الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن
348 -
عن عمران بن حصينٍ رضي الله عنه ، أنّ رجلاً عضّ يدَ رجلٍ، فنزع يده من فيه، فوقعتْ ثنيّتاه، فاختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: يَعَضُّ أحدكم أخاه، كما يَعَضُّ الفحل، لا دية لك. (1)
قوله: (أنّ رجلاً عضّ يد رجل) في رواية محمّد بن جعفر عن شعبة عند مسلم عن عمران قال: قاتل يعلى بن أُميَّة رجلاً فعضّ أحدهما صاحبه " الحديث ، قال شعبة: وعن قتادة عن عطاء - هو ابن أبي رباح - عن ابن يعلى - يعني صفوان - عن يعلى بن أُميَّة ، قال: مثله، وكذا أخرجه النّسائيّ من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة ، بهذا السّند ، فقال في روايته: بمثل الذي قبله. يعني حديث عمران بن حصين.
قلت: ولشعبة فيه سند آخر إلى يعلى. أخرجه النّسائيّ من طريق ابن أبي عديّ وعبيد بن عقيل كلاهما عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن يعلى. ووقع في رواية عبيد بن عقيل ، أنّ رجلاً من بني تميم قاتل رجلاً فعضّ يده.
ويستفاد من هذه الرّواية تعيين أحد الرّجلين المبهمين وأنّه يعلى بن
(1) أخرجه البخاري (6497) عن آدم ، ومسلم (1673) عن محمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران رضي الله عنه.
ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة نحوه. أخرجه مسلم (1673)
ولمسلم (1673) من وجه آخر عن ابن سيرين عن عمران رضي الله عنه نحوه.
أُميَّة، وقد روى يعلى هذه القصّة في الصحيحين. فبيّن في بعض طرقه ، أنّ أحدهما كان أجيراً له، ولفظه عند البخاري في الجهاد: غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث. وفيه. فاستأجرتُ أجيراً ، فقاتل رجلاً فعضّ أحدهما الآخر.
فعُرف أنّ الرّجلين المبهمين يعلى وأجيره ، وأنّ يعلى أبْهمَ نفسه ، لكن عيّنه عمران بن حصين.
ولَم أقف على تسمية أجيره.
وأمّا تمييز العاضّ من المعضوض.
فوقع بيانه في عند البخاري في " المغازي " من طريق محمّد بن بكر عن ابن جريجٍ في حديث يعلى. قال عطاء: فلقد أخبرني صفوان بن يعلى أيّهما عضّ الآخر. فنسيتُه. فظنّ أنّه مستمرّ على الإبهام.
ولكن وقع عند مسلم والنّسائيّ من طريق بديل بن ميسرة عن عطاء عن صفوان ، أنّ أجيراً ليعلى عضّ رجلٌ ذراعَه.
وأخرجه النّسائيّ أيضاً عن إسحاق بن إبراهيم عن سفيان عن ابن جريج بلفظ: فقاتل أجيري رجلاً. فعضّه الآخر.
ويؤيّده ما أخرجه النّسائيّ من طريق سفيان بن عبد الله عن عمّيه سلمة بن أُميَّة ويعلى بن أُميَّة قالا: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، ومعنا صاحب لنا فقاتلا رجلاً من المسلمين ، فعضّ الرّجل ذراعه.
ويؤيّده أيضاً رواية عبيد بن عقيل التي ذكرتها من عند النّسائيّ
بلفظ " أنّ رجلاً من بني تميم عضّ " فإنّ يعلى تميميّ ، وأمّا أجيره فإنّه لَم يقع التّصريح بأنّه تميميّ.
وأخرج النّسائيّ أيضاً من رواية محمّد بن مسلم الزّهريّ عن صفوان بن يعلى عن أبيه نحو رواية سلمة. ولفظه: فقاتل رجلاً فعضّ الرّجل ذراعه فأوجعه.
وعرف بهذا. أنّ العاضّ هو يعلى بن أُميَّة، ولعل هذا هو السّرّ في إبهامه نفسه.
وقد أنكر القرطبيّ أن يكون يعلى هو العاضّ ، فقال: يظهر من هذه الرّواية أنّ يعلى هو الذي قاتل الأجير، وفي الرّواية الأخرى " أنّ أجيراً ليعلى عضّ يد رجل " وهذا هو الأولى والأليق. إذ لا يليق ذلك الفعل بيعلى مع جلالته وفضله.
