المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشرح

- ‌مقدمة النظم

- ‌باب ما يجب منه الوضوء والغسل

- ‌فصل في الحيض والنفاس

- ‌باب طهارة الماء والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

- ‌أماكن تمنع الصلاة فيها

- ‌باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

- ‌باب في الغسل

- ‌باب التيمم

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌باب في أوقات الصلاة وأسمائها

- ‌باب في الأذان والإقامة

- ‌باب في الإمامة وحكم الإمام والمأموم

- ‌باب جامع في الصلاة

- ‌باب في سجود القرآن

- ‌باب في صلاة السفر

- ‌باب في صلاة الجمعة

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌باب في صلاة العيدين والتكبير أيام منى

- ‌باب في صلاة الكسوف

- ‌باب في صلاة الاستسقاء

- ‌باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

- ‌باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

- ‌باب في الصيام

- ‌باب في الاعتكاف

- ‌باب في زكاة العين والحرث والماشية وما يخرج من المعدن

- ‌باب في زكاة الماشية

- ‌باب في زكاة الفطر

- ‌باب في الحج والعمرة

- ‌باب في الضحايا والذبائح والعقيقة والصيد والختان وما يحرم من الأطعمة والأشربة

- ‌باب في الجهاد

- ‌باب في الأيمان والنذور

- ‌باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع

- ‌باب في العدة والنفقة والاستبراء

- ‌باب في البيوع وما شاكل البيوع

- ‌باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

- ‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

- ‌باب في أحكام الدماء والحدود

- ‌باب في الأقضية والشهادات

- ‌باب في الفرائض

- ‌باب جمل من الفرائض والسنن الواجبة والرغائب

- ‌باب في الفطرة والختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

- ‌باب في الطعام والشراب

- ‌باب في السلام والاستئذان والتناجي والقراءة والدعاء وذكر الله عز وجل والقول في السفر

- ‌باب في التعالج وذكر الرقى والطيرة والنجوم والخصاء والوسم والكلاب والرفق بالمملوك

- ‌باب في الرؤيا والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيرها والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك

الفصل: ‌باب في الحج والعمرة

‌باب في الحج والعمرة

763 -

ومَن إلى الحج سبيلا استطاع

كان عليه واجبا بلا نزاع

764 -

إن كان حرا مسلما مكلفا

وحيث في عُمُره حجَّ كفى

765 -

والامن في طريقه، وملْك زاد

يوصِلُ، بالسبيل عندهم يُرادْ

766 -

معْ قوةٍ أيضا على أن يصلا

مكة، إما راكبا أو راجلا

767 -

وصحة ببدن، فالدنِف

بحج بيت الله لا يكلف

قال ابن رشد - رحمه الله تعالى -: الحج في اللغة القصد مرة بعد مرة، وهذا مأخوذ من قولهم: حججت فلانا، إذا عدته مرة بعد أخرى، فقيل حج البيت لأن الناس يأتونه في كل سنة، قال الله سبحانه وتعالى:(وإذ جعلنا البيت مثابة وأمنا) أي: مرجعا في كل سنة، فلا يقضون منه وطرا، أي: لا يدعه الإنسان إذا أتى إليه أن يعود إليه ثانية، وقيل للحاج حاج لأنه يأتي البيت في أول قدومه فيطوف به قبل يوم عرفة، ثم يعود إليه بعد يوم عرفة لطواف الإفاضة، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه ثالثة لطواف الصدر، فلتكرار العود إليه مرة بعد أخرى، قيل له حاج، فحج البيت قصده على ما هو عليه في اللغة، إلا أنه قصد على صفة ما، في وقت ما، تقترن به أفعال ما، وقال: العمرة: الزيارة، يقال: أتانا فلان معتمرا، أي: زائرا، وقيل للمعتمر معتمر، لأنه إذا طاف بالبيت انصرف عنه، ولم يعد إليه بعد زيارته إياه، فمعنى اعتمر الرجل أي: زار وقصد، وكل من قصد شيئا فهو له معتمر نقله في شفاء الغليل.

قوله: ومن إلى الحج البيتين، معناه أن حج البيت الحرام، واجب على من استطاع إليه سبيلا، وهذا مما علم من الدين ضرورة، قال سبحانه وتعالى:(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ويشترط في وجوبه زيادة على الاستطاعة التكليف والحرية والإسلام، على الخلاف المعروف، وإلى ذلك الإشارة بقوله: إن كان حرا مسلما، ولا يجب إلا مرة واحدة في العمر، لحديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - خطب فقال:" يا أيها الناس إن الله سبحانه وتعالى فرض عليكم الحج " فقال رجل: أكل عام يا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -؟

ص: 402

فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -:" لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم " ثم قال:" ذروني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه "

(1)

وإلى هذا الإشارة بقوله: وحيث في عمره حج كفى، وهذا إذا كان وقت حجه متصفا بشروط الوجوب غير الاستطاعة، فلو حج وهو عبد، أو مجنون، أو صبي، لكان واجبا عليه أن يحج ثانية إذا تحرر أو كلف، وأما إذا حج مع عدم الاستطاعة ثم استطاع فلا يجب عليه مرة ثانية، واختلف في وجوب الحج، هل هو على الفور، وهو قول العراقيين وقاله مالك، أو على التراخي، ما لم يخف الفوات وهو لأكثر المغاربة، وعلى الأول فهل إذا أخره يكون قضاء أو لا، وأشار ببقية الأبيات إلى تفسير السبيل، فذكر أنه الطريق الآمنة، والزاد المبلغ، مع القوة على الوصول إلى مكة المكرمة - راكبا أو راجلا - مع صحة البدن، فالمريض العاجز عنه، أو الذي تلحقه به مشقة فادحة لا يجب عليه، وفي معناه ضعيف البنية.

768 -

ويكره الإحرام من قبل محل

مكانه المأمورِ فيه أن يُهَلْ

769 -

والجحفة المنطقة المقرره

للشام والمغرب والمصاوره

770 -

وإن بطيبةَ يَمُرَّ هؤلا

كان مُهَلُّها كان أفضلا

771 -

ويتعين على من مرا

به من آفاق البلاد الاخرى

772 -

وذو الحليفة له الاسم العلَمْ

وهْو اسم ماً يُنْمى إلى بني جُشَم

773 -

وقَرْنُ ميقات لأهل نجد

يَلَمْلَمٌ ليمنٍ، والهند

774 -

وذات عِرْقٍ للعراق، وخرا

سانَ، وفارس، وكل ما ورا

775 -

ومن وراء ذا ولو بالحرم

مكانه منه إذا فليحرم

776 -

إلا بالاعتمار، فالْمُهَلُّ

بعمرة يشرط فيه الحلُّ

(1)

أصل الحديث متفق عليه، وذكر أمر الحج انفرد به مسلم.

ص: 403

قوله: ويكره الإحرام البيت، معناه أنه يكره له أن يحرم على المشهور قبل وصول الميقات، ويندب له أن يحرم من أوله، ولا يجوز له تجاوزه من غير إحرام، فإن تجاوزه رجع إليه وإن شارف مكة المكرمة على المشهور، وأحرم منه ولا دم عليه، إلا أن يخاف فوات الحج، فيحرم من المكان الذي هو فيه، ويلزمه دم.

قوله: والجحفة البيت، معناه أن المكان المسمى بالجحفة هو ميقات أهل الشام ومصر والمغرب ومن وراءهم من أهل الأندلس، وكذا الروم وبلاد التكرور.

قوله: وإن بطيبة يمر البيت، معناه أن من ميقاته الجحفة إذا مر بالمدينة المنورة بأنواره صلى الله تعالى عليه وسلم ندب له أن يحرم من ذي الحليفة، لإحرام النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم -منها، ولا يتعين عليه ذلك، لأنه سيمر بميقاته، بخلاف من مر بالمدينة المنورة من أهل الآفاق الأخرى، فإنه يتعين عليه أن يحرم من ذي الحليفة، لأنه لا يمر بميقاته بعد، وإلى ذلك أشار بقوله: ويتعين على من مرا البيت.

قال في الكافي: ومن كان من غير أهل الشام أو مصر أو المغرب فمر بذي الحليفة مريدا لحج أو عمرة، فإن تعداه إلى الجحفة أو غيرها فعليه دم، وليس ذلك على من كانت الجحفة ميقاته، والاختيار لأهل الشام والمغرب إذا مروا بذي الحليفة مريدين لحج أو عمرة أن يحرموا منها، فإن أخروا إحرامهم إلى الجحفة فلا شيء عليهم.

وجعل سند في معنى هذا من كان منزله بين مكة والميقات فله إذا سافر لما وراء الميقات، ثم أراد دخول مكة أن يحرم من الميقات، وله أن يؤخر إلى منزله، وذكر القرطبي في شرح مسلم أنه يتعين عليه الإحرام من الميقات، قال: لأن الجحفة ميقات منصوب نصبا عاما لا يتبدل، بخلاف المنزل فإنه إضافي يتبدل بالساكن فانفصلا.

نقله في المواهب، وجعل ما قاله سند أظهر.

وهو غير بين بل الجاري على نصوص أهل المذهب إن شاء الله تعالى هو ما ذكره القرطبي.

ص: 404

كما ذكره الحطاب في مسألة متجاوز جدة حلالا وقد أراد النسك إلى حدة، ومقتضى ما لسند أن لا يلزمه دم إذا أحرم دون الحرم.

