الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب القصاص
القصاص بكسر القاف وبمهملتين ، مأخوذ من القصِّ وهو القطع ، أو من اقتصاص الأثر ، وهو تتبعه ، لأنَّ المُقتصَّ يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها ، يقال: اقتصَّ من غريمه ، واقتصَّ الحاكمُ لفلان من فلان.
الحديث الأول
341 -
عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه ، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يَحِلُّ دم امرئٍ مسلمٍ، يشهد أن لا إله إلَّا الله، وأني رسول الله، إلَّا بإحدى ثلاثٍ، الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. (1)
قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحلّ) وقع في رواية سفيان الثّوريّ عن الأعمش. عند مسلم والنّسائيّ زيادة في أوّله. وهي: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي لا إله غيره. لا يحلّ.
وظاهر قوله " لا يحلّ " إثبات إباحة قتل من استثني، وهو كذلك
(1) أخرجه البخاري (6484) ومسلم (1676) من طريق الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود به.
زاد مسلم. قال الأعمش: فحدثت به إبراهيم، فحدثني عن الأسود، عن عائشة بمثله.
بالنّسبة لتحريم قتل غيرهم ، وإن كان قتل من أبيح قتله منهم واجباً في الحكم.
قوله: (دم امرئٍ مسلم) في رواية الثّوريّ " دم رجلٍ " والمراد لا يحلّ إراقة دمه ، أي: كلّه وهو كناية عن قتله. ولو لَم يرق دمه.
قوله: (يشهد أن لا إله إلَّا الله) هي صفة ثانية ذُكرت لبيان أنّ المراد بالمسلم هو الآتي بالشّهادتين.
أو هي حال مقيّدةٌ للموصوف إشعاراً بأنّ الشّهادة هي العمدة في حقن الدّم، وهذا رجّحه الطّيبيّ ، واستشهد بحديث أسامة " كيف تصنع بلا إله إلَّا الله "(1).
قوله: (إلَّا بإحدى ثلاث) أي: خصال ثلاث، ووقع في رواية الثّوريّ " إلَّا ثلاثة نفر ".
قوله: (النّفس بالنّفس) أي: من قتل عمداً بغير حقّ قتل بشرطه، ووقع في حديث عثمان عند النسائي " قتل عمداً فعليه القود ". وفي حديث جابر عند البزّار " ومن قتل نفساً ظلماً ".
قوله: (والثّيّب الزّاني) أي: فيحلّ قتله بالرّجم، وقد وقع في حديث عثمان المذكور بلفظ " رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرّجم ".
قال النّوويّ: الزّاني يجوز فيه إثبات الياء وحذفها ، وإثباتها أشهر.
قوله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة) وللبخاري " والمفارق
(1) أحرجه مسلم في " صحيحه "(289) من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قالها لأسامة في قصته مع الرجل الذي قتله.
لدينه التّارك للجماعة " كذا في رواية أبي ذرّ عن الكشميهنيّ، وللباقين " والمارق من الدّين " لكن عند النّسفيّ والسّرخسيّ والمستملي " والمارق لدينه ".
قال الطّيبيّ: المارق لدينه هو التّارك له، من المروق وهو الخروج ، زاد مسلم: قال الأعمش: فحدّثت به إبراهيم يعني النّخعيّ فحدّثني عن الأسود يعني: ابن يزيد عن عائشة بمثله.
قلت: وهذه الطّريق أغفل المزّيّ في الأطراف ذكرها في مسند عائشة. وأغفل التّنبيه عليها في ترجمة عبد الله بن مرّة عن مسروق عن ابن مسعود.
وقد أخرجه مسلم أيضاً بعده من طريق شيبان بن عبد الرّحمن عن الأعمش. ولَم يسق لفظه ، لكن قال: بالإسنادين جميعاً. ولَم يقل " والذي لا إله غيره " وأفرده أبو عوانة في " صحيحه " من طريق شيبان باللفظ المذكور سواء.
والمراد بالجماعة جماعة المسلمين. أي: فارقهم أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتّارك أو المفارق لا صفة مستقلة وإلا لكانت الخصال أربعاً، وهو كقوله قبل ذلك " مسلم يشهد أن لا إله إلَّا الله " فإنّها صفة مفسّرة لقوله " مسلم " وليست قيداً فيه إذ لا يكون مسلماً إلَّا بذلك.