قلت: لَم يقع في شيء من الطّرق أنّ الأجير هو العاضّ ، وإنّما التبس عليه أنّ في بعض طرقه عند مسلم كما بيّنته " أنّ أجيراً ليعلى عضّ رجلٌ ذراعه " فجوّز أن يكون العاضّ غير يعلى.
وأمّا استبعاده أن يقع ذلك من يعلى - مع جلالته - فلا معنى له مع ثبوت التّصريح به في الخبر الصّحيح، فيحتمل: أن يكون ذلك صدر منه في أوائل إسلامه فلا استبعاد.
وقال النّوويّ: وأمّا قوله يعني في الرّواية الأولى " أنّ يعلى هو المعضوض " وفي. الرّواية الثّانية والثّالثة المعضوض هو أجير يعلى لا يعلى ، فقال الحفّاظ: الصّحيح المعروف أنّ المعضوض أجير يعلى لا
يعلى.
قال: ويحتمل أنّهما قضيّتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين.
وتعقّبه شيخنا في شرح التّرمذيّ: بأنّه ليس في رواية مسلم ولا رواية غيره في الكتب السّتّة ولا غيرها ، أنّ يعلى هو المعضوض لا صريحاً ولا إشارة.
وقال شيخنا: فيتعيّن على هذا أنّ يعلى هو العاضّ. والله أعلم.
قلت: وإنّما تردّد عياض وغيره في العاضّ. هل هو يعلى أو آخر أجنبيّ؟ كما قدّمته من كلام القرطبيّ. والله أعلم.
قوله: (فنزع يده من فيه) وكذا في حديث يعلى الماضي في البخاري في رواية الكشميهنيّ " من فمه ". وفي رواية معاذ بن هشام عن أبيه (1) عن قتادة عند مسلم " عضّ ذراع رجلٍ فجذبه ".
وفي حديث يعلى في البخاري " فعضّ إصبع صاحبه فانتزع إصبعه ".
وفي الجمع بين الذّراع والإصبع عُسر، ويبعد الحمل على تعدّد القصّة لاتّحاد المخرج ، لأنّ مدارها على عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه، فوقع في رواية إسماعيل بن عُليّة عن ابن جريجٍ عنه " إصبعه " وهذه في البخاريّ ، ولَم يسق مسلم لفظها.
وفي رواية بن ميسرة عن عطاء عند مسلم ، وكذا في رواية الزّهريّ
(1) وقع في المطبوع من " الفتح "(12/ 275)" هشام عن عروة " وهو خطأ ، والتصويب من صحيح مسلم (1673).
عن صفوان عند النّسائيّ " ذراعه " ووافقه سفيان بن عيينة عن ابن جريجٍ في رواية إسحاق بن راهويه عنه.
فالذي يترجّح الذّراع، وقد وقع أيضاً في حديث سلمة بن أُميَّة عند النّسائيّ مثل ذلك.
وانفراد ابن عُليّة عن ابن جريجٍ بلفظ " الإصبع " لا يقاوم هذه الرّوايات المتعاضدة على الذّراع. والله أعلم.
قوله: (فوقعت ثنيّتاه) كذا للأكثر بالتّثنية. وللكشميهنيّ " ثناياه " بصيغة الجمع، وفي رواية هشام المذكورة " فسقطت ثنيّته " بالإفراد ، وكذا له في رواية ابن سيرين عن عمران. (1) وكذا في رواية سلمة بن أُميَّة بلفظ " فجذب صاحبه يده فطرح ثنيّته ".
وقد تترجّح رواية التّثنية ، لأنّه يمكن حمل الرّواية التي بصيغة الجمع عليها على رأي من يجيز في الاثنين صيغة الجمع، وردّ الرّواية التي بالإفراد إليها على إرادة الجنس، لكن وقع في رواية محمّد بن بكر " فانتزع إحدى ثنيّتيه " فهذه أصرح في الوحدة.
وقول من يقول في هذا بالحمل على التّعدّد بعيدٌ أيضاً لاتّحاد المخرج، ووقع في رواية الإسماعيليّ " فندرت ثنيّته ".
قوله: (فاختصما إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم) في رواية آدم عن شعبة عند
(1) رواية هشام عند مسلم كما تقدَّم ، وعليه فالضمير في قول الشارح (له) أي: لمسلم. لكن وقع عنده في رواية ابن سيرين بالشك فقال (ثنيته أو ثناياه) كما في رواية الكشميهني التي ذكرها الشارح.