ويشهد لما قاله القرطبي ما نقله في المواهب من وجوب الإحرام على المكي إذا خرج من المدينة المنورة يريد نسكا من ذي الحليفة، وأنه لا يجوز له أن يؤخر إلى الجحفة، ولو كان الأمر كما قال سند لم يجب عليه إحرام حتى يقارب الحل أيضا.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: وذو الحليفة البيت، معناه أن ميقات أهل المدينة المنورة ومن وراءهم ذو الحليفة، وهو ماء لبني جشم، وهو أبعد المواقيت من مكة المكرمة.

قوله: وقرن ميقات لأهل نجد، معناه أن قرن المنازل ـ وهو جبل في جهة الشرق ـ هو ميقات أهل نجد، نجد الحجاز ونجد اليمن.

قوله: يلملم ليمن والهند، معناه أن يلملم ـ وهو جبل من جبال تهامة ـ هو ميقات أهل اليمن والهند ويماني تهامة.

قوله: وذات عرق البيت، معناه أن ذات عرق هي ميقات أهل العراق وفارس وخراسان والمشرق ومن وراءهم، وكل هذه المواقيت كان بتوقيف من النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم -

(1)

على خلاف في ذات عرق

(2)

.

(1)

كما في حديث ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ المتفق عليه.

(2)

روى البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أن توقيتها كان من عمر ـ رضي الله تعالى عنه، وروى مسلم من حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنها بتوقيت النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ لكنه لم يجزم بذلك، ورواه عنه ابن ماجة بالجزم، وروى أبو داود عن عائشة والحارث بن عمرو السهمي ـ رضي الله تعالى عنهما ـ مثل ذلك بالجزم، ورواه النسائي عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ.

ص: 405

قوله: ومن وراء ذا البيت، معناه أن من كان مسكنه بين مكة المكرمة وأحد هذه المواقيت، يحرم من مسكنه، سواء كان في الحل أو في الحرم، إذا أراد أن يحرم بالحج مفردا، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" فمن كان دونهن فمُهله من أهله حتى أهل مكة يُهلون منها "

(1)

فإن تجاوزه حلالا فعليه دم.

وإن أراد العمرة أو القران، فإن كان مسكنه بالحرم خرج إلى الحل، وإن كان في الحل أحرم منه، وإلى هذا الإشارة بقوله: إلا في الاعتمار البيت، فهو استثناء من المبالغ عليه، وهو كون مسكنه بالحرم، وذلك لأمره صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين -إلى التنعيم

(2)

.

(1)

متفق عليه، واللفظ للبخاري.

(2)

متفق عليه.

ص: 406

ولا يجوز لأحد أن يدخل مكة المكرمة إلا محرما، إلا من كان يتردد إليها، كالحطابين، ومن كان بها وخرج لحاجة، سواء كان من أهلها أو من أهل الآفاق إذا نزل بها في نسك، وعرضت له حاجة، وكذلك إذا خرج تاركا الإقامة ثم عاد إليها من قريب لأمر بدا له، كما حصل لعبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - حين خرج إلى المدينة المنورة فلما بلغ قُديدا بلغه خبر فتنة المدينة المنورة فرجع ودخل مكة من غير إحرام،

(1)

وهذا كله حيث لم يرد نسكا، قال في المواهب: فرع إذا أجزنا له الدخول بغير إحرام، كما في الرواية فإن ذلك إذا لم يرد الدخول بأحد النسكين، وأما إن أراد ذلك فيتعين عليه الإحرام من موضعه الذي خرج إليه، إن كان دون الميقات كجدة وعسفان، وإن جاوزه بغير إحرام مع إرادته لأحد النسكين، ثم أحرم من دونه، لزمه الدم، وهو ظاهر، كما صرحوا بأن من جاوز الميقات ولم يكن مريدا لدخول مكة المكرمة، ثم أراد بعد ذلك الدخول بأحد النسكين، فإنه يلزمه الإحرام من موضعه ذلك، وأنه متى جاوزه كان عليه دم، كما صرح به في التلقين وغيره، وبذلك شاهدت والدي يفتي غير مرة، فيمن خرج لجدة بنية العود، ثم إنه لما رجع أخر الإحرام إلى حدة، ولم يحرم من جدة، وحدة ـ بالحاء المهملة ـ: قرية بين مكة المكرمة وجدة، وعرضته على جماعة من المشائخ فوافقوا عليه، وخالف في ذلك بعض مشائخنا وليس بظاهر، وكلمه الوالد في ذلك، وما أدري هل رجع عن ذلك أم لا والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما ما اعترضه به الرهوني فغير ظاهر، والنصوص التي ساق في ذلك لا تدل على مراده، فليس المراد في كلام العتبية أنه يريد أن يحرم بالحج في عودته تلك، بل المراد أنه بنيته العود وعدم الرجوع إلى بلده صار في معنى المقيم ولا يرتفع ذلك المعنى بخروجه لحاجة عرضت له بمثل جدة كما هو نص السؤال.

(1)

رواه الإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ في الموطإ.

ص: 407

وقول الباجي: وقد كان يجوز له دخول مكة بغير إحرام، مراده قبل أن يبدو له أن يعتمر، فهو بيان لوجه عدم إحرامه من حنين، على احتمال أنه كان يريد مكة، وأما على الاحتمال الآخر وهو أنه لم يكن يريد مكة، حتى يلقى عدوا أو يحدث سفرا، فلا إشكال عليه أصلا، إذ لا يخفى أنه لا يتوجه إليه حينئذ خطاب بالإحرام، وهذا في غاية الظهور، فمقتضى النصوص ما أفتى به الحطاب ووالده ومن معهم والله سبحانه وتعالى أعلم.

777 -

وسنة إيقاع الا حرام على

إثْرِ صلاة، فرضا اَو تنفلا

778 -

يقول لبَّيْك لآخر الخبر

ناويا الحجَّ إذا، أو العُمَرْ

779 -

وقبل ذا بالاغتسال يُطلب

وخَلْعُه إذْ ذَّا المخيط يجب

780 -

ولدخول مكة الغسل استُحِبْ

لمن طواف قادم منه طُلب

781 -

ولا تزل ملبيا إذا طرا

حال كأن تصعد أو تنحدرا

782 -

أو اَن تصلي وإذ تلاقي

بعد الفراق البعضَ من رفاق

783 -

من دون إلحاح ولا إهمال

من غير إسرار وجهر عال

784 -

وهكذا، فإن لمكة دخل

تركها، وبطوافه اشتغل

785 -

ثم سعى من بعده واستأنفا

تلبية أيضا كما قد سلفا

786 -

إلى وصوله مصلى عرفه

مع زوال الشمس عند عرفه

787 -

والبعض وصْلَها لرمي العقبه

من غد يوم عرفات صوبه

قوله: وسنة إيقاع الاحرام البيت، معناه أنه يسن إيقاع الإحرام بعد صلاة -فريضة كانت أو نافلة -وكونه بعد النافلة أفضل كما في المدونة، لتكون له صلاة تخصه، قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: وقد اختلف في ذلك من فعله صلى الله تعالى عليه وسلم والأكثر على أنه أحرم إثر فريضة.

وقال في التاج: وفيها لا يحرم دبر الصلاة في المسجد، ولكن إذا خرج منه ركب راحلته، فإذا استوت به في فناء المسجد لبى ولم ينتظر أن تسير به، وإن كان ماشيا فحين يخرج من المسجد متوجها للذهاب يحرم، ولا ينتظر أن يذهب بالبيداء.

ص: 408

وفي الموطإ أن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ صلى في مسجد ذي الحليفة فلما استوت به راحلته أهل

(1)

.

قوله: يقول لبيك البيت، أشار به إلى كيفية الإحرام، فذكر أنه التلبية مع نية الحج أو العمرة أو القران، وهذا قول ابن حبيب، والمشهور عدم تعين التلبية في الإحرام، وأنه النية مع قول كالتلبية، أو فعل كابتداء توجه الماشي، واستواء الراكب على راحلته، والتلبية واجبة، وليست ركنا، فإن تركها جملة فعليه دم، وكذلك إذا لم يأت بها عند إحرامه حتى حصل طول، والأفضل الاقتصار على تلبية الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهي التي ذكر الشيخ - رحمه الله تعالى ـ " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك "

(2)

وروي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه يزيد لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرغوبا ومرهوبا إليك،

(3)

وزاد ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما - لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرغباء إليك والعمل

(4)

.

قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: وروى محمد: يلبي الأعجمي بلسانه الذي ينطق به.

(1)

إهلاله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ من عند مسجد ذي الحليفة حين استوى به بعيره متفق عليه، وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كان يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل.

(2)

متفق عليه.

(3)

لم أقف عليه.

(4)

رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام مالكوالإمام أحمد، وفي بعض روايات مسلم أن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ هو الذي زاد ذلك.

ص: 409

قوله: وقبل ذا بالاغتسال يطلب، معناه أن الاغتسال للإحرام سنة على المشهور، وقيل لازم، ولا دم إن ترك، وقيل مستحب، قال سند -رحمه الله تعالى -: ويؤمر به كل مريد الإحرام من رجل أو امرأة، من صغير أو كبير، أو حائض أو نفساء، فإن لم يحضر الماء سقط الغسل، ولا يتيمم مكانه، نقله في المواهب.

وقد جاء أن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ قال لأبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حين ذكر له نفاس أسماء بنت عميس وهم بالبيداء: " مرها فلتغتسل ثم لتهل "

(1)

ويندب الغسل لمن كان من أهل المدينة المنورة بالمدينة فقد جاء أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم -اغتسل بالمدينة وتجرد ولبس ثوبي إحرامه.

قال سحنون -رحمه الله تعالى -: وإذا أردت الخروج من المدينة خروج انطلاق، فأت القبر الشريف فسلم عليه، كما صنعت أول دخول، ثم اغتسل، والبس ثوبي إحرامك، ثم تأتي مسجد ذي الحليفة فتركع وتهل.

