الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي عشر
360 -
عن أبي بُرْدة هانىء بن نيار البلويّ الأنصاريّ رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يُجلد فوق عشرة أسواطٍ، إلَّا في حدٍّ من حدود الله. (1)
قوله: (عن أبي بردة) في رواية علي بن إسماعيل بن حماد عن عمرو بن علي - شيخ البخاري فيه - بسنده إلى عبد الرحمن بن جابر قال: حدَّثني رجلٌ من الأنصار، قال أبو حفص - يعني عمرو بن علي المذكور -: هو أبو بردة بن نيار. أخرجه أبو نعيم.
وفي رواية عمرو بن الحارث حدثني عبد الرحمن بن جابر ، أنَّ أباه حدَّثه ، أنه سمع أبا بردة الأنصاري.
ووقع في الطريق الثانية (2) من رواية فضيل بن سليمان عن مسلم بن أبي مريم. حدثني عبد الرحمن بن جابر عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد سَمَّاه حفص بن ميسرة - وهو أوثق من فضيل بن سليمان -
(1) أخرجه البخاري (6458) ومسلم (1708) من طريق عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه عن أبي بردة رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (6456) من طريق يزيد بن أبي حبيب عن بكير عن سليمان عن عبد الرحمن عن أبي بردة. دون قوله (عن أبيه)
…
وأخرجه البخاري (6457) عن عمرو بن علي عن فضيل بن سليمان عن مسلم بن أبي مريم حدثني عبد الرحمن بن جابر عمّن سمع النبي صلى الله عليه وسلم. نحوه.
(2)
أي: عند البخاري. كما تقدّم في التخريج.
فقال فيه: عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه. أخرجه الإسماعيلي.
قلت: قد رواه يحيى بن أيوب عن مسلم بن أبي مريم مثل رواية فضيل. أخرجه أبو نعيم في " المستخرج ".
قال الإسماعيلي: ورواه إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عن رجلٍ من الأنصار.
قلت: وهذا لا يعيِّن أحد التفسيرين، فإن كُلاًّ من جابر وأبي بردة أنصاريٌ.
قال الإسماعيلي: لم يُدخلِ الليثُ عن يزيد بين عبد الرحمن وأبي بردة أحداً ، وقد وافقه سعيد بن أيوب عن يزيد. ثم ساقه من روايته كذلك.
وحاصل الاختلاف. هل هو عن صحابي مُبهم أو مُسمَّى؟ الراجح الثاني. ثم الراجح أنه أبو بردة بن نيار.
وهل بين عبد الرحمن وأبي بردة واسطة. وهو جابر أو لا؟ الراجح الثاني أيضاً.
وقد ذكر الدارقطني في " العلل " الاختلاف ثم قال: القول قول الليث ومن تابعه، وخالف ذلك في جميع التتبع. فقال: القول قول عمرو بن الحارث ، وقد تابعه أسامة بن زيد.
قلت: ولم يقدح هذا الاختلاف عن الشيخين في صحة الحديث
فإنه كيفما دار يدور على ثقة.
ويحتمل: أن يكون عبد الرحمن وقع له فيه ما وقع لبكير بن الأشج في تحديث عبد الرحمن بن جابر لسليمان بحضرة بكير ، ثم تحديث سليمان بكيراً به عن عبد الرحمن.
أو أنَّ عبد الرحمن سمع أبا بردة لَمَّا حدَّث به أباه ، وثبَّته فيه أبوه فحدَّث به تارة بواسطة أبيه ، وتارة بغير واسطة.
وادعى الأصيلي (1) أنَّ الحديثَ مضطربٌ فلا يحتج به لاضطرابه.
وتعقب: بأنَّ عبد الرحمن ثقة فقد صرَّح بسماعه، وإبهام الصحابي لا يضر، وقد اتفق الشيخان على تصحيحه ، وهما العمدة في التصحيح.
