الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجبر والاختيار
المجيب د. أحمد بن عبد اللطيف العبد اللطيف
الأستاذ بقسم العقيدة بجامعة أم القرى
العقائد والمذاهب الفكرية/الإيمان بالقدر
التاريخ 1/8/1423هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحمد الله-سبحانه وتعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وعليه نتوكل وبه نستعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه أجمعين. إخوتنا في الله..كنت قد قرأت على شبكة الإنترنت في موقع لفضيلة الشيخ ابن باز فتوى كانت رداً على سؤال يقول:" بعض الناس يقولون: إن كل الأعمال التي يعملها الإنسان هي من إرادة الله فنرجو أن توضحوا لنا: هل الإنسان مخير أم مسير؟ " وكان أهم ما استرعى اهتمامي في هذه الفتوى هو الآتي: " والإنسان مخير؛ ومسير، مخير لأن الله أعطاه إرادة، كما قال عز وجل "لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين" [التكوير:28،29] .
لكن هذه الإرادة وهذه المشيئة لا تقع إلا بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى فما يقع في العباد، وما منهم كله بمشيئة من الله سابقة وقدر سابق، فالأعمال والأرزاق والآجال والحروب وانتزاع ملك، وقيام دولة، كله بمشيئة الله سبحانه وتعالى فالطاعات بقدر الله والعبد مشكور عليها ومأجور، والمعاصي بقدر الله والعبد ملوم عليها ومأزور آثم، والحجة قائمة، فالحجة لله وحده - سبحانه -، قال - تعالى -:"قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم "[الأنعام:149]، وقال سبحانه وتعالى:"ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين"[الأنعام:35] يقول المفتي في بداية فتواه: إن الإنسان هو مخير ومسير ثم ما يلبث أن ينفي صفة التخيير عن الإنسان، إذ لو كان ما يختاره المرء من عقيدة يجعله منهاجه، وعمل يؤجر أو يعاقب عليه، هما مشيئة إلهية سبقت مشيئة العبد، فأين إذا هي إرادة العبد وخياره؟ إن ما يقع في العباد من قضاء وقدر هو من إرادة الله، فلا جدال في ذلك، ولكن ما يقع منهم من عمل، صالحاً كان أم سيئاً، فكيف يكون من عند الله؟ بل كيف يرمى العبد في النار ما دام ذنبه ليس بإرادته ولا باختياره؟ ألم يقترن الإيمان بالعمل في العديد من الآيات الكريمة؟ قال-تعالى-:"إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون"[التين:6]
…
غير ممنون، فكيف يمن على المرء بأجره عن عمل هو بإرادته؟ جزاكم الله عنا كل خير، وجعلكم ذخراً لهذه الأمة، نريد رداً شافياً في هذا الموضوع، مدعوماً بالنصوص الكريمة.
الجواب
السؤال عبارة عن إشكال وقع فيه السائل مما سمعه من بعض الفتاوى، وفيه يقول: "إن ما يقع في العباد من قضاء وقدر هو من إرادة الله فلا جدال في ذلك، ولكن ما يقع منهم عملاً صالحاً كان أم سيئاً فكيف يكون من عند الله؟ بل كيف يرمى العبد في النار مادام ذنبه ليس بإرادته ولا باختياره
…
" إلخ.
وإجابة على هذا الإشكال نقول:
إن الإيمان بقضاء الله وقدره ركن من أركان الإيمان الستة وهي معلومة من الدين بالضرورة، وقد وردت في حديث جبريل المشهور عندما سأله عن الإيمان، فقال:" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال جبريل: صدقت" مسلم (8) .
وقال - تعالى -: "إنا كل شيء خلقناه بقدر"[القمر: 49]، وروى مسلم في صحيحه (2655) عن طاووس قال: أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون:" كل شيء بقدر. قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" سبق تخريجه.
والسؤال: ما مراتب الإيمان بالقدر؟ وكيف يؤمن الإنسان بالقضاء والقدر؟
لقد بين أهل العمل مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، وإن شئت فقل: أركان الإيمان بالقضاء والقدر، وهي:
أولاً: الإيمان بعلم الله الشامل لما كان وما سيكون ومالم يكن لو كان كيف سيكون وتعلق علمه بالموجود والمعدوم والمستحيل، والأدلة على ذلك كثيرة "لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً" [الطلاق: 12] .
