المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث السابع عشر - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٦

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب العدّة

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌كتاب اللّعان

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌كتاب الرّضاع

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب القسامة

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

الفصل: ‌الحديث السابع عشر

‌الحديث السابع عشر

(1)

321 -

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أنه طلَّق امرأته وهي حائضٌ، فذَكر ذلك عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فتغيّظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليُطلّقها طاهراً قبل أن يَمسّها، فتلك العدّة كما أمر الله عز وجل. (2)

وفي لفظ: حتى تحيض حيضةً أخرى مستقبلةً، سوى حيضتها التي طلَّقها فيها. وفي لفظ: فحُسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3)

قوله: (أنّه طلق امرأته) في مسلم من رواية الليث عن نافع ، أنّ ابن عمر طلق امرأةً له ". وعنده من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: طلقت امرأتي ". وكذا في رواية شعبة عن أنس بن

(1) السابع عشر لكتاب النكاح عموماً.

(2)

أخرجه البخاري (4625 ، 6741) ومسلم (1471) من طريق الزهري وغيره عن سالم بن عبد الله عن أبيه. واللفظ للبخاري.

وأخرجه البخاري (4953 ، 4954 ، 4958 ، 5022 ، 5023) ومسلم (1471) من طريق نافع وأنس بن سيرين ويونس بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنه نحوه.

وأخرجه مسلم (1471) من طريق عبد الله بن دينار وأبي الزبير وطاوس عن ابن عمر نحوه.

(3)

أخرج مسلم (1471) هذين اللفظين جميعاً بسياقٍ واحدٍ من طريق الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنه.

ص: 4

سيرين عن ابن عمر.

قال النّوويّ في تهذيبه: اسمها آمنة بنت غفّار. قاله ابن باطيشٍ، ونقله عن النّوويّ جماعة ممّن بعده منهم الذّهبيّ في " تجريد الصّحابة "، لكن قال في مبهماته: فكأنّه أراد مبهمات التّهذيب.

وأوردها الذّهبيّ في آمنة - بالمدّ وكسر الميم ثمّ نون - وأبوها غفار ضبطه ابن نقطة بكسر المعجمة وتخفيف الفاء.

ولكنّي رأيت مستند ابن باطيشٍ في " أحاديث قتيبة " جمع سعيد العيّار بسندٍ فيه ابن لهيعة " أنّ ابن عمر طلَّق امرأته آمنة بنت عمّار " كذا رأيتها في بعض الأصول - بمهملةٍ مفتوحة ثمّ ميم ثقيلة - والأوّل أولى.

وأقوى من ذلك ما رأيته في مسند أحمد قال: حدّثنا يونس حدّثنا الليث عن نافع ، أنّ عبد الله طلق امرأته وهي حائض، فقال عمر: يا رسولَ الله إنّ عبد الله طلَّق امرأته النّوار، فأمره أن يراجعها " الحديث، وهذا الإسناد على شرط الشّيخين، ويونس شيخ أحمد هو ابن محمّد المؤدّب من رجالهما.

وقد أخرجه الشّيخان عن قتيبة عن الليث ، ولكن لَم تُسمّ عندهما.

ويمكن الجمع بأن يكون اسمها آمنة ولقبها النّوار.

قوله: (وهي حائض) في رواية قاسم بن أصبغ من طريق عبد الحميد بن جعفر عن نافع عن ابن عمر ، أنّه طلّق امرأته وهي في دمها حائض. وعند البيهقيّ من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر ، أنّه

ص: 5

طلَّق امرأته في حيضها.

وفي رواية للشيخين من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر " وهي حائضٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومثله عند مسلم من رواية أبي الزّبير عن ابن عمر.

وأكثر الرّواة لَم يذكروا ذلك استغناءً بما في الخبر ، أنّ عمر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستلزم أنّ ذلك وقع في عهده.

وزاد الليث عن نافع " تطليقة واحدة " أخرجه مسلم، وقال في آخره: جوّد الليث في قوله " تطليقة واحدة ".

وكذا وقع عند مسلم من طريق محمّد بن سيرين قال: مكثت عشرين سنةً يحدّثني من لا أتّهم ، أنّ ابن عمر طلَّق امرأته ثلاثاً. وهي حائض فأُمر أن يراجعها، فكنت لا أتّهمهم ، ولا أعرف وجه الحديث، حتّى لقيتُ أبا غلاب يونس بن جبير - وكان ذا ثبتٍ - فحدّثني أنّه سأل ابن عمر ، فحدّثه ، أنّه طلَّق امرأته تطليقة وهي حائض ".

وأخرجه الدّارقطنيّ والبيهقيّ من طريق الشّعبيّ ، قال: طلَّق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدةً. ومن طريق عطاء الخراسانيّ عن الحسن عن ابن عمر ، أنّه طلَّق امرأته تطليقة وهي حائض.

قوله: (فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية مالك " فسأل عمر بن الخطّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك " وفي رواية ابن أبي ذئب عن نافع: فأتى عمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك. أخرجه الدّارقطنيّ.

ص: 6

وكذا للبخاري من رواية قتادة عن يونس بن جبير عن ابن عمر، وكذا عند مسلم من رواية يونس بن عبيد عن محمّد بن سيرين عن يونس بن جبير، وكذا عنده في رواية طاوسٍ عن ابن عمر، وكذا في رواية الشّعبيّ المذكورة.

وقد روى أحمد والأربعة وصحّحه التّرمذيّ وابن حبّان والحاكم من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كان تحتي امرأةٌ أُحبّها، وكان عمر يكرهها ، فقال: طلِّقها، فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك.

فيحتمل أن تكون هي هذه، ولعلَّ عمر لَمَّا أمره بطلاقها. وشاور النّبيّ صلى الله عليه وسلم فامتثل أمره ، اتّفق أنّ الطّلاق وقع وهي في الحيض ، فعلم عمر بذلك. فكان ذلك هو السّرّ في توليه السّؤال عن ذلك ، لكونه وقع من قبله.

قوله: (فتغيّظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا زاد الزهري عن سالم ، ولَم أر هذه الزّيادة في رواية غير سالم، وهو أجلُّ مَن روى الحديث عن ابن عمر.

