المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الخامس والعشرون - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٦

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب العدّة

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌كتاب اللّعان

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌كتاب الرّضاع

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب القسامة

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

الفصل: ‌الحديث الخامس والعشرون

‌الحديث الخامس والعشرون

329 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ من بني فزارة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: هل لك إبلٌ؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها، قال: حمرٌ، قال: فهل فيها من أورق؟ قال: إنّ فيها لورقاً، قال: فأنّى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرقٌ، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرقٌ. (1)

قوله: (جاء رجلٌ من بني فزارة) في رواية أبي مصعب في " الموطأ " عن مالك عن ابن شهاب " جاء أعرابيّ ". وكذا في البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك.

وللنّسائيّ " جاء رجلٌ من أهل البادية " وكذا في رواية أشهب عن

(1) أخرجه البخاري (4999 ، 6455) من طريق مالك ، ومسلم (1500) من طريق سفيان بن عيينة وغيره كلهم عن الزهري ، أن ابن المسيب أخبره عن أبي هريرة به.

وأخرجه البخاري (6884) ومسلم (1500) من طريق يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة.

قال ابن حجر في " الفتح ": قوله (أن سعيد بن المسيب أخبره) كذا لأكثر أصحاب الزهري، وخالفهم يونس فقال عنه " عن أبي سلمة عن أبي هريرة " أخرجه البخاري من طريق ابن وهب عنه، وهو مصيرٌ من البخاري إلى أنه عند الزهري عن سعيد وأبي سلمة معاً، وقد وافقه مسلم على ذلك، ويؤيده رواية يحيى بن الضحاك عن الأوزاعي عن الزهري عنهما جميعا، وقد أطلق الدارقطنيُّ أنَّ المحفوظ رواية مالك ومن تابعه، وهو محمول على العمل بالترجيح، وأما طريق الجمع فهو ما صنعه البخاري، ويتأيّد أيضاً بأن عقيلاً رواه عن الزهري قال: بلغنا عن أبي هريرة. فإن ذلك، يشعر بأنه عنده عن غير واحد، وإلا لو كان عن واحد فقط كسعيد مثلا لاقتصر عليه.

ص: 117

مالك. عند الدّارقطني.

وفي رواية ابن وهب التي عند أبي داود " أنّ أعرابيّاً من بني فزارة ".

واسم هذا الأعرابيّ ضمضم بن قتادة ، أخرج حديثه عبد الغنيّ بن سعيد في " المبهمات " له وابن فتحون من طريقه ، وأبو موسى في " الذيل " من طريق قطبة بنت عمرو بن هرم ، أنّ مدلوكاً حدّثها ، أنّ ضمضم بن قتادة ولد له مولود أسود ، من امرأة من بني عجل ، فشكا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك من إبل.؟ (1).

ولَم أعرف اسم امرأته ، لكن في الرواية أنها امرأة من بني عجل ، وفي الحديث فقدِمَ نسوة من بني عجل ، فأخبرن أنه كان له جدَّةٌ سوداء.

قوله: (إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم) في رواية ابن أبي ذئب (2) عن الزهري. عند الدارقطني " صرخ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم "

قوله: (فقال: يا رسولَ الله ، إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود) لَم أقف على اسم المرأة ، ولا على اسم الغلام.

وزاد في رواية يونس عن ابن شهاب عند الشيخين " وإنّي أنكرته " أي: استنكرته بقلبيّ ، ولَم يرد أنّه أنكر كونه ابنه بلسانه وإلا لكان تصريحاً بالنّفي لا تعريضاً.

(1) قال ابن الأثير في " أسد الغابة "(3/ 64): أخرجه أَبُو موسى بإسناد غريب، وقال: هذا إسناد عجيب.

(2)

رواية ابن أبي ذئب. أخرجها الطيالسي في " مسنده "(2413) وأبو عوانة في " مستخرجه "(3/ 129).

ص: 118

والتّعريض: بعينٍ مهملة وضاد معجمة.