ويؤيّد ما قلته أنّه وقع في حديث عثمان " أو يكفر بعد إسلامه " أخرجه النّسائيّ بسندٍ صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضاً " ارتدّ بعد
إسلامه " ، وله من طريق عمرو بن غالب عن عائشة " أو كفر بعد ما أسلم ". وفي حديث ابن عبّاس عند الطبراني (1) " مرتدّ بعد إيمان ".
قال ابن دقيق العيد: الرّدّة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرّجل، وأمّا المرأة ففيها خلاف. وقد استدل بهذا الحديث للجمهور في أنّ حكمها حكم الرّجل لاستواء حكمهما في الزّنا.
وتعقّب: بأنّها دلالة اقتران وهي ضعيفة.
وقال البيضاويّ (2): التّارك لدينه صفة مؤكّدة للمارق ، أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم.
قال: وفي الحديث دليل لمن زعم أنّه لا يقتل أحدٌ دخل في الإسلام بشيءٍ غير الذي عدّد كترك الصّلاة ولَم ينفصل عن ذلك، وتبعه الطّيبيّ.
وقال ابن دقيق العيد: قد يؤخذ من قوله " المفارق للجماعة " أنّ المراد المخالف لأهل الإجماع. فيكون متمسَّكاً لمن يقول: مخالف الإجماع كافرٌ، وقد نسب ذلك إلى بعض النّاس، وليس ذلك بالهيّن ،
(1) في النسخ المطبوعة من الفتح (النسائي) ولعل الصواب " الطبراني " فالحديث في " معجمه الكبير "(11532) وكذا عند أبي يعلى في " مسنده "(2458) من طريق حسين بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل أعطى .. وفيه. ألا إن الله عز وجل لَم يرخّص في القتل إلَّا ثلاثاً: مرتدٌ بعد إيمان، أو زانٍ بعد إحصان، أو قاتل نفس فيقتل بقتله ألا هل بلغت.
قال الهيثمي في " المجمع "(1/ 172): فيه حسين بن قيس الملقب بحنش، وهو متروك الحديث.
(2)
هو عبدالله بن عمر الشيرازي ، سبق ترجمته (1/ 191)
فإنّ المسائل الإجماعيّة تارة يصحبها التّواتر بالنّقل عن صاحب الشّرع كوجوب الصّلاة مثلاً ، وتارة لا يصحبها التّواتر، فالأوّل يكفّر جاحده لمخالفة التّواتر لا لمخالفة الإجماع، والثّاني لا يكفّر به.
قال شيخنا في شرح التّرمذيّ: الصّحيح في تكفير منكِر الإجماع تقييده بإنكار ما يعلم وجوبه من الدّين بالضّرورة كالصّلوات الخمس.
ومنهم من عبّر بإنكار ما علم وجوبه بالتّواتر ، ومنه القول بحدوث العالم، وقد حكى عياض وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم.
وقال ابن دقيق العيد: وقع هنا من يدّعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظنّ أنّ المخالف في حدوث العالم لا يكفّر ، لأنّه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسّك بقولنا: إنّ منكر الإجماع لا يكفّر على الإطلاق حتّى يثبت النّقل بذلك متواتراً عن صاحب الشّرع.
قال: وهو تمسّكٌ ساقط إمّا عن عمىً في البصيرة أو تعامٍ ، لأنّ حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتّواتر بالنّقل.
وقال النّوويّ: قوله " التّارك لدينه ": عامٌّ في كلّ من ارتدّ بأيّ ردّة كانت فيجب قتله إن لَم يرجع إلى الإسلام، وقوله " المفارق للجماعة " يتناول كلّ خارج عن الجماعة ببدعةٍ أو نفي إجماع كالرّوافض والخوارج وغيرهم.
كذا قال، وسيأتي البحث فيه.
وقال القرطبيّ في المفهم: ظاهر قوله " المفارق للجماعة " أنّه نعت للتّارك لدينه، لأنّه إذا ارتدّ فارق جماعة المسلمين، غير أنّه يلتحق به كل من خرج عن جماعة المسلمين وإن لَم يرتدّ. كمن يمتنع من إقامة الحدّ عليه إذا وجب ويقاتل على ذلك كأهل البغي وقطّاع الطّريق والمحاربين من الخوارج وغيرهم.