وفيه إشعار بأنّ الطّلاق في الحيض كان تقدّم النّهي عنه. وإلَّا لَم يقع التّغيّظ على أمر لَم يسبق النّهي عنه.

ولا يعكّر على ذلك مبادرة عمر بالسّؤال عن ذلك ، لاحتمال أن يكون عرف حكم الطّلاق في الحيض ، وأنّه منهيّ عنه ، ولَم يعرف ماذا يصنع من وقع له ذلك.

ص: 7

قال ابن العربيّ: سؤال عمر مُحتمل لأَنْ يكون أنّهم لَم يروا قبلها مثلها فسأل ليعلم.

ويحتمل: أن يكون لَمَّا رأى في القرآن قوله (فطلقوهنّ لعدّتهنّ) وقوله (يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء) أراد أن يعلم أنّ هذا قرء أم لا.

ويحتمل: أن يكون سمع من النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّهي فجاء ليسأل عن الحكم بعد ذلك.

وقال ابن دقيق العيد (1): وتغيُّظ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، إمّا لأنّ المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهراً فكان مقتضى الحال التّثبّت في ذلك، أو لأنّه كان مقتضى الحال مشاورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا عزم عليه.

قوله: (ليراجعها) في رواية مالك " مره فليراجعها ".

قال ابن دقيق العيد: يتعلق به مسألة أصوليّة، وهي أنّ الأمر بالأمر بالشّيء هل هو أمر بذلك أم لا؟ فإنّه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: مُره، فأمره بأن يأمره.

قلت: هذه المسألة ذكرها ابن الحاجب فقال: الأمر بالأمر بالشّيء ليس أمراً بذلك الشّيء لنا لو كان. لكان مر عبدك بكذا تعدّياً، ولكان يناقض قولك للعبد لا تفعل. قالوا: فهم ذلك من أمر الله ورسوله ، ومن قول الملك لوزيره قل لفلانٍ افعل. قلنا للعلم بأنّه مبلغ.

قلت: والحاصل أنّ النّفي إنّما هو حيث تجرّد الأمر، وأمّا إذا وجدت قرينة تدلّ على أنّ الآمر الأوّل أمر المأمور الأوّل أن يبلغ

(1) هو محمد بن علي ، سبق ترجمته (1/ 12)

ص: 8

المأمور الثّاني فلا، وينبغي أن ينزّل كلام الفريقين على هذا التّفصيل فيرتفع الخلاف.

ومنهم: من فرّق بين الأمرين ، فقال: إن كان الأمر الأوّل بحيث يسوغ له الحكم على المأمور الثّاني فهو آمر له. وإلَّا فلا.

وهذا قويّ، وهو مستفاد من الدّليل الذي استدلَّ به ابن الحاجب على النّفي، لأنّه لا يكون متعدّياً إلَّا إذا أمر من لا حكم له عليه ، لئلا يصير متصرّفاً في ملك غيره بغير إذنه، والشّارع حاكم على الآمر والمأمور فوجد فيه سلطان التّكليف على الفريقين، ومنه قوله تعالى (وأمر أهلك بالصّلاة) فإنّ كلّ أحد يفهم منه أمر الله لأهل بيته بالصّلاة، ومثله حديث الباب، فإنّ عمر إنّما استفتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليمتثل ما يأمره به ويلزم ابنه به.

فمن مثّل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالطٌ، فإنّ القرينة واضحة في أنّ عمرَ في هذه الكائنة كان مأموراً بالتّبليغ، ولهذا وقع في رواية أيّوب عن نافع " فأمره أن يراجعها ".

وفي رواية أنس بن سيرين ويونس بن جبير وطاوسٍ عن ابن عمر ، وفي رواية الزّهريّ عن سالم " فليراجعها ".

وفي رواية لمسلمٍ " فراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية الليث عن نافع عن ابن عمر ، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا.

وقد اقتضى كلام سليمٍ الرّازيّ في " التّقريب " أنّه يجب على الثّاني الفعل جزماً ، وإنّما الخلاف في تسميته آمراً فرجع الخلاف عنده لفظيّاً.

ص: 9

وقال الفخر الرّازيّ في " المحصول ": الحقّ أنّ الله تعالى إذا قال لزيدٍ: أوجبت على عمرو كذا ، وقال لعمرٍو: كلّ ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك ، كان الأمر بالأمر بالشّيء أمراً بالشّيء.

قلت: وهذا يمكن أن يؤخذ منه التّفرقة بين الأمر الصّادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن غيره، فمهما أمر الرّسول أحداً أن يأمر به غيره وجب ، لأنّ الله أوجب طاعته وهو أوجب طاعة أميره كما ثبت في الصّحيح " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ". وأمّا غيره ممّن بعده فلا، وفيهم تظهر صورة التّعدّي التي أشار إليها ابن الحاجب.

وقال ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يتردّد في اقتضاء ذلك الطّلب، وإنّما ينبغي أن ينظر في أنّ لوازم صيغة الأمر. هل هي لوازم صيغة الأمر بالأمر أو لا؟ بمعنى أنّهما يستويان في الدّلالة على الطّلب من وجه واحد أو لا.

قلت: وهو حسن، فإنّ أصل المسألة التي انبنى عليها هذا الخلاف حديث " مروا أولادكم بالصّلاة لسبعٍ " فإنّ الأولاد ليسوا بمكلفين فلا يتّجه عليهم الوجوب، وإنّما الطّلب متوجّه على أوليائهم أن يعلموهم ذلك، فهو مطلوب من الأولاد بهذه الطّريق وليس مساوياً للأمر الأوّل، وهذا إنّما عرض من أمر خارج وهو امتناع توجّه الأمر على غير المكلف، وهو بخلاف القصّة التي في حديث الباب.

والحاصل: أنّ الخطاب إذا توجّه لمكلفٍ أن يأمر مكلفاً آخر بفعل

ص: 10

شيء كان المكلف الأوّل مبلغاً محضاً ، والثّاني مأمور من قبل الشّارع، وهذا كقوله لمالك بن الحويرث وأصحابه " ومروهم بصلاة كذا في حين كذا "(1) ، وقوله لرسول ابنته صلى الله عليه وسلم " مرها فلتصبر ولتحتسب "(2) ونظائره كثيرة.