قال الرّاغب: هو كلام له وجهان ظاهر وباطن، فيقصد قائله الباطن ويظهر إرادة الظّاهر ، ويفارق الكناية بأنّها ذكر شيء بغير لفظه الموضوع يقوم مقامه ، ووجه التّعريض، أنّه قال غلاماً أسود. أي: وأنا أبيض فكيف يكون منّي؟ ، ووقع في رواية معمر عن الزّهريّ عند مسلم " وهو حينئذٍ يعرّض بأن ينفيه ".

القول الأول: يؤخذ منه أنّ التّعريض بالقذف ليس قذفاً. وبه قال الجمهور

واستدل الشّافعيّ بهذا الحديث لذلك قال في " الأمّ ": ظاهر قول الأعرابيّ أنّه اتّهم امرأته، لكن لَمَّا كان لقوله وجه غير القذف ، لَم يحكم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه بحكم القذف ، فدلَّ ذلك على أنّه لا حدّ في التّعريض، وممّا يدلّ على أنّ التّعريض لا يعطي حكم التّصريح الإذن بخطبة المعتدّة بالتّعريض لا بالتّصريح فلا يجوز، انتهى

القول الثاني: عن المالكيّة ، يجب به الحدّ إذا كان مفهوماً.

وأجابوا عن الحديث بما سيأتي بيانه.

وقال ابن دقيق العيد: في الاستدلال بالحديث نظرٌ، لأنّ المستفتي لا يجب عليه حدّ ولا تعزير.

قلت: وفي هذا الإطلاق نظر، لأنّه قد يستفتي بلفظ لا يقتضي القذف وبلفظ يقتضيه.

فمن الأوّل أن يقول مثلاً: إذا كان زوج المرأة أبيض فأتت بولدٍ

ص: 119

أسود: ما الحكم؟.

ومن الثّاني أن يقول مثلاً: إنّ امرأتي أتت بولدٍ أسود وأنا أبيض فيكون تعريضاً، أو يزيد فيه مثلاً زنت فيكون تصريحاً، والذي ورد في حديث الباب هو الثّاني فيتمّ الاستدلال.

وقد نبّه الخطّابيّ على عكس هذا فقال: لا يلزم الزّوج إذا صرّح بأنّ الولد الذي وضعته امرأته ليس منه حدّ قذفه ، لجواز أن يريد أنّها وطئت بشهبة أو وضعته من الزّوج الذي قبله إذا كان ذلك ممكناً.

قوله: (قال: فما ألوانها؟ قال: حمر) في رواية محمّد بن مصعب عن مالك عند الدّارقطنيّ (1)" قال: رمكٌ " والأرمك الأبيض إلى حمرة.

قوله: (فهل فيها من أورق؟) بوزن أحمر.

قوله: (إنّ فيها لورقاً) بضمّ الواو بوزن حمر، والأورق الذي فيه سواد ليس بحالك بل يميل إلى الغبرة، ومنه قيل للحمامة: ورقاء.

قوله: (فأنّى أتاها ذلك) بفتح النّون الثّقيلة ، أي: من أين أتاها اللون الذي خالفها، هل هو بسبب فحْلٍ من غير لونها طرأ عليها ، أو لأمرٍ آخرّ؟.

قوله: (عسى أن يكون نزعه عرقٌ) وللبخاري " لعلَّ نزعه عرق " في رواية كريمة " لعلَّه " ولا إشكال فيها ، بخلاف الأوّل ، فجزم جمعٌ

(1) ورواه الإمام أحمد في " المسند "(9298) حدّثنا محمد بن مصعب (القرقسائي) عن مالك عن الزهري به.

ص: 120

بأنّ الصّواب النّصب ، أي: لعل عرقاً نزعه.

وقال الصّغانيّ: ويحتمل: أن يكون في الأصل " لعله " فسقطت الهاء، ووجّهه ابن مالك: باحتمال. أنّه حذف منه ضمير الشّأن.

ويؤيّد توجيهه ما وقع في رواية كريمة، والمعنى يحتمل أن يكون في أصولها ما هو باللون المذكور فاجتذبه إليه فجاء على لونه.