البخاري " فاختصموا " كذا في هذا الموضع ، والمراد يعلى وأجيره ومن انضمّ إليهما ممّن يلوذ بهما أو بأحدهما، وفي رواية هشام " فرفع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم " وفي رواية ابن سيرين " فاستعدى عليه ".
وفي حديث يعلى " فانطلق " هذه رواية ابن عليّة ، وفي رواية سفيان " فأتى " ، وفي رواية محمّد بن بكر عن ابن جريجٍ في البخاري " فأتيا ".
قوله: (فقال: يعضّ) بفتح أوّله والعين المهملة بعدها ضاد معجمة ثقيلة ، وفي رواية مسلم " يعمد أحدكم إلى أخيه فيعضّه ".
وأصل عضّ عضض بكسر الأولى يعضض بفتحها فأدغمت.
قوله: (كما يعضّ الفحل) وفي حديث سلمة " كعضاض الفحل " أي: الذّكر من الإبل ، ويطلق على غيره من ذكور الدّوابّ.
ووقع في الرّواية التي في الجهاد (1). وكذا في حديث هشام " ويقضمها " - بسكون القاف وفتح الضّاد المعجمة على الأفصح - " كما يقضم الفحل " من القضم ، وهو الأكل بأطراف الأسنان.
والخضم - بالخاء المعجمة بدل القاف - الأكل بأقصاها وبأدنى الأضراس ، ويطلق على الدّقّ والكسر ، ولا يكون إلَّا في الشّيء الصّلب. حكاه صاحب الرّاعي في اللغة.
قوله: (لا دية له) في رواية الكشميهنيّ " لا دية لك " ووقع في رواية هشام " فأبطله ، وقال: أردت أن تأكل لحمه ".
(1) أي: في كتاب الجهاد من صحيح البخاري.
وفي حديث سلمة " ثمّ تأتي تلتمس العقل ، لا عقل لها فأبطلها "، وفي رواية ابن سيرين " فقال: ما تأمرني؟ أتأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل ، ادفع يدك حتّى يقضمها ، ثمّ انزعها " كذا لمسلمٍ.
وعند أبي نعيم في " المستخرج " من الوجه الذي أخرجه مسلم " إن شئت أمرناه فعضّ يدك ، ثمّ انتزعها أنت " وفي حديث يعلى بن أُميَّة " فأهدرها " ، وفي رواية للشيخين " فأبطلها " وهي رواية الإسماعيليّ.
وقد أخذ بظاهر هذه القصّة الجمهور ، فقالوا: لا يلزم المعضوضَ قصاصٌ ولا ديةٌ ، لأنّه في حكم الصّائل.
واحتجّوا أيضاً بالإجماع. بأنّ من شهر على آخر سلاحاً ليقتله فدفع عن نفسه ، فقُتل الشّاهر أنّه لا شيء عليه، فكذا لا يضمن سنّه بدفعه إيّاه عنها، قالوا: ولو جرحه المعضوض في موضع آخر لَم يلزمه شيء.
وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض ، وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك من ضرب في شدقيه أو فكّ لحيته ليرسلها، ومهما أمكن التّخليص بدون ذلك فعدل عنه إلى الأثقل لَم يهدر.
وعند الشّافعيّة وجه ، أنّه يهدر على الإطلاق، ووجّه أنّه لو دفعه في ذلك ضمن.
وعن مالك روايتان. أشهرهما يجب الضّمان.
وأجابوا عن هذا الحديث:
الأول: احتمال أن يكون سبب الإنذار شدّة العضّ لا النّزع ، فيكون سقوط ثنيّة العاضّ بفعله لا بفعل المعضوض، إذ لو كان من فعل صاحب اليد لأمكنه أن يخلص يده من غير قلع، ولا يجوز الدّفع بالأثقل مع إمكان الأخفّ.
الثاني: قال بعض المالكيّة: العاضّ قصد العضو نفسه ، والذي استحقّ في إتلاف ذلك العضو غير ما فعل به ، فوجب أن يكون كلّ منهما ضامناً ما جناه على الآخر، كمن قلع عين رجل فقطع الآخر يده.
وتعقّب: بأنّه قياس في مقابل النّصّ فهو فاسد.
الثالث: قال بعضهم: لعلَّ أسنانه كانت تتحرّك فسقطت عقب النّزع.
وسياق هذا الحديث يدفع هذا الاحتمال.
الرابع: تمسّك بعضهم بأنّها واقعة عين ولا عموم لها.
