الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وساوس خاصة بالعدالة الإلهية
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
العقائد والمذاهب الفكرية/الإيمان بالقدر
التاريخ 20/3/1425هـ
السؤال
أنا فتاة، أعاني من مأساة الوسواس الذي لا يتركني أبداً، وقد كان يشككني في كل شيء، ولكني بعد قراءات عديدة في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة أيقنت تماماً بوجود الله وبالإسلام ديناً، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، ولكن المشكلة الوساوس الخاصة بالعدالة الإلهية، فدائماً أقول لنفسي: إن الله غير عادل؛ لما نحن فيه من بلاء، فأنا أخاف الله جداً، ولكني لا أحبه، والمشكلة الأخرى هي عدم تيقني من مبدأ الثواب والعقاب بالجنة والنار حتى اصبر على ظلم الحياة. فأرجوكم أريد من يمد يده لينقذني مما أنا فيه؟.
الجواب
الحمد لله:
لقد دل الله عباده بما نصب من آياته الكونية، كالسماوات والأرض وما بينهما، وكل جزء من هذا العالم يدل على وجود الخالق – سبحانه- وقدرته، وحكمته، قال – سبحانه وتعالى:"إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين"[الأعراف:54]،وقال –سبحانه وتعالى:"وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون"[الذاريات:20-21] ، فما على وجه الأرض من جبال وأنهار، وأشجار، وبحار فيها دلالة عظيمة على قدرة الخالق وحكمته، وعلمه –سبحانه-، بل ونفس الإنسان فيه آيات باهرات، ولو فكّر الإنسان في خلقه شهد العجائب، قال –تعالى-:"وفي أنفسكم أفلا تبصرون"[الذاريات:21]، وقال –تعالى-:"أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون"[الروم:8]، وقال –سبحانه-:"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"[فصلت:53] ، فهذا الإنسان مخلوق من ماء مهين، خلقه الله أطواراً، وصوره في رحم أمه، وركب فيه أعضاءه، وقواه، وجعل فيه آلات الإدراك من السمع، والبصر، والعقل، "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" [النحل:78] ، والقرآن مملوء من الإرشاد إلى آيات الله الكونية في الأنفس والآفاق، فما أضل الجاهلين! وما أجهل الملحدين!.
فتفكري أيتها السائلة في آيات الله، فإن التفكر الصادق طريق إلى المعرفة، "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" [الرعد:3] فالتفكر في آيات الله الخلقية، وآيات الله القرآنية يزيد المؤمن إيماناً، ويقوي به اليقين، ويذهب الله به الوساوس الشيطانية، قال – سبحانه وتعالى:"إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار"[آل عمران:190-191]، يعني: ما خلقت هذا العالم عبثاً ولا لعباً، بل خلقته بالحق لحكم بالغة، وبقدرة تامة، ومشيئة نافذة، وما دام -أيتها السائلة- أن الله قد وفقك للنظر فيما يُذكِر من الإعجاز العلمي في القرآن، وأنه حصل لك بسبب ذلك اليقين والإيمان بالله، وكتابه، ورسوله – صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فهذه نعمة منَّ الله بها عليك، فإنه – سبحانه- هو الذي يمن على من يشاء بالهداية، ويؤتي فضله من يشاء، وهو الحكيم العليم، كما قال –تعالى-:"يهدي الله لنوره من يشاء"[النور:35]،وقال –تعالى-:"ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم"[الحجرات:7-8] .
ثم اعلمي -أيتها السائلة- أن الخواطر التي ترد على القلب مما يعارض الإيمان بالله ورسوله – صلى الله عليه وسلم، واليوم الآخر، لا تضر المسلم ما دام أنه يعلم أنها باطلة، ويبغضها، ويكرهها، ويتألم منها، والشيطان إذا عجز عن إضلال المسلم، وإخراجه عن دينه، اجتهد في أن يشوش عليه إيمانه بإلقاء الوساوس التي تزعجه، وقد جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم فقال:"إني أحدث نفسي بالشيء لأن أخرُّ من السماء أحب إلي من أن أتكلم به، فقال – عليه الصلاة والسلام: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" رواه أحمد (2098) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما، وفي لفظ آخر عند مسلم (132) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه قال له صلى الله عليه وسلم: "ذاك صريح الإيمان"، يعني: كراهة هذا الوسواس، وبغضه، والنفرة منه من صحة الإيمان، فمثل هذه الوساوس لا تضر المؤمن ما دام أنه ثابت على عقيدته، ثم إنه – صلى الله عليه وسلم أرشد من خطرت له هذه الخواطر أن يستعيذ بالله من الشيطان، ويقول: آمنت بالله ورسله، وأن يعرض عن هذه الوساوس، ولا يشتغل بها، ولا يسترسل معها، بل يعرض عنها انظر ما رواه البخاري (3276) ومسلم (134) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وما رواه أحمد (21393) والطبراني في الكبير (3633) من حديث خزيمة – رضي الله عنه.
