الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
352 -
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعودٍ، عن أبي هريرة، وزيد بن خالدٍ الجهنيّ رضي الله عنهم قالا: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولَم تحصن؟ قال: إنْ زنت فاجلدوها، ثم إنْ زنت فاجلدوها، ثم إنْ زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفيرٍ.
قال ابن شهابٍ: ولا أدري؟ أبعد الثالثة أو الرابعة. (1)
قال المصنِّف: الضفير: الحبل.
قوله: (عن أبي هريرة وزيد بن خالد) سبق التّنبيه في شرح قصّة العسيف ، على أنّ الزّبيديّ ويونس زادا في روايتهما لهذا الحديث عن الزّهريّ ، شبل بن خليد (2) أو ابن حامد.
وتقدّم بيانه مفصّلاً.
قوله: (سُئل عن الأمة) في رواية حميد بن عبد الرّحمن عن أبي هريرة عند النسائي " أتى رجلٌ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ جاريتي زنت فتبيّن زناها، قال: اجلدها " ولَم أقف على اسم هذا الرّجل.
قوله: (إذا زنت ولَم تحصن) قال تعالى {ومن لَم يستطع منكم
(1) أخرجه البخاري (2046 ، 2118 ، 2417 ، 6447) ومسلم (1704) من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد.
(2)
وقع في المطبوع من الفتح " خليل " وهو خطأٌ ، والصواب ما أثبتّه كما في مصادر التخريج والتراجم التي اطّلعت عليها. وقيل: ابن حامد كما حكاه الشارح ، لكن قال البخاري وابن حبّان: هو وهمٌ.
طولاً .. إلى قوله. فإذا أُحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}.
قال الواحدي: قرئ المحصنات في القرآن بكسر الصاد وفتحها ، إلَّا في قوله تعالى {والمحصنات من النساء إلَّا ما ملكت أيمانكم} فبالفتح جزماً ، وقرئ {فإذا أحصن} بالضّمّ وبالفتح، فبالضّمّ معناه التّزويج. وبالفتح معناه الإسلام.
وقال غيره: اختلف في إحصان الأمة.
فقال الأكثر: إحصانها التّزويج، وقيل: العتق.
وعن ابن عبّاس وطائفة ، إحصانها التّزويج.
ونصره أبو عبيد وإسماعيل القاضي ، واحتجّ له. بأنّه تقدّم في الآية قوله تعالى {من فتياتكم المؤمنات} فيبعد أن يقول بعده فإذا أسلمن.
قال: فإن كان المراد التّزويج ، كان مفهومه أنّها قبل أن تتزوّج لا يجب عليها الحدّ إذا زنت.
وقد أخذ به ابن عبّاس ، فقال: لا حدّ على الأمة إذا زنت قبل أن تتزوّج، وبه قال جماعة من التّابعين، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وهو وجه للشّافعيّة.
واحتجّ بما أخرجه الطّبرانيّ من حديث ابن عبّاس: ليس على الأمة حدٌّ حتّى تحصن. وسنده حسن ، لكن اختلف في رفعه ووقفه ، والأرجح وقفه ، وبذلك جزم ابن خزيمة وغيره.
وادّعى ابن شاهين في " النّاسخ والمنسوخ " أنّه منسوخ بحديث
الباب.
وتعقّب: بأنّ النّسخ يحتاج إلى التّاريخ وهو لَم يُعلم، وقد عارضه حديث عليّ " أقيموا الحدود على أرقّائكم ، من أُحصن منهم ومن لَم يُحصن ".
واختلف أيضاً في رفعه ووقفه، والرّاجح أنّه موقوف، لكنّ سياقه في مُسلم يدلّ على رفعه ، فالتّمسّك به أقوى.
وإذا حمل الإحصان في الحديث على التّزويج ، وفي الآية على الإسلام ، حصل الجمع، وقد بيّنت السّنّة أنّها إذا زنت قبل الإحصان تجلد.
وقال غيره: التّقييد بالإحصان يفيد أنّ الحكم في حقّها الجلد لا الرّجم، فأخذ حكم زناها بعد الإحصان من الكتاب وحكم زناها قبل الإحصان من السّنّة، والحكمة فيه أنّ الرّجم لا يتنصّف فاستمرّ حكم الجلد في حقّها.