قال: فيتناولهم لفظ المفارق للجماعة بطريق العموم، ولو لَم يكن كذلك لَم يصحّ الحصر ، لأنّه يلزم أن ينفي من ذكر ودمه حلال فلا يصحّ الحصر، وكلام الشّارع منزّه عن ذلك، فدلَّ على أنّ وصف المفارقة للجماعة يعمّ جميع هؤلاء.
قال: وتحقيقه أنّ كل من فارق الجماعة ترك دينه، غير أنّ المرتدّ ترك كلّه والمفارق بغير ردّة ترك بعضه. انتهى.
وفيه مناقشة. لأنّ أصل الخصلة الثّالثة الارتداد فلا بدّ من وجوده، والمفارق بغير ردّة لا يسمّى مرتدّاً فيلزم الخلف في الحصر.
والتّحقيق في جواب ذلك: أنّ الحصر فيمن يجب قتله عيناً، وأمّا من ذكرهم فإنّ قتل الواحد منهم إنّما يباح إذا وقع حال المحاربة والمقاتلة، بدليل أنّه لو أسر لَم يجز قتله صبراً اتّفاقاً في غير المحاربين، وعلى الرّاجح في المحاربين أيضاً.
لكن يرِد على ذلك قتل تارك الصّلاة، وقد تعرّض له ابن دقيق العيد فقال: استدل بهذا الحديث ، أنّ تارك الصّلاة لا يقتل بتركها. لكونه ليس من الأمور الثّلاثة، وبذلك استدل شيخُ والدي الحافظ
أبو الحسن بن المفضّل المقدسيّ في أبياته المشهورة، ثمّ ساقها. ومنها وهو كافٍ في تحصيل المقصود هنا. والرّأي عندي أن يعزّره الإمام بكل تعزيرٍ يراه صواباً ، فالأصل عصمته إلى أن يمتطي إحدى الثّلاث إلى الهلاك ركابا.
قال: فهذا من المالكيّة اختار خلاف مذهبه، وكذا استشكله إمام الحرمين من الشّافعيّة.
قلت: تارك الصّلاة اختلف فيه.
القول الأول: ذهب أحمد وإسحاق وبعض المالكيّة ، ومن الشّافعيّة ابن خزيمة وأبو الطّيّب بن سلمة وأبو عبيد بن جويرية ومنصور الفقيه وأبو جعفر التّرمذيّ ، إلى أنّه يكفر بذلك ، ولو لَم يجحد وجوبها. وذهب الجمهور (1). إلى أنّه يقتل حدّاً
القول الثاني: ذهب الحنفيّة ووافقهم المزنيّ. إلى أنّه لا يكفر ، ولا يقتل.
ومن أقوى ما يستدلّ به على عدم كفره حديث عبادة رفعه: خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد. الحديث. وفيه. ومن لَم يأت بهنّ فليس له عند الله عهد، إن شاء عذّبه ، وإن شاء أدخله الجنّة.
أخرجه مالك وأصحاب السّنن وصحّحه ابن حبّان وابن السّكن وغيرهما.
وتمسّك أحمد ومن وافقه ، بظواهر أحاديث وردتْ بتكفيره ،
(1) أي: جمهور القول الأول.
وحملها من خالفهم على المستحلّ جمعاً بين الأخبار. والله أعلم.
وقال ابن دقيق العيد: وأراد بعض من أدركنا زمانه أن يزيل الإشكال ، فاستدل بحديث " أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلَّا الله ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة " ووجه الدّليل منه أنّه وقف العصمة على المجموع، والمرتّب على أشياء لا يحصل إلَّا بحصول مجموعها وينتفي بانتفاء بعضها.
قال: وهذا إن قصد الاستدلال بمنطوقه - وهو " أقاتل النّاس إلخ " - فإنّه يقتضي الأمر بالقتال إلى هذه الغاية، فقد ذهل للفرق بين المقاتلة على الشّيء والقتل عليه، فإنّ المقاتلة مفاعلةٌ تقتضي الحصول من الجانبين فلا يلزم من إباحة المقاتلة على الصّلاة إباحة قتل الممتنع من فعلها إذا لَم يقاتل.
وليس النّزاع في أنّ قوماً لو تركوا الصّلاة ونصبوا القتال أنّه يجب قتالهم، وإنّما النّظر فيما إذا تركها إنسان من غير نصب قتال هل يقتل أو لا، والفرق بين المقاتلة على الشّيء والقتل عليه ظاهرٌ.
