الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليمين الدستوري
المجيب أ. د. سعود بن عبد الله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
العقائد والمذاهب الفكرية/ نواقض الإيمان/الحكم بغير ما أنزل الله
التاريخ 11/6/1424هـ
السؤال
يا شيخ بارك الله فيك نحن طلبة علم ونسألك ما حكم رجل يجلس أمام حاكم يحكم بغير ما أنزل الله، ويضع هذا الرجل المصحف بين يديه، والدستور (الذي يحكم بغير الشرع) أمامه ثم يقول العبارة التالية:
(أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للوطن والأمير، وأن أحترم الدستور وقوانين الدولة وأذود عن حريات الشعب ومصالحه وأمواله، وأؤدي أعمالي بالأمانة والصدق
…
) ؟
وقد قال هذا القسم مختاراً من غير إكراه ولا جهل معتبر ولا تأويل سائغ، ويقول هذا القسم أمام الملأ: والسؤال هنا هل هذا المقسم مؤمن بالطاغوت كافراً بالله أم كافر بالطاغوت مؤمناً بالله، ظاهر؟ إذ لا شأن لنا بما يعتقده في قلبه، وما حكم من يرضى بهذا القسم ولم يقسم؟ وجزاك الله خيراً ونسأل الله أن ينفع بكم الأمة.
الجواب
إذا أريد الحكم الشرعي على حاكم معين لا يحكم بشرع الله فيجب أن يعلم حالة ذلك الحاكم من حيث الإيمان بشرع الله أو ضده، ولهذا لا تخلو حال الحاكم بغير ما أنزل الله من ثلاث حالات:
الأول: أن يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم حكم الله في هذه المسألة المعينة، ويرى أن حكم الله لا يصلح لهذا الزمان فهذا كافر كفراً أكبر ينقله عن ملة الإسلام.
الثانية: إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل وهو يعلم حكم، الله ويرى أن حكمه سبحانه وحكم غيره من القوانين البشرية سواء، وله أو لغيره أن يختار أي الحكمين فهو كافر كالذي قبله سواء بسواء.
الثالثة: إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل، وهو يعتقد أن حكم الله هو أصلح للعباد في دينهم ودنياهم، وإنما حكم بالقانون الوضعي لجهله بحكمه، أو لتأوله بأنه لا يخالف الشرع لشهوة شخصية ففعله هذا كبيرة من كبائر الذنوب، وهو معصية تقرب من الشرك ولكن لا يكفر بها، وهي عند أهل العلم،: كفر دون كفر، وهذا النوع الثالث عليه أكثر حكام المسلمين اليوم، ومعلوم في القواعد الشرعية المقررة: أن المؤاخذة والتأثيم لا تكون بمجرد المخالفة ولكن بتحقق القصد إليها، فالمتأول في حقيقة الأمر مخطئ غير متعمد للمخالفة، بل هو يعتقد أنه على حق وموافق لشرع الله قال تعالى:"وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ"[الأحزاب: من الآية5]، وهذا عام في كل خطأ وقد ثبت في صحيح مسلم أنه لما نزل قوله تعالى:"رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا"[البقرة: من الآية286]، قال الله: قد فعلت وأيضاً إن هذا النوع من الحكام يغلب عليهم الجهل بالإسلام وأحكامه، وتعلق بقلوبهم الشبهة تلو الشبهة، فتراه إن دافع عن فعله المنكر دافع بشبهة أو شهوة، وحاله غير مكذّب لقول الله وليس مستحلاً لمخالفة أمره سبحانه فهذا وأمثاله إن أطلق عليه وصف الكفر مراعاة لظاهر النص في القرآن "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" [المائدة: 44] ، فلا تجرى عليه أحكام الكفار في الدنيا من عدم التوارث أو الصلاة عليه أو الدفن في مقابر المسلمين أو الدعاء له بعد الوفاة ونحوه، ولهذا لابد من التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، فالإمام أحمد وغيره من علماء السلف رحمهم الله لم يكفروا كل من دعا إلى القول بخلق القرآن، مع إطلاقهم أن القول بخلق القرآن كفر، ولهذا قال علماء السلف: إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع،
وقال ابن تيمية في رده على البكري ص: 260 (كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له) أ. هـ، وبناء على هذا نقول شبهات هؤلاء الحكام في هذا العصر هي شبهات أولئك الأمراء والقضاة في السابق، والحجة الشرعية لا تقوم على المخالف عامة في الاعتقاد أو غيره، بمجرد بلوغه الدليل بل لابد مع ذلك من فهم تلك الحجة جيداً بمعرفة لوازمها إثباتاً ونفياً، وأظهر دليل على هذا حكم الله في المنافقين بأن يعاملوا معاملة المسلمين في الدنيا، وإن كانوا في الآخرة من أهل الجحيم؛ كما أخبر الله "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا" [النساء:145] ، ولقد حدثنا الله عن المنافقين الذين صرح الله بكفرهم في كتابه وقد عاملهم رسوله – صلى الله عليه وسلم – معاملة المسلمين لقيامهم بشعائر الإسلام في الظاهر وإن أسروا خلافها؛ قال الله تعالى:"وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ"[التوبة: 65-66] ، فحكام المسلمين اليوم الذين يؤدون شعائر الإسلام الظاهرة، وفي نفس الوقت يحكمون القوانين الوضعية حكمهم حكم المنافقين في الدنيا، وهذا موافق لمذهب السلف بعدم تكفير المسلم المعين إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع.
