمح، جمعه: جُرُن - بضمتين ـ ويسميه أهل البصرة المربد، ويسميه أهل البحرين الفداء، والغرب - بفتح فسكون -: الدلو الكبير، والمراد بمكان صبه الحوض الذي يكون عند البئر، تمد بينه وبين الشجر قناة يسيل معها الماء، ومنقع الشجرة: الحفرة الدائرة بأصلها يجتمع فيها الماء لسقيها ولشرب عروقها، وكنس المنقع هو المراد في كلام مالك - رحمه الله تعالى - السابق بسرو الشرب، فالسرو: التنقية والكنس، والشرب - بفتحات -: الحفرة المذكورة حول أصل الشجرة، والمراد بخم العين: كنسها المتقدم، والتذكير: الإبار والتلقيح.

1449 -

ولا يجوز أن يساقي على

إخراجه بعض الحمير مثلا

1450 -

أعني التي تعمل في الحديقه

وهكذا إخراجه رقيقه

1451 -

بل صاحب الأصل عليه في تلف

ألبعض من ذاك ونحوه الخلف

1452 -

كما على العامل أعلاف الحمير

والقوت والكسوة أيضا للاجير

1453 -

كذا زريعة بياض قلا

وتركه للعاملين أولى

1454 -

أما كثيره فغير حل

إدخالُه لدى تساقي النخل

1455 -

وثلث فدونه يسير

وما وراءه هو الكثير

قوله: ولا يجوز أن يساقي البيتين معناه أن ما كان في الحائط من الدواب والأجراء لا يجوز لرب الحائط اشتراط إخراجه أو إخراج بعضه، فإن فعل فسدت المساقاة، واختلف هل يكون للعامل أجر مثله، أو مساقات مثله، ولا يجوز للعامل أيضا اشتراط ما لم يكن في الحائط من ذلك، إلا ما قل كدابة أو غلام، إذا كان الحائط كبيرا، وعليه أن يأتي بما يفتقر إليه من دواب، وأجراء، وأدلية، وحبال، وآلات.

ص: 680

قوله: بل صاحب الأصل البيت، معناه أنه إذا مات بعض ما في الحائط من الدواب والعمال الذين كانوا في الحائط وقت العقد، فعلى ربه خلفه، بخلاف ما رث من الدلاء التي كانت فيه والحبال والآلات فإنه على العامل.

قوله: كما على العامل البيتين، معناه أن على العامل علف دواب الحائط، ونفقة العاملين وكسوتهم إذا كانت مشترطة، لأن ذلك كله من مؤنة الحائط، وهي على العامل.

قوله: كذا زريعة بياض الأبيات، أشار به إلى حكم البياض، والمراد بالبياض ما خلا منالأرض عن الشجر، سواء كان منفردا بجهة من الحائط، أو كان في أضعاف الشجر، ومعنى الأبيات أنه يجوز إدخال البياض اليسير في المساقات، بأن يزرعه العامل ببذر من عنده، ويتولى مؤنته، ويكون لرب الحائط مما يحصد منه بنسبة ما له من الثمرة، قال مالك - رحمه الله تعالى -: وأحب إلي أن يلغى للعامل، وهو أحله، وهو المراد بقوله: وتركه للعاملين أولى، ويجوز للعامل أن يشترطه لنفسه، وهو له إذا سكتا عنه، وهذا كله في البياض اليسير، قال في التاج: ابن عبدوس: صفة اعتبار التبعية أن ينظر إلى كراء الأرض كأنه خمسة، وإلى غلة النخل على المعتاد منها بعد إسقاط قدر الإنفاق عليها، فإن بقي عشرة كان كراء الأرض الثلث فجائز لأنه تبع، ولو بقي من قيمة الثمرة ثمانية لم يجز، لأن الخمسة أكثر من ثلث الجملة.

وإلى هذا أشار بقوله: أما كثيره فغير حل البيت.