قوله: وخلعه إذ ذا المخيط يجب، معناه أن خلع مريد الإحرام المخيط واجب، ويسن له لبس إزار ورداء ونعلين، ولو لبس غير ذلك أجزأه، كما لو التحف في كساء أو رداء، فلبس المخيط إنما يمنع إذا كان على الوجه الذي خيط له، ولا يخفى أن خلع المخيط خاص بالرجال.

قوله: ولدخول مكة الغسل استحب، معناه أن الاغتسال مستحب لدخول مكة، ويندب كونه بذي طوى كما كان صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل

(2)

ولا يؤمر به إلا من يطلب بطواف القدوم، لأنه في الحقيقة للطواف على المشهور، فلا تؤمر به الحائض ولا النفساء، وقيل إنه لدخول مكة المكرمة، فتؤمر به الحائض والنفساء كغيرهما، ويعيده غيرهما بعد الدخول للطواف، ولا يزال في هذا الغسل شعث، وإنما يزال في غسل الإحرام خاصة.

(1)

رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام مالك واللفظ له وللنسائي.

(2)

متفق عليه من حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ.

ص: 410

قوله: ولا تزل ملبيا الأبيات، معناه أنه يؤمر بتجديد التلبية كلما تجددت له حال، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: يرفع الرجل صوته وسطا ولو بمسجد عرفة ومنى، ويسمع من يليه بمسجد غيرهما، وفي لحوق مساجد ما بينهما بهما ثالثها إن كانت غير معمورة، الباجي عن رواية ابن نافع، وعن المشهور، واللخمي، والمرأة نفسها فقط، الباجي: وروى محمد وابن حبيب يستحب في كل شرف وبطن، ودبر كل صلاة، ولقاء الناس، واصطدام الرفاق، وإثر النوم، وسماع ملب، وروى محمد: يلبي الإمام دبر صلاته مرة قبل قيامه.

وقال في التاج: فيها: لا ينبغي أن يلبي فلا يسكت، وقد جعل الله سبحانه وتعالى لكل شيء قدرا، وتستحب التلبية عند أدبار الصلوات، وعند كل شرف.

قوله: وهكذا فإن لمكة وصل البيت، معناه أنه لا يزال يلبي على الوصف المذكور حتى يدخل مكة المكرمة على المشهور، فيتركها حتى يطوف ويسعى، فإذا طاف وسعى رجع للتلبية على الوصف المذكور، حتى يأتي مصلى عرفة، وقيل لا يتركها إلا برمي العقبة، وما ذكره من قطعها بدخول مكة هو المشهور، وقيل لا يقطعها حتى يدخل المسجد، وقيل حتى يبدأ الطواف، ويكره أن يلبي في الطواف أو في السعي، كما في المدونة، وإلى هذا أشار بقوله: ثم سعى الأبيات.

788 -

ولتدخلنْ مكة من كَداء

نظير باب الكعبة الغراء

789 -

ولتخرج اِن رمت الخروج من كُدى

أسفلَها اقتداً بفعل أحمدا

790 -

صلى وسلم عليه الله

والال والصحب ومن تلاه

791 -

وينبغي بِدارُه إلى دخولْ

ألمسجد الحرام ساعة الوصول

792 -

وليدخل المسجدَ من باب السلام

قالوا كذا دخله خير الانام

793 -

صلى وسلم عليه الله

والال والصحب ومن تلاه

794 -

وقَبَّل الحجر حيث قدرا

بفيه عند ذا ابتدا وكبرا

795 -

إلا فضعْ يدا عليه وعلى

فمِك فاجعلها ولا تقبلا

ص: 411

قوله: ولتدخلن مكة من كدا البيت، معناه أنه يستحب دخول مكة المكرمة من كداء وخروجه من كدى لحديث عائشة -رضي الله تعالى عنها -أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما جاء مكة المكرمة دخل من أعلاها، وخرج من أسفلها

(1)

قال في شفاء الغليل: قال النووي -رحمهما الله تعالى -: كداء التي يدخل منها بفتح الكاف والمد، ويجوز صرفها على إرادة الموضع، وتركه على إرادة البقعة، وأما كدى التي يخرج منها فمضمومة مقصورة، وكداء بالفتح: العليا، ينزل منها إلى الأبطح ومقابر مكة المكرمة، والمضمومة: السفلى، عند قُعَيقِعان.

وقال ابن العربي -رحمه الله تعالى -: كداء بالفتح والمد: هو الفتح الذي في الجبل على المحصب، وهو الموضع الذي بركت فيه ناقة رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم - يوم الفتح، وأما الذي بالضم والقصر، ففي طريق التنعيم في عقبة بني مجاشع.

ثم قال: وقال ابن الصلاح الشافعي -رحمه الله تعالى -: وأما كُدَيٌّ مصغرا -يعني بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء -فإنها لمن خرج من مكة المكرمة إلى اليمن، وليست من الموضعين الأولين في شيء، أخبرني بذلك أحمد بن عمر العُذري عمن لقي بمكة المكرمة من أهل المعرفة لمواضعها من أهل العلم، وهي فائدة حسنة، تدفع ما غلط فيه كثيرون.

قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: وحكمة دخولها من أعلاها قيل لدعوة إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) ولم يقل تصعد إليهم.

وقال في المواهب: قال السهيلي -رحمهما الله تعالى -: إنما استحب الرسول -صلى الله تعالى عليه وسلم -لمن أتى مكة أن يدخل من كداء، لأنه الموضع الذي دعا فيه إبراهيم ربه سبحانه وتعالى أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ولم يقل تصعد إليهم، فقيل له:(وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا) ألا ترى أنه قال: (يأتوك) ولم يقل يأتوني.

(1)

متفق عليه.

ص: 412

وقال بعضهم في توجيه ذلك: إن الداخل من كداء يأتي من وجهة البلد والكعبة، ويستقبلها من غير انحراف.

قوله: وينبغي بداره البيت، معناه أنه ينبغي أن يبادر إذا أتى مكة المكرمة إلى المسجد الحرام، لما في الصحيح عن عائشة -رضي الله تعالى عنها -من أن أول شيء بدأ به النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم -حين قدم مكة المكرمة أن توضأ وطاف،

(1)

قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: لأنه هو المقصود، فالتراخي عنه إساءة أدب، وقلة همة، فلا يقدم عليه إلا ما لا بد منه من حط رحله، والأكل الخفيف إن احتاج إليه، ثم إذا رفع بصره على جزء من البيت دعا بما تيسر.

قوله: وليدخل المسجد البيت، معناه أنه يستحب دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة، وهو المعروف بباب السلام، قال ابن حبيب -رحمه الله تعالى -: دخل رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم -من باب بني شيبة، وخرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وهو المعروف اليوم بباب الصفا، وله خمس طاقات كلها سواء، وخرج إلى المدينة المنورة من باب بني سهم، وهو المعروف اليوم بباب العمرة.

قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: وإذا دخل من باب بني شيبة قابله البيت ببابه، فقابله الحجر -بالكسر -والحجر -بالفتح -والمقام والملتزم، وكان زمزم عن يساره بغير بعد، فواجهه الخير كله بدخوله، وذلك أحد الوجوه في إيثاره، مع تيسر الأمر عليه، وإتيان البيوت من أبوابها والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله: وقبل الحجر البيتين، معناه أنه يسن إذا دخل المسجد الحرام أن يقبل الحجر، فإن لم يتمكن من تقبيله وضع يده عليه، ثم وضعها على فيه، من غير تقبيل.

796 -

ثمت بالبيت إذا وهو في

ناحية اليسار سبعةً طُف

797 -

وخُبَّ في الثلاثة الأوائل

والاربعَ الأُخَرَ مشْيا افعل

798 -

وقبلنْ بكل ذاك الحجرا

متى تُحاذيه كما قد ذُكرا

799 -

كذلك الركن اليمانِ كلما

حاذيتَه باليد منك استلما

(1)

متفق عليه.

ص: 413

800 -

ثم اجعلنَّها على فيك، ولا

تُقَبِّلنْ، وكبر الله علا

801 -

وركعتين صلينْ بعدَ تمامْ

الاطواف نحو ما مضى خلْف المقام

أشار بهذه الأبيات إلى طواف القدوم، وهو واجب غير ركن، إن لم يراهق، ولم يردف بحرم، وللطواف شروط، منها طهارة الحدث، وطهارة الخبث، وستر العورة، لما في الحديث من أنه صلاة

(1)

فإن ذكر الطائف أثناء طوافه أنه محدث قطع، وتطهر وابتدأه، وإن لم يذكر ذلك إلا بعد طوافه وسعيه أعادهما، ولو رجع لبلاده، سواء وقع ذلك في حج أو عمرة، إلا أنه في العمرة يرجع محرما، وفي الحج يرجع حلالا، إلا من نساء وصيد، لأن التحلل الأصغر يقع برمي العقبة أو فوات وقته.

وإذا انتقض وضوءه بعد تمام الأشواط وقبل الركعتين توضأ وابتدأ طوافه، فإن توضأ وصلى الركعتين وسعى، أعاد الطواف والركعتين والسعي، ما دام في مكة المكرمة، أو قريبا منها، فإن تباعد ركعهما بموضعه وبعث بهدي.

