المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الرابع 353 - عن أبي هريرة رضي الله عنه ، - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٦

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب العدّة

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌كتاب اللّعان

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌كتاب الرّضاع

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب القسامة

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

الفصل: ‌ ‌الحديث الرابع 353 - عن أبي هريرة رضي الله عنه ،

‌الحديث الرابع

353 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه قال: أتى رجلٌ من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه، فقال: يا رسولَ الله، إني زنيت فأعرض عنه، فتنحّى تلقاءَ وجهِه، فقال: يا رسولَ الله، إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثَنّى ذلك عليه أربع مراتٍ، فلمَّا شهد على نفسه أربع شهاداتٍ، دعاه رسول الله، فقال: أبكَ جُنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنتَ؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه.

قال ابن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كنتُ فيمن رجمه، فرجمناه بالمُصلَّى. فلمَّا أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرّة، فرجمناه. (1)

قال المصنِّف: الرَّجل هو ماعز بن مالكٍ، روى قصّته جابر بن سمرة، وعبد الله بن عباسٍ، وأبو سعيدٍ الخدريّ، وبريدة بن الحصيب الأسلميّ رضي الله عنهم.

قوله: (عن أبي هريرة) رواه عنه أبو سلمة وسعيد بن المسيّب ، وهي رواية يحيى بن بكير عن الليث عند البخاري، ووافقه شعيب بن الليث عن أبيه عند مسلم، ورواه البخاري من رواية سعيد بن عفير

(1) أخرجه البخاري (4970 ، 6430 ، 6439 ، 6747) ومسلم (1691) من طرق عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه البخاري (4969 ، 6429 ، 6434) ومسلم (1691) من طرق عن الزهري عن أبي سلمة وحده عن جابر رضي الله عنه. وسيذكر الشارح تفصي ذلك.

ص: 406

عن الليث عن عبد الرّحمن بن خالد عن ابن شهاب.

وجمعها مسلم ، فوصل رواية عقيل ، وعلَّق رواية عبد الرّحمن ، فقال بعد رواية الليث عن عقيل: ورواه الليث أيضاً عن عبد الرّحمن بن خالد.

قلت: ورواه معمر ويونس وابن جريجٍ عن ابن شهاب عن أبي سلمة وحده عن جابر، وجمع مسلمٌ هذه الطّرق. وأحال بلفظها على رواية عقيل.

ورواه البخاريّ من رواية معمر، وعلَّق طرفاً منه ليونس وابن جريجٍ ، ووصل رواية يونس قبل هذا.

وأمّا رواية ابن جريجٍ ، فوصلها مسلم عن إسحاق بن راهويه عن عبد الرّزّاق عن معمر وابن جريجٍ معاً، ووقعت لنا بعلوٍّ في " مستخرج أبي نعيم " من رواية الطّبرانيّ عن الفربريّ عن عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ وحده.

قوله: (أتى رجلٌ) زاد ابن مسافر (1) في روايته " من النّاس " وفي رواية يونس ومعمر " أنّ رجلاً من أسلم ".

وفي حديث جابر بن سمرة عند مسلم " رأيت ماعز بن مالك الأسلميّ حين جيء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ، وفيه " رجلٌ قصيرٌ أعضل ليس عليه رداء " وفي لفظ " ذو عضلات " بفتح المهملة ثمّ

(1) ابن مسافر. هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الذي تقدّم ذكره قبل قليل نُسب إلى جدّه.

ص: 407

المعجمة.

قال أبو عبيدة: العضلة ما اجتمع من اللحم في أعلى باطن السّاق.

وقال الأصمعيّ: كلّ عصبة مع لحم فهي عضلة.

وقال ابن القطّاع: العضلة لحم السّاق والذّراع وكلّ لحمة مستديرة في البدن ، والأعضل الشّديد الخلق ، ومنه أعضل الأمر إذا اشتدّ، لكن دلت الرّواية الأخرى على أنّ المراد به هنا كثير العضلات.

قوله: (إني زنيت) وللبخاري " يا رسولَ الله: إن الأَخِرَ قد زنى. يعني: نفسه " أي: أنّه لَم يجئ مستفتياً لنفسه ولا لغيره ، وإنّما جاء مقرّاً بالزّنا ليفعل معه ما يجب عليه شرعاً.

وقوله " الأَخِر " بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة ، أي: المتأخّر عن السّعادة ، وقيل: معناه الأرذل.

قوله: (فأعرض عنه فتنحّى تلقاء وجهه) أي: انتقل من النّاحية التي كان فيها إلى النّاحية التي يستقبل بها وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية ابن مسافر " فتنحّى لشقّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعرض قِبله " بكسر القاف وفتح الموحّدة،، وتلقاء منصوب على الظّرفيّة ، وأصله مصدرٌ أقيم مقام الظّرف ، أي: مكان تلقاء فحذف مكان قبل.

وليس من المصادر تفعال بكسر أوّله إلَّا هذا ، وتبيان وسائرها بفتح أوّله، وأمّا الأسماء بهذا الوزن فكثيرة.

قوله: (حتّى ثنَّى ذلك عليه) وهو بمثلثةٍ بعدها نون خفيفة. أي:

ص: 408

كرّر، وفي رواية يحيى بن بكير عن الليث " حتّى ردّد ".

وفي حديث بريدة عند مسلم " قال: ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه. فرجع غير بعيد ثمّ جاء فقال: يا رسولَ الله طهّرني. وفي لفظ " فلمّا كان من الغد أتاه ".

ووقع في مرسل سعيد بن المسيّب عند مالك والنّسائيّ من رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ عن سعيد ، أنّ رجلاً من أسلم ، قال لأبي بكر الصّدّيق: إنّ الأَخِر زنى، قال: فتب إلى الله ، واستتر بستر الله. ثمّ أتى عمر كذلك ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعرض عنه ثلاث مرّات، حتّى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله.

قوله: (فلمّا شهِد على نفسه أربع شهادات) في رواية للشيخين " أربع مرّات " وفي رواية بريدة المذكورة " حتّى إذا كانت الرّابعة ، قال: فبِمَ أطهّرك؟ " وفي حديث جابر بن سمرة من طريق أبي عوانة عن سماك " فشهد على نفسه أربع شهادات " أخرجه مسلم.

وأخرجه من طريق شعبة عن سماك قال " فردّه مرّتين " وفي أخرى " مرّتين أو ثلاثاً " قال شعبة: قال سماك: فذكرته لسعيد بن جبير ، فقال: إنّه ردّه أربع مرّات ، ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم أيضاً " فاعترف بالزّنا ثلاث مرّات ". والجمع بينها.

أمّا رواية مرّتين:

فتحمل على أنّه اعترف مرّتين في يوم ، ومرّتين في يوم آخر لِمَا يشعر به قول بريدة " فلمّا كان من الغد " فاقتصر الرّاوي على أحدهما.

ص: 409

أو مراده اعترف مرّتين في يومين فيكون من ضرب اثنين في اثنين. وقد وقع عند أبي داود من طريق إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: جاء ماعز بن مالك إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاعترف بالزّنا مرّتين فطرده، ثمّ جاء فاعترف بالزّنا مرّتين.

وأمّا رواية الثّلاث: فكأنّ المراد الاقتصار على المرّات التي ردّه فيها.

وأمّا الرّابعة: فإنّه لَم يردّه بل استثبت فيه ، وسأل عن عقله.

