الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى حديث ذراع الجبار
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
العقائد والمذاهب الفكرية/توحيد الأسماء والصفات
التاريخ 26/05/1426هـ
السؤال
سؤالي: وجدت في كتاب السنة لابن أبي عاصم حديث أبي هريرة: "غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبار"، وقد صححه الشيخ الألباني، وذكر أنه في السلسلة الصحيحة رقم (1105) .
وقد بحثت حول هذا الحديث، فوجدت في الكفاية للخطيب: أخبرنا أبو أحمد بن محمد بن غالب البرقاني، وأبو الحسن بشرى بن عبد الله الرومي، قالا: أخبرنا محمد بن جعفر
…
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضرس الكافر مثل أحد، وفخذه مثل البيضاء، ومقعده من النار كما بين قديد ومكة، وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبار".
قال الخطيب: كان في أصل سماع البرقاني: (بذراع الجبار عز وجل وعليه تصحيح، وهذا يدل على أنه كان في الأصل الذي نقل منه هكذا.
ونرى أن الكاتب سبق إلى وهمه أن الجبار في هذا الموضع هو الله -تعالى- وكتب: "عز وجل" ولم يعلم أن المراد أحد الجبارين الذين عظم خلقهم، وأوتوا بسطة في الجسم، كما قال تعالى:"إن فيها قوماً جبارين".
وقال ابن حبان: الجبار ملك ظاهر يقال له الجبار.
وقال الحاكم: قال الشيخ أبو بكر رضي الله عنه: معنى قوله: بذراع الجبار" أي جبار من جبابرة الآدميين ممن كان في القرون الأولى ممن كان أعظم خلقاً وأطول أعضاءً وذراعاً من الناس.
وقال البيهقي في الأسماء والصفات: قال بعض أهل النظر في قوله: "بذراع الجبار": إن الجبار هاهنا لم يُعْنَ به القديم، وإنما عُني به رجل جبار كان يوصف بطول الذراع وعظم الجسم، ألا ترى إلى قوله:(كل جبار عنيد)، وقال:(وما أنت عليهم بجبار) . وقوله: (بذراع الجبار) أي: بذراع ذلك الجبار الموصوف بطول الذراع، وعظم الجسد، ويحتمل أن يكون ذلك ذراعاً طويلاً يذرع به، يعرف بذراع الجبار، على معنى التعظيم والتهويل، لا أنَّ له ذراعاً كذراع الأيدي المخلوقة.
وقال المنذري: الجبار ملك باليمن له ذراع معروف المقدار، كذا قال ابن حبان وغيره. وقيل ملك بالعجم.
ولكن الذي يقع في نفسي أن هذه اللفظة منكرة، ولكن لا يتم القطع بذلك إلا بنظر أهل البصيرة في العلل، فأردنا أن نأخذ رأيكم في هذا الحديث، أثابكم الله ونفع بكم.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فحديث وصف كثافة وغلظ جلد الكافر في نار جهنم، وأنه اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبار حديث صحيح، صحّحه جمعٌ من أهل العلم. كابن حبان (رقم 7486) ، والحاكم (4/595) .
وفي عامّة مصادر السنة لم يرد عقب لفظة الجبار عبارات التفخيم والتعظيم والتنزيه التي لا تليق بغير الله عز وجل، مثل "عز وجل"، أو "جَلَّ اسمُه"، ونحوها إلا فيما نقله السائل عن (الكفاية) للخطيب، وفي كتاب (إبطال التأويلات) للفراء.
ولذلك فقد اختلف أهل العلم في فَهْم هذا الحديث، فحمله بعضهم على أنه من أحاديث الصفات، ونفى الآخرون ذلك وتأوّلوه تأويلاً يجعله ليس من أحاديث صفات الباري عز وجل.
فإيراد ابن أبي عاصم له ضمن أبواب أحاديث الصفات في كتاب السنة (رقم 623، 624) يدلّ على أنه عنده من أحاديث الصفات.
وكذلك أورده أبو يعلى الفراء في كتابه (إبطال التأويلات) ضمن أحاديث الصفات، وتكلَّم عنه (1/203-205) .