وأما طهارة الخبث فهي على ما تقدم من الخلاف في الصلاة، والمعول أن من طاف بخبث عامدا، يعيد طوافه أبدا، كالصلاة، وأما من طاف به ناسيا، فإن ذكر في الأثناء فالقياس -كما قال ابن رشد رحمه الله تعالى -أن يبتدئ، وإن لم يذكر إلا بعد تمامه، لم يعده، لخروج وقته بالفراغ منه، ولو ذكره قبل أن يأتي بالركعتين خلع عنه الثوب النجس مثلا، وصلى الركعتين، ولا يعيد طوافه.

وأما ستر العورة ففي المواهب عن مناسك ابن فرحون -رحمهما الله تعالى -أنه قال: إن حكمه كحكم من صلى بثوب نجس، أو طاف به.

(1)

رواه النسائي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

ص: 414

ومن شروط الطواف كذلك جعل البيت عن يساره، فلو جعله على يمينه، أو طاف ووجهه إلى البيت، أو ظهره، لم يصح وأعاده، ولو رجع إلى بلده، لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم طاف والبيت عن يساره،

(1)

وقال: " خذوا عني مناسككم

(2)

" وقد قيل إن الحكمة في ذلك أن يكون قلبه إلى جهة البيت، ومن شروطه كذلك موالاته، فإذا فرقه حتى حصل طول بطل، وتطلب الموالاة بينه وبين الركوع، وبين الركوع والسعي، وإذا أقيمت الصلاة أثناء الطواف قطعه وجوبا، وندب إكمال الشوط إن أمكن وصلى مع الإمام، ثم أتم طوافه، وينبغي له إذا خشي أن تقام الصلاة قبل تمامه أن يؤخر حتى يفرغ من الصلاة، وأما التفريق اليسير فلا يبطل، ويكره إذا كان لغير عذر، وينبغي أن يقبل في طوافه على الذكر والدعاء والصلاة على النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال في المواهب: قال في شرح العمدة: والمستحب أن يطوف بالباقيات الصالحات، وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أو بغير ذلك من الأذكار، ولا يقرأ، وإن كان القرآن المجيد أفضل الذكر، لأنه لم يرد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ في الطواف، فإن فعل فليسر القراءة لئلا يشغل غيره عن الذكر.

(1)

للعمل المتصل، ولحديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ لما استلم الحجر مضى على يمينه، فرمل ثلاثا ومشى أربعا، رواه مسلم والترمذي والنسائي.

(2)

رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.

ص: 415

ومن شروطه أيضا كونه خارج البيت، فإذا دخل في طوافه الحجر لم يجزه، وإن حصل له ذلك في شوط لم يعتد به، قال القاضي عبد الوهاب في المعونة: ولا يجزئ الطواف داخل الحجر خلافا لأبي حنيفة، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" الحجر من البيت "

(1)

وإذا ثبت أنه من البيت، لم يجز أن يطوف فيه لقوله سبحانه وتعالى:(وليطوفوا بالبيت العتيق) وذلك يقتضي استيفاء جميعه، ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم طاف خارج الحجر، وقال:" خذوا عني مناسككم " واعتبارا بالطواف داخل البيت، نقله في المواهب.

واختلف في الشاذروان، وهو بناء لطيف جدا ملصق بحائط الكعبة، فذكر غير واحد من المتأخرين اشتراط خروج البدن عنه كالحجر، لما تقدم، وذكروا أن مقبل الحجر مأمور إذا رفع رأسه من التقبيل، أن ينصب قامته قبل أن يسير، فإذا لم يفعل لم يصح طوافه، لأن بعضه لم يقع خارج البيت، فإن تنبه لذلك بالقرب عاد ومشى ذلك القدر،

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ من كلام النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ لكن في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أنها سألت النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ عن الجدر هل هو من البيت؟ فقال: " نعم " والجدر كضرب: الحجر، وفي رواية لمسلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال:" يا عائشة لو لا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا، وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة "

ص: 416

وإن أكمل الأسبوع لم يعتد بذلك الشوط، وبالغ ابن رشيد القفصي في إنكار اشتراط ذلك، واحتج بإجماع الأمة على أن البيت متمم على قواعد إبراهيم ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ من جهة الركنين اليمانيين، ولذلك استلمهما النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ دون الآخرين، وعلى أن ابن الزبير لما نقض البيت وبناه، إنما زاد فيه من جهة الحجر، وأنه أقامه على الأسس الظاهرة، التي عاينها العدول من الصحابة، وكبراء التابعين، ووقع الاتفاق على أن الحجاج لم ينقض إلا جهة الحجر خاصة، نقله في المواهب.

ووقع للقباب -رحمه الله تعالى -نحو ذلك، قال: ولو كان كما قالوا، لحذر منه السلف الصالح، لعموم البلوى بذلك مع كثرة وقوعه، فتركهم ذكره دليل أن مثله مغتفر، والتوقي منه أولى، وأما أن ذلك مبطل فبعيد، نقله في المواهب.

وقد قلت في ذلك:

وبعضهم بالغ في نكير

شرط خروجٍ عن هوا التأزير

أعني بذاك ابنَ رشيدٍ حسبا

ما في المواهب إليه نسبا

وهْو الذي استصوبه القباب

أيضا على ما نقل الحطاب

والتأزير هو الشاذروان.

ومن شروطه كذلك كونه داخل المسجد، فلو طاف خارجه لم يجزه، قال ابن رشد -رحمه الله تعالى -: ولا خلاف في ذلك، وذلك لما تقدم، قال في التاج: قال سند -رحمهما الله تعالى -: ويستحب الدنو من البيت كالصف الأول، وإن طاف في السقائف لغير زحام، لحر أو برد، أعاد، وإن طاف فيها أو من وراء زمزم من زحام الناس أجزأه، قاله في المدونة.

ص: 417

قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: وبدؤه ومنتهاه الركن الأسود، الباجي: روى داوود بن سعيد إن بدأ من اليماني ألغى ما قبل الركن الأسود، ونحوه لابن القاسم، فإن أتم طوافه على ذلك وركع، فابن كنانة يعيد إن ذكر قريبا، وإن بعد أو أحدث أجزأه وأهدى، عيسى عن ابن القاسم: إن لم يذكر حتى أحدث ابتدأ طوافه وسعيه، فإن خرج من مكة المكرمة وبعد أهدى، عبد الحق عن كتاب محمد: لو ابتدأه من بين الحجر الأسود، وبين الباب بيسير، أجزأه ولا شيء عليه، ابن الجلاب: إن بدأ بغير الحجر الأسود ألغى ما قبله.

قوله: وخب في الثلاثة الأوائل البيت، أشار به إلى أنه يسن الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم، وذلك خاص بالرجال، والرمل هو الخبب فوق المشي ودون الجري، قال في التاج: فيها: يرمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، ومن جهل أو نسي فترك الرمل في الأشواط الثلاثة بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، فكان مالك - رحمه الله تعالى - يقول عليه الدم، ثم رجع وقال: لا دم عليه، ويستحب لمن اعتمر من الجعرانة أو التنعيم أن يرمل، وليس وجوبه عليه كوجوبه على من حج أو اعتمر من المواقيت، وأما السعي فواجب على من اعتمر من التنعيم أو غير ذلك، ابن المواز: ولا رمل على النساء، ولا سعي ببطن المسيل.

قوله: وقبلن بكل ذاك الأبيات الثلاثة، أشار به إلى طلب تقبيل الحجر، واستلام الركن اليماني في كل شوط، وذلك مسنون في الشوط الأول خاصة، مندوب في ما بعده، فإن لم يقدر أن يقبل الحجر لمسه بيده، إن أمكنه ذلك، ثم وضعها على فيه من غير تقبيل، فإن لم يمكنه ذلك لمسه بعود، ووضعه على فيه كذلك، فإن لم يمكنه كبر عند محاذاته، ولا يرفع يديه على الأصح.

ص: 418

قال مالك -رحمه الله تعالى -: وليزاحم على الحجر، ما لم يكن أذى، وأما الركن اليماني فلا يقبله، ولكن يستلمه بيده، ثم يضعها على فيه من غير تقبيل، فإن لم يمكن كبر ومضى، ولا يختص التكبير بتعذر الاستلام أو التقبيل، بل هو مطلوب على كل حال، فإن تمكن من التقبيل والاستلام كبر بعدهما، وإن لم يتمكن من ذلك كبر عند محاذاة كل من الركنين، وأما الركنان الشاميان فلا يستلمهما، ولا يكبر عند محاذاتهما.

قوله: وركعتين البيت، معناه أنه يؤمر بعد إتمام الأشواط أن يصلي ركعتين، ويندب أن يقرأ فيهما بالكافرون والإخلاص، ويستحب إيقاعهما بالمسجد، وخلف مقام سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، واختلف في حكم ركعتي الطواف، فاختار الباجي -رحمه الله تعالى -وجوبهما مطلقا، أما في الواجب فلوجوبه بالأصل، وأما في غيره فلوجوبه بالشروع، واختار القاضي عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -سنيتهما مطلقا، واختار الأبهري وابن رشد -رحمهما الله تعالى -وجوبهما في الواجب، وندبهما في غيره.