لكن وقع في حديث أبي هريرة عند أبي داود من طريق عبد الرّحمن بن الصّامت ، ما يدلّ على أنّ الاستثبات فيه إنّما وقع بعد الرّابعة. ولفظه " جاء الأسلميّ ، فشهد على نفسه أنّه أصاب امرأة حراماً أربع مرّات ، كلّ ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل في الخامسة فقال: تدري ما الزّاني " إلى آخره.

والمراد بالخامسة: الصّفة التي وقعت منه عند السّؤال والاستثبات، لأنّ صفة الإعراض وقعت أربع مرّات ، وصفة الإقبال عليه للسّؤال وقعت بعدها.

قوله: (فقال: أبك جنون؟ قال: لا) في رواية شعيب عند البخاري " وهل بك جنون؟ " وفي حديث بريدة " فسأل أبه جنون؟ ، فأخبر بأنّه ليس بمجنونٍ " وفي لفظ " فأرسل إلى قومه ، فقالوا: ما نعلمه إلَّا وفيّ العقل من صالحينا ".

وفي حديث أبي سعيد " ثمّ سأل قومه ، فقالوا: ما نعلم به بأساً ، إلَّا أنّه أصاب شيئاً يرى أنّه لا يخرج منه إلَّا أن يقام فيه الحدّ لله ".

ص: 410

وفي مرسل أبي سعيد " بعث إلى أهله. فقال: أشتكى به جِنّة؟ فقالوا: يا رسولَ الله إنّه لصحيح ".

ويجمع بينهما: بأنّه سأله ثمّ سأل عنه احتياطاً، فإنّ فائدة سؤاله أنّه لو ادّعى الجنون لكان في ذلك دفع لإقامة الحدّ عليه حتّى يظهر خلاف دعواه، فلمّا أجاب بأنّه لا جنون به سأل عنه لاحتمال أن يكون كذلك ولا يعتدّ بقوله.

ومعنى الاستفهام. هل كان بك جنون ، أو هل تجنّ تارة وتفيق تارة؟ ، وذلك أنّه كان حين المخاطبة مفيقاً.

ويحتمل: أن يكون وجّه له الخطاب ، والمراد استفهام من حضر ممّن يعرف حاله ، وعند أبي داود من طريق نعيم بن هزّال قال: كان ماعز بن مالك يتيماً في حجر أبي ، فأصاب جارية من الحيّ، فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك ، ورجاء أن يكون له مخرج " فذكر الحديث.

قال عياض: فائدة سؤاله أبك جنون ، ستراً لحاله واستبعاد أن يلحّ عاقلٌ بالاعتراف بما يقتضي إهلاكه، ولعله يرجع عن قوله، أو لأنّه سمعه وحده، أو ليتمّ إقراره أربعاً عند من يشترطه. وأمّا سؤاله قومه عنه بعد ذلك ، فمبالغة في الاستثبات.

وتَعقّب بعضُ الشّرّاح قوله " أو لأنّه سمعه وحده ": بأنّه كلام ساقط ، لأنّه وقع في نفس الخبر أنّ ذلك كان بمحضر الصّحابة في المسجد.

ص: 411

قلت: ويردّ بوجهٍ آخر ، وهو أنّ انفراده صلى الله عليه وسلم بسماع إقرار المقرّ كافٍ في الحكم عليه بعلمه اتّفاقاً ، إذ لا ينطق عن الهوى، بخلاف غيره ، ففيه احتمال.

قوله: (قال: فهل أحصنت) أي: تزوّجت، هذا معناه جزماً هنا، لافتراق الحكم في حدّ من تزوّج ومن لَم يتزوّج.

والإحصان ، يأتي بمعنى العفّة والتّزويج والإسلام والحرّيّة ، لأنّ كلاً منها يمنع المكلَّف من عمل الفاحشة.

قال ابن القطّاع: رجل محصِن بكسر الصّاد على القياس ، وبفتحها على غير قياس.

قلت: يمكن تخريجه على القياس، وهو أنّ المراد هنا من له زوجة عقد عليها ودخل بها وأصابها ، فكأنّ الذي زوّجها له أو حمله على التّزويج بها ، ولو كانت نفسه أحصنه. أي: جعله في حصن من العفّة ، أو منعه من عمل الفاحشة.

وقال الرّاغب: يقال للمتزوّجة محصنة ، أي: أنّ زوجها أحصنها، ويقال: امرأة محصن بالكسر إذا تصوّر حصنها من نفسها، وبالفتح إذا تصوّر حصنها من غيرها.

قال ابن المنذر: أجمعوا على أنّه لا يكون الإحصان بالنّكاح الفاسد ولا الشّبهة، وخالفهم أبو ثور فقال: يكون محصناً.

واحتجّ: بأنّ النّكاح الفاسد يعطى أحكام الصّحيح في تقدير المهر ووجوب العدّة ، ولحوق الولد ، وتحريم الرّبيبة.

ص: 412

وأجيب: بعموم " ادرءوا الحدود ".

قال: وأجمعوا على أنّه لا يكون بمجرّد العقد محصناً، واختلفوا إذا دخل بها ، وادّعى أنّه لَم يصبها قال: حتّى تقوم البيّنة أو يوجد منه إقرار أو يعلم له منها واحد.

وعن بعض المالكيّة ، إذا زنى أحد الزّوجين.

واختلفوا في الوطء لَم يصدّق الزّاني ، ولو لَم يمض لهما إلَّا ليلة ، وأمّا قبل الزّنا ، فلا يكون محصناً ، ولو أقام معها ما أقام.

واختلفوا إذا تزوّج الحرُّ أمةً هل تحصنه؟.

القول الأول: قال الأكثر: نعم.

القول الثاني: عن عطاء والحسن وقتادة والثّوريّ والكوفيّين وأحمد وإسحاق: لا.

واختلفوا إذا تزوّج كتابيّة.

القول الأول: قال إبراهيم وطاوسٌ والشّعبيّ: لا تحصنه، وعن الحسن: لا تحصنه حتّى يطأها في الإسلام، أخرجهما ابن أبي شيبة.

القول الثاني: عن جابر بن زيد وابن المسيّب تحصنه، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير.

وقال ابن بطّال: أجمع الصّحابة وأئمّة الأمصار ، على أنّ المحصن إذا زنى عامداً عالماً مختاراً فعليه الرّجم.

ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة ، واعتلُّوا بأنّ الرّجم لَم يذكر في القرآن، وحكاه ابن العربيّ عن طائفة من أهل المغرب لقيهم ، وهم

ص: 413

من بقايا الخوارج.

واحتجّ الجمهور: بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم ، وكذلك الأئمّة بعده، ولذلك أشار عليّ رضي الله عنه بقوله في البخاري: ورجمتها بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

وثبت في صحيح مسلم عن عبادة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: خذوا عنّي، قد جعل الله لهنّ سبيلاً. الثّيّب بالثّيّب الرّجم.

وفي الصحيحين من حديث عمر ، أنّه خطب فقال: إنّ الله بعث محمّداً بالحقّ وأنزل عليه القرآن ، فكان ممّا أنزل آية الرّجم.

قال ابن التّين: محلّ مشروعيّة سؤال المقرّ بالزّنا عن ذلك إذا كان لَم يعلم أنّه تزوّج تزويجاً صحيحاً ودخل بها، فأمّا إذا علم إحصانه فلا يسأل عن ذلك.

ثمّ حكى عن المالكيّة تفصيلاً فيما إذا علم أنّه تزوّج ، ولَم يسمع منه إقراراً بالدّخول.

