الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب العدّة
الحديث التاسع عشر
323 -
عن سُبيعة الأسلميّة رضي الله عنها، أنها كانت تحت سعد بن خولة - وهو من بني عامر بن لؤيٍ، وكان ممن شهد بدراً - فتوفّي عنها في حجة الوداع، وهي حاملٌ، فلم تنشب أنْ وضعتْ حملَها بعد وفاته، فلما تعلَّت من نفاسها تجمّلت للخطّاب، فدخل عليها أبو السّنابل بن بعككٍ - رجلٌ من بني عبد الدار - فقال لها: مالِي أراكِ مُتجمِّلةً؟ لعلك ترجّين النكاح، والله ما أنت بناكحٍ حتى تمرّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ، قالت سبيعة: فلمَّا قال لي ذلك، جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأنِي قد حللتُ حين وضعت حملي، وأمرني بالتّزويج إن بدا لي.
قال ابن شهاب: ولا أرى بأساً أن تتزوَّج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها، حتى تطهر. (1)
(1) أخرجه مسلم (1484) من طريق يونس عن الزهري حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أنَّ أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري، يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية، فيسألها عن حديثها، وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته، فكتب عمر بن عبد الله إلى عبد الله بن عتبة يخبره، أن سبيعة أخبرته: أنها كانت تحت. فذكره.
وذكره البخاري (3770) معلّقاً: وقال الليث حدثني يونس فذكره. دون قول الزهري.
ووصله البخاري في الطلاق (5013) حدثني يحيى بن بكير عن الليث به مختصراً ، أنه كتب يسأل سُبيعة كيف أفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: أفتاني إذا وضعت أنْ أنكح.
وأخرجاه من طرق أخرى عن سبيعة رضي الله عنها ، وسيأتي ذكرها إن شاء الله.
قوله: (سبيعة الأسلميّة) هي بمهملة وموحّدة ثمّ مهملة تصغير سبع، ووقع في البخاري " سبيعة بنت الحارث " وذكرها ابن سعد في المهاجرات.
ووقع في رواية لابن إسحاق عند أحمد " سبيعة بنت أبي برزة الأسلميّ " فإن كان محفوظاً فهو أبو برزة آخر غير الصّحابيّ المشهور، وهو إمّا كنية للحارث والد سبيعة ، أو نُسبت في الرّواية المذكورة إلى جدٍّ لها.
قوله: (كانت تحت سعد بن خولة) تقدّم الكلام عليه (1)
قوله: (فتوفّي عنها في حجة الوداع) نقل ابن عبد البرّ الاتّفاق على ذلك، وفي ذلك نظرٌ. فقد ذكر: محمّد بن سعد أنّه مات قبل الفتح، وذكر الطّبريّ أنّه مات سنة سبع، وقد ذكرتُ شيئاً من ذلك في كتاب الوصايا (2).
وفي البخاري " أنّه قتل " ومعظم الرّوايات على أنّه مات. وهو المعتمد.
ووقع للكرمانيّ: لعل سبيعة قالت: قتل ، بناء على ظنّ منها في ذلك فتبيّن أنّه لَم يقتل.
وهذا الجمع يمجّه السّمع، وإذا ظنّت سبيعة أنّه قتل ، ثمّ تبيّن لها
(1) انظر حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الماضي في الوصايا. برقم (299)
(2)
انظر التعليق السابق.
أنّه لَم يُقتل ، فكيف تجزم بعد دهر طويل بأنّه قتل؟ (1).
فالمعتمد أنّ الرّواية التي فيها قتل - إن كانت محفوظة - ترجّحت ، لأنّها لا تنافي مات أو توفّي، وإن لَم يكن في نفس الأمر قتل فهي رواية شاذّة.
قوله: (وهي حاملٌ) ذكر الكرمانيّ: أنّه وقع في بعض طرق حديث سبيعة ، أنّ زوجها مات وهي حاملةٌ وفي معظمها حاملٌ ، وهو الأشهر ، لأنّ الحمل من صفات النّساء فلا يحتاج إلى علامة التّأنيث.
ووجه الأوّل: أنّه أريد بأنّها ذات حملٍ بالفعل كما قيل في قوله تعالى (تذهل كل مرضعة) فلو أريد أنّ الإرضاع من شأنها لقيل كل مرضعٍ. انتهى.