وتعقّب: بأنّ البخاريّ أخرج في الإجارة عقب حديث يعلى هذا من طريق أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه ، أنّه وقع عنده مثل ما وقع عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقضى فيه بمثله. (1)
(1) أخرج البخاري (2146) حديث يعلى. ثم قال: قال ابن جريج: وحدثني عبد الله بن أبى مُلَيْكة عن جدِّه بمثل هذه الصفة ، أنَّ رجلاً عضَّ يدَ رجلٍ، فأندر ثنيته، فأهدرها أبو بكر رضي الله عنه
قال ابن حجر في الفتح (7/ 104) قوله: (قال ابن جريج إلخ) هو بالإسناد المذكور إليه.
وما تقدّم من التّقييد ليس في الحديث ، وإنّما أخذ من القواعد الكليّة، وكذا إلحاق عضو آخر غير الفم به ، فإنّ النّصّ إنّما ورد في صورة مخصوصة، نبّه على ذلك ابن دقيق العيد.
وقد قال يحيى بن عمر: لو بلغ مالكاً هذا الحديث لَمَا خالفه.
وكذا قال ابن بطّال: لَم يقع هذا الحديث لمالكٍ وإلَّا لَمَا خالفه.
وقال الدّاوديّ: لَم يروه مالك ، لأنّه من رواية أهل العراق.
وقال أبو عبد الملك: كأنّه لَم يصحّ الحديث عنده ، لأنّه أتى من قِبل المشرق.
قلت: وهو مُسلَّمٌ في حديث عمران، وأمّا طريق يعلى بن أُميَّة فرواها أهل الحجاز ، وحملها عنهم أهل العراق.
الخامس: اعتذر بعض المالكيّة بفساد الزّمان.
ونقل القرطبيّ عن بعض أصحابهم إسقاط الضّمان ، قال: وضمّنه الشّافعيّ وهو مشهور مذهب مالك.
وتعقّب: بأنّ المعروف عن الشّافعيّ أنّه لا ضمان، وكأنّه انعكس على القرطبيّ
تنْبيهٌ: لَم يتكلم النّوويّ على ما وقع في رواية ابن سيرين عن عمران، فإنّ مقتضاها إجراء القصاص في العضّة، وقد يقال: إنّ العضّ هنا إنّما أذن فيه للتّوصّل إلى القصاص في قلع السّنّ.
لكنّ الجواب السّديد في هذا أنّه استفهمه استفهام إنكار لا تقرير
شرع، هذا الذي يظهر لي. والله أعلم.
وفي هذه القصّة من الفوائد.
التّحذير من الغضب، وأنّ من وقع له ينبغي له أن يكظمه ما استطاع لأنّه أدّى إلى سقوط ثنيّة الغضبان، لأنّ يعلى غضب من أجيره فضربه فدفع الأجير عن نفسه فعضّه يعلى فنزع يده فسقطت ثنيّة العاضّ، ولولا الاسترسال مع الغضب لسلم من ذلك.
وفيه رفع الجناية إلى الحاكم من أجل الفصل، وأنّ المرء لا يقتصّ لنفسه.
وأنّ المتعدّي بالجناية يسقط ما ثبت له قبلها من جناية إذا ترتّبت الثّانية على الأولى.
وفيه جواز تشبيه فعل الآدميّ بفعل البهيمة إذا وقع في مقام التّنفير عن مثل ذلك الفعل.
وقد حكى الكرمانيّ أنّه رأى من صحّف قوله " كما يقضم الفجل " بالجيم بدل الحاء المهملة وحمله على البقل المعروف، وهو تصحيف قبيح.
وفيه دفع الصّائل ، وأنّه إذا لَم يمكن الخلاص منه إلَّا بجنايةٍ على نفسه أو على بعض أعضائه ففعل به ذلك كان هدراً، وللعلماء في ذلك اختلاف وتفصيل معروف.
وفيه أنّ من وقع له أمرٌ يأنفه أو يحتشم من نسبته إليه إذا حكاه كنَّى عن نفسه بأن يقول: فعل رجلٌ أو إنسان أو نحو ذلك كذا وكذا كما
وقع ليعلى في هذه القصّة.
وكما وقع لعائشة حيث قالت: قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، فقال لها عروة: هل هي إلَّا أنتِ؟ فتبسّمت. (1)
(1) أخرجه أحمد (25766) وأبو داود (179)، والترمذي (86)، وابن ماجه (502) من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن الزبير عن عائشة به. لكن قال: فضحكت.
ورواته ثقات ، لكن أعلَّه الترمذيُّ وغيرُه بالانقطاع بين حبيب وعروة.