فقيل: من أقام مع الزّوجة ليلة واحدة لَم يقبل إنكاره.

وقيل: أكثر من ذلك. وهل يحدّ حدّ الثّيّب أو البكر؟

الثّاني أرجح، وكذا إذا اعترف الزّوج بالإصابة.

(1) صحيح البخاري (6812) عن سلمة بن كهيل قال: سمعت الشعبي يحدث عن عليٍّ رضي الله عنه حين رجم المرأة يوم الجمعة ، وقال: قد رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم "

قال الحافظ في " الفتح ": زاد علي بن الجعد " وجلدتها بكتاب الله " زاد إسماعيل بن سالم في أوله عن الشعبي " قيل لعلي: جمعتَ حدين " فذكره. وفي رواية عبد الرزاق " أجلدها بالقرآن وأرجمها بالسنة " قال الشعبي: وقال أبيُّ بن كعب مثل ذلك

ص: 414

ثمّ قال: إنّما اعترفت بذلك لأملك الرّجعة أو اعترفت المرأة ثمّ قالت: إنّما فعلت ذلك لأستكمل الصّداق، فإنّ كلاً منهما يحدّ حدّ البكر. انتهى.

وعند غيرهم يرفع الحدّ أصلاً. ونقل الطّحاويّ عن أصحابهم ، أنّ مَن قال لآخر: يا زاني ، فصدّقه ، أنّه يجلد القائل ، ولا يحدّ المصدّق، وقال زفر: بل يحدّ.

قلت: وهو قول الجمهور.

ورجّح الطّحاويّ قولَ زفر، واستدل بحديث الباب وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لماعزٍ: أحقٌّ ما بلغني عنك أنّك زنيت؟ قال: نعم، فحدّه (1).

قال: وباتّفاقهم على أنّ مَن قال لآخر: لي عليك ألف ، فقال: صدقت ، أنّه يلزمه المال.

قوله: (قال: نعم) زاد في حديث بريدة قبل هذا " أشربت خمراً؟ قال: لا. وفيه: فقام رجل فاستنكهه ، فلم يجد منه ريحاً ".

وزاد في حديث ابن عبّاس عند البخاري " لعلك قبّلت أو غمزت - بمعجمةٍ وزاي - أو نظرت - أي: فأطلقت على كلّ ذلك زناً ، ولكنّه لا حدّ في ذلك - قال: لا ". وفي حديث نعيم " فقال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم ".

وفي حديث ابن عبّاس المذكور " فقال: أنكتها؟ " لا يكني بفتح

(1) هذه الرواية أخرجها مسلم في الصحيح (1693) عن ابن عبّاس رضي الله عنه.

ص: 415

التّحتانيّة وسكون الكاف من الكناية ، أي: أنّه ذكر هذا اللفظ صريحاً ، ولَم يكن عنه بلفظٍ آخر كالجماع.

ويحتمل: أن يجمع بأنّه ذكر بعد ذكر الجماع ، بأنّ الجماع قد يحمل على مجرّد الاجتماع، وفي حديث أبي هريرة المذكور " أنكتها؟ قال: نعم. قال: حتّى دخل ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرّشاء في البئر؟ قال: نعم. قال: تدري ما الزّنا قال: نعم؟ أتيت منها حراماً ما يأتي الرّجل من امرأته حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهّرني، فأمر به فرُجم ".

وقبله عند النّسائيّ هنا " هل أدخلته وأخرجته؟ قال: نعم ".

قوله: (اذهبوا به فارجموه) استدل به على الاكتفاء بالرّجم في حدّ من أحصن من غير جلد.

القول الأول: قال الحازميّ: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن المنذر ، إلى أنّ الزّاني المحصن يجلد ثمّ يرجم.

القول الثاني: قال الجمهور - وهي رواية عن أحمد أيضاً - لا يجمع بينهما، وذكروا أنّ حديث عبادة منسوخ يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ " الثّيّب بالثّيّب جلد مائة والرّجم ، والبكر بالبكر جلد مائة والنّفي ".

والنّاسخ له ما ثبت في قصّة ماعز ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجمه ولَم يذكر الجلد.

قال الشّافعيّ: فدلّت السّنّة على أنّ الجلد ثابت على البكر وساقط

ص: 416

عن الثّيّب.

والدّليل على أنّ قصّة ماعز متراخية عن حديث عبادة ، أنّ حديث عبادة ناسخ لِمَا شرع أوّلاً من حبس الزّاني في البيوت ، فنسخ الحبس بالجلد وزيد الثّيّب الرّجم، وذلك صريح في حديث عبادة، ثمّ نسخ الجلد في حقّ الثّيّب، وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصّة ماعز على الرّجم ، وذلك في قصّة الغامديّة والجهنيّة واليهوديّين لَم يذكر الجلد مع الرّجم.

وقال ابن المنذر: عارض بعضهم الشّافعيّ ، فقال: الجلد ثابت في كتاب الله والرّجم ثابت بسنّة رسول الله كما قال عليّ، وقد ثبت الجمع بينهما في حديث عبادة ، وعمل به عليٌّ ووافقه أُبيّ، وليس في قصّة ماعز ومن ذكر معه تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم ، لاحتمال أن يكون ترك ذكره لوضوحه ، ولكونه الأصل فلا يردّ ما وقع التّصريح به بالاحتمال.

وقد احتجّ الشّافعيّ بنظير هذا ، حين عورض إيجابه العمرة ، بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من سأله أن يحجّ عن أبيه (1) ولَم يذكر العمرة.

فأجاب الشّافعيّ: بأنّ السّكوت عن ذلك لا يدلّ على سقوطه، قال: فكذا ينبغي أن يجاب هنا.

(1) أخرجه البخاري (1513) ومسلم (3315) عن ابن عباس رضي الله عنه ، أنَّ امرأة ، قالت: يا رسول الله. إنَّ فريضة الله على عباده في الحج أدركتْ أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع

ص: 417

قلت: وبهذا ألزم الطّحاويّ أيضاً الشّافعيّة.

ولهم أن ينفصلوا ، لكن في بعض طرقه " حجّ عن أبيك واعتمر "(1) فالتّقصير في ترك ذكر العمرة من بعض الرّواة.

وأمّا قصّة ماعز ، فجاءت من طرق متنوّعة بأسانيد مختلفة ، لَم يذكر في شيء منها أنّه جُلد، وكذلك الغامديّة والجهنيّة وغيرهما، وقال في ماعز " اذهبوا فارجموه " وكذا في حقّ غيره. ولَم يذكر الجلد، فدلَّ ترك ذكره على عدم وقوعه ، ودلَّ عدم وقوعه على عدم وجوبه.

القول الثالث: من المذاهب المستغربة ، ما حكاه ابن المنذر وابن حزم عن أُبيّ بن كعب، زاد ابن حزم: وأبي ذرّ ، وابن عبد البرّ ، عن مسروق ، أنّ الجمع بين الجلد والرّجم خاصّ بالشّيخ والشّيخة، وأمّا الشّابّ فيجلد إن لَم يحصن ويرجم إن أحصن فقط.

وحجّتهم في ذلك ، حديث " الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة "(2).

وقال عياض: شذّت فرقةٌ من أهل الحديث ، فقالت: الجمع على الشّيخ الثّيّب دون الشّابّ. ولا أصل له.

وقال النّوويّ: هو مذهبٌ باطلٌ.