ومما يجب الإيمان به القدر، فإن الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان، ومعنى الإيمان بالقدر: الإيمان بأن الله علم كل شيء بعلمه القديم، وكتب ذلك، كما أخبر في كتابه، كما أن من الإيمان بالقدر الإيمان بأن كل ما يجري في هذا الوجود هو بمشيئته – سبحانه- وتدبيره، وأنه –تعالى- خالق كل شيء، فيجب مع الإيمان بالقدر الإيمان بحكمة الله، أن الله حكيم، يعني: له الحكمة البالغة فيما خلق وقدر في هذا الوجود من خير وشر، ومن حكمته –تعالى- ابتلاء العباد، يعني: اختبارهم؛ ليتبين المؤمن من الكافر، والمطيع من العاصي، والصادق من الكاذب، كما قال –تعالى-:"الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً"[الملك:2]،وقال –تعالى-:"أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"[العنكبوت:2-3] ، فيجب الإيمان بأن له في كل ما يقدره حكمة بالغة، علمنا ذلك أو لم نعلم، بل ما يخفى على العباد من حكمته –تعالى- هو أضعاف أضعاف ما يعلمونه، بل ما يعملونه من حكمته في خلقه يسير جداً، فالعقول لا تحيط به علماً، قال –تعالى-:"وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"[الإسراء:85]، وقال –تعالى-:"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"[البقرة:255] ، فإذا رأى الإنسان ما يتوهم منه أنه خلاف العدل فليتذكر كمال علمه، وحكمته – سبحانه-، ويتذكر مع ذلك قصور عقل الإنسان عن معرفة أسرار القدر، فالقدر سر الله، لا يعلم العباد منه إلا ما علمهم، ومعنى هذا أن على الإنسان أن يحسن الظن بربه، ويقرّ على نفسه بالعجز والقصور، هذا الأصل عند المؤمن أو المؤمنة، انزاحت عنه الشبهات لحكم الله وحكمته، فلا يستقر الإيمان إلا على مبدأ التسليم؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يدرك عقله كل شيء. ومما يدخل في ذلك أقدار الله الجارية على العباد مثل أنه – سبحانه وتعالى يُضل ويهدي، ويُسعد ويشقي، ويُعز ويذل، ويُفقر ويغني،
ويبتلي ويعافي، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، كما يدخل في ذلك تنويعه للخلق، حيث خلق الطويل والقصير، والجميل والدميم، وفاضل بين العباد في عقولهم وحواسهم، وخلق – سبحانه وتعالى الأضداد، فخلق الطيب والخبيث، والنافع والضار، كما خلق الملائكة والشياطين، والعقول قاصرة عن معرفة أسرار هذه الأقدار، فلا بد من التسليم لحكمته – سبحانه وتعالى وعدله في تدبيره ثم إنه –سبحانه وتعالى قد جعل هذه الحياة ميداناً للابتلاء، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لهداية العباد، وإخراج من شاء – سبحانه وتعالى من الظلمات إلى النور، قال –تعالى-:"كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد"[إبراهيم:1] ، وقد قضى بحكمته أن تكون السعادة والفلاح لمن أجاب المرسلين، واستقام على صراط الله الذي هو دينه، وهو دين الإسلام، وأن يكون الشقاء والضلال لمن كذب الرسل، وأعرض عن دعوتهم، قال – سبحانه وتعالى:"قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى"[طه:123 – 124] .
فالناس أمام دعوة الرسل فريقان مؤمن وكافر، وتقي وفاجر، وقد أعد الله لأوليائه المتقين دار النعيم المقيم، وأعد لأعدائه الكافرين عذاب الجحيم، فهذه الدنيا دار الابتلاء ودار العمل، والدار الآخرة دار الجزاء قال تعالى:"فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"[الزلزلة:7، 8]، وقال سبحانه:"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد"[آل عمران:30] .
فأوصيك أيتها السائلة وكل مسلم بالجد والاجتهاد في طاعة الله مع سؤال الله الثبات، فإن العبد في ضرورة إلى هداية الله، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" رواه الترمذي (2140) وابن ماجة (3834) من حديث أنس رضي الله عنه، وأنفع الدعاء ما علمه الله عباده، وفرضه عليهم في كل صلاة، وهو ما في سورة الفاتحة:"اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"[الآيتين:6-7] .
نسأل الله أن يمن علينا بالهداية إلى صراطه المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والله أعلم.