وإن كان أخذه من آخر الحديث وهو ترتّب العصمة على فعل ذلك ، فإنّ مفهومه يدلّ على أنّها لا تترتّب على فعل بعضه هان الأمر لأنّها دلالة مفهوم، ومخالفه في هذه المسألة لا يقول بالمفهوم، وأمّا من يقول به فله أن يدفع حجّته بأنّه عارضته دلالة المنطوق في حديث الباب. وهي أرجح من دلالة المفهوم ، فيقدّم عليها. انتهى
واستدل به بعض الشّافعيّة لقتل تارك الصّلاة ، لأنّه تاركٌ للدّين
الذي هو العمل، وإنّما لَم يقولوا بقتل تارك الزّكاة لإمكان انتزاعها منه قهراً، ولا يقتل تارك الصّيام لإمكان منعه المفطرات ، فيحتاج هو أن ينوي الصّيام لأنّه يعتقد وجوبه.
واستدل به على أنّ الحرّ لا يقتل بالعبد ، لأنّ العبد لا يرجم إذا زنى ولو كان ثيّباً حكاه ابن التّين قال: وليس لأحدٍ أن يفرّق ما جمعه الله إلَّا بدليلٍ من كتاب أو سنّة. قال: وهذا بخلاف الخصلة الثّالثة ، فإنّ الإجماع انعقد على أنّ العبد والحرّ في الرّدّة سواء، فكأنّه جعل أنّ الأصل العمل بدلالة الاقتران ما لَم يأت دليل يخالفه.
وقال شيخنا في شرح التّرمذيّ: استثنى بعضهم من الثّلاثة قتل الصّائل فإنّه يجوز قتله للدّفع، وأشار بذلك إلى قول النّوويّ يخصّ من عموم الثّلاثة الصّائل ونحوه فيباح قتله في الدّفع.
وقد يجاب: بأنّه داخل في المفارق للجماعة ، أو يكون المراد لا يحلّ تعمّد قتله. بمعنى أنّه لا يحلّ قتله إلَّا مدافعة بخلاف الثّلاثة.
واستحسنه الطّيبيّ ، وقال: هو أولى من تقرير البيضاويّ ، لأنّه فسّر قوله {النّفس بالنّفس} يحلّ قتل النّفس قصاصاً للنّفس التي قتلها عدواناً ، فاقتضى خروج الصّائل ولو لَم يقصد الدّافع قتله.
قلت: والجواب الثّاني هو المعتمد، وأمّا الأوّل فتقدّم الجواب عنه.
وحكى ابن التّين عن الدّاوديّ: أنّ هذا الحديث منسوخ بآية المحاربة {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض} .
قال: فأباح القتل بمجرّد الفساد في الأرض.
قال: وقد ورد في القتل بغير الثّلاث أشياء:
منها قوله تعالى {فقاتلوا التي تبغي} . وحديث " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه "(1) ، وحديث " من أتى بهيمةً فاقتلوه " وحديث " من خرج وأمر النّاس جميعٌ يريد تفرّقهم فاقتلوه "(2).
وقول عمر " تغرّة أن يقتلا "(3) وقول جماعة من الأئمّة: إن تاب أهل القدر وإلا قتلوا. وقال جماعة من الأئمّة: يضرب المبتدع حتّى يرجع أو يموت، وقول جماعة من الأئمّة يقتل تارك الصّلاة.
قال: وهذا كلّه زائد على الثّلاث.
(1) أخرجه أبو داود (4462) والترمذي (1/ 275) وابن ماجه (2561) وأحمد (1/ 300) وابن الجارود (820) والدارقطني (341) والحاكم (4/ 355) وعبد بن حميد (576) وغيرهم من حديث ابن عبّاس.
وزاد بعضهم " ومن وجتموه قد أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه ".
وفي الحديث اختلافٌ كثيرٌ. ذكره الزيلعي في نصب الراية وغيره. وقد ضعّفه الشارح كما سيأتي. ضمن كلامه.
(2)
أخرج مسلم (1852) عن عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه ستكون هَنَاتٌ وهناتٌ ، فمن أراد أن يفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميع ، فاضربوه بالسيف كائناً من كان " وفي رواية له " من أتاكم ، وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يريد أن يشق عصاكم ، أو يفرق جماعتكم ، فاقتلوه "
(3)
قول عمر. أخرجه البخاري (6830) ضمن حديث طويل في ببيعة أبي بكر. وفيه: من بايعَ رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي تابعه، تغرة أن يقتلا.