وقد وجدتُ له شاهداً بسند قوي ، لكنه مرسل. أخرجه الحارث بن أبي أسامة من رواية عبد الله بن أبي بكر بن الحارث بن هشام رفعه: لا يَحلُّ أن يُجلد فوق عشرة أسواط إلَّا في حدٍّ.
وله شاهد آخر عن أبي هريرة عند ابن ماجه. ستأتي الإشارة إليه.
قوله: (هانىء بن نيار) وهو بكسر النون وتخفيف الياء المثناة من تحت وآخره راء. (2)
قوله: (لا يُجلد) بضمّ أوّله بصيغة النّفي، ولبعضهم بالجزم، ويؤيّده ما وقع في البخاري بصيغة النّهي " لا تجلدوا ".
(1) هو عبدالله بن ابراهيم ، سبق ترجمته (1/ 114)
(2)
تقدّمت ترجمة أبي بردة رضي الله عنه. انظر رقم (147).
قوله: (فوق عشرة أسواط) وللبخاري " فوق عشر جلدات " وفي رواية له أيضاً " لا عقوبة فوق عشر ضربات ".
قوله: (إلَّا في حدّ من حدود الله) ظاهره أنّ المراد بالحدّ ما ورد فيه من الشّارع عددٌ من الجلد أو الضّرب مخصوص أو عقوبة مخصوصة.
والمتّفق عليه من ذلك الزّنا والسّرقة وشرب المسكر والحرابة والقذف بالزّنا والقتل والقصاص في النّفس والأطراف والقتل في الارتداد، واختلف في تسمية الأخيرين حدّاً.
واختلف في أشياء كثيرة يستحقّ مرتكبها العقوبة ، هل تُسمّى عقوبته حدّاً أو لا؟.
وهي جحد العارية واللواط وإتيان البهيمة وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها والسّحاق وأكل الدّم والميتة - في حال الاختيار - ولحم الخنزير، وكذا السّحر والقذف بشرب الخمر وترك الصّلاة تكاسلاً والفطر في رمضان والتّعريض بالزّنا.
وذهب بعضهم. إلى أنّ المراد بالحدّ في حديث الباب حقّ الله.
قال ابن دقيق العيد: بلغني أنّ بعض العصريّين قرّر هذا المعنى بأنّ تخصيص الحدّ بالمقدّرات المقدّم ذكرها أمرٌ اصطلاحيّ من الفقهاء، وأنّ عرف الشّرع أوّل الأمر كان يطلق الحدّ على كلّ معصية كبرت أو صغرت.
وتعقّبه ابن دقيق العيد ، أنّه خروج عن الظّاهر ويحتاج إلى نقل، والأصل عدمه.
قال: ويردّ عليه. أنّا إذا أجزنا في كلّ حقّ من حقوق الله أن يزاد على العشر لَم يبق لنا شيء يختصّ المنع به، لأنّ ما عدا الحرمات التي لا يجوز فيها الزّيادة هو ما ليس بمحرّمٍ، وأصل التّعزير أنّه لا يشرع فيما ليس بمحرّمٍ فلا يبقى لخصوص الزّيادة معنىً.
قلت: والعصريّ المشار إليه أظنّه ابن تيميّة.
وقد تقلَّد صاحبه ابن القيّم المقالة المذكورة ، فقال: الصّواب في الجواب. أنّ المراد بالحدود هنا الحقوق التي هي أوامر الله ونواهيه، وهي المراد بقوله {ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظّالمون} وفي أخرى {فقد ظلم نفسه} وقال {تلك حدود الله فلا تقربوها} وقال {ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً} .
قال: فلا يزاد على العشر في التّأديبات التي لا تتعلق بمعصيةٍ كتأديب الأب ولده الصّغير.
قلت: ويحتمل أن يفرّق بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير لا يزاد عليه وهو المستثنى في الأصل، وما لَم يرد فيه تقدير.
فإن كان كبيرة جازت الزّيادة فيه ، وأطلق عليه اسم الحدّ كما في الآيات المشار إليها والتحق بالمستثنى. وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزّيادة.