(1) أخرجه الترمذي (930) وأبو داود (1810) والنسائي (2621) وابن ماجه (2906) وأحمد (16184) من حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن ، قال: حجَّ عن أبيك واعتمر. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 418

كذا قاله ، ونفى أصله ووصفه بالبطلان. إن كان المراد به طريقه ، فليس بجيّدٍ ، لأنّه ثابت ، وإن كان المراد دليله ، ففيه نظرٌ أيضاً ، لأنّ الآية وردت بلفظ " الشّيخ " ففهم هؤلاء من تخصيص الشّيخ بذلك ، أنّ الشّابّ أعذر منه في الجملة، فهو معنىً مناسب.

وفيه جمع بين الأدلة ، فكيف يوصف بالبطلان؟!.

قوله: (قال ابن شهاب) هو موصول بالسّند المذكور.

قوله: (فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله) وللشيخين من رواية عقيل وشعيب عن الزهري " أخبرني من سمع جابر بن عبد الله " صرَّح يونس ومعمر في روايتهما بأنه أبو سلمة بن عبد الرحمن ، فكأنّ الحديث كان عند أبي سلمة عن أبي هريرة ، كما عند سعيد بن المسيّب ، وعنده زيادة عليه عن جابر.

قوله: (فكنت فيمن رجمه ، فرجمناه بالمُصلَّى) في رواية معمر " فأمر به فرجم بالمُصلَّى " وفي حديث أبي سعيد " فما أوثقناه ولا حفرنا له ، قال: فرميناه بالعظام والمدر والخزف " بفتح المعجمة والزّاي وبالفاء ، وهي الآنية التي تتّخذ من الطّين المشويّ. وكأنّ المراد ما تكسّر منها.

وقوله: (بالمُصلَّى) أي: عنده. والمراد المكان الذي كان يُصلِّي عنده العيد والجنائز، وهو من ناحية بقيع الغرقد، وقد وقع في حديث أبي سعيد عند مسلم " فأمرنا أن نرجمه، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد ".

وفهم بعضهم كعياضٍ من قوله " بالمُصلَّى " أنّ الرّجم وقع داخله.

ص: 419

وقال: يستفاد منه أنّ المُصلَّى لا يثبت له حكم المسجد ، إذ لو ثبت له ذلك لاجتنب الرّجم فيه ، لأنّه لا يؤمن التّلويث من المرجوم ، خلافاً لِمَا حكاه الدّارميّ ، أنّ المُصلَّى يثبت له حكم المسجد ولو لَم يوقف.

وتعقّب: بأنّ المراد أنّ الرّجم وقع عنده لا فيه كما سيأتي في البلاط (1)، وأنّ في حديث ابن عبّاس ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديّين عند باب المسجد. وفي رواية موسى بن عقبة ، أنّهما رجما قريباً من موضع الجنائز قرب المسجد.

وبأنّه ثبت في حديث أمّ عطيّة الأمر بخروج النّساء حتّى الحيّض في العيد إلى المُصلَّى (2) وهو ظاهر في المراد. والله أعلم.

وقال النّوويّ: ذكر الدّارميّ من أصحابنا ، أنّ مصلَّى العيد وغيره إذا لَم يكن مسجداً ، يكون في ثبوت حكم المسجد له وجهان ، أصحّهما لا.

وقال البخاريّ وغيره: في رجم هذا بالمُصلَّى ، دليل على أنّ مصلى الجنائز والأعياد إذا لَم يوقف مسجداً لا يثبت له حكم المسجد ، إذ لو كان له حكم المسجد ، لاجتنب فيه ما يجتنب في المسجد.

قلت: وهو كلام عياض بعينه. وليس للبخاريّ منه سوى التّرجمة.

قوله: (فلمّا أذلقته) بذالٍ معجمة وفتح اللام بعدها قاف ، أي:

(1) انظر حديث ابن عمر رضي الله عنه الآتي في قصة رجم اليهوديين برقم (308).

(2)

متفق عليه ، وقد تقدّم في العيدين رقم (150)

ص: 420

أقلقته ، وزنه ومعناه. قال أهل اللغة: الذّلق بالتّحريك القلق ، وممّن ذكره الجوهريّ.

وقال في النّهاية: أذلقته بلغت منه الجهد حتّى قلق، يقال: أذلقه الشّيء أجهده.

وقال النّوويّ: معنى أذلقته الحجارة ، أصابته بحدّها، ومنه انذلق صار له حدٌّ يقطع.

قوله: (هرب) في رواية ابن مسافر " جَمَزَ " بجيمٍ وميم مفتوحتين ثمّ زاي ، أي: وثب مسرعاً وليس بالشّديد العدو ، بل كالقفز.

ووقع في حديث أبي سعيد " فاشتدّ ، وأسند لنا خلفه ".

قوله: (فأدركناه بالحرّة ، فرجمناه) زاد معمر في روايته " حتّى مات " وفي حديث أبي سعيد " حتّى أتى عرض - بضمّ أوّله - أي جانب الحرّة، فرميناه بجلاميد الحرّة حتّى سكت ".

وعند التّرمذيّ من طريق محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة في قصّة ماعز " فلمّا وجد مسّ الحجارة فرّ يشتدّ ، حتّى مرّ برجلٍ معه لحي جمل ، فضربه ، وضربه النّاس حتّى مات ".

وعند أبي داود والنّسائيّ من رواية يزيد بن نعيم بن هزّال عن أبيه في هذه القصّة " فوجد مسّ الحجارة فخرج يشتدّ، فلقيه عبد الله بن أنيس ، وقد عجَزَ أصحابه ، فنزع له بوظيف بعير ، فرماه فقتله ".

وهذا ظاهره يخالف ظاهر رواية أبي هريرة أنّهم ضربوه معه.

لكن يجمع بأنّ قوله في هذا " فقتله " أي: كان سبباً في قتله، وقد

ص: 421

وقع في رواية للطّبرانيّ في هذه القصّة " فضرب ساقه فصرعه، ورجموه حتّى قتلوه ".

والوظيف بمعجمةٍ وزن عظيم: خفّ البعير.

وقيل: مستدقّ الذّراع والسّاق من الإبل وغيرها.

وفي حديث أبي هريرة عند النّسائيّ " فانتهى إلى أصل شجرة فتوسّد يمينه حتّى قتل ".

وللنّسائيّ من طريق أبي مالك عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذهبوا به إلى حائط يبلغ صدره ، فذهب يثب فرماه رجل فأصاب أصل أذنه ، فصُرع فقتل.

وفي هذا الحديث من الفوائد.

منقبة عظيمة لماعز بن مالك ، لأنّه استمرّ على طلب إقامة الحدّ عليه مع توبته ، ليتمّ تطهيره ، ولَم يرجع عن إقراره مع أنّ الطّبع البشريّ يقتضي أنّه لا يستمرّ على الإقرار ، بما يقتضي إزهاق نفسه ، فجاهد نفسه على ذلك وقوي عليها ، وأقرّ من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشّهادة مع وضوح الطّريق إلى سلامته من القتل بالتّوبة.

ولا يقال ، لعله لَم يعلم أنّ الحدّ بعد أن يرفع للإمام يرتفع بالرّجوع ، لأنّا نقول: كان له طريق أن يبرز أمره في صورة الاستفتاء فيعلم ما يخفى عليه من أحكام المسألة ، ويبني على ما يجاب به ويعدل عن الإقرار إلى ذلك.