802 -

وبعد ذاك قبلنَّ الحجرا

إن لم يكن تقبيله تعذرا

803 -

واخرج إلى الصفا وقف مستقبلا

عليه تائبا به مبتهلا

804 -

ثم اسعيَنْ لمروةٍ، ويطلب

ببطن ذاك الواد منك الخبب

805 -

وفوق مروةٍ كما قد وُصِفا

بوقفة الصفا كذلك قفا

806 -

وللصفا من بعدُ أيضا اسعا

وهكذا حتى تتم سبعا

807 -

أربعَ وقْفات بكلٍ تقفُ

وبعد ذا تلبيةً تستأنف

ص: 419

أشار بهذه الأبيات إلى الركن الثالث في الحج والعمرة، وهو السعي بين الصفا والمروة، وله شروط، منها كونه بين الصفا والمروة، فلو نزل من الصفا ومشى متياسرا إلى جهة المسجد، حتى صارت المروة على جهة يمينه، ثم تيامن إليها أو فعل مثل ذلك ناحية الشرق، بأن تيامن حتى صارت المروة جهة يساره، ثم تياسر إليها لم يجزه سعيه، ولو حصل له ذلك في شيء يسير كذراع، فلا بد أن يكون سعيه كله بين الصفا والمروة، وإلا رجع له من بلده وأعاد طواف الإفاضة وسعى، لأنه بفوات وقت القدوم وجب عليه السعي بعد الإفاضة، فلما لم يسع بعد الإفاضة بطل طواف الإفاضة، لاشتراط الاتصال بينه وبين السعي، ومن شروطه أيضا البدء بالصفا، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:" أبدأ بما بدأ الله سبحانه وتعالى به "

(1)

وقوله: " خذوا عني مناسككم " فإذا ابتدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط، ومن شروطه كذلك وقوعه بعد طواف واجب كما تقدم قريبا، فإن فعله بعد طواف غير واجب أعاد الطواف والسعي، ما دام بمكة المكرمة، وإن رجع إلى بلده وتباعد، أو جامع النساء أجزأه، وعليه دم، ومن شروطه كذلك اتصاله في نفسه، فإن حصل تفريق طويل بين أشواطه أعاد الطواف والسعي، ولا تشترط فيه شروط الصلاة المشترطة في الطواف، ولكن تندب.

قوله: وبعد ذاك البيت، معناه أنه يندب إذا طاف وركع ركعتي الطواف أن يقبل الحجر قبل أن يخرج إلى السعي إذا أمكنه ذلك، وكان على وضوء، ثم يخرج إلى الصفا، كما فعل صلى الله تعالى عليه وسلم

(2)

ويندب للرجل أن يصعد عليه حتى يرى الكعبة، ويدعو قائما، إلا من ضرورة، ويندب للمرأة إذا خلا من الرجال.

(1)

رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام مالك والدارمي والإمام أحمد.

(2)

كما في حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ في وصف حجه صلى الله تعالى عليه وسلم عند مسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي.

ص: 420

قوله: ثم اسعين الأبيات الثلاثة، يعني أنه يمشي بعد وقوفه على الصفا متوجها المروة، ويندب للرجل خاصة أن يسعى سعيا شديدا في بطن المسيل، قبل الميل بنحو ستة أذرع، حتى يخرج من بطن المسيل، إلى الميل الآخر، فإذا بلغه مشى، ويندب الصعود على المروة على نحو ما سبق في الصفا، ويفعل عند المروة مثل ما فعل عند الصفا، ثم يعود إلى الصفا، ويسرع في بطن الوادي كما سبق، وهكذا حتى يتم سبعة أشواط، فهكذا سعى صلى الله تعالى عليه وسلم

(1)

.

قوله: أربع وقفات بكل تقف، يعني أنه يقف على كل من الجبلين أربع مرات، فالوقفات ثمانية، الوقفة الأولى بالصفا قبل الأشواط، والوقفات السبع الأخرى كل واحدة منها عند تمام شوط.

قوله: وبعد ذا تلبية تستأنف، معناه أنه يرجع للتلبية إذا تم سعيه على نحو ما تقدم حتى يأتي مصلى عرفة.

808 -

ولتخرجنْ قبل الزوال ثامنا

ذي الحجة الشهر الحرام لمنى

809 -

ولتبتنَّ هاهنا، واغد إلى

عرفة، فإن أتيتَ اغتسلا

810 -

وللمصلى اذهب، وصل الظهرا

والعصرِ معْ الامامِ جمعا قصْرا

811 -

ولترُحَنَّ معه لموقف

عرفة، وللغروب فقف

812 -

ومعَه لجمْع اَيضا ادفع

وعندها معْه عشاءيك اجمع

813 -

وصل معْه الصبح أيضا واحضر

معْه الوقوف بعده بالمشعر

814 -

حتى إذا الشمس دنا أن تطلعا

أو قبل ذا، فلمنى هنا ادفعا

815 -

وحركنْ ظهرَك في محسِّر

ندبا، فإن تركته لم تزر

(1)

كما في حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وإن كان لم يذكر الوصف إلا في شوط واحد، فظاهره أنه هكذا فعل في الجميع.

ص: 421

قوله: ولتخرجن قبل الزوال البيت، معناه أنه يندب أن يخرج في اليوم الثامن من ذي الحجة لمنى، قدر ما يدرك بها الظهر، وقال الجلاب في التفريع: ضحى، ويكره أن يخرج قبل الثامن، كالخروج لعرفة قبل التاسع، ويندب أن يبيت بمنى ليلة تسع، ويصلي بها الصبح، ثم يغدو إلى عرفة، قال ابن عرفة -رحمه الله تعالى -: روى محمد: إذا طلعت الشمس، ولا بأس لضعيف هو أو دابته أن يغدو قبل طلوعها، ابن حبيب: من عبر منها لعرفة قبل طلوعها، فلا يجز بطن محسر حتى تطلع على ثبير، الباجي: لأن ما قبل بطن محسر من منى.

ص: 422

فإذا وصل عرفة اغتسل ندبا، وذهب إلى المصلى، وهو مسجد نمرة، وحضر خطبة الإمام، وصلى معه الظهر والعصر جمعا، ركعتين ركعتين، بأذانين وإقامتين، ولا يتنفل، ثم يروح الإمام لصعيد عرفة، قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى - وفيها إذا فرغ من الصلاة دفع الناس بدفعه، أو بدفع من ناب عنه، لذكره منسية، أو مستخلفه لحدث، ابن حبيب - رحمه الله تعالى -: إذا سلم الإمام من جمعه، ركب فارتفع لعرفات، يقف راكبا عند الهضبات مع الناس يهللون ويكبرون ويحمدون، وكل عرفة موقف، وقرب الإمام أفضل، وقاله أشهب - رحمه الله تعالى - وروى الشيخ: لا أحب أن يقف على جبال عرفة، بل مع الناس، ليس موضع من ذلك أفضل من غيره، وفيها: إن وقف جنبا من احتلام أو على غير وضوء أجزأه، وكونه طاهرا أحب إلي، الشيخ عن ابن الماجشون - رحمهما الله تعالى -: لا أحب تعمد الوقوف بغير طهر، وروى ابن وهب وغيره: الركوب أحب إلي من الوقوف قائما، وقيده اللخمي - رحمه الله تعالى - بعدم إضرار الدواب، والرواية: يدعو الماشي قائما، فإن أعيا جلس، الشيخ: روى ابن حبيب - رحمهما الله تعالى - كراهة أن يستظل يومئذ من الشمس بشيء، ابن حبيب: إذا دعوت وسألت فابسط يديك، وإذا رهبت واستغفرت وتضرعت فحولهما، فلا يزال مستقبل القبلة خاشعا متواضعا كثير الذكر بالتهليل والتكبير والتحميد والتسبيح والصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والاستغفار والدعاء لنفسك وأبويك حتى الغروب.

والمراد بالوقوف مجرد حضوره بعرفة، راكبا أو واقفا أو قاعدا أو مضطجعا، والركوب أفضل من الوقوف، والوقوف أفضل من الجلوس، والوقوف بالنهار واجب ينجبر بالدم، والوقوف باليل ركن، من فاته فلا حج له، وإن وقف أدنى جزء من اليل كفاه، ولو مارا إن نواه.

ص: 423

قوله: ومعه لجمع البيت، معناه أنه يؤمر أن يدفع إلى المزدلفة بدفع الإمام، وليدفع إليها برفق، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " أيها الناس السكينة السكينة

(1)

" وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص، وليؤخر الصلاة حتى يأتي مع الإمام المزدلفة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " الصلاة أمامك "

(2)

فيجمع معه العشاءين، ومن كانت به علة أو بدابته، فلم يستطع المسير مع الناس، أمهل حتى يغيب الشفق، ثم جمع بينهما حيث كان، قاله ابن القاسم، قال أبو إسحاق - رحمهما الله تعالى -: ولم يقل يصلي كل صلاة لوقتها، لأن السنة عنده فيمن وقف مع الإمام أن لا يصلي إلا بعد مغيب الشفق، نقله في التاج.

ويندب بياته بالمزدلفة، ويجب مكثه بها بعضا من الوقت، وإلا فعليه دم، ويرخص للضعفة من النساء والصبيان ونحوهم أن يدفعوا منها إلى منى ليلا، على المعول من عدم اختصاص ذلك ببني هاشم لما رواه في الموطإ عن ابن عمر وطلحة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين. -

وجمع في البيت بفتح الجيم وسكون الميم اسم لمزدلفة.

قوله: وصل معه الصبح البيتين، معناه أنه يصلي مع الإمام صلاة الصبح، ويقف معه بعدها بالمشعر الحرام، ويكبر ويهلل ويدعو إلى قرب طلوع الشمس، ثم يدفع إلى منى.

والمشعر الحرام قيل إنه المسجد الذي بالمزدلفة، وقيل البناء الذي بناه قصي بن كلاب ليهتدي به الحجاج المقبلون من عرفة، ويطلق على المزدلفة، والوقوف بأي مكان منها مجزئ لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " وقفت هاهنا وجمع كلها موقف

(3)

"

قوله: وحركن ظهرك البيت، معناه أنه يستحب أن يحرك دابته، وهي المراد بالظهر في بطن الوادي المسمى بمحسر، كما فعل صلى الله تعالى عليه وسلم،

(4)

ويهرول الماشي.