فإذا أمَرَ الأوّلُ الثّاني بذلك فلم يمتثله كان عاصياً، وإن توجّه الخطاب من الشّارع لمكلفٍ أن يأمر غير مكلف أو توجّه الخطاب من غير الشّارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأوّل عليه لَم يكن الأمر بالأمر بالشّيء أمراً بالشّيء.

فالصّورة الأولى: هي التي نشأ عنها الاختلاف ، وهو أمر أولياء الصّبيان أن يأمروا الصّبيان.

والصّورة الثّانية: هي التي يتصوّر فيها أن يكون الأمر متعدّياً بأمره للأوّل أن يأمر الثّاني، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة. والله المستعان.

واختلف في وجوب المراجعة.

القول الأول: ذهب إلى الوجوب مالك وأحمد في رواية.

(1) أخرجه البخاري في " صحيحه "(685) عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه ، قال: قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شبَبَة .. الحديث "

(2)

أخرجه البخاري (1284) ومسلم (2174) عن أسامة بن زيد ، قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه. إنَّ ابناً لي قُبض فائتنا فأرسل يقرئ السلام ، ويقول: إنَّ لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكلٌ عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب. فأرسلتْ إليه تقسم .. الحديث

ص: 11

القول الثاني: المشهور عن أحمد - وهو قول الجمهور - أنّها مستحبّة.

واحتجّوا: بأنّ ابتداء النّكاح لا يجب فاستدامته كذلك، لكن صحّح صاحب " الهداية " من الحنفيّة أنّها واجبة.

والحجّة لِمن قال بالوجوب: ورود الأمر بها، ولأنّ الطّلاق لَمَّا كان محرّماً في الحيض كانت استدامة النّكاح فيه واجبة.

فلو تمادى الذي طلَّق في الحيض حتّى طهرت.

قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرّجعة أيضاً.

وقال أشهب منهم: إذا طهرت انتهى الأمر بالرّجعة.

واتّفقوا على أنّها إذا انقضت عدّتها أن لا رجعة، وأنّه لو طلَّق في طهر قد مسّها فيه لا يؤمر بمراجعتها.

كذا نقله ابن بطّالٍ (1) وغيره. لكنّ الخلاف فيه ثابت قد حكاه الحنّاطيّ من الشّافعيّة وجهاً.

واتّفقوا على أنّه لو طلَّق قبل الدّخول وهي حائض لَم يؤمر بالمراجعة ، إلَّا ما نُقل عن زفر. فطرد الباب.

قوله: (ثمّ يمسكها) أي: يستمرّ بها في عصمته.

قوله: (حتّى تطهر ثمّ تحيض فتطهر) في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع " ثمّ ليدعها حتّى تطهر، ثمّ تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت فليطلقها " ونحوه في رواية الليث وأيّوب عن نافع، وكذا

(1)((هو علي بن خلف ، سبق ترجمته (1/ 34)

ص: 12

عند مسلم من رواية عبد الله بن دينار، وكذا عندهما من رواية الزّهريّ عن سالم، وعند مسلم من رواية محمّد بن عبد الرّحمن عن سالم بلفظ " مره فليراجعها، ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً ".

قال الشّافعيّ: غير نافع إنّما روى " حتّى تطهر من الحيضة التي طلَّقها فيها ، ثمّ إن شاء أمسك وإن شاء طلَّق " رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم.

قلت: وهو كما قال، لكنّ رواية الزّهريّ عن سالم موافقة لرواية نافع، وقد نبّه على ذلك أبو داود، والزّيادة من الثّقة مقبولة. ولا سيّما إذا كان حافظاً.

وقد اختلف في الحكمة في ذلك.

فقال الشّافعيّ: يحتمل أن يكون أراد بذلك - أي بما في رواية نافع - أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلَّقها فيها بطهرٍ تامّ ، ثمّ حيض تامّ. ليكون تطليقها وهي تعلم عدّتها إمّا بحملٍ أو بحيضٍ.

أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع ، إذ يرغب فيمسك للحمل ، أو ليكون إن كانت سألت الطّلاق غير حامل أن تكفّ عنه.

وقيل: الحكمة فيه أن لا تصير الرّجعة لغرض الطّلاق، فإذا أمسكها زماناً يحلّ له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرّجعة، لأنّه قد يطول مقامه معها، فقد يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها.

ص: 13

وقيل: إنّ الطّهر الذي يلي الحيض الذي طلَّقها فيه كقرءٍ واحد، فلو طلَّقها فيه لكان كمن طلق في الحيض، وهو ممتنع من الطّلاق في الحيض، فلزم أن يتأخّر إلى الطّهر الثّاني.

واختلف في جواز تطليقها في الطّهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطّلاق والرّجعة.

وفيه للشّافعيّة وجهان أصحّهما المنع، وبه قطع المتولي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الزّيادة التي في الحديث.

وعبارة الغزاليّ في " الوسيط " وتبعه مجلي: هل يجوز أن يطلّق في هذا الطّهر؟ وجهان. وكلام المالكيّة يقتضي أنّ التّأخير مستحبّ.

وقال ابن تيميّة في " المحرّر ": ولا يطلقها في الطّهر المتعقّب له فإنّه بدعة، وعنه - أي عن أحمد - جواز ذلك.

وفي كتب الحنفيّة عن أبي حنيفة الجواز، وعن أبي يوسف ومحمّد المنع.

ووجه الجواز: أنّ التّحريم إنّما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التّحريم فجاز طلاقها في هذا الطّهر كما يجوز في الطّهر الذي بعده، وكما يجوز طلاقها في الطّهر إن لَم يتقدّم طلاق في الحيض.

وقد ذكرنا حُجج المانعين.

ومنها: أنّه لو طلَّقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرّجعة فإنّها شرعت لإيواء المرأة ، ولهذا سمّاها إمساكاً فأمره أن يمسكها في ذلك الطّهر ، وأن لا يطلق فيه حتّى

ص: 14

تحيض حيضة أخرى ثمّ تطهر لتكون الرّجعة للإمساك لا للطّلاق.