والذي وقفنا عليه في جميع الرّوايات ، وهي حاملٌ ، وفي كلام أبي السّنابل لست بناكحٍ.
(1) هذا غريبٌ من الكرماني وابن حجر رحمهما الله. فقول " قتل " ليس من قول سبيعة ، وإنما هو من قول أم سلمة رضي الله عنها. وسياقه ظاهر في ذلك.
فأخرج البخاري في " صحيحه "(4909) عن أبي سلمة، قال: جاء رجلٌ إلى ابن عباس. وأبو هريرة جالس عنده، فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة؟ فقال ابن عباس: آخر الأجلين، قلت أنا:{وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ، قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي - يعني أبا سلمة - فأرسل ابنُ عباس غلامه كريباً إلى أم سلمة يسألها، فقالت: قُتِلَ زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو السنابل فيمن خطبها ". ولمسلم في الصحيح (1485) من وجه آخر عن أم سلمة. وفيه " نفست بعد وفاة زوجها ".
قوله: (فلم تنشب أنْ وضعت حملها بعد وفاته) وللبخاري عن المسور " بعد وفاة زوجها بليالٍ " ووقع في رواية محمّد بن إبراهيم التّيميّ عن أبي سلمة عن سبيعة عند أحمد " فلم أمكث إلَّا شهرين حتّى وضعت " وفي رواية داود بن أبي عاصم " فولَدتُ لأدنى من أربعة أشهر ". وهذا أيضاً مبهمٌ.
وفي رواية يحيى بن أبي كثيرٍ عن أبي سلمة عند البخاري " فوضعت بعد موته بأربعين ليلةٍ " كذا في رواية شيبان عنه ، وفي رواية حجّاجٍ الصّوّاف عند النّسائيّ " بعشرين ليلةً ".
ووقع عند ابن أبي حاتمٍ من رواية أيّوب عن يحيى " بعشرين ليلة أو خمس عشرة " ووقعت في رواية الأسود " فوضعت بعد وفاة زوجها بثلاثةٍ وعشرين يوماً أو خمسةٍ وعشرين يوماً " كذا عند التّرمذيّ والنّسائيّ.
وعند ابن ماجه " ببضعٍ وعشرين ليلةً " وكأنّ الرّاوي ألغى الشّك ، وأتى بلفظ يشمل الامرين ، ووقع في رواية عبد ربّه بن سعيدٍ " بنصف شهرٍ " وكذا في رواية شعبة بلفظ " خمسة عشر نصف شهر " وكذا في حديث ابن مسعودٍ عند أحمد.
والجمع بين هذه الرّوايات متعذرٌ لاتّحاد القصّة ، ولعلَّ هذا هو السّرّ في إبهام من أبهم المدّة إذ محل الخلاف أنْ تضع لدون أربعة أشهر وعشر ، وهو هنا كذلك ، فأقل ما قيل في هذه الرّوايات " نصف شهرٍ ".
وأمّا ما وقع في بعض الشّروح ، أنّ في البخاريّ رواية " عشر ليالٍ " وفي روايةٍ للطّبرانيّ " ثمانٍ أو سبعٍ " فهو في مدّة إقامتها بعد الوضع إلى أن استفتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، لا في مدّة بقيّة الحمل ، وأكثر ما قيل فيه بالتّصريح ، شهرين وبغيره دون أربعة أشهرٍ.
قوله: (أبو السّنابل بن بعككٍ) بمهملةٍ ونون ثمّ موحّدة جمع سنبلة.
اختلف في اسمه. فقيل: عمرو. قاله ابن البرقيّ عن ابن هشام عمّن يثق به عن الزّهريّ. وقيل: عامر. روي عن ابن إسحاق، وقيل: حبّة بموحّدة بعد المهملة، وقيل: بنونٍ ، وقيل: لبيدُ ربِّه، وقيل: أصرم، وقيل: عبد الله.
ووقع في بعض الشّروح ، وقيل: بغيض.