وتأوَّله آخرون بما يجعله ليس من أحاديث الصفات، وعلى هذا عامّةُ من وقفت على كلام له في هذا الحديث، وأخصّ بالذكر منهم هنا من عُرفوا باتِّباع منهج السلف في باب الأسماء والصفات الإلهية، كابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (252) ، والأزهري في تهذيب اللغة (11/61)، والذهبي حيث قال – فيما نقله عنه المناوي في فيض القدير (4/255) -:"ليس ذا من أحاديث الصفات في شيء".
والذي جعله من أحاديث الصفات أثبت به صفة الذراع لله عز وجل، لكن دون تشبيه ولا تجسيم، كما أثبت السلف صفة الوجه واليدين. ولم يروا أن في الحديث ما يدعو إلى تحديد الذراع، كما لم يُفض الاستواء على العرش إلى التحديد، وهذا ما صرّح به أبو يعلى الفراء في إبطال التأويلات (1/204-205) .
ومَنْ فهم معنى هذا الحديث على ما ذكره الفرّاء، لا يكون في إثباته في هذه الصفة محذوراً؛ لأنه لم يؤدِّ به الإثبات إلى التشبه، وهذا هو ما فرّ منه المؤولون، الذين تأولوا الحديث لكي لا يكون من أحاديث الصفات أصلاً.
أما من لم يفهم من الحديث ذلك، فيلزمه إمّا تفويض المعنى (وليس هو من مناهج السلف) ، أو أن يتأوّل الحديث.
وقد تأوّله ابن قتيبة بقوله: " ونحن نقول: إن لهذا الحديث مخرجاً حسناً، إن كان النبي – صلى الله عليه وسلم أراده، وهو أن يكون الجبار –ههنا- الملِك، قال الله –تبارك وتعالى " وما أنت عليهم بجبار" [ق:45] أي بملك مُسلَّط، والجبابرة: الملوك، وهذا كما يقول الناس: هو كذا وكذا ذراعاً بذراع الملك، يريدون: بالذراع الأكبر، وأحسبه ملكاً من ملوك العجم، كان تامّ الذراع، فنُسب إليه".
ووافقه على ذلك الأزهري في (تهذيب اللغة) ، كما سبق.
وقد افتتح الأزهري مادّة (جبر) بقوله: قال الله عز وجل: "إن فيها قوماً جبارين"[المائدة:22] . قال أبو الحسن اللحياني: أراد الطول والقُوَّة والعِظَم، والله أعلم بذلك. قلت: كأنه ذهب به إلى الجبّار من النخيل، وهو الطويل الذي فات يد المتناول، يقال: رجلٌ جبار إذا كان طويلاً عظيماً قويَّاً، تشبيهاً بالجبار من النخيل".
وقد يستغرب هذا التأويل من لم يكن عارفاً بلغة العرب، ولعدم استخدام الجبار لدينا بالمعنى الذي ذكره الأزهري، لكن من عرف أن الجبار في لغة العرب يدل على ذلك المعنى، ولم يُسلِّط عُرْفَه اللغوي على العرف اللغوي الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستغرب ذلك المعنى، خاصة مع قول ابن فارس في كتابه مقاييس اللغة (1/501) :" الجيم والباء والراء: أصلٌ واحد، وهو جنسٌ من العظمة والعُلُوّ والاستقامة، فالجبّار: الذي طال وفات اليد، يُقال: فرس جبّار، ونخلةٌ جبّارة..".
وقال القَطامي (في ديوانه 351) :
ومن يَنْزِعْ أرومتَه لأُخرى فذاك لثابتِ الأصل اعْتِقَارُ
كما الزيتونُ لا يَمَّازُ نَخْلاً ولا الجَبّارُ تُبْدَلُهُ صُحَارُ
يقول: من ترك أصله وانتسب لغير أصله، فهذا لمن كان صحيح النسب مذلّة. كما أن شجر الزيتون لا يُمكن أن يفارق شجرة الزيتون إلى النخل، والنَّخل الطوال (وهي الجبّار) ، لا تستبدلها صُحَار بغيرها، وصُحَار بلدٌ بعُمَان مشهورة بكثرة النخيل.
وعلى هذا يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بذراع الجبار" يعْني: بذراع الطويل الفائت الطول.
وهذا أقوى ما يظهر لي من معناه، وهو ظاهرٌ لا إشكال فيه. والله أعلم
والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.