وسؤال السائل عن حكم المقسم بهذا القسم المنصوص في السؤال هل هذا المقسم مؤمن بالطاغوت كافر بالله أو هو كافر بالله مؤمن بالطاغوت؟ مبني على حكم ذلك الأمير الذي يحكم بالقانون الوضعي المخالف لشرع الله هل هو كافر كفراً أكبر أو كفرا أصغر أي كفر دون كفر كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما، ولهذا أطلت في الأول (الحاكم) لأنه أساس الثاني (مؤدي القسم) ، والراضي بهذا الحكم الوضعي يأخذ حكم الحاكم، والمقسم تبعاً لذلك حسب التفصيل السابق، والناظر لصيغة السؤال يظهر منه أن السائل مستشرف ومتشوق للحكم بالكفر على هذا القسم ولكل من يقسم به، والأولى على هذا أن جملة في آخر السؤال هي:"ولا شأن لنا بما يعتقده قلبه" ثم ألفاظ القسم أكثرها صحيح لا شيء فيه مثل أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للوطن والأمير.. وأذود عن الشعب وأمواله وأؤدي أعمالي بالأمانة والصدق) ، ولم يبق من ألفاظه المحتملة غير احترام الدستور وقوانين الدولة وحريات الشعب) فالدستور وقوانينه وحماية الحريات للشعب يحتمل أن تكون موافقة للشرع ويحتمل أن تكون مخالفة له، فإن كانت موافقة فالحمد لله وإن كانت غير موافقة فينظر هل قبول الحاكم (الأمير) لها وإلزام الناس بها عن معرفة لمخالفتها لشرع الله أم الأخذ بها وتبنيها نتيجة تأويل لديه أو شهوة عنده؟ إن كان الأمر هكذا فيقال أيضاً إن هذا الحكم ليس كفراً، ولا الحاكم به أو المقسم عليه طاغوتاً وإنما هو مخطئ متأول لم تبلغه الحجة عن فهم وبصيرة.
وأخيراً أحذركم من التسرع في إصدار الأحكام على الناس حكاماً أو محكومين تمسكاً بظواهر النصوص دون فقه وتدبر، فإن هذا فتنة للمتكلم والسامع "والفتنة أكبر من القتل" [البقرة: 217] كما قال الله سبحانه، وأوصيكم ونفسي بالتزام طريقة السلف في الحكم على المخالف، وكما في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه في البخاري (4269)، ومسلم (96) لما أهوى بالسيف إلى مشرك ليقتله تلفظ المشرك بقول:"لا إله إلا الله" فقتله أسامة رضي الله عنه متأولاً بأنه لم يقل كلمة التوحيد إلا تعوذاً من السيف فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم معاتباً: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله فكيف يا أسامة بلا إله إلا الله إذا جاءت تحاجك عند الله"؟ ومثل هذا يقال بتكفير الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو يشهد كلمة التوحيد ويؤدي شعائر الإسلام الظاهرة فكيف بمن يكفره وهو يعلم أنه متأول أو جاهل بالحكم ولم يقم أحد بمناقشته وإقامة الحجة عليه؟! فكيف إذا جاءت كلمة التوحيد وشعائر الإسلام الظاهرة كلها تحاج لصاحبها عند الله يوم القيامة؟! وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.