قلت: وهو غلط. والسّبب فيه أنّ بعض الأئمّة سئل عن اسمه ، فقال: بغيض يسأل عن بغيض، فظنّ الشّارح أنّه اسمه، وليس كذلك ، لأنّ في بقيّة الخبر اسمه لبيدُ ربِّه، وجزم العسكريّ بأنّ اسمه كنيته.
وبعكك بموحّدةٍ ثمّ مهملة ثمّ كافين بوزن جعفر بن الحارث بن عميلة بن السّبّاق بن عبد الدّار، وكذا نسبه ابن إسحاق.
وقيل: هو ابن بعكك بن الحجّاج بن الحارث بن السّبّاق. نقل ذلك عن ابن الكلبيّ ابنُ عبد البرّ. قال: وكان من المؤلَّفة ، وسكن الكوفة، وكان شاعراً.
ونقل التّرمذيّ عن البخاريّ أنّه قال: لا يعلم أنّ أبا السّنابل عاش بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كذا قال، لكن جزم ابن سعد أنّه بقي بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم زمناً.
وقال ابن منده في " الصّحابة ": عداده في أهل الكوفة، وكذا قال أبو نعيمٍ أنّه سكن الكوفة.
وفيه نظرٌ ، لأنّ خليفة قال: أقام بمكّة حتّى مات، وتبعه ابن عبد البرّ.
ويؤيّد كونه عاش بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم قول ابن البرقيّ: أنّ أبا السّنابل تزوّج سبيعة بعد ذلك، وأولدها سنابل بن أبي السّنابل.
ومقتضى ذلك أن يكون أبو السّنابل عاش بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنّه وقع في رواية عبد ربّه بن سعيد عن أبي سلمة ، أنّها تزوّجت الشّابّ، وكذا في رواية داود بن أبي عاصم ، أنّها تزوّجت فتىً من قومها.
وتقدّم أنّ قصّتها كانت بعد حجّة الوداع فيحتاج ، إن كان الشّابّ دخل عليها ثمّ طلَّقها ، إلى زمان عدّة منه ثمّ إلى زمان الحمل حتّى تضع وتلد سنابل حتّى صار أبوه يكنّى به أبا السّنابل.
وقد أفاد محمّد بن وضّاحٍ فيما حكاه ابن بشكوالٍ وغيره عنه ، أنّ اسم الشّابّ الذي خطب سبيعة هو وأبو السّنابل فآثرته على أبي السّنابل أبو البشر بن الحارث، وضبطه بكسر الموحّدة وسكون المعجمة.
وقد أخرج التّرمذيّ والنّسائيّ قصّة سبيعة من رواية الأسود عند
أبي السّنابل بسندٍ على شرط الشّيخين إلى الأسود - وهو من كبار التّابعين من أصحاب ابن مسعود - ولَم يوصف بالتّدليس، فالحديث صحيح على شرط مسلم، لكنّ البخاريّ على قاعدته في اشتراط ثبوت اللقاء ولو مرّة. فلهذا قال ما نقله التّرمذيّ.
قوله: (والله ما أنت بناكحٍ حتى تمرّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ) وللبخاري عن أمّ سلمة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّ امرأةً من أسلم يقال لها سبيعة، كانت تحت زوجها، توفّي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السّنابل بن بعككٍ، فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه حتّى تعتدّي آخر الأجلين، فمكثت قريباً من عشر ليالٍ، ثمّ جاءت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: انكحي.
ووقع في رواية الموطّأ " فخطبها رجلان أحدهما شابّ وكهل، فحطّت إلى الشّابّ، فقال الكهل: لَم تحلِّي، وكان أهلها غيّباً فرجا أن يؤثروه بها.
قوله: (جمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيت) هذا ظاهر في أنّها توجّهت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مساء اليوم الذي قال لها فيه أبو السّنابل ما قال.
وقد يخالف في الظّاهر قوله في هذه الطّريق الثّانية " فمكثتْ قريباً من عشر ليالٍ ثمّ جاءتْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ".
ويمكن الجمع بينهما: أن يُحمل قولها " حين أمسيت " على إرادة وقت توجّهها، ولا يلزم منه أن يكون ذلك في اليوم الذي قال لها فيه ما قال.
قوله: (فأفتاني بأني قد حللتُ حين وضعتُ حملي، وأمرني بالتّزويج إن بدا لي).