قال البيهقيّ: ويحتمل أن يكون نصّ على الجلد في أكمل حاليها ، ليستدل به على سقوط الرّجم عنها لا على إرادة إسقاط الجلد عنها إذا لَم تتزوّج، وقد بيّنت السّنّة أنّ عليها الجلد وإن لَم تحصن.
قال ابن بطّال: زعم مَن قال لا جلد عليها قبل التّزويج ، بأنّه لَم يقل في هذا الحديث " ولَم تحصن " غير مالكٍ، وليس كما زعموا ، فقد رواه يحيى بن سعيد الأنصاريّ عن ابن شهاب كما قال مالك، وكذا رواه طائفة عن ابن عيينة عنه.
قلت: رواية يحيى بن سعيد. أخرجها النّسائيّ ، ورواية ابن عيينة. أخرجها البخاري ليس فيها " ولَم تحصن " وزادها النّسائيّ في روايته عن الحارث بن مسكين عن ابن عيينة بلفظ " سئل عن الأمة تزني قبل أن تحصن " ، وكذا عند ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمّد بن الصّبّاح كلاهما عن ابن عيينة.
وقد رواه عن ابن شهاب أيضاً صالح بن كيسان كما قال مالك. عند البخاري ، وكذا أخرجهما مسلم والنّسائيّ.
ووقع في رواية سعيد المقبريّ عن أبيه عن أبي هريرة ، في الصحيحين بدونها (1). وعلى تقدير أنّ مالكاً تفرّد بها ، فهو من الحفّاظ وزيادته مقبولة، وقد سبق الجواب عن مفهومها.
قوله: (قال: إنْ زنت) قيل: أعاد الزّنا في الجواب غير مقيّد بالإحصان ، للتّنبيه على أنّه لا أثر له ، وأنّ موجب الحدّ في الأمة مطلق الزّنا. زاد في رواية المقبري: إذا زنت الأمة فتبيَّن زناها فليجلدها ولا يثرِّب. أي: ظهر.
وشرَطَ بعضهم أن يظهر بالبينة مراعاة للفظ تبيَّن.
وقيل: يُكتفى في ذلك بعلم السيد.
وقوله. لا يثرب. التثريب بمثناة ثم مثلثة ثم موحدة فهو التعنيف
(1) أخرجه البخاري (2152) ومواضع أخرى ، ومسلم (1703) عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمعه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا زنت الأمةُ فتبيَّن زناها فليجلدها ولا يثرِّب، ثم إنْ زنت فليجلدها، ولا يثرِّب، ثم إن زنت الثالثة. فليبعها ولو بحبل من شعر ". وقد ذكر الحافظ بعض رواياته في الشرح هنا.
وزنه ومعناه ، وقد جاء بلفظ " ولا يعنفها " في رواية عبيد الله العمري عن سعيد المقبري عند النسائي.
والمعنى لا يجمع عليها العقوبة بالجلد وبالتعيير ، وقيل: المراد لا يقتنع بالتوبيخ دون الجلد. وفي رواية سعيد عن أبي هريرة عند عبد الرزاق " ولا يعيّرها ولا يفندها ".
قال ابن بطال: يُؤخذ منه أنَّ كل من أُقيم عليه الحد لا يُعزَّر بالتعنيف واللوم ، وإنما يليق ذلك بمن صدر منه قبل أن يرفع إلى الإمام للتحذير والتخويف. فإذا رفع وأُقيم عليه الحد كفاه.
قلت: وقد تقدم في البخاري: نَهيُه صلى الله عليه وسلم عن سبِّ الذي أقيم عليه حد الخمر ، وقال: لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم.
قوله: (فاجلدوها) الحدّ اللائق بها المبيّن في الآية {فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشةٍ فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب} وهو نصف ما على الحرّة، وقد وقع في رواية المقبري عن أبي هريرة " فليجلدها الحدّ ".
والخطاب في " اجلدوها " لمن يملك الأمة، فاستدل به على أنّ السّيّد يقيم الحدّ على من يملكه من جارية وعبد، أمّا الجارية فبالنّصّ ، وأمّا العبد فبالإلحاق.