ويؤخذ من قضيّته أنّه يستحبّ لمن وقع في مثل قضيّته ، أن يتوب

ص: 422

إلى الله تعالى ويستر نفسه ، ولا يذكر ذلك لأحدٍ كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز، وأنّ من اطّلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا ولا يفضحه ولا يرفعه إلى الإمام ، كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصّة " لو سترته بثوبك ، لكان خيراً لك ".

وبهذا جزم الشّافعيّ رضي الله عنه فقال: أحبّ لمن أصاب ذنباً فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب، واحتجّ بقصّة ماعز مع أبي بكر وعمر.

وقال ابن العربيّ: هذا كلّه في غير المجاهر، فأمّا إذا كان متظاهراً بالفاحشة مجاهراً فإنّي أحبّ مكاشفته ، والتّبريح به ، لينزجر هو وغيره.

وقد استشكل استحباب السّتر مع ما وقع من الثّناء على ماعز والغامديّة.

وأجاب شيخنا " في شرح التّرمذيّ " بأنّ الغامديّة كان ظهر بها الحبل مع كونها غير ذات زوج فتعذّر الاستتار للاطّلاع على ما يشعر بالفاحشة، ومن ثَمّ قيّد بعضهم ترجيح الاستتار حيث لا يكون هناك ما يشعر بضدّه ، وإن وجد فالرّفع إلى الإمام ليقيم عليه الحدّ أفضل. انتهى.

والذي يظهر. أنّ السّتر مستحبّ ، والرّفع لقصد المبالغة في التّطهير أحبّ. والعلم عند الله تعالى.

وفيه. التّثبّت في إزهاق نفس المسلم والمبالغة في صيانته ، لِمَا وقع في

ص: 423

هذه القصّة من ترديده والإيماء إليه بالرّجوع ، والإشارة إلى قبول دعواه إن ادّعى إكراهاً أو خطأً في معنى الزّنا ، أو مباشرة دون الفرج مثلاً أو غير ذلك.

وفيه مشروعيّة الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام وفي المسجد ، والتّصريح فيه بما يستحيى من التّلفّظ به من أنواع الرّفث في القول ، من أجل الحاجة الملجئة لذلك.

وفيه نداء الكبير بالصّوت العالي ، وإعراض الإمام عن من أقرّ بأمرٍ محتمل لإقامة الحدّ ، لاحتمال أن يفسّره بما لا يوجب حدّاً أو يرجع، واستفساره عن شروط ذلك ليرتّب عليه مقتضاه ، وأنّ إقرار المجنون لاغٍ، والتّعريض للمقرّ بأن يرجع ، وأنّه إذا رجع قبل.

قال ابن العربيّ: وجاء عن مالك رواية ، أنّه لا أثر لرجوعه، وحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحقّ أن يتّبع.

وفيه. أنّه يستحبّ لمن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التّوبة منها ، ولا يخبر بها أحداً ويستتر بستر الله، وإن اتّفق أنّه يخبر أحداً ، فيستحبّ أن يأمره بالتّوبة وستر ذلك عن النّاس كما جرى لماعزٍ مع أبي بكر ثمّ عمر.

وقد أخرج قصّته معهما في " الموطّأ " عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب مرسلة، ووصله أبو داود وغيره من رواية يزيد بن نعيم بن هزّال عن أبيه. وفي القصّة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهزّالٍ: لو سترته بثوبك لكان خيراً لك.

ص: 424

وفي " الموطّأ " عن يحيى بن سعيد. ذكرتُ هذا الحديث في مجلسٍ فيه يزيد بن نعيم ، فقال هزّال: جدّي جدّي ، وهذا الحديث حقٌّ.

قال الباجيّ: المعنى خيراً لك ممّا أمرته به من إظهار أمره، وكان ستره بأن يأمره بالتّوبة والكتمان كما أمره أبو بكر وعمر، وذِكْر الثّوب مبالغة ، أي: لو لَم تجد السّبيل إلى ستره إلَّا بردائك ممّن علم أمره ، كان أفضل ممّا أشرت به عليه من الإظهار.

واستدل به على اشتراط تكرير الإقرار بالزّنا أربعاً لظاهر قوله " فلمّا شهد على نفسه أربع شهادات " فإنّ فيه إشعاراً بأنّ العدد هو العلة في تأخير إقامة الحدّ عليه ، وإلَّا لأَمرَ برجمه في أوّل مرّة، ولأنّ في حديث ابن عبّاس " قال لماعزٍ: قد شهدتَ على نفسك أربع شهادات، اذهبوا به فارجموه ".

وقد تقدّم ما يؤيّده ، ويؤيّد القياس على عدد شهود الزّنا دون غيره من الحدود، وهو قول الكوفيّين والرّاجح عند الحنابلة.

وزاد ابن أبي ليلى ، فاشترط أن تتعدّد مجالس الإقرار، وهي رواية عن الحنفيّة.

وتمسّكوا بصورة الواقعة، لكنّ الرّوايات فيها اختلفت، والذي يظهر أنّ المجالس تعدّدت لكن لا بعدد الإقرار، فأكثر ما نُقل في ذلك أنّه أقرّ مرّتين ، ثمّ عاد من الغد فأقرّ مرّتين. كما تقدّم بيانه من عند مسلم.

وتأوّل الجمهور ، بأنّ ذلك وقع في قصّة ماعز ، وهي واقعة حالٍ ،

ص: 425

فجاز أن يكون لزيادة الاستثبات.

ويؤيّد هذا الجواب ما تقدّم في سياق حديث أبي هريرة ، وما وقع عند مسلم في قصّة الغامديّة حيث قالت لَمَّا جاءت: طهّرني، فقال: ويحك ارجعي فاستغفري، قالت: أراك تريد أن تردّدني كما ردّدت ماعزاً ، إنّها حُبلى من الزّنا. فلم يؤخّر إقامة الحدّ عليها إلَّا لكونها حبلى. فلمّا وضعتْ أمر برجمها ، ولَم يستفسرها مرّة أخرى ، ولا اعتبر تكرير إقرارها ، ولا تعدّد المجالس.

وكذا وقع في قصّة العسيف حيث قال: واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها. وفيه: فغدا عليها ، فاعترفت فرجمها. ولَم يذكر تعدّد الاعتراف ولا المجالس.

وتقدّم قريباً مع شرحه مستوفىً.

وأجابوا عن القياس المذكور: بأنّ القتل لا يقبل فيه إلَّا شاهدان بخلاف سائر الأموال فيقبل فيها شاهد وامرأتان، فكان قياس ذلك أن يشترط الإقرار بالقتل مرّتين، وقد اتّفقوا أنّه يكفي فيه مرّة.

فإن قلت: والاستدلال بمجرّد عدم الذّكر في قصّة العسيف وغيره فيه نظرٌ، فإنّ عدم الذّكر لا يدلّ على عدم الوقوع، فإذا ثبت كون العدد شرطاً ، فالسّكوت عن ذكره ، يحتمل أن يكون لعلم المأمور به.

وأمّا قول الغامديّة " تريد أن تردّدني كما ردّدت ماعزاً " فيمكن التّمسّك به.

لكن أجاب الطّيبيّ: بأنّ قولها " إنّها حبلى من الزّنا " فيه إشارة إلى

ص: 426

أنّ حالها مغايرة لحال ماعز، لأنّهما وإن اشتركا في الزّنا ، لكنّ العلة

غير جامعة ، لأنّ ماعزاً كان متمكّناً من الرّجوع عن إقراره بخلافها، فكأنّها قالت أنا غير متمكّنة من الإنكار بعد الإقرار ، لظهور الحمل بها بخلافه.