ويؤيّد ذلك: أنّ الشّارع أكّد هذا المعنى حيث أمر بأن يمسكها في الطّهر الذي يلي الحيض الذي طلَّقها فيه، لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر " مُره أن يراجعها فإذا طهرت أمسكها حتّى إذا طهرت أخرى ، فإن شاء طلَّقها وإن شاء أمسكها " فإذا كان قد أمره بأن يمسكها في ذلك الطّهر. فكيف يبيح له أن يطلقها فيه؟ ، وقد ثبت النّهي عن الطّلاق في طهر جامعها فيه.

قوله: (فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسّها) في رواية مالك " ثمّ إن شاء أمسك بعد ، وإن شاء طلق قبل أن يمسّ " وفي رواية أيّوب " ثمّ يطلقها قبل أن يمسّها " وفي رواية عبيد الله بن عمر " فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها " ونحوه في رواية الليث.

وفي رواية محمّد بن عبد الرّحمن عن سالم " ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً ". وتمسّك بهذه الزّيادة من استثنى من تحريم الطّلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل فإنّه لا يحرم.

والحكمة فيه: أنّه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة فلا يندم على الطّلاق، وأيضاً فإنّ زمن الحمل زمن الرّغبة في الوطء فإقدامه على الطّلاق فيه يدلّ على رغبته عنها، ومحلّ ذلك أن يكون الحمل من المطلق، فلو كان من غيره بأن نكح حاملاً من زناً ووطئها ثمّ طلَّقها أو وطئت منكوحة بشبهةٍ ثمّ حملت منه فطلقها زوجها فإنّ

ص: 15

الطّلاق يكون بدعيّاً، لأنّ عدّة الطّلاق تقع بعد وضع الحمل والنّقاء من النّفاس، فلا تشرع عقب الطّلاق في العدّة كما في الحامل منه.

قال الخطّابيّ (1): في قوله " ثمّ إن شاء أمسك وإن شاء طلق " دليل على أنّ مَن قال لزوجته وهي حائض: إذا طهرت فأنت طالق لا يكون مطلقاً للسّنّة، لأنّ المطلق للسّنّة هو الذي يكون مخيّراً عند وقوع طلاقه بين إيقاع الطّلاق وتركه.

واستدل بقوله " قبل أن يمسّ " على أنّ الطّلاق في طهر جامع فيه حرامٌ، وبه صرّح الجمهور، فلو طلق هل يجبر على الرّجعة كما يجبر عليها إذا طلَّقها وهي حائض؟

طرده بعض المالكيّة فيهما، والمشهور عنهم إجباره في الحائض دون الطّاهر، وقالوا فيما إذا طلَّقها وهي حائض: يجبر على الرّجعة، فإن امتنع أدّبه الحاكم، فإن أصرّ ارتجع الحاكم عليه.

وهل يجوز له وطؤها بذلك؟.

روايتان لهم أصحّهما الجواز، وعن داود يجبر على الرّجعة إذا طلَّقها حائضاً ، ولا يجبر إذا طلَّقها نفساء؛ وهو جمود.

ووقع فيه رواية مسلم من طريق محمّد بن عبد الرّحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن عمر " ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً " وفي روايته من طريق ابن أخي الزّهريّ عن الزّهريّ " فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً من حيضها ".

(1) حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61).

ص: 16

واختلف الفقهاء في المراد بقوله " طاهراً ". هل المراد به انقطاع الدّم ، أو التّطهّر بالغسل؟.

على قولين، وهما روايتان عن أحمد.

والرّاجح الثّاني، لِما أخرجه النّسائيّ من طريق معتمر بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذه القصّة قال: مُرْ عبدَ الله فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسّها حتّى يُطلّقها، وإن شاء يمسكها فليمسكها. وهذا مفسّرٌ لقوله " فإذا طهرت " فليحمل عليه.

ويتفرّع من هذا ، أنّ العدّة هل تنقضي بانقطاع الدّم وترتفع الرّجعة؟، أو لا بدّ من الاغتسال؟ فيه خلاف أيضاً.

والحاصل أنّ الأحكام المرتّبة على الحيض نوعان:

الأوّل: يزول بانقطاع الدّم كصحّة الغسل والصّوم وترتّب الصّلاة في الذّمّة.

الثّاني: لا يزول إلَّا بالغسل كصحّة الصّلاة والطّواف وجواز اللبث في المسجد، فهل يكون الطّلاق من النّوع الأوّل أو من الثّاني؟.

وتمسّك بقوله " ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً " من ذهب إلى أنّ طلاق الحامل سنّيٌّ، وهو قول الجمهور.

وعن أحمد رواية: أنّه ليس بسنّيٍّ ولا بدعيّ.

قوله: (فتلك العدّة كما أمر الله عز وجل في رواية مالك عن نافع " فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النّساء " أي: أذن، وهذا بيان

ص: 17

لمراد الآية. وهي قوله تعالى (يا أيّها النّبيّ إذا طلقتم النّساء فطلقوهنّ لعدّتهنّ).

وصرّح معمر في روايته عن أيّوب عن نافع ، بأنّ هذا الكلام عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية الزّبير عند مسلم قال ابن عمر: وقرأ النّبيّ صلى الله عليه وسلم (يا أيّها النّبيّ إذا طلقتم النّساء) الآية ".

وروى الطّبريّ بسندٍ صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى (فطلقوهنّ لعدّتهنّ) قال: في الطّهر من غير جماع، وأخرجه عن جمعٍ من الصّحابة ومن بعدهم كذلك، وهو عند التّرمذيّ أيضاً.

واستدل به من ذهب إلى أنّ الأقراء أطهار للأمر بطلاقها في الطّهر، وقوله (فطلقوهنّ لعدّتهنّ) أي: وقت ابتداء عدّتهنّ، وقد جعل للمطلقة تربّص ثلاثة قروء، فلمّا نهى عن الطّلاق في الحيض.

وقال: إنّ الطّلاق في الطّهر هو الطّلاق المأذون فيه علم أنّ الأقراء الأطهار، قاله ابن عبد البرّ.

وقال أيضاً: وقد اتّفق علماء المدينة من الصّحابة فمن بعدهم ، وكذا الشّافعيّ ومالك وأحمد وأتباعهم على أنّها إذا طعنت في الحيضة الثّالثة طهرت بشرط أن يقع طلاقها في الطّهر، وأمّا لو وقع في الحيض لَم تعتدّ بتلك الحيضة. انتهى.