وقد اختلف السّلف فيمن يقيم الحدود على الأرقّاء:
القول الأول: قالت طائفة: لا يقيمها إلَّا الإمام ، أو من يأذن له ، وهو قول الحنفيّة
القول الثاني: عن الأوزاعيّ والثّوريّ. لا يقيم السيّد إلَّا حدّ الزّنا.
واحتجّ الطّحاويّ. بما أورده من طريق مسلم بن يسار قال: كان أبو عبد الله رجلٌ من الصّحابة يقول: الزّكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السّلطان.
قال الطّحاويّ: لا نعلم له مخالفاً من الصّحابة.
وتعقّبه ابن حزم فقال: بل خالفه اثنا عشر نفساً من الصّحابة.
القول الثالث: قال آخرون: يقيمها السّيّد ، ولو لَم يأذن له الإمام ، وهو قول الشّافعيّ.
القول الرابع: أخرج عبد الرّزّاق بسندٍ صحيح عن ابن عمر ، في الأمة إذا زنت ولا زوج لها يحدّها سيّدها، فإن كانت ذات زوج ، فأمرُها إلى الإمام. وبه قال مالك. إلَّا إن كان زوجها عبداً لسيّدها ، فأمرها إلى السّيّد.
واستثنى مالك القطع في السّرقة، وهو وجه للشّافعيّة.
وفي آخر: يستثنى حدّ الشّرب.
واحتجّ للمالكيّة: بأنّ في القطع مثلةً ، فلا يؤمن السّيّد أن يريد أن يمثّل بعبده ، فيخشى أن يتّصل الأمر بمن يعتقد أنّه يعتق بذلك ، فيدّعي عليه السّرقة لئلا يعتق ، فيمنع من مباشرته القطع سدّاً للذّريعة.
وأخذ بعض المالكيّة من هذا التّعليل ، اختصاصَ ذلك بما إذا كان مستندُ السّرقة علمَ السّيّد أو الإقرار، بخلاف ما لو ثبتت بالبيّنة فإنّه
يجوز للسّيّد لفقد العلة المذكورة.
وحجّة الجمهور. حديث عليّ المشار إليه قبل ، وهو عند مسلم والثّلاثة.
وعند الشّافعيّة خلاف في اشتراط أهليّة السّيّد لذلك.
وتمسّك من لَم يشترط ، بأنّ سبيله سبيل الاستصلاح فلا يفتقر للأهليّة.
وقال ابن حزم: يقيمه السّيّد إلَّا إن كان كافراً، واحتجّ بأنّهم لا يقرّون إلَّا بالصّغار وفي تسليطه على إقامة الحدّ منافاةٌ لذلك.
وقال ابن العربيّ: في قول مالك إن كانت الأمة ذات زوج لَم يحدّها الإمام من أجل أنّ للزّوج تعلقاً بالفرج في حفظه عن النّسب الباطل والماء الفاسد، لكنّ حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم أولى أن يتّبع، يعني: حديث عليّ المذكور الدّالّ على التّعميم في ذات الزّوج وغيرها. وقد وقع في بعض طرقه " من أحصن منهم ومن لَم يحصن ".
قوله: (ثمّ بيعوها ولو بضفيرٍ) بفتح الضّاد المعجمة غير المشالة ثمّ فاء ، أي: المضفور فعيل بمعنى مفعول.
وأصل الضّفر نسج الشّعر وإدخال بعضه في بعض ، ومنه ضفائر شعر الرّأس للمرأة وللرّجل.
قيل: لا يكون مضفوراً إلَّا إن كان من ثلاث.
وقيل: شرطه أن يكون عريضاً. وفيه نظر.
زاد يونس وابن أخي الزّهريّ والزّبيديّ ويحيى بن سعيد كلّهم عن
ابن شهاب عند النّسائيّ " والضّفير الحبل " وهكذا أخرجه عن قتيبة عن مالك.