وادّعى الدّاوديّ أنّ لعل هنا للتّحقيق.

قوله: (وهذا عسى أن يكون نزعه عرقٌ) وللبخاري " ولعل ابنك هذا نزعه عرق " والمراد بالعرق الأصل من النّسب شبهه بعرق الشّجرة، ومنه قولهم: فلان عريق في الأصالة ، أي: أنّ أصله متناسب، وكذا معرق في الكرم أو اللؤم.

وأصل النّزع الجذب، وقد يطلق على الميل، ومنه ما وقع في قصّة عبد الله بن سلام حين سُئل عن شبه الولد بأبيه أو بأمّه: نزع إلى أبيه أو إلى أمّه. (1)

وفيه أنّ الزّوج لا يجوز له الانتفاء من ولده بمجرّد الظّنّ، وأنّ الولد يلحق به ولو خالف لونه لون أمّه.

(1) أخرجه البخاري (3723) عن أنس رضي الله عنه ، أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء. فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلَّا نبي. ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني به جبريل آنفا. قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. الحديث. وفيه: وأمَّا الولد فإذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماءُ المرأة ماءَ الرجل نزعت الولد.

ص: 121

وقال القرطبيّ تبعاً لابن رشد: لا خلاف في أنّه لا يحلّ نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة كالأدمة والسّمرة، ولا في البياض والسّواد إذا كان قد أقرّ بالوطء ، ولَم تمض مدّة الاستبراء.

وكأنّه أراد في مذهبه، وإلَّا فالخلاف ثابت عند الشّافعيّة بتفصيل ، فقالوا: إن لَم ينضمّ إليه قرينة زناً لَم يجز النّفي، فإن اتّهمها فأتت بولدٍ على لون الرّجل الذي اتّهمها به جاز النّفي على الصّحيح.

وفي حديث ابن عبّاس (1) في اللعان ما يقوّيه.

وعند الحنابلة: يجوز النّفي مع القرينة مطلقاً، والخلاف إنّما هو عند عدمها، وهو عكس ترتيب الخلاف عند الشّافعيّة.

وفيه تقديم حكم الفراش على ما يشعر به مخالفة الشّبه.

وفيه الاحتياط للأنساب وإبقائها مع الإمكان، والزّجر عن تحقيق ظنّ السّوء.

وقال القرطبيّ: يؤخذ منه منع التّسلسل، وأنّ الحوادث لا بدّ لها أن تستند إلى أوّل ليس بحادث. وفيه أنّ التّعريض بالقذف لا يثبت حكم القذف حتّى يقع التّصريح خلافاً للمالكيّة.

(1) أخرجه البخاري في " الصحيح "(5004 ، 5010 ، 6464) ومسلم (1497) عن ابن عباس، أنه ذُكر التلاعن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عاصم بن عدي في ذلك قولاً ثم انصرف، فأتاه رجلٌ من قومه يشكو إليه أنه قد وجد مع امرأته رجلاً، فقال عاصم: ما ابتليت بهذا الأمر إلَّا لقولي، فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مصفراً قليل اللحم سبط الشعر، وكان الذي ادّعى عليه أنه وجده عند أهله خَدَلاًّ آدم كثير اللحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم بيّن " فجاءت شبيهاً بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده، فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم

" الحديث

ص: 122

وأجاب بعض المالكيّة: أنّ التّعريض الذي يجب به القذف عندهم ، هو ما يفهم منه القذف كما يفهم من التّصريح، وهذا الحديث لا حجّة فيه لدفع ذلك، فإنّ الرّجل لَم يرد قذفاً، بل جاء سائلاً مستفتياً عن الحكم لِما وقع له من الرّيبة، فلمّا ضرب له المثل أذعن.

وقال المُهلَّب: التّعريض إذا كان على سبيل السّؤال لا حدّ فيه، وإنّما يجب الحدّ في التّعريض إذا كان على سبيل المواجهة والمشاتمة.