(1)

رواه مسلم والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد.

(2)

متفق عليه.

(3)

رواه مسلم.

(4)

كما في حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ عند مسلم.

ص: 424

816 -

ولترمِيَنْ فور الوصول العقبه

بحصَيات سبعة معاقبه

817 -

مثل حصى الخَذْف، وكبرنْ معا

كل حصاة، بين ذين جامعا

818 -

ثم انحرنَّ حيث كان معَكا

هديٌ، وبعد ذا احلقنَّ رأسَكا

819 -

وعُدْ إلى مكة إذْ ذَّا، وطُفِ

إفاضةً، مثل الطواف السالف

820 -

واركع لدى المقام، وارجع لمنى

ولتمكثنْ ثلاث ليلات هنا

821 -

ترمي لدى الزوال في كل نهار

بحصَيات سبعةٍ أولى الجمار

822 -

ثمت تاليتِها فالعقبه

كل بسبع هكذا معاقبه

823 -

ومعَ كل رمية فكبر

كمثل ما فعلتَه في الغابر

824 -

وقف بإثْر رمْي الاولى للدعا

وإثْرَ تاليتِها كذا اصنعا

825 -

أما الاخيرة فبعدها انصرف

حين تُتِم رمْيَها، ولا تقف

قوله: ولترمين فور الوصول البيتين، معناه أنه يؤمر إذا جاء منى أن يرمي جمرة العقبة، وبذلك يحل له ما حرم عليه بالإحرام، إلا النساء والصيد، ويستحب له ترك الطيب حتى يطوف طواف الإفاضة، إذا كان قد سعى بعد طواف القدوم وتركه حتى يسعى إذا كان لم يسع بعد القدوم، ورمي العقبة واجب ينجبر بالدم، وذهب عبد الملك إلى أنه ركن كالإحرام، ويستحب رميها وقت وصولها، فلا ينزل الراكب حتى يرميها، كما فعل صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يقعد الماشي حتى يرميها، ولا يجوز رميها إلا بعد طلوع الشمس، وإن رمى بعد الفجر أجزأه، ويرميها بسبع حصيات، الواحدة منها كحصى الخذف - بالخاء والذال المعجمتين - كما فعل صلى الله تعالى عليه وسلم،

(1)

قال ابن عرفة - رحمه الله تعالى -: روى محمد استحباب لقطها، دون كسرها، وليس عليه غسلها، واستحب ابن حبيب لقطها من مزدلفة.

(1)

كما في حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ.

ص: 425

ويشترط كون ما يرمي به حجرا، فلا يجزئ عندنا بالمدر ولا الطين اليابس، ويشترط كون ما يرمي به متعددا، فلو كرر الرمي بحصاة لم يعتد من ذلك إلا بواحدة، ويشترط أيضا رميها متفرقة، فلو رمى السبع دفعة، اعتد بها واحدة، ويشترط الرمي فلو طرحها من غير رمي لم يعتد بذلك على المشهور، ويستحب أن يكبر مع كل حصاة رافعا صوته، والإشارة في قوله: بين ذين، للرمي والتكبير، ويؤمر أن يرميها من أسفلها مستقبلها، جاعلا منى عن يمينه، والبيت الحرام عن يساره، فإن شق لزحام فمن فوقها، ثم رجع مالك - رحمه الله تعالى - إلى أنه لا يرميها إلا من أسفلها.

قوله: ثم انحرن البيت، معناه أنه إذا رمى العقبة فإن كان معه هدي نحره قبل أن يحلق، لقوله سبحانه وتعالى:(ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) ثم حلق رأسه أو قصره، والحلاق أفضل لدعائه صلى الله تعالى عليه وسلم للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين واحدة، ويتعين الحلق على من كان شعره قصيرا جدا، ويمر الأقرع الموسى على رأسه، ويتعين التقصير في حق المرأة الكبيرة، ولا يجوز لها الحلاق، والأولى في تقصير الرجل أن يأخذ من قرب أصول الشعر، والأولى في حق المرأة أن تأخذ من كل شعرة قدر الأنملة، وكل ما يصدق عليه أنه تقصير فهو مجزئ فيهما قل أو كثر، ولا يكفي تقصير البعض فقط، ويستحب أن يأخذ من شاربه ولحيته، ويقص أظافره، ويميط الأذى عن جسده ووجهه ورأسه، ولو قدم ذلك على الحلق في الحج لم يكن به بأس، بخلاف العمرة فيكره له ذلك فيها، لأن التحلل في الحج يقع برمي العقبة، ويستحب أن يبدأ في الحلق بشقه الأيمن كما فعل صلى الله تعالى عليه وسلم،

(1)

والشأن أن يغسل رأسه بغاسول ونحوه، عند إرادة حلقه.

(1)

كما في حديث أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ عند مسلم والإمام أحمد.

ص: 426

قوله: وعد إلى مكة إلى قوله: لدى المقام، معناه أنه يخرج إذا حلق رأسه أو قصره لمكة المكرمة ليطوف طواف الإفاضة، كما فعل صلى الله تعالى عليه وسلم وهو مثل طواف القدوم، إلا أنه لا رمل فيه إلا من روهق عن طواف القدوم، فيستحب له، ولا يسن، ويستمر وقت الإفاضة ما بقي ذو الحجة على المشهور، فإن أخره للمحرم فعليه دم.

قوله: وارجع لمنى، معناه أنه يرجع إذا طاف الإفاضة إلى منى، وقد اختلفت الرواية هل صلى صلى الله تعالى عليه وسلم الظهر يومئذ بمكة المكرمة، أو بمنى، وقد روي كل من الأمرين في الصحيح،

(1)

ويؤمر بالبيات بمنى فوق العقبة وجوبا ثلاث ليال إن لم يتعجل، وليلتين إن تعجل، يرمي كل يوم إثر الزوال قبل أن يصلي الظهر، وإن رمى بعد أن صلى الظهر أجزأه وأساء كما في الواضحة، ويبدأ في الرمي بالتي تلي المسجد، فإذا رماها تقدم أمامها، فوقف وأطال الوقوف للدعاء، ثم يرمي الوسطى وينصرف منها إلى الشمال في بطن المسيل، فيقف أمامها مما يلي يسارها ووجهه إلى البيت الحرام، فيفعل كما فعل في الأولى، ثم يرمي جمرة العقبة، وينصرف ولا يقف عندها، كما جاء عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يفعل،

(2)

وكان القاسم وسالم - رحمهما الله تعالى - يقفان عند الجمرتين قدر ما يقرأ الرجل السريع سورة البقرة، نقله في التاج.

(1)

رواهما معا مسلم، الأول من حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ والثاني من حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ.

(2)

رواه البخاري والنسائي والدارمي والإمام أحمد

ص: 427

وإذا أكمل الرمي فقد تم حجه، وإذا أراد أن يرجع إلى بلاده استحب له أن يطوف طواف الوداع، كما أمر صلى الله تعالى عليه وسلم،

(1)

وهو على الصفة المتقدمة في طواف القدوم، ويرخص للحائض في تركه، ويستحب أن يأتي بعده زمزم، ويشرب منه، ثم يقف بعده بالملتزم للدعاء، وهو ما بين الباب المعظم، والحجر الأسود، وفي الحجر تحت الميزاب، ثم يقبل الحجر إن أمكنه ذلك، ثم ينصرف إلى بلاده، وإلى هذا أشار بقوله:

826 -

فإن رميتَ ثالث الأيام

فانصرفنْ للبلد الحرام

827 -

وجاز الانصراف حين ترمي

ثاني الايام بدون إثم

828 -

والحج قد تم، وطُف مودعا

ألبيتَ ندبا اِن تردْ اَن ترجعا

ثم شرع يتكلم على العمرة فقال:

829 -

وافعل في الاعتمار ما مضى إلى

تمام سعي، فهنا قد كملا

830 -

فاحلقْ اِذا، أو قصرنْ، تحلا

والحلق حجا واعتمارا أولى

831 -

وهُو في حق النساء يحظر

فهْي بتقصير يسير تؤمر

معناه أن العمرة كالحج في ثلاثة من أركانه، وهي الإحرام، والطواف، والسعي، على ما تقدم بيانه في ذلك كله، فإذا تم سعيه حلق أو قصر على ما تقدم بيانه، وحل له كل شيء مما حرم عليه بالإحرام، واختلف في الحلق في العمرة هل هو ركن، أو واجب غير ركن وهو المعول، وهي سنة مرة في العمر، ويكره تكرارها في العام الواحد، خلافا لمطرف وابن المواز، حيث قالا بالجواز، واختاره اللخمي -رحمهم الله تعالى جميعا ـ

832 -

وجاز للمحرم قتل الاسد

ونحوه من كل وحش معتد

833 -

وهكذا الكلب العقور الحيه

وعقربٌ والشبهُ في الأذيه

834 -

وهكذا الكلام في الفئران

أيضا، والاحديةِ، والغِربان

835 -

واجتنب المخيطَ من ثياب

كالصيد والنساء والأطياب

836 -

كذاك إلقا تَفَث، كقتل

نحو بعوض مثلا وقمل

837 -

ولا يغطِّ رأسَه أو يحلقا

شعرَه إلا لضر لحِقا

(1)

كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ.