وزادها عمّار بن أبي فروة عن محمّد بن مسلم - وهو ابن شهاب الزّهريّ - عند النّسائيّ وابن ماجه، لكن خالف في الإسناد فقال: إنّ محمّد بن مسلم حدّثه ، أنّ عروة وعمرة حدّثاه ، أنّ عائشة حدّثته أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا زنت الأمة فاجلدوها. وقال في آخره: ولو بضفيرٍ. والضّفير الحبل.
وقوله " والضّفير الحبل " مُدرج في هذا الحديث من قول الزّهريّ ، على ما بيّن في رواية القعنبيّ عن مالك ، عند مسلم وأبي داود. فقال في آخره ، قال ابن شهاب: والضّفير الحبل. وكذلك ذكره الدّارقطنيّ في " الموطّآت " منسوباً لجميع من روى الموطّأ إلَّا ابن مهديّ ، فإنّ ظاهر سياقه أنّه أدرجه أيضاً.
ومنهم: من لَم يذكر قوله " والضّفير الحبل " كما في رواية الباب. ووقع في رواية المقبريّ " ولو بحبلٍ من شعر "
قوله: (قال ابن شهاب) هو موصول بالسّند المذكور.
قوله: (لا أدري بعد الثّالثة أو الرّابعة) لَم يختلف في رواية مالك في هذا، وكذا في رواية صالح بن كيسان وابن عيينة، وكذا في رواية يونس والزّبيديّ عن الزّهريّ عند النّسائيّ، وكذا في رواية معمر عند مسلم.
وأدرجه في رواية يحيى بن سعيد عند النّسائيّ ، ولفظه " ثمّ إن زنت
فاجلدوها ، ثمّ بيعوها ولو بضفيرٍ بعد الثّالثة أو الرّابعة " ولَم يقل ، قال ابن شهاب ، وعن قتيبة عن مالك كذلك. وأُدرج أيضاً في رواية محمّد بن أبي فروة عن الزّهريّ في حديث عائشة. عند النّسائيّ. والصّواب التّفصيل.
وأمّا الشّكّ في الثّالثة أو في الرّابعة.
فوقع في حديث أبي صالح عن أبي هريرة عند التّرمذيّ " فليجلدها ثلاثاً ، فإن عادت فليبعها " ونحوه في مرسل عكرمة عند أبي قرّة بلفظ " وإذا زنت الرّابعة فبيعوها " ، ووقع في رواية سعيد المقبريّ عن أبي هريرة عند البخاري " ثمّ إن زنت الثّالثة فليبعها ".
ومحصّل الاختلاف. هل يجلدها في الرّابعة قبل البيع ، أو يبيعها بلا جلدٍ؟.
والرّاجح الأوّل ، ويكون سكوت من سكت عنه للعلم بأنّ الجلد لا يترك ولا يقوم البيع مقامه.
ويمكن الجمع: بأنّ البيع يقع بعد المرّة الثّالثة في الجلد ، لأنّه المحقّق فيلغى الشّكّ، والاعتماد على الثّلاث في كثير من الأمور المشروعة.
وفي الحديث أنّ الزّنا عيبٌ يردّ به الرّقيق للأمر بالحطّ من قيمة المرقوق إذا وجد منه الزّنا، كذا جزم به النّوويّ تبعاً لغيره.
وتوقّف فيه ابن دقيق العيد لجواز أن يكون المقصود الأمر بالبيع ، ولو انحطّت القيمة ، فيكون ذلك متعلقاً بأمرٍ وجوديّ لا إخباراً عن
حكم شرعيّ ، إذ ليس في الخبر تصريح بالأمر من حطّ القيمة.
وروى سعيد بن منصور من طريق ابن سيرين ، أنّ رجلاً اشترى من رجلٍ جاريةً كانت فَجَرتْ ، ولَم يعلم بذلك المشتري، فخاصمه إلى شُرْيح ، فقال: إن شاء ردّ من الزّنا. وإسناده صحيح.
وفيه أنّ من زنى فأقيم عليه الحدّ ثمّ عاد أعيد عليه، بخلاف من زنى مراراً فإنّه يكتفى فيه بإقامة الحدّ عليه مرّة واحدة على الرّاجح.