وتعقّب: بأنّه كان يمكنها أن تدّعي إكراهاً أو خطأ أو شبهة.

وفيه. أنّ الإمام لا يشترط أن يبدأ بالرّجم فيمن أقرّ ، وإن كان ذلك مستحبّاً ، لأنّ الإمام إذا بدأ مع كونه مأموراً بالتّثبّت والاحتياط فيه ، كان ذلك أدعى إلى الزّجر عن التّساهل في الحكم وإلى الحضّ على التّثبّت في الحكم، ولهذا يبدأ الشّهود إذا ثبت الرّجم بالبيّنة.

وفيه جواز تفويض الإمام إقامة الحدّ لغيره.

واستُدل به على أنّه لا يشترط الحفر للمرجوم ، لأنّه لَم يذكر في حديث الباب ، بل وقع التّصريح في حديث أبي سعيد عند مسلم فقال:" فما حفرنا له ، ولا أوثقناه " ، ولكن وقع في حديث بريدة عنده " فحفر له حفيرة ".

ويمكن الجمع: بأنّ المنفيّ حفيرة لا يمكنه الوثوب منها ، والمثبت عكسه.

أو أنّهم في أوّل الأمرلم يحفروا له ، ثمّ لَمَّا فرّ فأدركوه حفروا له حفيرة ، فانتصب لهم فيها حتّى فرغوا منه.

وعند الشّافعيّة: لا يحفر للرّجل.

وفي وجه: يتخيّر الإمام ، وهو أرجح لثبوته في قصّة ماعز ، فالمثبت

ص: 427

مقدّمٌ على النّافي، وقد جمع بينهما بما دلَّ على وجودِ حفْرٍ في الجملة.

وفي المرأة أوجه ، ثالثها. الأصحّ - إن ثبت زناها بالبيّنة - استحبّ ، لا بالإقرار.

وعن الأئمّة الثّلاثة في المشهور عنهم. لا يحفر.

وقال أبو يوسف وأبو ثور: يحفر للرّجل وللمرأة.

وفيه. جواز تلقين المقرّ بما يوجب الحدّ ، ما يدفع به عنه الحدّ ، وأنّ الحدّ لا يجب إلَّا بالإقرار الصّريح، ومن ثَمّ شرط على من شهد بالزّنا أن يقول رأيته: ولَج ذكره في فرجها أو ما أشبه ذلك، ولا يكفي أن يقول أشهد أنّه زنى.

وثبت عن جماعة من الصّحابة تلقين المقرّ بالحدّ. كما أخرجه مالك عن عمر ، وابن أبي شيبة (1) عن أبي الدّرداء ، وعن عليّ في قصّة شراحة. (2)

ومنهم من خصّ التّلقين بمن يظنّ به أنّه يجهل حكم الزّنا ، وهو

(1) وقع في مطبوع الفتح ، أخرجه مالك عن عمرو بن أبي شيبة عن أبي الدرداء. ولعلَّ الصواب ما أثبتّه. والله أعلم

(2)

قصة شراحة أخرجها البخاري مختصرة كما تقدَّم ص 415. أما رواية التلقين فقد ذكرها الشارح ضمن روايات الحديث.

فقال: وذكر ابن عبد البر ، أنَّ في تفسير سنيد بن داود من طريق أخرى إلى الشعبي قال: أُتي علي بشراحة فقال لها: لعلَّ رجلاً استكرهك؟، قالت: لا، قال: فلعله أتاكِ وأنت نائمة؟ قالت: لا. قال: لعلَّ زوجك من عدونا؟ قالت: لا. فأمر بها فحبست، فلما وضعت أخرجها يوم الخميس فجلدها مائة ، ثم ردها إلى الحبس، فلما كان يوم الجمعة حفر لها ورجمها. اهـ

ص: 428

قول أبي ثور.

وعند المالكيّة: يستثنى تلقين المشتهر بانتهاك الحرمات، ويجوز تلقين من عداه وليس ذلك بشرطٍ.

وفيه. ترك سجن من اعترف بالزّنا في مدّة الاستثبات وفي الحامل حتّى تضع، وقيل: إنّ المدينة لَم يكن بها حينئذٍ سجنٌ، وإنّما كان يسلم كل جانٍ لوليّه.

وقال ابن العربيّ: إنّما لَم يأمر بسجنه ولا التّوكيل به ، لأنّ رجوعه مقبول ، فلا فائدة في ذلك مع جواز الإعراض عنه إذا رجع، ويؤخذ من قوله " هل أحصنت؟ " وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف الأحكام باختلافها.

وفيه. أنّ إقرار السّكران لا أثر له يؤخذ من قوله " استنكهوه " والذين اعتبروه وقالوا إنّ عقله زال بمعصيته، ولا دلالة في قصّة ماعز ، لاحتمال تقدّمها على تحريم الخمر ، أو أنّ سكره وقع عن غير معصية.

وفيه. أنّ المقرّ بالزّنا إذا أقرّ يترك، فإن صرّح بالرّجوع فذاك ، وإلَّا اتّبع ورجم ، وهو قول الشّافعيّ وأحمد ، ودلالته من قصّة ماعز ظاهرة.

وقد وقع في حديث نعيم بن هزّال: هلَاّ تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه. أخرجه أبو داود وصحّحه الحاكم وحسّنه، وللتّرمذيّ نحوه من حديث أبي هريرة. وصحّحه الحاكم أيضاً.

ص: 429

وعند أبي داود من حديث بريدة قال: كنّا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدّث ، أنّ ماعزاً والغامديّة لو رجعا لَم يطلبهما.

وعند المالكيّة في المشهور ، لا يترك إذا هرب.

وقيل: يشترط أن يؤخذ على الفور. فإن لَم يؤخذ ترك.

وعن ابن عيينة. إن أخذ في الحال كمل عليه الحدّ ، وإن أخذ بعد أيّام ترك.

وعن أشهب. إن ذكر عذراً يقبل ترك وإلَّا فلا، ونقله القعنبيّ عن مالك، وحكى الكجّيّ عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة.

ومنهم من قيّده بما بعد إقراره عند الحاكم.

واحتجّوا: بأنّ الذين رجموه حتّى مات بعد أن هرب ، لَم يلزموا بديته فلو شرع تركه لوجبت عليهم الدّية.

والجواب: أنّه لَم يصرّح بالرّجوع، ولَم يقل أحدٌ إنّ حدّ الرّجم يسقط بمجرّد الهرب، وقد عبّر في حديث بريدة بقوله " لعله يتوب "

وفيه. أنّ المرجوم في الحدّ لا تشرع الصّلاة عليه إذا مات بالحدّ ، ويأتي البحث فيه قريباً.

وفيه. أنّ من وجد منه ريح الخمر وجب عليه الحدّ ، من جهة استنكاه ماعز بعد أن قال له: أشربت خمراً؟.

قال القرطبيّ: وهو قول مالك والشّافعيّ ، كذا قال.

وقال المازريّ: استدل به بعضهم ، على أنّ طلاق السّكران لا يقع.

وتعقّبه عياض: بأنّه لا يلزم من درء الحدّ به أنّه لا يقع طلاقه ،

ص: 430

لوجود تهمته على ما يظهره من عدم العقل، قال: ولَم يختلف في غير

الطّافح أنّ طلاقه لازم.