قال الحافظ: (12/ 150) قوله (تغرة أن يقتلا) بمثناة مفتوحة وغين معجمة مكسورة وراء ثقيلة بعدها هاء تأنيث. أي: حذراً من القتل ، وهو مصدر من أغررته تغريراً ، أو تغرة ، والمعنى أن من فعل ذلك فقد غرَّر بنفسه وبصاحبه ، وعرضهما للقتل.
قلت: وزاد غيره قتلَ من طلب أخذ مال إنسان أو حريمه بغير حقّ، ومانع الزّكاة المفروضة، ومن ارتدّ ولَم يفارق الجماعة، ومن خالف الإجماع وأظهر الشّقاق والخلاف، والزّنديق إذا تاب على رأي، والسّاحر.
والجواب عن ذلك كلّه: أنّ الأكثر في المحاربة أنّه إن قَتل قُتل.
وبأنّ حكم الآية في الباغي أن يقاتل لا أن يقصد إلى قتله.
وبأنّ الخبرين في اللواط وإتيان البهيمة لَم يصحّا.
وعلى تقدير الصّحّة فهما داخلان في الزّنا، وحديث الخارج عن المسلمين المراد بقتله حبسه ومنعه من الخروج، وأثر عمر من هذا القبيل. والقول في القدريّة وسائر المبتدعة مفرّع على القول بتكفيرهم.
وبأنّ قتل تارك الصّلاة عند من لا يكفّره مختلف فيه كما تقدّم إيضاحه.
وأمّا من طلب المال أو الحريم فمن حكم دفع الصّائل، ومانع الزّكاة تقدّم جوابه، ومخالف الإجماع داخل في مفارق الجماعة، وقتل الزّنديق لاستصحاب حكم كفره، وكذا السّاحر، والعلم عند الله تعالى.
وقد حكى ابن العربيّ عن بعض أشياخه: أنّ أسباب القتل عشرة، قال ابن العربيّ: ولا تخرج عن هذه الثّلاثة بحالٍ، فإنّ من سحر أو سبّ نبيّ الله كفّر فهو داخل في التّارك لدينه. والله أعلم.
واستُدل بقوله {النّفس بالنّفس} على تساوي النّفوس في القتل
العمد ، فيقاد لكل مقتول من قاتله سواء كان حرّاً أو عبداً، وتمسّك به الحنفيّة. وادّعوا أنّ آية المائدة {أنَّ النفسَ بالنفس والعينَ بالعين .. الآية} ناسخة لآية البقرة {كُتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد} .
ومنهم. من فرّق بين عبد الجاني وعبد غيره ، فأقاد من عبد غيره ، دون عبد نفسه.
وقال الجمهور: آية البقرة مفسّرة لآية المائدة ، فيقتل العبد بالحرّ ولا يقتل الحرّ بالعبد لنقصه.
وقال الشّافعيّ: ليس بين العبد والحرّ قصاص إلَّا أن يشاء الحرّ.
واحتجّ للجمهور: بأنّ العبد سلعة ، فلا يجب فيه إلَّا القيمة لو قتل خطأ.
واستدل بعمومه على جواز قتل المسلم بالكافر المستأمن والمعاهد، وأمَّا ترك قتل المسلم بالكافر. فأخذ به الجمهور، لحديث عليّ " لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ " متفق عليه.
قال إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن ": الجمع بين الآيتين أولى، فتحمل النّفس على المكافئة، ويؤيّده اتّفاقهم على أنّ الحرّ لو قذف عبداً لَم يجب عليه حدّ القذف.
قال: ويؤخذ الحكم من الآية نفسها ، فإنّ في آخرها (فمن تصدّق به فهو كفّارة له) والكافر لا يسمّى متصدّقاً ولا مكفّراً عنه، وكذلك العبد لا يتصدّق بجرحه لأنّ الحقّ لسيّده.
وقال أبو ثور: لَمَّا اتّفقوا على أنّه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النّفس كانت النّفس أولى بذلك.
وفي الحديث. جواز وصف الشّخص بما كان عليه ولو انتقل عنه لاستثنائه المرتدّ من المسلمين، وهو باعتبار ما كان.