وفيه الزّجر عن مخالطة الفسّاق ومعاشرتهم ، ولو كانوا من الألزام إذا تكرّر زجرهم ولَم يرتدعوا ، ويقع الزّجر بإقامة الحدّ فيما شرع فيه الحدّ وبالتّعزير فيما لا حدّ فيه.
وفيه. جواز عطف الأمر المقتضي للنّدب على الأمر المقتضي للوجوب ، لأنّ الأمر بالجلد واجب ، والأمر بالبيع مندوب عند الجمهور خلافاً لأبي ثور وأهل الظّاهر.
وادّعى بعض الشّافعيّة ، أنّ سبب صرف الأمر عن الوجوب أنّه منسوخ، وممّن حكاه ابن الرّفعة في المطلب. ويحتاج إلى ثبوت.
وقال ابن بطّال: حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحضّ على مساعدة من تكرّر منه الزّنا ، لئلا يظنّ بالسّيّد الرّضا بذلك ، ولِمَا في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزّنا.
قال: وحمله بعضهم على الوجوب ، ولا سلف له من الأمّة فلا يستقل به، وقد ثبت النّهي عن إضاعة المال ، فكيف يجب بيع الأمة ذات القيمة بحبلٍ من شعر لا قيمة له؟ فدلَّ على أنّ المراد الزّجر عن
معاشرة من تكرّر منه ذلك.
وتعقّب: بأنّه لا دلالة فيه على بيع الثّمين بالحقير ، وإن كان بعضهم قد استدل به على جواز بيع المطلق التّصرّف ماله بدون قيمته ، ولو كان بما يتغابن بمثله إلَّا أنّ قوله " ولو بحبلٍ من شعر " لا يراد به ظاهره ، وإنّما ذُكِر للمبالغة كما وقع في حديث " من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة " على أحد الأجوبة، لأنّ قدر المفحص لا يسع أن يكون مسجداً حقيقة، فلو وقع ذلك في عين مملوكة لمحجورٍ فلا يبيعها وليّه إلَّا بالقيمة.
ويحتمل: أن يطّرد ، لأنّ عيب الزّنا تنقص به القيمة عند كلّ أحد ، فيكون بيعها بالنّقصان بيعاً بثمن المثل ، نبّه عليه القاضي عياض ومن تبعه.
وقال ابن العربيّ: المراد من الحديث الإسراع بالبيع وإمضاؤه ولا يتربّص به طلب الرّاغب في الزّيادة، وليس المراد بيعه بقيمة الحبل حقيقة.
وفيه أنّه يجب على البائع أن يعلم المشتري بعيب السّلعة ، لأنّ قيمتها إنّما تنقص مع العلم بالعيب. حكاه ابن دقيق العيد، وتعقّبه: بأنّ العيب لو لَم يعلم له تنقص القيمة فلا يتوقّف على الإعلام.
واستشكل الأمر ببيع الرّقيق إذا زنى ، مع أنّ كلّ مؤمن مأمور أن يرى لأخيه ما يرى لنفسه، ومن لازم البيع أن يوافق أخاه المؤمن على أن يقتني ما لا يرضى اقتناءه لنفسه.
وأجيب: بأنّ السّبب الذي باعه لأجله ليس محقّق الوقوع عند المشتري ، لجواز أن يرتدع الرّقيق إذا علم أنّه متى عاد أخرج ، فإنّ الإخراج من الوطن المألوف شاقّ، ولجواز أن يقع الإعفاف عند المشتري بنفسه أو بغيره.
قال ابن العربيّ: يرجى عند تبديل المحلّ تبديل الحال، ومن المعلوم أنّ للمجاورة تأثيراً في الطّاعة وفي المعصية.
وقال ابن بطّال: فائدة الأمر ببيع الأمة الزّانية المبالغة في تقبيح فعلها، والإعلام بأنّ الأمة الزّانية لا جزاء لها إلَّا البيع أبداً، وأنّها لا تبقى عند سيّد زجراً لها عن معاودة الزّنا، ولعلَّ ذلك يكون سبباً لإعفافها إمّا أن يزوّجها المشتري أو يعفّها بنفسه أو يصونها بهيبته.