وقال ابن المنيّر (1): الفرق بين الزّوج والأجنبيّ في التّعريض أنّ الأجنبيّ يقصد الأذيّة المحضة، والزّوج قد يعذر بالنّسبة إلى صيانة النّسب. والله أعلم.

قال ابن بطّال: احتجّ الشّافعيّ بأنّ التّعريض في خطبة المعتدّة جائز مع تحريم التّصريح بخطبتها، فدلَّ على افتراق حكمها.

قال: وأجاب القاضي إسماعيل ، بأنّ التّعريض بالخطبة جائز ، لأنّ النّكاح لا يكون إلَّا بين اثنين، فإذا صرّح بالخطبة وقع عليه الجواب بالإيجاب أو الوعد فمنع، وإذا عرّض فأفهم أنّ المرأة من حاجته لَم يحتج إلى جواب، والتّعريض بالقذف يقع من الواحد ولا يفتقر إلى جواب، فهو قاذف من غير أن يخفيه عن أحد فقام مقام الصّريح.

كذا فرّق، ويعكّر عليه أنّ الحدّ يدفع بالشّبهة ، والتّعريض يحتمل الأمرين، بل عدم القذف فيه هو الظّاهر وإلا لَمَا كان تعريضاً، ومن لَم يقل بالحدّ في التّعريض يقول بالتّأديب فيه لأنّ في التّعريض أذى

(1) هو علي بن محمد الاسكندراني ، سبق ترجمته (2/ 378)

ص: 123

المسلم.

وقد أجمعوا على تأديب من وجد مع امرأة أجنبيّة في بيت. والباب مغلق عليهما.

وقد ثبت عن إبراهيم النّخعيّ أنّه قال: في التّعريض عقوبة. وقال عبد الرّزّاق أنبأنا ابن جريجٍ. قلت لعطاءٍ: فالتّعريض؟ قال: ليس فيه حدّ، قال عطاء وعمرو بن دينار: فيه نكال.

قال ابن التّين: وقد انفصل المالكيّة عن حديث الباب: بأنّ الأعرابيّ إنّما جاء مستفتياً ولَم يرد بتعريضه قذفاً. وحاصله أنّ القذف في التّعريض إنّما يثبت على من عرف من إرادته القذف، وهذا يقوّي أن لَّا حدّ في التّعريض لتعذّر الاطّلاع على الإرادة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وفي الحديث ضرب المثل، وتشبيه المجهول بالمعلوم تقريباً لفهم السّائل، واستدل به لصحّة العمل بالقياس.

قال الخطّابيّ: هو أصل في قياس الشّبه.

وقال ابن العربيّ: فيه دليل على صحّة القياس والاعتبار بالنّظير.

وتوقّف فيه ابن دقيق العيد فقال: هو تشبيه في أمر وجوديّ، والنّزاع إنّما هو في التّشبيه في الأحكام الشّرعيّة من طريق واحدة قويّة.

قال ابن بطّال: التّشبيه والتّمثيل هو القياس عند العرب، وقد

ص: 124

احتجّ المزنيّ بهذين الحديثين (1) على من أنكر القياس، قال: وأوّل من أنكر القياس إبراهيم النّظام وتبعه بعض المعتزلة، وممّن ينسب إلى الفقه داود بن عليّ، وما اتّفق عليه الجماعة هو الحجّة، فقد قاس الصّحابة فمن بعدهم من التّابعين وفقهاء الأمصار وبالله التّوفيق.

وتعقّب بعضهم الأوّليّة التي ادّعاها ابن بطّال ، بأنّ إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود من الصّحابة ومن التّابعين عن عامر الشّعبيّ من فقهاء الكوفة، وعن محمّد بن سيرين من فقهاء البصرة. نقله ابن عبد البرّ. ومِن قبله الدّارميّ وغيره عنهم وعن غيرهم

وقد ذكر الشّافعيّ شرط من له أن يقيس فقال: يشترط أن يكون عالماً بالأحكام من كتاب الله تعالى ، وبناسخه ومنسوخه وعامّه وخاصّه، ويستدلّ على ما احتمل التّأويل بالسّنّة وبالإجماع، فإن لَم يكن فبالقياس على ما في الكتاب، فإن لَم يكن فبالقياس على ما في السّنّة، فإن لَم يكن فبالقياس على ما اتّفق عليه السّلف وإجماع النّاس، ولَم يعرف له مخالف.