قال أبو عبيدة معمرٌ: يقال: أقرأت المرأة إذا دنا حيضها، وأقرأت إذا دنا طهرها، وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت ذات حيض، والقرء انقضاء الحيض. ويقال: هو الحيض نفسه، ويقال: هو من

ص: 18

الأضداد.

ومراد أبي عبيدة. أنّ القرء يكون بمعنى الطّهر وبمعنى الحيض وبمعنى الضّمّ والجمع. وهو كذلك.

وجزم به ابن بطّالٍ ، وقال: لَمَّا احتملت الآية واختلف العلماء في المراد بالأقراء فيها ، ترجّح قول مَن قال: إنّ الأقراء الأطهار بحديث ابن عمر ، حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق في الطّهر، وقال في حديثه " فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النّساء " فدلَّ على أنّ المراد بالأقراء الأطهار.

قوله: (فحُسِبت من طلاقها) وللبخاري عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عمر ، قال: حسبت عليَّ بتطليقةٍ. ولهما عن يونس بن جبير سمعت ابن عمر يقول: طلَّقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمرُ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ليراجعها، فإذا طهرت فإن شاء فليطلّقها. قال: قلت لابن عمر: أفيحسب بها؟ قال: ما يمنعه؟ أرأيت إن عجَزَ واستحمق.

ولأحمد قال: قلت لابن عمر: أفتحتسب طلاقها ذلك طلاقاً؟ قال: نعم، أرأيت إن عجَزَ واستحمق.

وقد رواه البخاريّ من رواية همّام عن قتادة بطوله. وفيه " قلت: فهل عدّ ذلك طلاقاً؟ قال: أرأيت إن عجَزَ واستحمق ".

وله من طريق محمّد بن سيرين عن يونس بن جبير مختصراً. وفيه " قلت: فتعتدّ بتلك التّطليقة؟ قال: أرأيت إن عجَزَ واستحمق ".

ص: 19

وأخرجه مسلم من وجه آخر عن محمّد بن سيرين مطوّلاً. ولفظه " فقلت له: إذا طلَّق الرّجل امرأته وهي حائض أيعتدّ بتلك التّطليقة؟ قال: فمه. أَوَ إن عجَزَ واستحمق " وفي رواية له " فقلت: أفتحتسب عليه " والباقي مثله.

وقوله " فمه " أصله فما، وهو استفهام فيه اكتفاء. أي: فما يكون إن لَم تحتسب.

ويحتمل: أن تكون الهاء أصليّة ، وهي كلمة تقال للزّجر ، أي: كُفّ عن هذا الكلام ، فإنّه لا بدّ من وقوع الطّلاق بذلك.

قال ابن عبد البرّ: قول ابن عمر " فمه " معناه فأيّ شيءٍ يكون إذا لَم يعتدّ بها؟ إنكاراً لقول السّائل " أيعتدّ بها " فكأنّه قال: وهل من ذلك بدٌّ؟.

وقوله " أرأيت إن عجَزَ واستحمق " أي: إن عجَزَ عن فرضٍ فلم يقمه، أو استحمق فلم يأت به أيكون ذلك عذراً له.

وقال الخطّابيّ: في الكلام حذفٌ، أي: أرأيت إن عجَزَ واستحمق أيسقط عنه الطّلاق حمقه أو يبطله عجَزَه؟ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه.

وقال الكرمانيّ (1): يحتمل أن تكون " إن " نافية بمعنى. ما. أي لَم يعجر ابن عمر ولا استحمق، لأنّه ليس بطفلٍ ولا مجنون. قال: وإن كانت الرّواية بفتح ألف أن فمعناه أظهر، والتّاء من استحمق

(1) هو محمد بن يوسف ، سبق ترجمته (1/ 18)

(2)

المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12).

ص: 20

مفتوحة. قاله ابن الخشّاب

وقال: المعنى فعل فعلاً يصيّره أحمق عاجزاً فيسقط عنه حكم الطّلاق عجَزَه أو حمقه، والسّين والتّاء فيه إشارة إلى أنّه تَكلَّف الحُمق بما فعله من تطليق امرأته وهي حائض. وقد وقع في بعض الأصول بضمّ التّاء مبنيّاً للمجهول، أي: إنّ النّاس استحمقوه بما فعل، وهو موجّهٌ.

وقال المُهلَّب (1): معنى قوله " إن عجَزَ واستحمق " يعني عجَزَ في المراجعة التي أمر بها عن إيقاع الطّلاق ، أو فقد عقله فلم تمكن منه الرّجعة ، أتبقى المرأة معلقةً لا ذات بعلٍ ولا مطلقةً؟ وقد نهى الله عن ذلك، فلا بدّ أن تحتسب بتلك التّطليقة التي أوقعها على غير وجهها، كما أنّه لو عجَزَ عن فرض آخر لله فلم يقمه واستحمق فلم يأت به ما كان يعذر بذلك ويسقط عنه.

قال النّوويّ: شذّ بعض أهل الظّاهر فقال: إذا طلق الحائض لَم يقع الطّلاق ، لأنّه غير مأذون فيه فأشبه طلاق الأجنبيّة ، وحكاه الخطّابيّ عن الخوارج والرّوافض.

وقال ابن عبد البرّ: لا يخالف في ذلك إلَّا أهل البدع والضّلال. يعني: الآن. قال: وروي مثله عن بعض التّابعين وهو شذوذ.

وحكاه ابن العربيّ وغيره عن ابن عُليّة. يعني: إبراهيم بن إسماعيل بن عُليّة الذي قال الشّافعيّ في حقّه: إبراهيم ضالّ، جلس في باب

(1) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12).

ص: 21

الضّوالّ يضلّ النّاس. وكان بمصر، وله مسائل ينفرد بها. وكان من فقهاء المعتزلة. وقد غلِط فيه من ظنّ أنّ المنقول عنه المسائل الشّاذّة أبوه، وحاشاه، فإنّه من كبار أهل السّنّة.

وكأنّ النّوويّ أراد ببعض الظّاهريّة ابن حزم، فإنّه ممّن جرّد القول بذلك وانتصر له وبالغ، وأجاب عن أمر ابن عمر بالمراجعة ، بأنّ ابن عمر كان اجتنبها فأمره أن يعيدها إليه على ما كانت عليه من المعاشرة ، فحمل المراجعة على معناها اللغويّ.