قال النّوويّ: وفيه أنّ الزّاني إذا حدّ ثمّ زنى لزمه حدٌّ آخر ثمّ كذلك أبداً، فإذا زنى مرّات ولَم يحدّ فلا يلزمه إلَّا حدٌّ واحدٌ.
قلت: من قوله " فإذا زنى " ابتداء كلام قاله لتكميل الفائدة ، وإلا فليس في الحديث ما يدلّ عليه إثباتاً ولا نفياً. بخلاف الشّقّ الأوّل فإنّه ظاهر.
وفيه إشارة إلى أنّ العقوبة في التّعزيرات إذا لَم يفد مقصودها من الزّجر لا يفعل ، لأنّ إقامة الحدّ واجبة، فلمّا تكرّر ذلك ولَم يفد عدل إلى ترك شرط إقامته على السّيّد وهو الملك، ولذلك قال " بيعوها " ولَم يقل: اجلدوها كلما زنت، ذكره ابن دقيق العيد.
وقال: قد تعرّض إمام الحرمين لشيءٍ من ذلك فقال: إذا علم
المعزّر في أنّ التّأديب لا يحصل إلَّا بالضّرب المبرّح فليتركه ، لأنّ المبرّح يهلك وليس له الإهلاك، وغير المبرّح لا يفيد.
قال الرّافعيّ: وهو مبنيّ على أنّ الإمام لا يجب عليه تعزير من يستحقّ التّعزير، فإن قلنا يجب التحق بالحدّ فليعزّره بغير المبرّح. وإن لَم ينزجر.
وفيه أنّ السّيّد يقيم الحدّ على عبده وإن لَم يستأذن السّلطان.
ويؤخذ من الحديث جواز بيع المدبّر في الجملة، ووجه عموم الأمر ببيع الأَمَة إذا زنت، فيشمل ما إذا كانت مدبّرة أو غير مدبّرة (1)
واستنبطوا من قوله " فليبعها "(2) أنّ المقصود من النّفي الإبعاد عن الوطن الذي وقعت فيه المعصية وهو حاصل بالبيع.
وقال ابن بطّال: وجه الدّلالة أنّه قال " فليجلدها " وقال " فليبعها " فدلَّ على سقوط النّفي ، لأنّ الذي ينفى لا يقدر على تسليمه إلَّا بعد مدّة فأشبه الآبق.
قلت: وفيه نظر. لجواز أن يتسلمه المشتري مسلوب المنفعة مدّة النّفي، أو يتّفق بيعه لمن يتوجّه إلى المكان الذي يصدق عليه وجود النّفي.
وقال ابن العربيّ: تستثنى الأمة لثبوت حقّ السّيّد فيقدّم على حقّ
(1) أورد البخاري حديث الباب وغيرَه في كتاب البيوع. وبوَّب عليه: باب بيع المدبَّر.
وسيأتي الكلام إن شاء الله مستوفى عن حكم بيع المدبّر آخر الكتاب. في كتاب العتق.
(2)
هذه الرواية ليست في حديث زيد بن خالد وأبي هريرة حديث الباب ، وإنما جاءت من رواية المقبري عن أبي هريرة في الصحيحين كما تقدَّم ذكره.
الله، وإنّما لَم يسقط الحدّ لأنّه الأصل والنّفي فرع.
قلت: وتمامه أن يقال: روعي حقّ السّيّد فيه أيضاً بترك الرّجم ، لأنّه فوّت المنفعة من أصلها بخلاف الجلد، واستمرّ نفي العبد إذ لا حقّ للسّيّد في الاستمتاع به.
واستدل من استثنى نفي الرّقيق ، بأنّه لا وطن له وفي نفيه قطع حقّ السّيّد ، لأنّ عموم الأمر بنفي الزّاني عارضه عموم نهي المرأة عن السّفر بغير المحرم.
وهذا خاصّ بالإماء من الرّقيق دون الذّكور ، وبه احتجّ مَن قال: لا يشرع نفي النّساء مطلقاً.
واختلَفَ مَن قال بنفي الرّقيق.
فالصّحيح نصف سنة.
وفي وجه ضعيف عند الشّافعيّة سنة كاملة.
وفي ثالثٍ ، لا نفي على رقيق ، وهو قول الأئمّة الثّلاثة والأكثر.