ثانياً: الإيمان بأن ما علمه الله سبحانه وتعالى أنه سيقع قد كتبه في اللوح المحفوظ. روى مسلم في صحيحه (2653) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ". قال: "وعرشه على الماء". وقال - تعالى -: "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين"[يس:12] .
ثالثاً: الإيمان بمشيئة الله الشاملة وقدرته النافذة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. قال الله - تعالى -:"وما تشاؤون إلا أن يشاء الله "[الإنسان:30] وقال - تعالى -: "من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم"[الأنعام:39]، "ولو شاء الله ما أشركوا" [الأنعام: 107] .
رابعاً: الإيمان بأن الله خالق كل شيء فهو خالق الإنسان وخالق ما يعمله الإنسان، قال - تعالى -:"الله خالق كل شيء"[الرعد:16]، "والله خلقكم وما تعملون" [الصافات:96] .
هذه مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
وخالف في القدر فرقتان:
القدرية: الذين أنكروا القدر، وقالوا: الأمر أنف، وقد كفرهم الصحابة، لأنهم أنكروا العلم الأزلي، وزعموا أن الله لا يعلم ما العباد عاملون، وجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله الاختيارية، ومنكرو العلم القديم من القدرية لا وجود لهم اليوم، ولكن القدرية اليوم ينكرون عموم خالقية الله لكل شيء، ويزعمون أن الإنسان خالق لأفعاله الاختيارية، فهم مجوس هذه الأمة.
الجبرية: وقالوا: إن الإنسان لا اختيار له ولا إرادة له، بل كل ما يقع من الإنسان فهو بفعل الله حقيقة ولا فعل للإنسان على الحقيقة، ورتبوا على هذا عدم مسؤولية الإنسان عن أعماله لعدم وقوعها منه.
وأهل السنة والجماعة وسط بين الفرقتين، فيؤمنون بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بوقوع الفعل من الإنسان كما دل على ذلك الحس والواقع، والإنسان مسؤول عما يقع منه، ولهذا يرى أهل العلم أن الرد على الجبرية أن يضرب ويشتم أحدهم، فإن اعترض وقاوم الضارب والشاتم وعاتبه فقد نقض مذهبه في عدم مسؤولية الإنسان، ورجع في ذلك إلى الفطرة.
وقد سئلت اللجنة الدائمة عن سؤال مشابه فأجابت عنه، فإليك السؤال والإجابة
س: مضمونه أن نقاشاً دار بين جماعتين، مبناه عن الإنسان، هل هو مسير أو مخير؟ والمطلوب الإرشاد إلى الصواب في ذلك على ضوء الكتاب والسنة.
فأجابت اللجنة: أولاً: ثبت أن الله - تعالى - وسع كل شيء رحمة وعلماً وكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، وعمت مشيئته وقدرته كل شيء، بيده الأمر كله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وهو على كل شيء قدير، وقد دلَّ على ذلك وما في معناه نصوص من الكتاب والسنة، وهي كثيرة معروفة عند أهل العلم، ومن طلبها من القرآن ودواوين السنة وجدها، من ذلك قوله تعالى:"إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" الآية، [العنكبوت:62] وقوله: "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" الآية، [الزمر:62] ، وقوله:"إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ"[القمر:49]، وقوله:"وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً"[الإنسان:30]، وقوله:"يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] ، وقوله:"مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" [الحديد:22] ، وقوله: ""وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"[يونس:99]، وقوله:"وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا" الآية، [السجدة: 13] .
ومما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك ما حث على الذكر به عقب الصلاة من قول: "لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" البخاري (844) ومسلم (593)، وكذا ما جاء في حديث عمر – رضي الله عنه – من سؤال جبريل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الإيمان فأجاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله:"الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" مسلم (8) ، فهذه النصوص وما في معناها تدل على كمال علمه - تعالى - بما كان وما هو كائن وتقديره كل شؤون خلقه، وعلى عموم مشيئته وقدرته، ما شاءه – سبحانه - كان وما لم يشأ لم يكن.