وتُعقّب: بأنّ الحمل على الحقيقة الشّرعيّة مقدّم على اللغويّة اتّفاقاً.

وأجاب عن قول ابن عمر " حسبت عليّ بتطليقةٍ " بأنّه لَم يصرّح بمن حسبها عليه، ولا حجّة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتعقّب: بأنّه مثل قول الصّحابيّ " أمرنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا " فإنّه ينصرف إلى من له الأمر حينئذٍ وهو النّبيّ صلى الله عليه وسلم. كذا قال بعض الشّرّاح.

وعندي أنّه لا ينبغي أن يجئ فيه الخلاف الذي في قول الصّحابيّ أمرنا بكذا ، فإنّ ذاك محلّه حيث يكون اطّلاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك ليس صريحاً، وليس كذلك في قصّة ابن عمر هذه ، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الآمر بالمراجعة ، وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك.

وإذا أخبر ابن عمر أنّ الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقةٍ كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعيداً جدّاً مع

ص: 22

احتفاف القرائن في هذه القصّة بذلك، كيف يتخيّل أنّ ابن عمر يفعل في القصّة شيئاً برأيه. وهو ينقل أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تغيّظ من صنيعه؟. كيف لَم يشاوره فيما يفعل في القصّة المذكورة؟.

وقد أخرج ابن وهب في " مسنده " عن ابن أبي ذئب ، أنّ نافعاً أخبره ، أنّ ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: مُره فليراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر.

قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: وهي واحدة.

قال ابن أبي ذئب: وحدّثني حنظلة بن أبي سفيان ، أنّه سمع سالماً يحدّث عن أبيه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك.

وأخرجه الدّارقطنيّ من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعاً عن نافع عن ابن عمر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: هي واحدة.

وهذا نصّ في موضع الخلاف فيجب المصير إليه.

وقد أورده بعض العلماء على ابن حزم ، فأجابه بأنّ قوله " هي واحدة " لعله ليس من كلام النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فألزمه بأنّه نقض أصله ، لأنّ الأصل لا يدفع بالاحتمال.

وعند الدّارقطنيّ في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصّة: فقال عمر: يا رسولَ الله: أفتحتسب بتلك التّطليقة؟ قال: نعم. ورجاله إلى شعبة ثقات.

وعنده من طريق سعيد بن عبد الرّحمن الجمحيّ عن عبيد الله بن

ص: 23

عمر عن نافع عن ابن عمر ، أنّ رجلاً قال: إنّي طلَّقت امرأتي البتّة وهي حائض، فقال: عصيت ربّك، وفارقت امرأتك. قال: فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجع امرأته، قال: إنّه أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاقٍ بقي له، وأنت لَم تبق ما ترتجع به امرأتك.

وفي هذا السّياق ردٌّ على من حَمل الرّجعة في قصّة ابن عمر على المعنى اللغويّ.

وقد وافق ابنَ حزم على ذلك من المتأخّرين ابنُ تيميّة (1)، وله كلامٌ طويل في تقرير ذلك والانتصار له.

وأعظم ما احتجّوا به: ما وقع في رواية أبي الزّبير عن ابن عمر عند مسلم وأبي داود والنّسائيّ. وفيه " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليراجعها، فردّها ، وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك " لفظ مسلم.

وللنّسائيّ وأبي داود " فردّها عليّ " زاد أبو داود " ولَم يرها شيئاً ". وإسناده على شرط الصّحيح. فإنّ مسلماً أخرجه من رواية حجّاج بن محمّد عن ابن جريجٍ، وساقه على لفظه ، ثمّ أخرجه من رواية أبي عاصم عنه ، وقال نحو هذه القصّة، ثمّ أخرجه من رواية عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ قال: مثل حديث حجّاج. وفيه بعض الزّيادة، فأشار إلى هذه الزّيادة، ولعله طوى ذكرها عمداً.

وقد أخرج أحمد الحديث عن روح بن عبادة عن ابن جريجٍ فذكرها، فلا يتخيّل انفراد عبد الرّزّاق بها.

(1) أي: شيخ الإسلام رحمه الله. وكلامه عن المسألة مبسوط في الفتاوى المجلد 33.

ص: 24

قال أبو داود: روى هذا الحديث عنه ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلّها على خلاف ما قال أبو الزّبير.

وقال ابن عبد البرّ: قوله " ولَم يرها شيئاً " منكرٌ لَم يقله غير أبي الزّبير، وليس بحجّةٍ فيما خالفه فيه مثله. فكيف بمن هو أثبت منه؟!.

ولو صحّ فمعناه عندي - والله أعلم -: ولَم يرها شيئاً مستقيماً لكونها لَم تقع على السّنّة.

وقال الخطّابيّ: قال أهل الحديث: لَم يرو أبو الزّبير حديثاً أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه: ولَم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة، أو لَم يرها شيئاً جائزاً في السّنّة ماضياً في الاختيار ، وإن كان لازماً له مع الكراهة.

ونقل البيهقيّ في " المعرفة " عن الشّافعيّ أنّه ذكر رواية أبي الزّبير ، فقال: نافع أثبت من أبي الزّبير والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعاً غيره من أهل الثّبت.

قال: وبسط الشّافعيّ القولَ في ذلك ، وحمل قوله " لَم يرها شيئاً " على أنّه لَم يعدّها شيئاً صواباً غير خطأ، بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه لأنّه أمره بالمراجعة، ولو كان طلَّقها طاهراً لَم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرّجل إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه: لَم يصنع شيئاً. أي: لَم يصنع شيئاً صواباً.

قال ابن عبد البرّ: واحتجّ بعض من ذهب إلى أنّ الطّلاق لا يقع ،بما روي عن الشّعبيّ قال: إذا طلق الرّجل امرأته وهي حائض لَم يعتدّ

ص: 25

بها في قول ابن عمر.

قال ابن عبد البرّ: وليس معناه ما ذهب إليه، وإنّما معناه ، لَم تعتدّ المرأة بتلك الحيضة في العدّة، كما روي ذلك عنه منصوصاً أنّه قال: يقع عليها الطّلاق ، ولا تعتدّ بتلك الحيضة. انتهى

وقد روى عبد الوهّاب الثّقفيّ عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر نحواً مما نقله ابن عبد البرّ عن الشّعبيّ ، أخرجه ابن حزم بإسنادٍ صحيح، والجواب عنه مثله.