ص: 428

قوله: وجاز للمحرم قتل الأسد الأبيات الثلاثة، معناه أن قتل هذه الأشياء المذكورة جائز للمحرم في الحل والحرم، إذا كان لدفع أذاها لا بنية الذكاة، لأن ذلك اصطياد، وقد قال سبحانه وتعالى:(وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وإنما جاز قتلها لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " خمس فواسق يقتلن في الحرم: الفأرة، والعقرب، والحُدَيَّا، والغراب، والكلب العقور "

(1)

وفي بعض ألفاظه ذكر الحية،

(2)

ووصف الغراب بالبقع، والبقع في الطير والكلاب بمنزلة البلق في الدواب، والسباع المعتدية ملحقة بالكلب، من باب أولى، فهي فحوى خطاب، بل يحتمل أن المراد بالكلب ما يعمها، بل ذهب البغض إلى أن المراد بالكلب السباع خاصة، وهو غريب، واختلف في الصغار التي لا تؤذي من الغربان والأحدية والسباع، ووجه الخلاف مراعاة عموم اللفظ، والتخصيص بالعلة، والمشهور جواز قتل الأحدية والغربان وإن لم تؤذ.

قوله: واجتنب المخيط من ثياب، معناه أنه يجب على المحرم اجتناب المخيط من الثياب، قال سيدي زروق -رحمه الله تعالى -: المراد به ما يستمسك بنفسه، بخياطة كان أو نسج، أو غيره من ربط أو زر ونحوه.

وذلك لما في الصحيح من أن رجلا سأل رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ عما يلبس المحرم من الثياب؟

فقال: " لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران، فإن لم يجد النعلين، فليلبس خفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين "

(3)

قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى -: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم، وأنه نبه بالقميص والسراويل، على كل مخيط، وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطى الرأس به محيطا أو غيره، وبالخفاف على كل ما يستر الرجل.

(1)

متفق عليه.

(2)

وقع ذكر الأمرين في رواية مسلم عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها.

(3)

متفق عليه، واللفظ للبخاري.

ص: 429

قوله: كالصيد، معناه أنه يحرم على المحرم سواء كان في الحل أو في الحرم اصطياد حيوان بري، متانسا أو وحشيا، مأكولا أو غير مأكول، مملوكا أو غير مملوك، كبيرا أو صغيرا، حتى البيض، لقوله سبحانه وتعالى:(لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وقوله سبحانه وتعالى: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وما صاده محرم أو صيد له ميتة، ولو بيضا، ولا يحرم عليه أكل لحم صاده حل لنفسه أو لحل آخر.

قوله: والنساء، معناه أنه يحرم على المحرم أن يقرب النساء إجماعا، لقوله سبحانه وتعالى:(فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) والرفث عام في كل ما يريده الرجل من المرأة، فإن وطئ الحاج قبل وقوف عرفة فسد حجه اتفاقا، وإن وطئ بعده قبل رمي العقبة والإفاضة، فالمشهور الفساد أيضا، وإن وطئ بعد رمي العقبة وقبل الإفاضة، فعليه هدي وعمرة، وإن وطئ بعد الإفاضة وقبل الرمي فعليه هدي فقط، وما قيل في الجماع يقال في الإمناء عن استدعاء، وأما الإمناء ابتداء من غير مداومة نظر أو فكر، ففيه هدي، كالإمذاء والتقبيل، وأما المعتمر فإن جامع أو أمنى عن استدعاء قبل تمام السعي، فسدت عمرته، وإن حصل منه ذلك بعد السعي وقبل الحلاق، فعليه دم.

ويجب في النسك الفاسد إتمامه وقضاؤه والإهداء، ولا يجوز للمحرم أن ينكح أو ينكح.

قوله: والأطياب، الأطياب: جمع طيب، والمعنى أنه يحرم عليه التطيب، وتجب عليه بذلك الفدية الآتي بيانها قريبا إن شاء الله سبحانه وتعالى.

والمراد الطيب المؤنث خاصة، وهو الذي يظهر ريحه وأثره كالورس، والزعفران، والمسك، والكافور، والعنبر، والعود، بخلاف المذكر، وهو ما يظهر ريحه، ويخفى أثره، كالريحان، والورد، والياسمين، فيكره، ولا فدية فيه، والأصل في منع الطيب حديث المحرم الذي سقط عن راحلته فمات

(1)

.

(1)

متفق عليه.

ص: 430

قوله: كإلقا تفث، معناه أن إلقاء التفث وإزالة الشعث ممنوعان، كقص الشارب، وقلم الأظافر، والادهان، ونحو ذلك، فإن فعل فعليه فدية، قال سبحانه وتعالى:(ثم ليقضوا تفثهم)

قوله: كقتل نحو بعوض مثلا وقمل، معناه أنه يحرم عليه قتل الدواب، كالقمل، والذر، والبعوض، والذباب، والدود، والجراد، قال في التاج: أبو عمر: قال مالك -رحمهم الله تعالى جميعا -: في الجراد قبضة، وفي الجرادات أيضا قبضة، ولا أعلم خلافا أن الجراد من صيد البر، وأن المحرم يفديه، الباجي -رحمه الله تعالى -: عندي أنه لو شاء الصيام لحكم عليه بصوم يوم، وإنما قالوا قبضة، لأنها أسهل من صيام يوم، فاستغنى عن ذكر التخيير، وهذا حكم الذباب وغيره من الحشرات.

والقبضة دون الحفنة.

قوله: ولا يغط رأسه إلخ، معناه أنه لا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه كما تقدم في الكلام على المخيط، ولا يجوز له حلقه إلا لضرورة، كما في آية الفدية.

838 -

وافتد إذ ذلك بالصيام

ثلاثةً حسب من الأيام

839 -

أوَ اَعط ستة من الأرامل

ثلاث آصع بلا تفاضل

840 -

وإن تشأ فافتدينْ بذبح

أو نحر ما يجزئ إذ تضحي

841 -

وجاز في كل البلاد الافتدا

فليس فعله يخص بلدا

المعنى أن المحرم إذا حلق رأسه من ضرورة، فذلك جائز، ولكن تجب عليه به فدية، كما قال سبحانه وتعالى:(فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) وقد بين النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ المراد بذلك، فبين أن المراد بالصيام صيام ثلاثة أيام، وبالإطعام إطعام ستة مساكين، لكل نصف صاع كما في الصحيح،

(1)

وأشار بقوله: ما يجزئ إذ تضحي، إلى أنه يشترط في الشاة مثلا، ما يشترط في الضحية، وسيأتي بيانه إن شاء الله سبحانه وتعالى.

(1)

متفق عليه من حديث كعب بن عُجْرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ.

ص: 431

وأشار بقوله: وجاز في كل البلاد الافتدا إلى أن الافتدا بما ذكر، يصح في كل زمان ومكان، فليس له وقت محدد، ولا مكان محدد، والفدية واجبة في كل ما يترفه به، أو يزيل أذى، وفي لبس المخيط أو المحيط وقتا يحصل فيه الانتفاع به، بخلاف ما لو نزعه فورا فلا شيء عليه.

842 -

وجوزنَّ مطلقا أن تلبسا

ألخفَّ، والمحيط كله النسا

843 -

وما سوى ذين من المنحظل

قبل، فحكمها به كالرجل

844 -

وسَتر وجهها وكفيها امتنع

ما لم يكن خشية فتنة وقع

845 -

ومثلها بستر وجه الذكر

والرأس ستره له قد انحظر

846 -

كلبسه خفا إذا لم يَعدم

نعلا، فإن عدمه لم يحرم

847 -

وليقطع اَسفل من الكعب، ولا

شيء عليه، وكفقدٍ الغلا

قوله: وجوزن مطلقا الأبيات الثلاثة، أشار به إلى أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، فيجوز لها لبس الخفين، والمخيط من الثياب والمحيط، وإنما يمنع لها لبس القفاز، لنهيه صلى الله تعالى عليه وسلم النساء في الإحرام عنه، وستر وجهها

(1)

إلا لستر، بلا غرز ولا ربط ولا عقد، فإن سترته لبرد أو حر فعليها الفدية.

قوله: وما سوى ذين البيت، يعني به أنه يحرم عليها غير ما ذكر مما يحرم على الرجل بالإحرام، وكقرب الرجال بجماع أو مقدماته، والتطيب، وإزالة الشعث، وقتل الدواب، والاصطياد، والتزوج.

قوله: ومثلها بستر وجهها الذكر الأبيات، معناه أن الرجل يحرم عليه بالإحرام ستر وجهه أو رأسه -كما تقدم -بكل ما يعد ساترا، ويحرم عليه لبس الخفين إلا ألا يجد نعالا، فيقطعهما أسفل من الكعبين، كما تقدم ذكره، ومثل فقدهما غلاؤهما، وإليه أشار بقوله: وكفقد الغلا.

848 -

وحجة الإفراد مالك على

تمتع مع القران فضَّلا

849 -

ومن تمتع فقد تعينا

عليه هدي، وكذا من قرنا

(1)

وقع في رواية الإمام أحمد لحديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ المتفق عليه، ما لفظه: وسمعته ينهى النساء عن القفاز والنقاب، وإسناده حسن.

ص: 432

850 -

إن لم يكن كلاهما إحرامَه

بمكة الغراء ذا إقامه

851 -

وبمنى ذبحه، أو نحره

إن كان في الوقفة معْه أحضره

852 -

إلا فمكة، ويلزم المجي

به إذا لحرم من خارج

853 -

وإن عن الهدي يكن ذا عُسْره

فليصم أياما لذاك عشْره

854 -

ثلاثة من وقت الاحرام إلى

عرفة، فإن هنا تكاسلا

855 -

فليصم أيام منى، وليصم

ألسبعة البواق بعد المقدم

قوله: وحجة الإفراد البيت، معناه أن حج الإفراد أفضل عند مالك -رحمه الله تعالى - وأصحابه من التمتع والقران، لأنه يرى أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم -حج مفردا، وقد اختلفت الرواية في ذلك، ولأن القران والتمتع يجب بهما الدم، والشأن فيه أن يكون لجبر نقص، ويليه في الفضل القران، لأن القارن في عمله كالمفرد، والمفرد أفضل، فما قارب فعله كان أفضل، قاله سند -رحمه الله تعالى -نقله في المواهب.