قال: ولا يجوز القول في شيء من العلم إلَّا من هذه الأوجه، ولا

(1) أي: حديث الباب وهو حديث أبي هريرة.

وحديث ابن عبّاس ، أنَّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟، قالت: نعم، فقال: اقضوا الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء.

أخرجه البخاري في الاعتصام (6885) (باب من شبّه أصلاً معلوماً بأصل مبين، قد بيّن الله حكمهما، ليفهم السائل.

ص: 125

يكون لأحدٍ أن يقيس حتّى يكون عالماً بما مضى قبله من السّنن وأقاويل السّلف وإجماع النّاس واختلاف العلماء ولسان العرب ، ويكون صحيح العقل ليفرّق بين المشتبهات ولا يعجل، ويستمع ممّن خالفه ليتنبّه بذلك على غفلة إن كانت، وأن يبلغ غاية جهده وينصف من نفسه حتّى يعرف من أين قال ما قال.

والاختلاف على وجهين. فما كان منصوصاً لَم يحلّ فيه الاختلاف عليه، وما كان يحتمل التّأويل أو يدرك قياساً فذهب المتأوّل أو القائس إلى معنىً يحتمل وخالفه غيره، لَم أَقُل إنّه يضيّق عليه ضيق المخالف للنّصّ، وإذا قاس من له القياس. فاختلفوا وسع كلاًّ أن يقول بمبلغ اجتهاده، ولَم يسعه اتّباع غيره فيما أدّاه إليه اجتهاده.

وقال ابن عبد البرّ في " بيان العلم " بعد أن ساق هذا الفصل: قد أتى الشّافعيّ رحمه الله في هذا الباب بما فيه كفاية وشفاء. والله الموفّق.

وقال ابن العربيّ وغيره: القرآن هو الأصل، فإن كانت دلالته خفيّة نَظَرَ في السّنّة ، فإن بيّنته وإلا فالجليّ من السّنّة، وإن كانت الدّلالة منها خفيّة نَظَرَ فيما اتّفق عليه الصّحابة، فإن اختلفوا رجّح فإن لَم يوجد عمل بما يشبه نصّ الكتاب والسّنة ، ثمّ السّنّة ثمّ الاتّفاق ثمّ الرّاجح.

وأنشد ابن عبد البرّ لأبي محمّد اليزيديّ النّحويّ المقرئ برواية أبي عمرو بن العلاء من أبيات طويلة في إثبات القياس:

لا تكن كالحمار يحمل أسفا

راً كما قد قرأت في القرآن

ص: 126

إنّ هذا القياس في كلّ أمر

عند أهل العقول كالميزان

لا يجوز القياس في الدّين إلَّا

لفقيهٍ لدينه صوّان

ليس يغني عن جاهل قول راوٍ

عن فلان وقوله عن فلان

إن أتاه مسترشداً أفتاه

بحديثين فيهما معنيان

إنّ من يحمل الحديث ولا يع

رف فيه المراد كالصّيدلانيّ

حكم الله في الجزاء ذوي عد

لٍ لذي الصّيد بالذي يريان

لَم يوقّت ولَم يسمّ ولكن

قال فيه فليحكم العدلان

ولنا في النّبيّ صلَّى عليه

الله والصّالحون كلّ أوان

أسوة في مقاله لمعاذ

اقض بالرّأي إن أتى الخصمان

وكتاب الفاروق يرحمه الله

إلى الأشعريّ في تبيان

قس إذا أشكلت عليك أمور

ثمّ قل بالصّواب والعرفان

والمذهب المعتدل ما قاله الشّافعيّ " أنّ القياس مشروع عند الضّرورة " لا أنّه أصل برأسه.

ص: 127