فهذا يدفع إيراد الشّيخ تقيّ الدّين على العصريّ المذكور - إن كان ذلك مراده - وقد أخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة بالتّعزير بلفظ: لا تعزّروا فوق عشرة أسواط.
وقد اختلف السّلف في مدلول هذا الحديث.
القول الأول: أخذ بظاهره الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض الشّافعيّة.
القول الثاني: قال مالك والشّافعيّ وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزّيادة على العشر. ثمّ اختلفوا.
فقال الشّافعيّ: لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحدّ الحرّ أو العبد؟. قولان، وفي قول أو وجه يستنبط: كلّ تعزير من جنس حدّه ولا يجاوزه، وهو مقتضى قول الأوزاعيّ " لا يبلغ به الحدّ ". ولَم يفصّل.
وقال الباقون: هو إلى رأي الإمام بالغاً ما بلغ. وهو اختيار أبي ثور، وعن عمر ، أنّه كتب إلى أبي موسى: لا تجلد في التّعزير أكثر من عشرين. وعن عثمان: ثلاثين ، وعن عمر: أنّه بلغ بالسّوط مائة ، وكذا عن ابن مسعود.
وعن مالك وأبي ثور وعطاء: لا يعزّر إلَّا من تكرّر منه، ومن وقع منه مرّة واحدة معصيةٌ لا حدّ فيها فلا يعزّر.
وعن أبي حنيفة: لا يبلغ أربعين، وعن ابن أبي ليلى وأبي يوسف: لا يزاد على خمس وتسعين جلدة، وفي رواية عن مالك وأبي يوسف. لا يبلغ ثمانين.
وأجابوا عن الحديث بأجوبةٍ:
الأول: ما تقدّم.
الثاني: قصره على الجلد ، وأمّا الضّرب بالعصا مثلاً وباليد فتجوز الزّيادة ، لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الإصطخريّ من الشّافعيّة ، وكأنّه لَم يقف على الرّواية الواردة بلفظ الضّرب.
الثالث: أنّه منسوخ. دلَّ على نسخه إجماع الصّحابة.
وردّ: بأنّه قال به بعض التّابعين ، وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار.
الرابع: معارضة الحديث بما هو أقوى منه ، وهو الإجماع على أنّ التّعزير يخالف الحدود ، وحديث الباب يقتضي تحديده بالعشر فما دونها فيصير مثل الحدّ، وبالإجماع على أنّ التّعزير موكولٌ إلى رأي الإمام فيما يرجع إلى التّشديد والتّخفيف لا من حيث العدد ، لأنّ التّعزير شرع للرّدع ، ففي النّاس من يردعه الكلام ، ومنهم من لا يردعه الضّرب الشّديد، فلذلك كان تعزيرُ كلِّ أحدٍ بحسبه.
وتعقّب: بأنّ الحدّ لا يزاد فيه، ولا ينقص فاختلفا، وبأنّ التّخفيف والتّشديد مسلمٌ ، لكن مع مراعاة العدد المذكور ، وبأنّ الرّدع لا يراعى في الأفراد ، بدليل أنّ من النّاس من لا يردعه الحدّ، ومع ذلك لا يجمع عندهم بين الحدّ والتّعزير، فلو نظر إلى كل فردٍ لقيل بالزّيادة على الحدّ ، أو الجمع بين الحدّ والتّعزير.
ونقل القرطبيّ: أنّ الجمهور قالوا بما دلَّ عليه حديث الباب.
وعكسه النّوويّ ، وهو المعتمد ، فإنّه لا يعرف القول به عن أحد من الصّحابة.
واعتذر الدّاوديّ فقال: لَم يبلغ مالكاً هذا الحديث ، فكان يرى العقوبة بقدر الذّنب، وهو يقتضي. أنّه لو بلغه ما عدل عنه ، فيجب على من بلغه أن يأخذ به.