ثانياً: ثبت أن الله حكيم في خلقه وتدبيره وتشريعه، رحيم بعباده، وأنه - تعالى - أرسل الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأنزل الكتب وشرع الشرائع وأمر كلاً منهم أن يبلغها أمته، وأنه - تعالى - لم يكلف أحداً إلَاّ وسعه، رحمة منه وفضلاً، فلا يكلف المجنون حتى يعقل، ولا الصغير حتى يبلغ، وعذر النائم حتى يستيقظ، والناسي حتى يذكر، والعاجز حتى يستطيع ومن لم تبلغه الدعوة حتى تبلغه، رحمة منه تعالى وإحساناً.
وثبت عقلاً وشرعاً الفرق بين حركة الصاعد على سلم مثلاً والساقط من سطح مثلاً، فيؤمر الأول بالمضي إلى الخير وينهى عن المضي إلى الشر والاعتداء، بخلاف الثاني فلا يليق في شرع ولا عقل أن يوجه إليه أمر أو نهي، وثبت الفرق أيضاً بين حركة المرتعش لمرضه وحركة من ليس به مرض، فلا يليق شرعاً ولا عقلاً أن يوجه إلى الأول أمر ولا نهي فيما يتعلق في الرعشة، لكونه ملجأ مضطراً إليه، بل يرثى لحاله ويسعى في علاجه، بخلاف الثاني فقد يحمد كما في حركات العبادات الشرعية، وقد ينهى كما في حركات العبادة غير الشرعية وحركات الظلم والاعتداء، فتكليف الله عباده ما يطيقون فقط وتفريقه في التشريع والجزاء بين من ذكروا وأمثالهم دليل على ثبوت الاختيار والقدرة والاستطاعة لمن كلفهم دون من لم يكلفهم.
ثم إن الله - تعالى - حكم عدل علي حكيم لا يظلم مثقال ذرة، جواد كريم يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات، ثبت ذلك بالفعل الصريح والنقل الصحيح فلا يتأتى مع كمال حكمته ورحمته وواسع مغفرته أن يكلف عباده دون أن يكون لديهم إرادة واختيار لما يأتون وما يذرون وقدرة على ما يفعلون، ومحال في قضائه العادل وحكمته البالغة أن يعذبهم على ما هم إلى فعله ملجؤون وعليه مكرهون، وإذاً فقدر الله المحكم العادل وقضاؤه المبرم النافذ من عقائد الإيمان الثابتة التي يجب الإذعان لها وثبوت الاختيار للمكلفين وقدرتهم على تحقيق ما كلفوا به من القضايا التي صرح بها الشرع وقضى بها العقل، فلا مناص من التسليم بها والرضوخ لها، فإذا اتسع عقل الإنسان لإدراك السر في ذلك فليحمد الله على توفيقه، وإن عجز عن ذلك فليفوض أمره لله، وليتهم نفسه بالقصور في إدراك الحقائق فذلك شأنه في كثير من الشؤون، ولا يتهم ربه في قدره وقضائه وتشريعه وجزائه فإنه - سبحانه - هو العلي القدير الحكيم الخبير، "سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين" [الصافات:180-182] . وليكف عن الخوض في ذلك الشأن خشية الزلل والوقوع في الحيرة، وليقنع عن رضا وتسليم بجواب النبي – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه – رضي الله عنهم لما حاموا حول هذا الحمى، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل؟ فقال لهم:"اعملوا فكل ميسر لما خلق له" رواه البخاري (4949) من طرق عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بقيع الغرقد في جنازة فقال: "ما منكم من أحد إلَاّ وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار"، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل، فقال:"اعملوا فكل ميسر لما خُلق له"، ثم قرأ قوله تعالى:"فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى"، إلى قوله تعالى:"فسنيسره للعسرى"، ورواه أيضاً مسلم (2647) وأصحاب
السنن الترمذي (2136) ، وابن ماجة (78) ، وأحمد (621) .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عبد الله بن قعود [عضو] ، عبد الله بن غديان [عضو]
عبد الرزاق عفيفي [نائب رئيس اللجنة] ، عبد العزيز بن عبد الله بن باز [الرئيس]