وروى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر ، أنّه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك بشيءٍ.

وهذه متابعات لأبي الزّبير، إلَّا أنّها قابلة للتّأويل، وهو أولى من إلغاء الصّريح في قول ابن عمر إنّها حسبت عليه بتطليقةٍ.

وهذا الجمع الذي ذكره ابن عبد البرّ وغيره يتعيّن، وهو أولى من تغليظ بعض الثّقات.

وأمّا قول ابن عمر " إنّها حسبت عليه بتطليقةٍ " فإنّه وإن لَم يصرّح برفع ذلك إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّ فيه تسليم أنّ ابن عمر قال: إنّها حسبت عليه، فكيف يجتمع مع هذا قوله " إنّه لَم يعتدّ بها " أو " لَم يرها شيئاً " على المعنى الذي ذهب إليه المخالف؟.

لأنّه إنْ جعل الضّمير للنّبيّ صلى الله عليه وسلم لزم منه أنّ ابن عمر خالف ما حكم به النّبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه القصّة بخصوصها ، لأنّه قال " إنّها حسبت عليه بتطليقةٍ " فيكون من حسبها عليه خالف كونه لَم يرها شيئاً،

ص: 26

وكيف يظنّ به ذلك مع اهتمامه واهتمام أبيه بسؤال النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليفعل ما يأمره به؟.

وإنْ جعل الضّمير في " لَم يعتدّ بها أو لَم يرها " لابن عمر لزم منه التّناقض في القصّة الواحدة فيفتقر إلى التّرجيح، ولا شكّ أنّ الأخذ بما رواه الأكثر والأحفظ أولى من مقابله عند تعذّر الجمع عند الجمهور. والله أعلم.

واحتجّ ابن القيّم لترجيح ما ذهب إليه شيخه بأقيسةٍ ترجع إلى مسألة أنّ النّهي يقتضي الفساد.

فقال: الطّلاق ينقسم إلى حلال وحرام، فالقياس أنّ حرامه باطل كالنّكاح وسائر العقود، وأيضاً فكما أنّ النّهي يقتضي التّحريم فكذلك يقتضي الفساد، وأيضاً فهو طلاق منع منه الشّرع فأفاد منعه عدم جواز إيقاعه. فكذلك يفيد عدم نفوذه وإلَّا لَم يكن للمنع فائدة، لأنّ الزّوج لو وكّل رجلاً أن يطلق امرأته على وجه فطلقها على غير الوجه المأذون فيه لَم ينفذ، فكذلك لَم يأذن الشّارع للمكلف في الطّلاق إلَّا إذا كان مباحاً ، فإذا طلق طلاقاً محرّماً لَم يصحّ.

وأيضاً فكلّ ما حرّمه الله من العقود مطلوب الإعدام، فالحكم ببطلان ما حرّمه أقرب إلى تحصيل هذا المطلوب من تصحيحه، ومعلوم أنّ الحلال المأذون فيه ليس الحرام الممنوع منه.

ثمّ أطال من هذا الجنس بمعارضاتٍ كثيرةٍ لا تنهض مع التّنصيص على صريح الأمر بالرّجعة. فإنّها فرع وقوع الطّلاق على تصريح

ص: 27

صاحب القصّة بأنّها حسبت عليه تطليقة، والقياس في معارضة النّصّ فاسد الاعتبار. والله أعلم.

وقد عورض بقياسٍ أحسن من قياسه.

فقال ابن عبد البرّ: ليس الطّلاق من أعمال البرّ التي يتقرّب بها، وإنّما هو إزالة عصمة فيها حقّ آدميّ، فكيفما أوقعه وقع، سواء أجر في ذلك أم أثم، ولو لزم المطيع ولَم يلزم العاصي لكان العاصي أخفّ حالاً من المطيع.

ثمّ قال ابن القيّم: لَم يرد التّصريح بأنّ ابن عمر احتسب بتلك التّطليقة إلَّا في رواية سعيد بن جبير عنه عند البخاريّ، وليس فيها تصريح بالرّفع.

قال: فانفراد سعيد بن جبير بذلك كانفراد أبي الزّبير بقوله " لَم يرها شيئاً "، فإمّا أن يتساقطا ، وإمّا أن ترجّح رواية أبي الزّبير لتصريحها بالرّفع، وتحمل رواية سعيد بن جبير على أنّ أباه هو الذي حسبها عليه بعد موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم النّاس فيه بالطّلاق الثّلاث بعد أن كانوا في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثاً إذا كان بلفظٍ واحد.

قلت: وغفل رحمه الله عمّا ثبت في صحيح مسلم من رواية أنس بن سيرين على وفاق ما روى سعيد بن جبير، وفي سياقه ما يشعر بأنّه إنّما راجعها في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولفظه " سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق. فقال: طلقتها وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:

ص: 28

مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها لطهرها، قال: فراجعتها ثمّ طلَّقها لطهرها ، قلت: فاعتددت بتلك التّطليقة وهي حائض؟ فقال: ما لي لا اعتدّ بها. وإن كنت عجَزَت واستحمقت "

وعند مسلم أيضاً من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمّه عن سالم في حديث الباب " وكان عبد الله بن عمر طلَّقها تطليقة فحسبت من طلاقها ، فراجعها كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

وله من رواية الزّبيديّ عن ابن شهاب ، قال ابن عمر: فراجعتها وحسبت لها التّطليقة التي طلقتها.

وعند الشّافعيّ عن مسلم بن خالد عن ابن جريجٍ ، أنّهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم.

وفي حديث ابن عمر من الفوائد غير ما تقدّم.

أنّ الرّجعة يستقلّ بها الزّوج دون الوليّ ورضا المرأة، لأنّه جعل ذلك إليه دون غيره، وهو كقوله تعالى (وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك).

وفيه أنّ الأب يقوم عن ابنه البالغ الرّشيد في الأمور التي تقع له ممّا يحتشم الابن من ذكره، ويتلقّى عنه ما لعله يلحقه من العتاب على فعله شفقة منه وبرّاً.