1456 -

وشِركة الزروع أيضا الاصلُ

جوازها ويعتريها الحظل

1457 -

جازت إنَ اَخرجا بلا تفاضل

زريعة والربح ذو تماثل

1458 -

تساويا في الارض أيضا والعمل

أو كلهم ببعض ذلك استقل

1459 -

أما إذا بالبذر قام البعض

والبعض الاخر عليه الارض

1460 -

وكان أيضا قائما بالعمل

أو بعضه فذاك لم يُحَلَّل

1461 -

أما إذا ما اكتريا الأرض معا

والبعض للبذر جميعا دفعا

1462 -

وقام بالعمل ذاك الاخر

فهذه الشركة لا تنحظر

1463 -

إن يكن العمل حيث نسبا

للبذر في قيمته مقاربا

ص: 681

أشار بهذه الأبيات إلى الشركة في الزرع المعروفة بالمزارعة، وهي جائزة بشرطين، أحدهما السلامة من كراء الأرض بما يمنع كراؤها به، وهو الطعام وما تنبته، والثاني أن يتساويا في ما يتشاركان به من أرض وبذر وعمل، على حسب ما لكل منهما من الربح على نحو ما تقدم في شركة المال على المشهور، وإلى هذا أشار بقوله: جازت إن اخرجا بلا تفاضل البيتين، والمعنى أنه إذا كانت الزريعة - وهي: البذر - بينهما على التساوي والربح بينهما كذلك مع استوائهما في الأرض بأن كانت بينهما أو اكترياها، والتساوي في العمل، أو كانت الأرض لأحدهما وعلى الآخر العمل، فهذه مزارعة جائزة اتفاقا في القسم الأول، وعلى المعول في القسم الثاني، وقد أشار إلى الشرط الأول بقوله: أما إذا بالبذر قام البعض البيتين، والمعنى أنه إذا كان على أحدهما البذر وعلى الآخر الأرض، فهذه مزارعة فاسدة، سواء كان العمل عليهما جميعا أو على أحدهما، لمقابلة البذر أو بعضه للأرض أو بعضها، وقد نهى صلى الله تعالى عليه وسلم عن المحاقلة

(1)

.

وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: أما إذا ما اكتريا الأرض الأبيات، والمعنى أنهما إذا اكتريا الأرض معا أو كانت بينهما، ودفع أحدهما البذر، وقام الآخر بالعمل، فذلك جائز إذا كان البذر والعمل متساويين أو متقاربين من حيث القيمة، ويصح إلغاء أحدهما أرضه الرخيصة إذا تساويا ما سواها، ويصح تبرع أحدهما للآخر بعد اللزوم، واختلف في لزومها هل يكون بالعقد، أو بالشروع، أو بالبذر، وهو الذي عليه خليل - رحمه الله تعالى -.

تنبيه

قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: ظاهر أقوال أهل المذهب أن شرط الشركة كون العمل فيها مضمونا، لا في عمل عامل معين.

1464 -

والنقد في كراء الارض حيث لا

تؤمن قبل الري شرطَه احظلا

(1)

متفق عليه.

ص: 682

معنى البيت ظاهر، وهو أن الأرض التي لا يؤمن ريها لا يجوز شرط النقد فيها، لاحتمال عدم ريها، فيكون المقبوض دائرا بين السلف والكراء، وأما المأمونة والتي يغلب ريها فيجوز فيها شرطه، سواء كانت أرض مطر، أو نيل، أو سقي بالآبار الثابتة، والعيون المعينة، فالمدار على أمن الري وغلبته، ويجب النقد في مأمونة النيل إذا رويت، وأما أرض السقي والمطر فلا يجب فيها حتى يتم الزرع ويستغني عن الماء، وقد ذكرنا معنى البيت في الكلام على بيع الخيار.

1465 -

ومن يكن قد اشترى بعض الثمر

قبل كمال طيبه فوق الشجر

1466 -

ثم أجيح ثلث فأعلى

فضع من الثمن عنه المثلا

1467 -

وذا بأن يفسده جليد

أو برَد أو مطر شديد

1468 -

أو ثلج أو جراد أو رياح

وفي اللصوص اختلف الملاح

1469 -

وفي البقول يوضع القليل

وقيل بل كالثمر البقول

1470 -

وذاك في الزرع به لا يوضع

إذ بيعه من قبل يبس يمنع

1471 -

كالثمر اليابس وقت البيع

فليس فيه إن يُجح من وضع

قوله: ومن يكن قد اشترى الأبيات الأربعة، معناه أن من اشترى ثمرة فوق رؤوس الشجر في زمن انتظار استيفاء طيبها، فأجيح قدر ثلثها فأكثر كيلا على المشهور، وقيل قيمة، وضع عنه من الثمن بقدره، وذلك بأن يفسدها جليد، أو برد، أو ثلج، أو مطر، أورياح، أو جراد، واختلف في السارق، فقال ابن القاسم في المدونة: ولو أن سارقا سرقها كانت أيضا جائحة في رأيي، وروى عنه ابن المواز أنه غير جائحة، وروى ابن القاسم أيضا في المدونة أن الجيش جائحة، وقال مطرف وابن الماجشون ما كان من صنع آدمي فليس بجائحة، والأصل في الوضع بالجائحة ما في الصحيح من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وقال:" بم تأخذ مال أخيك بغير حق "

(1)

قال مالك - رحمه الله تعالى - في الموطإ: والجائحة التي توضع عن المشتري الثلث فصاعدا، ولا يكون ما دون ذلك جائحة.

(1)

رواه مسلم وأبو داود والنسائي والدارمي.