ثم التمتع، وقيل التمتع أفضل من القران، وذهب أبو حنيفة -رحمه الله تعالى -إلى أن القران أفضل من الإفراد، وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله تعالى -: الثلاثة سواء.

قوله: ومن تمتع البيت، معناه أن المتمتع يجب عليه هدي، كما في الآية الكريمة (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) وجعلوا القارن مثله في ذلك من باب أولى، مع أن التمتع يستعمل في القران.

قوله: إن لم يكن كلاهما البيت، معناه أن محل وجوب الهدي بما ذكر أن لا يكون المتمتع أو القارن من أهل مكة أو ذي طوى، فإن كان من أهلهما، ولو بالإقامة فلا دم عليه لقوله سبحانه وتعالى:(ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) وفرق ابن الماجشون -رحمه الله تعالى -بين المتمتع والقارن من أهل مكة المكرمة، فاوجب الهدي على القارن، واختاره اللخمي -رحمه الله تعالى -لأن موجب الدم فيه على غير المكي اندراج العمرة، وهو حاصل للمكي أيضا.

ص: 433

قوله: وبمنى البيتين، معناه أن الهدي المذكور وكذلك غيره من الهدايا إن كان قد وقف به في عرفة هو أو نائبه نحره بمنى، إذا كان ذلك في أيام النحر، كما تقدم، وإن لم يقف به هو أو وكيله، أو لم يتمكن من نحره في أيام النحر نحره بمكة المكرمة، بعد أن يدخل به من الحل، فلا بد في الهدايا عند مالك - رحمه الله تعالى - من الجمع بين الحل والحرم، فإن اشتراها من الحل كفاه ذلك، وإن اشتراها في الحرم أخرجها للحل، ثم عاد بها إلى مكة المكرمة، فإن لم يفعل لم تجزه على المشهور، خلافا لرواية أبي قرة عن مالك - رحمهما الله تعالى ـ.

قوله: وإن عن الهدي الأبيات، معناه أن من لا يجد هديا يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج في ما بين إحرامه وعرفة، فإن لم يصمهما في ذلك، صام أيام منى، وسبعة إذا رجع كما في الآية الكريمة (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) ولا تجزئ على ظاهر المذهب، إذا صامها في الحج، واختار اللخمي -رحمه الله تعالى -الإجزاء، قياسا على المسافر في رمضان، وهذا جار في الهدايا كلها، ولا يختص بهدي التمتع والقران.

856 -

والمتمتع الذي قبلُ خلا

هو الذي من عمرة تحللا

857 -

بأشهر الحج، إذا أقاما

دون بلاده، وحج العاما

858 -

والقارن الذي لعمرة معا

حج لدى إحرامه قد جمعا

859 -

وقدمنَّها بنية على

حج، وفعلها به قد دخلا

860 -

وهكذا مَن قبلَ أن يطَّوَّفا

وقبلَ أن يركع حجا اَردفا

ص: 434

أشار بهذا إلى بيان حقيقة التمتع بالعمرة إلى الحج الذي تقدم أنه يوجب الهدي، فذكر أنه ما استجمع أمورا، منها أن يكون تحلله من العمرة في أشهر الحج، فلو تحلل منها قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، لم يكن متمتعا، وإليه أشار بقوله: تحلل بأشهر الحج، ومنها أن تكون العمرة سابقة، فلو حج أولا ثم اعتمر قبل انقضاء أشهر الحج لم يكن متمتعا، وهذا مفهوم من نفس اللفظ أيضا، ومنها أن لا يعود إلى أفقه، أو مثله بعدا، بعد العمرة قبل الحج، وإليه أشار بقوله: إذا أقاما دون بلاده، ومنها أن يحج من عامه ذلك، فلو اعتمر في أشهر الحج، ولم يحج ذلك العام، وأقام حتى حج العام القابل، لم يكن متمتعا، وإليه أشار بقوله: وحج العاما، ومنها أن يكون إحرامه بالحج بعد التحلل من العمرة، فلو أحرم بهما معا لكان قارنا، كما هو قوله: والقارن الذي لعمرة معا البيت، ولو أحرم بالعمرة ثم أردف عليها الحج قبل أن يطوف لها، أو بعد طوافه لها وقبل ركوع الطواف، لكان قارنا أيضا، والفرق بين القارن والمتمتع اندراج أفعال العمرة، ولو ركنا واحدا في الحج في القران، بخلاف التمتع، فإنه يأتي فيه بكل من النسكين على حدته، وإلى النوع الثاني من أنواع القران أشار بقوله: وهكذا من قبل أن يطوفا البيت، فهو تشبيه بمن أحرم بالحج والعمرة معا، ومنها أن لا يكون من أهل مكة المكرمة وذي طوى، وقد تقدم في قوله: إن لم يكن كلاهما إحرامه البيت، أما أهل منى أو المناهل بين مكة المكرمة، والمواقيت، كقديد ومر الظهران وعسفان وغيرهم من سكان الحرم، فعليهم الدم إذا قرنوا أو تمتعوا كما في المدونة.

ص: 435

قوله: وقدمنها بنية، أشار به إلى أنه إذا أراد أن يحرم بهما معا يقدم العمرة في النية، قال في التوضيح: قال علماؤنا: ويقدم العمرة في نيته، لارتداف الحج على العمرة، دون العكس، فإن قدم الحج على العمرة، فقال الأبهري: يجزيه، الباجي -رحمهما الله تعالى -: ومعنى ذلك أنه نواهما جميعا.

قوله: وفعلها به قد دخلا، أشار به إلى أن القارن تندرج عمرته في الحج، فلا يعمل إلا ما يعمله المفرد، فالفرق بينه وبين المفرد في النية فقط.

861 -

ومن يكن أصاب صيدا وجبا

عليه فيه مثلُ ما قد عطبا

862 -

من نعم، يقضي به عدلان

عليه مسلمان عارفان

863 -

وهو كالهدي مكانا، وانحتم

كذاك فيه جمْعُ حل وحرم

864 -

وإن يشأ قوَّم ذاك الصيدا

قوتا، ومثله طعاما اَدّى

865 -

وإن يشأ فعَدْل ذاك صوما

يصوم عدل كل مد يوما

866 -

وصم في الانكسار يوما كاملا

فالصوم ليس للتجزي قابلا

أشار بهذا إلى جزاء الصيد، والمعنى أن من قتل صيدا فعليه جزاؤه، ولو قتله جاهلا بحرمة قتله، أو ناسيا أو لمجاعة، ومثل قتله مباشرة التسبب في قتله، والتعمد المذكور في الآية الكريمة خارج مخرج الغالب، كما قال ابن يونس -رحمه الله تعالى - في جامعه، واعتبره ابن عبد الحكم فلم يوجب جزاء على ناس ولا مخطئ، وهو ظاهر قوله سبحانه وتعالى:(ليذوق وبال أمره)

ويحكم بالجزاء عدلان ليس القاتل أحدهما، فقيهان بأحكام الصيد، ولا يشترط إذن السلطان لهما في ذلك، ويخير الحكمان القاتل كما خيره الله سبحانه وتعالى بين ثلاثة أشياء، أحدها نظيره منظرا وبدنا، من النعم بمكة المكرمة، ولا يجري هذا في الصيد الذي ينقص عن عدل شاة، لأنها أدنى الهدي، وقد قال سبحانه وتعالى:(هديا بلغ الكعبة) ومحل الهدي مكة المكرمة خاصة، للآية الكريمة.

ص: 436

الثاني قيمة الصيد طعاما، ولا يقومان الصيد بالدراهم، بل يقومانه بتقدير حياته بطعام، قال في المدونة: فإن أرادا أن يحكما عليه بالطعام، فليقوما الصيد نفسه حيا بطعام، ولا يقومان جزاءه من النعم، ولو قوم الصيد بدراهم ثم اشترى بها طعاما، رجوت أن يكون واسعا، ولكن تقويمه بالطعام أصوب.

ونقل ابن يونس -رحمه الله تعالى -في جامعه عن مالك أنه قال: يقوم الصيد بالحنطة، فإن قوم بشعير، أو تمر، أجزأ إذا كان ذلك طعام ذلك الموضع، ويتصدق على كل مسكين من ذلك مدا بمد النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم -مثل الحنطة، قيل: أيقوم الصيد بشيء من القطاني، أو بزبيب، أو أقط، وهو عيش أهل ذلك الموضع الذي أصاب به الصيد، قال: يجزئ فيه ما يجزئ في كفارة الأيمان، ولا يجزئ فيه ما لا يجزئ في كفارة الأيمان.

والعبرة في التقويم بالموضع الذي أصاب فيه الصيد، فإن لم يكن مستوطنا، فبقربه، ويخرج الطعام بموضع التقويم خاصة على المشهور.

الثالث الصوم، بأن يصوم عدل الطعام، لكل مد يوم، فإن بقي بعض مد، صام عنه يوما، وذلك هو قوله: وصم في الانكسار البيت، ولا يفتقر الصوم لحكم بعد تقديرهما الطعام، ولا يختص الصوم بمكان

867 -

ولتقلنْ لدى القُفول آئبون

ألخبرَ الذي روى المحققون

كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قفل من حج أو عمرة، يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آئبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده

(1)

.

(1)

متفق عليه من حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ.

ص: 437