وفيه أنّ طلاق الطّاهرة لا يكره ، لأنّه أنكر إيقاعه في الحيض لا في غيره، ولقوله في آخر الحديث " فإن شاء أمسك وإن شاء طلق ".

ص: 29

وفيه أنّ الحامل لا تحيض. لقوله في طريق سالم المتقدّمة " ثمّ ليطلقها طاهراً أو حاملاً " فحرّم صلى الله عليه وسلم الطّلاق في زمن الحيض وأباحه في زمن الحمل، فدلَّ على أنّهما لا يجتمعان.

وأجيب: بأنّ حيض الحامل لَمَّا لَم يكن له تأثير في تطويل العدّة ولا تخفيفها لأنّها بوضع الحمل فأباح الشّارع طلاقها حاملاً مطلقاً.

وأمّا غير الحامل ففرّق بين الحائض والطّاهر ، لأنّ الحيض يؤثّر في العدّة فالفرق بين الحامل وغيرها إنّما هو بسبب الحمل لا بسبب الحيض ولا الطّهر. (1)

(1) قال البخاري في الحيض: باب مخلقة وغير مخلقة. ثم روى (312) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ الله عز وجل وكَّل بالرحم ملَكاً يقول: يا رب نطفة ، يا رب علقة ، يا رب مضغة. فإذا أراد أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى ، شقي أم سعيد ، فما الرزق والأجل. فيكتب في بطن أمه.

قال الحافظ في " الفتح ": قال ابن بطال: غرض البخاري بإدخال هذا الحديث في أبواب الحيض تقويةُ مذهب من يقول إنَّ الحامل لا تحيض، وهو قول الكوفيين وأحمد وأبي ثور وابن المنذر وطائفة، وإليه ذهب الشافعي في القديم.

وقال في الجديد: إنها تحيض، وبه قال إسحاق، وعن مالك روايتان.

قلت: وفي الاستدلال بالحديث المذكور على أنها لا تحيض نظر؛ لأَنه لا يلزم من كون ما يخرج من الحامل هو السِّقط الذي لم يصوّر أن لا يكون الدم الذي تراه المرأة التي يستمر حملها ليس بحيض. وما ادعاه المخالف من أنه رشْحٌ من الولد أو من فضلة غذائه أو دم فساد لعلّة فمحتاج إلى دليل. وما ورد في ذلك من خبر أو أثر لا يثبت؛ لأنَّ هذا دم بصفات دم الحيض وفي زمن إمكانه فله حكم دم الحيض، فمن ادعى خلافه فعليه البيان.

وأقوى حججهم: أنَّ استبراء الأمة اعتبر بالمحيض لتحقق براءة الرحم من الحمل، فلو كانت الحامل تحيض لم تتم البراءة بالحيض.

واستدلَّ ابن المنير على أنه ليس بدم حيض بأنَّ الملك موكل برحم الحامل، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه قذر ولا يلائمها ذلك.

وأجيب: بأنه لا يلزم من كون الملك موكلاً به أن يكون حالاًّ فيه، ثم هو مشترك الإلزام؛ لأنَّ الدم كله قذر، والله أعلم. انتهى

ص: 30

وفيه تحريم الطّلاق في طهر جامعها فيه. وبه قال الجمهور.

وقال المالكيّة: لا يحرم؛ وفي رواية كالجمهور، ورجّحها الفاكهانيّ لكونه شرط في الإذن في الطّلاق عدم المسيس، والمعلق بشرطٍ معدومٌ عند عدمه

قوله: (وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال ابن بطّالٍ ما ملخّصه: المراجعة على ضربين.

الأول: إمّا في العدّة فهي على ما في حديث ابن عمر ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بمراجعتها ، ولَم يذكر أنّه احتاج إلى عقد جديد.

والثاني: إمّا بعد العدّة فعلى ما في حديث معقل (1).

وقد أجمعوا على أنّ الحرّ إذا طلق الحرّة بعد الدّخول بها تطليقة أو تطليقتين فهو أحقّ برجعتها ولو كرهت المرأة ذلك، فإن لَم يراجع حتّى انقضت العدّة فتصير أجنبيّة فلا تحلّ له إلَّا بنكاحٍ مستأنف.

واختلف السّلف فيما يكون به الرّجل مراجعاً.

فقال الأوزاعيّ: إذا جامعها فقد راجعها ، وجاء ذلك عن بعض

(1) أخرجه البخاري في " صحيحه "(5331) عن معقل بن يسار رضي الله عنه ، أنّه كانت أخته تحت رجل، فطلَّقها ثم خلَّى عنها، حتى انقضت عدتها، ثم خطبها، فحمي معقل من ذلك أَنَفَاً، فقال: خلى عنها وهو يقدر عليها، ثم يخطبها، فحال بينه وبينها، فأنزل الله:{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} إلى آخر الآية. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه، فترك الحمية ، واستقاد لأمر الله.

ص: 31

التّابعين ، وبه قال مالك وإسحاق. بشرط أن ينوي به الرّجعة.

وقال الكوفيّون كالأوزاعيّ. وزادوا: ولو لمسها بشهوةٍ أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ

وقال الشّافعيّ: لا تكون الرّجعة إلَّا بالكلام.

وانبنى على هذا الخلاف جواز الوطء وتحريمه.

وحجّة الشّافعيّ: أنّ الطّلاق مزيل للنّكاح، وأقرب ما يظهر ذلك في حلّ الوطء وعدمه، لأنّ الحلّ معنىً يجوز أن يرجع في النّكاح ويعود كما في إسلام أحد المشركين ثمّ إسلام الآخر في العدّة، وكما يرتفع بالصّوم والإحرام والحيض ثمّ يعود بزوال هذه المعاني.

وحجّة من أجاز: أنّ النّكاح لو زال لَم تعد المرأة إلَّا بعقدٍ جديد وبصحّة الخلع في الرّجعيّة ولوقوع الطّلقة الثّانية.

والجواب عن كلّ ذلك: أنّ النّكاح ما زال أصله ، وإنّما زال وصفه.

وقال ابن السّمعانيّ: الحقّ أنّ القياس يقتضي أنّ الطّلاق إذا وقع زال النّكاح كالعتق، لكنّ الشّرع أثبت الرّجعة في النّكاح دون العتق فافترقا.

ص: 32