قال: ومذهبنا التزامه بجميع أحكام الصّحيح ، لأنّه أدخل ذلك على نفسه ، وهو حقيقة مذهب الشّافعيّ، واستثنى من أُكْرِه ، ومن شرب ما ظنّ أنّه غير مسكر ، ووافقه بعض متأخّري المالكيّة.

وقال النّوويّ: الصّحيح عندنا صحّة إقرار السّكران ونفوذ أقواله فيما له وعليه.

قال: والسّؤال عن شربه الخمر محمول عندنا على أنّه لو كان سكراناً لَم يقم عليه الحدّ.

كذا أطلق ، فألزم التّناقض، وليس كذلك. فإنّ مراده لَم يقم عليه الحدّ لوجود الشّبهة ، كما تقدّم من كلام عياض.

قلت: روى ابن أبي شيبة عن الزّهريّ قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقتُ امرأتي وأنا سكران، فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا ، أن يجلده ويفرّق بينه وبين امرأته، حتّى حدّثه أبان بن عثمان بن عفّان عن أبيه ، أنّه قال: ليس على المجنون ولا على السّكران طلاق، قال عمر: تأمرونني وهذا يحدّثني عن عثمان؟ فجلده، وردّ إليه امرأته.

وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور جميعاً عن هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعيّ عن أبي يزيد المزنيّ عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ليس لسكران ، ولا لمضطَهد طلاق.

ص: 431

المضطهد: بضاد معجمة ساكنة ثمّ طاء مهملة مفتوحة ثمّ هاء ثمّ مهملة ، هو المغلوب المقهور.

وقد ذهب إلى عدم وقوع طلاق السّكران أيضاً.

أبو الشّعثاء وعطاء وطاوسٌ وعكرمة والقاسم وعمر بن عبد العزيز، ذكره ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد صحيحة. وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزنيّ.

واختاره الطّحاويّ ، واحتجّ بأنّهم أجمعوا على أنّ طلاق المعتوه لا يقع قال: والسّكران معتوه بسكره.

وقال بوقوعه طائفة من التّابعين.

كسعيد بن المسيّب والحسن وإبراهيم والزّهريّ والشّعبيّ، وبه قال الأوزاعيّ والثّوريّ ومالك وأبو حنيفة.

وعن الشّافعيّ قولان: المصحّح منهما وقوعه، والخلاف عند الحنابلة ، لكنّ التّرجيح بالعكس.

وقال ابن المرابط: إذا تيقّنّا ذهاب عقل السّكران. لَم يلزمه طلاق، وإلا لزمه. وقد جعل الله حدّ السّكر الذي تبطل به الصّلاة أن لا يعلم ما يقول.

وهذا التّفصيل لا يأباه من يقول بعدم طلاقه، وإنّما استدل مَن قال بوقوعه مطلقاً بأنّه عاصٍ بفعله لَم يزل عنه الخطاب بذلك، ولا الإثم لأنّه يؤمر بقضاء الصّلوات وغيرها ممّا وجب عليه قبل وقوعه في السّكر أو فيه.

ص: 432

وأجاب الطّحاويّ: بأنّه لا تختلف أحكام فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسببٍ من جهته أو من جهة غيره، إذ لا فرق بين من عجَزَ عن القيام في الصّلاة بسببٍ من قبل الله أو من قبل نفسه ، كمن كسر رِجْلَ نفسه فإنّه يسقط عنه فرض القيام.

وتعقّب: بأنّ القيام انتقل إلى بدل وهو القعود فافترقا.

وأجاب ابن المنذر عن الاحتجاج بقضاء الصّلوات: بأنّ النّائم يجب عليه قضاء الصّلاة ، ولا يقع طلاقه فافترقا.

وقال ابن بطّالٍ: الأصل في السّكران العقل، والسّكر شيء طرأ على عقله، فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الأصل حتّى يثبت ذهاب عقله.

ومن المذاهب الظّريفة فيه قول الليث: يعمل بأفعاله ولا يعمل بأقواله ، لأنّه يلتذّ بفعله ، ويشفي غيظه ، ولا يفقه أكثر ما يقول ، وقد قال تعالى {لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون} .

تكميل: بوّب عليه البخاري " من حَكَم في المسجد ، حتّى إذا أتى على حدٍّ ، أمر أن يخرج من المسجد فيقام ".

كأنّه يشير بهذه التّرجمة إلى من خصّ جوازَ الحُكم في المسجد بما إذا لَم يكن هناك شيء يتأذّى به من في المسجد ، أو يقع به للمسجد نقص كالتّلويث.

وروى ابن أبي شيبة وعبد الرّزّاق كلاهما من طريق طارق بن شهاب قال: أتي عمر بن الخطّاب برجلٍ في حدّ فقال: أخْرِجَاه من

ص: 433

المسجد ، ثمّ اضرباه. وسنده على شرط الشّيخين.

وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن معقل - وهو بمهملةٍ ساكنة وقاف مكسورة - أنّ رجلاً جاء إلى عليٍّ فسارّه ، فقال: يا قنبر. أخْرِجه من المسجد فأقم عليه الحدّ. وفي سنده من فيه مقال.

ثمّ ذكر البخاري حديث أبي هريرة في قصّة الذي أقرّ ، أنّه زنى فأعرض عنه ، وفيه أبك جنون؟ قال: لا. قال: اذهبوا به فارجموه.

وهذا القدر ، هو المراد في التّرجمة ، ولكنّه لا يَسْلَم من خدش ، لأنّ الرّجم يحتاج إلى قدر زائد من حفر وغيره ممّا لا يلائم المسجد ، فلا يلزم من تركه فيه ، ترك إقامة غيره من الحدود.

قال ابن بطّال: ذهب إلى المنع من إقامة الحدود في المسجد ، الكوفيّون والشّافعيّ وأحمد وإسحاق، وأجازه الشّعبيّ وابن أبي ليلى، وقال مالك: لا بأس بالضّرب بالسّياط اليسيرة، فإذا كثرت الحدود فليكن ذلك خارج المسجد.

قال ابن بطّال: وقول من نزّه المسجد عن ذلك أولى، وفي الباب حديثان ضعيفان في النّهي عن إقامة الحدود في المساجد. انتهى.

والمشهور فيه حديث مكحول عن أبي الدّرداء وواثلة وأبي أُمامة مرفوعاً " جنّبوا مساجدكم صبيانكم " الحديث، وفيه " وإقامة حدودكم ".

أخرجه البيهقيّ في الخلافيّات، وأصله في ابن ماجه من حديث واثلة فقط ، وليس فيه ذكر الحدود. وسنده ضعيف.

ص: 434

ولابن ماجه من حديث ابن عمر رفعه: خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتّخذ طريقاً. الحديث. وفيه: ولا يُضرب فيه حدّ. وسنده ضعيف أيضاً.

وقال ابن المنير: من كَرِه إدخال الميّت المسجد للصّلاة عليه خشية أن يخرج منه شيء ، أولى بأن يقول لا يقام الحدّ في المسجد، إذ لا يؤمن خروج الدّم من المجلود، وينبغي أن يكون في القتل أولى بالمنع.

تكميل آخر: زاد البخاري في آخره: فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم خيراً، وصلَّى عليه. رواه عن محمود حدّثنا عبد الرّزّاق أخبرنا معمرٌ عن الزّهريّ، به.

قال البخاري: لَم يقل يونس وابن جريجٍ عن الزّهريّ: فصلَّى عليه. سئل أبو عبد الله: فصلَّى عليه يصحّ؟ قال: رواه معمرٌ ، قيل له: رواه غير معمرٍ؟ قال: لا.