ص: 683

قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: والفرق بين الموضعين من وجهين أحدهما الظاهر، والثاني المعنى، فأما الظاهر فهو ما روي أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح، والجائحة لا تطلق إلا على ما أتلف جميع المال أو جله، وأما من ذهب اليسير من ماله فلا، ويبين ذلك أن من يملك ألف دينار إذا ذهب من ماله الدينار والعشرة والعشرون لا يقال إن ماله أجيح، وكذلك من سرق له من جملة متاعه الكثير شيء يسير، لا يقال إن اللصوص اجتاحوا ماله، إلى أن قال: وأما المعنى فلأن المشتري دخل لا محالة على ذهاب اليسير من الثمرة وأنها لا تسلم كلها، هذا معلوم بالعادة لا يكلم من يدفعه، لأن من يقول إن المشتري دخل على أن تسلم الثمرة من ذهاب رطبة وبسرة، ورطل أو رطلين، أو اجتياز المعتفين، أو أكل الطير اليسير، فقد خرج عن العادة، وإذا ثبت ذلك اقتضى أنه لا يرجع في اليسير، وأنه يرجع في الكثير لأنه لم يدخل عليه، وإنما دخل على سلامة الجل، فبان بذلك مذهب مالك - رحمه الله تعالى -.

وهذا ما لم تكن الجائحة من العطش، وإلا وضعت وإن قلت، واختلف في البقول فروى ابن القاسم وضع الجائحة فيها وإن قلت، لأن غالب جائحتها العطش، وروى علي بن زياد وابن أشرس اعتبار الجائحة فيها بالثلث كالثمار، وقيل لا جائحة فيها، وإلى هذا أشار بقوله: وفي البقول يوضع القليل البيت.

قوله: وذاك في الزرع به لا يوضع البيت، معناه أنه لا جائحة في الزرع، إذ لا يجوز بيعه قبل يبسه كما تقدم، ولا جائحة بعد اليبس، وكذلك لا جائحة في ما بيع من الثمار بعد يبسه وانتهاء طيبه، قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى -: اتفاقا، وإليه الإشارة بالبيت الأخير.

1472 -

ومن يكن من حائط قدَ اَعرى

ثمر بعضه بلفظ الِاعرا

1473 -

جاز له شراؤه بالقدر

خرصا تمارا لجذاذ التمر

1474 -

والشرط في جواز ذا زهو المعار

إذ قبل زهو لم يجز بيع الثمار

ص: 684

1475 -

وكونه خمسة أوسق فقط

أو دونها كذاك أيضا يشترط

1476 -

ولا يجوز الاشترا بغير

عين وعرض فوق ذاك القدر

قوله: ومن يكن من حائط الأبيات الأربعة، معناه أن من أعطى آخر ثمر بعض أصول حائطه من النخيل، بلفظ العرية خاصة على المشهور يجوز أن يشتريه منه بخرصه تمرا، يعطيه إياه عند الجذاذ، إذا كان ذلك بعد زهوه، لما تقدم من منع بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وكان خمسة أوسق فأقل، وقيل لا يجوز إلا في أقل من خمسة أوسق، رواه القاضي أبو الفرج، وسبب الخلاف شك داود بن الحصين في الحديث الذي رواه عنه مالك في الموطإ، عن أبي سفيان مولى أبي أحمد، عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أرخص في بيع العرايا بخرصها في ما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق

(1)

.

قال ابن شاس - رحمه الله تعالى - في جواهره: المشهور جعل الخرص أصلا إلا في محل تيقن فيه المنع، وفي رواية أبي الفرج بقاء على أصل المنع حتى يتيقن النقل عنه.

وهذه الرخصة مستثناة من بيع الرطب، ومن النسيئة في الطعام، واختلف في علتها، فقيل قصد المعروف، وقيل رفع الضرر، وهذه الرخصة جارية في الأعناب أيضا، واختلف في ما سوى النخل والعنب، قال في الجواهر: والرواية المشهورة تعديتها إلى ما ييبس ويدخر من الثمار، وجعلوا ذلك علة الحكم في محل النص، وناطوا الحكم به وجودا وعدما، حتى قالوا ولو كان البسر مما لا يتتمر، والعنب مما لا يصير زبيبا، لم يجز اشتراء العرية منه بخرصها، بل تخرج عن محل الرخصة لعدم العلة.

(1)

متفق عليه.

ص: 685

قوله: ولا يجوز الاشترا بغير البيت، معناه أن ما زاد على خمسة أوسق لا يجوز بيعه بخرصه تمرا في النخل وزبيبا في العنب، وإنما يجوز أن يشترى بالعين مثلا أو العرض، كغير العرية، فالرخصة المذكورة خاصة بالقدر المذكور، واختلف هل يجوز أن يشتري بعضا من العرية، أو لا رخصة إلا في شراء الكل، ومبنى ذلك الاختلاف المتقدم في العلة، فمن جعلها قصد المعروف أجاز التبعيض ومن لا فلا.

قال سيدي زروق - رحمه الله تعالى - عند شرح هذا الموضع من الأصل ما نصه: وبتمامه تم الباب، وهو من آكد الأبواب وأهمها على المتدين، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لما سئل أي الكسب أطيب:" عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور " رواه الترمذي من حديث رفاعة بن رافع - رضي الله تعالى عنه - وصححه الحاكم والله سبحانه وتعالى الموفق للعمل عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 686