قوله " فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم خيراً " أي: ذكره بجميلٍ، ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم " فما استغفر له ولا سبّه " وفي حديث بريدة عنده " فكان النّاس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، فلبثوا ثلاثاً ، ثمّ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: استغفروا لماعز بن مالك.

وفي حديث بريدة أيضاً " لقد تاب توبة لو قسمت على أمّة لوسعتهم " وفي حديث أبي هريرة عند النّسائيّ " لقد رأيته بين أنهار الجنّة ينغمس " قال: يعني يتنعّم كذا في الأصل.

ص: 435

وفي حديث جابر عند أبي عوانة " فقد رأيته يتخضخض في أنهار الجنّة " وفي حديث اللجلاج عند أبي داود والنّسائيّ " ولا تقل له خبيث لهو عند الله أطيب من ريح المسك " وفي حديث أبي الفيض عند التّرمذيّ " لا تشتمه " وفي حديث أبي ذرّ عند أحمد " قد غفر له وأدخل الجنّة ".

قوله " وصلَّى عليه " هكذا وقع هنا عن محمود بن غيلان عن عبد الرّزّاق، وخالفه محمّد بن يحيى الذّهليّ وجماعة عن عبد الرّزّاق ، فقالوا في آخره " ولَم يصلِّ عليه ".

قال المنذريّ في " حاشية السّنن ": رواه ثمانية أنفس عن عبد الرّزّاق فلم يذكروا قوله " وصلَّى عليه ".

قلت: قد أخرجه أحمد في " مسنده " عن عبد الرّزّاق ، ومسلم عن إسحاق بن راهويه ، وأبو داود عن محمّد بن المتوكّل العسقلانيّ ، وابن حبّان من طريقه ، زاد أبو داود والحسن بن عليّ الخلال ، والتّرمذيّ عن الحسن بن عليّ المذكور، والنّسائيّ وابن الجارود عن محمّد بن يحيى الذّهليّ.

زاد النّسائيّ ومحمّد بن رافع ونوح بن حبيب ، والإسماعيليّ والدّارقطنيّ من طريق أحمد بن منصور الرّماديّ. زاد الإسماعيليّ، ومحمّد بن عبد الملك بن زنجويه، وأخرجه أبو عوانة عن الدَّبريّ ومحمّد بن سهل الصّغانيّ.

فهؤلاء أكثر من عشرة أنفس خالفوا محموداً ، منهم: من سكت

ص: 436

عن الزّيادة ، ومنهم: من صرّح بنفيها.

وقول البخاري (ولَم يقل يونس وابن جريجٍ عن الزّهريّ: وصلَّى عليه) أمّا رواية يونس فوصلها البخاري رحمه الله. ولفظه " فأمر به فرجم ، وكان قد أحصن ".

وأمّا رواية ابن جريجٍ ، فوصلها مسلم مقرونةً برواية معمر ، ولَم يسق المتن ، وساقه إسحاق شيخ مسلم في " مسنده " ، وأبو نعيم من طريقه ، فلم يذكر فيه " وصلَّى عليه "

قوله: " سئل أبو عبد الله. هل قوله (فصلَّى عليه) يصحّ أم لا؟ قال: رواه معمر، قيل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا " وقع هذا الكلام في رواية المستملي وحده عن الفربريّ، وأبو عبد الله هو البخاريّ.

وقد اعترض عليه في جزمه ، بأنّ معمراً روى هذه الزّيادة ، مع أنّ المنفرد بها إنّما هو محمود بن غيلان عن عبد الرّزّاق، وقد خالفه العدد الكثير من الحفّاظ ، فصرّحوا بأنّه لَم يصل عليه.

لكن ظهر لي ، أنّ البخاريّ قويت عنده رواية محمود بالشّواهد، فقد أخرج عبد الرّزّاق أيضاً - وهو في " السّنن " لأبي قرّة من وجه آخر - عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف في قصّة ماعز قال: فقيل: يا رسولَ الله أتصلي عليه؟ قال: لا. قال: فلمّا كان من الغد قال: صلَّوا على صاحبكم، فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والنّاس.

فهذا الخبر يجمع الاختلاف ، فتحمل رواية النّفي على أنّه لَم يصلِّ

ص: 437

عليه حين رجم، ورواية الإثبات على أنّه صلى الله عليه وسلم عليه في اليوم الثّاني.

وكذا طريق الجمع لِما أخرجه أبو داود عن بريدة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَم يأمر بالصّلاة على ماعز ، ولَم ينه عن الصّلاة عليه.

ويتأيّد بما أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصينٍ ، في قصّة الجهنيّة التي زنت ورجمت ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى عليها، فقال له عمر: أتصلّي عليها وقد زنت؟ فقال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين لوسعتهم.

وحكى المنذريّ قولَ من حمل الصّلاة في الخبر على الدّعاء.

ثمّ قال: في قصّة الجهنيّة دلالةٌ على توهين هذا الاحتمال.

قال: وكذا أجاب النّوويّ فقال: إنّه فاسد ، لأنّ التّأويل لا يصار إليه إلَّا عند الاضطرار إليه ، ولا اضطرار هنا.

وقال ابن العربيّ: لَم يثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى على ماعز، قال: وأجاب من منع عن صلاته على الغامديّة لكونها عرفت حكم الحدّ وماعز إنّما جاء مستفهماً.

قال: وهو جوابٌ واهٍ، وقيل: لأنّه قتله غضباً لله وصلاته رحمة فتنافيا، قال: وهذا فاسد ، لأنّ الغضب. انتهى.

قال: ومحلّ الرّحمة باقٍ، والجواب المرضيّ ، أنّ الإمام حيث ترك الصّلاة على المحدود كان ردعاً لغيره.

قلت: وتمامه أن يقال: وحيث صلَّى عليه يكون هناك قرينة لا يحتاج معها إلى الرّدع ، فيختلف حينئذٍ باختلاف الأشخاص.

ص: 438

وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة.

فقال مالك: يأمر الإمام بالرّجم ، ولا يتولاه بنفسه ، ولا يرفع عنه حتّى يموت، ويخلى بينه وبين أهله يغسّلونه ويصلون عليه ، ولا يُصلِّي عليه الإمام ردعاً لأهل المعاصي إذا علموا أنّه ممّن لا يُصلَّى عليه، ولئلا يجترئ النّاس على مثل فعله.

وعن بعض المالكيّة: يجوز للإمام أن يُصلِّي عليه ، وبه قال الجمهور.

والمعروف عن مالك ، أنّه يكره للإمام وأهل الفضل الصّلاة على المرجوم، وهو قول أحمد.

وعن الشّافعيّ. لا يكره ، وهو قول الجمهور، وعن الزّهريّ. لا يُصلَّى على المرجوم ولا على قاتل نفسه.

وعن قتادة. لا يُصلَّى على المولود من الزّنا.

وأطلق عياض ، فقال: لَم يختلف العلماء في الصّلاة على أهل الفسق والمعاصي والمقتولين في الحدود ، وإن كره بعضهم ذلك لأهل الفضل ، إلَّا ما ذهب إليه أبو حنيفة في المحاربين ، وما ذهب إليه الحسن في الميّتة من نفاس الزّنا ، وما ذهب إليه الزّهريّ وقتادة.

قال: وحديث الباب في قصّة الغامديّة حجّة للجمهور. والله أعلم

ص: 439