قال جمهور العلماء من السّلف وأئمّة الفتوى في الأمصار: إنّ الحامل إذا مات عنها زوجها تحلُّ بوضع الحمل. وتنقضي عدّة الوفاة.
وخالف في ذلك عليٌّ. فقال: تعتد آخر الأجلين.
ومعناه أنّها إن وضعت قبل مضيّ أربعة أشهرٍ وعشرٍ تربّصت إلى انقضائها. ولا تحل بمجرّد الوضع ، وإن انقضت المدّة قبل الوضع تربّصت إلى الوضع ، أخرجه سعيد بن منصورٍ وعبد بن حميد عن عليّ بسند صحيح.
وبه قال ابن عبّاسٍ كما في الصحيحين (1) ، ويقال إنّه رجع عنه ، ويقوّيه أنّ المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة في ذلك.
وفي البخاري معلَّقاً. ووصله الطبراني والبيهقي ، أنَّ عبد الرّحمن بن أبي ليلى أنكر على ابن سيرين القول بانقضاء عدّتها بالوضع ، وأنكر أن يكون ابن مسعود قال بذلك.
وقد ثبت عن ابن مسعودٍ من عدّة طرقٍ ، أنّه كان يوافق الجماعة ، حتّى كان يقول: من شاء لاعنته على ذلك.
فقد أخرج أبو داود وابن أبي حاتم من طريق مسروق قال: بلغ ابنَ مسعود أنّ عليّاً يقول: تعتدّ آخر الأجلين، فقال: من شاء لاعنته أنّ التي في النّساء القصرى أنزلت بعد سورة البقرة، ثمّ قرأ (وأولات
(1) انظر ما تقدّم في التعليق الماضي.
الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ) " وعرف بهذا مراده بسورة النّساء القصرى.
ويظهر من مجموع الطّرق في قصّة سبيعة ، أنَّ أبا السنابل رجع عن فتواه أنّها لا تحل حتّى تمضي مدّة عدّة الوفاة ، لأنّه قد روى قصّة سبيعة وردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما أفتاها أبو السّنابل به ، من أنّها لا تحل حتّى يمضي لها أربعة أشهرٍ وعشرٌ.
ولَم يرد عن أبي السّنابل تصريحٌ في حكمها لو انقضت المدّة قبل الوضع ، هل كان يقول بظاهر إطلاقه من انقضاء العدّة ، أو لا؟.
لكن نقل غير واحدٍ الإجماع على أنّها لا تنقضي في هذه الحالة الثّانية حتّى تضع.
وقد وافق سحنونُ من المالكيّة عليّاً ، نقله المازريّ وغيره ، وهو شذوذٌ مردودٌ ، لأنّه إحداث خلافٍ بعد استقرار الإجماع.
والسّبب الحامل له الحرص على العمل بالآيتين اللتين تعارض عمومهما ، فقوله تعالى (والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشراً) عامّ في كل من مات عنها زوجها ، يشمل الحامل وغيرها.
وقوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ) عامٌّ أيضاً يشمل المطلقة والمتوفّى عنها.
فجمع أولئك بين العمومين بقصر الثّانية على المطلقة بقرينة ذكر عدد المطلقات كالآيسة والصّغيرة قبلهما ، ثمّ لَم يهملوا ما تناولته الآية
الثّانية من العموم ، لكن قصروه على من مضت عليها المدّة ولَم تضع ، فكان تخصيص بعض العموم أولى وأقرب إلى العمل بمقتضى الآيتين من إلغاء أحدهما في حقّ بعض من شمله العموم.
وقد أخرج الطّبريّ وابن أبي حاتم بطرقٍ متعدّدة إلى أبيّ بن كعب ، أنّه قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم (وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ) المطلقة ثلاثاً أو المتوفّى عنها زوجها؟ قال: هي للمطلقة ثلاثاً أو المتوفّى عنها.
وهذا المرفوع - وإن كان لا يخلو شيء من أسانيده عن مقال - لكن كثرة طرقه تشعر بأنّ له أصلاً، ويعضده قصّة سبيعة المذكورة.
قال القرطبيّ (1): هذا نظرٌ حسنٌ ، فإن الجمع أولى من التّرجيح باتّفاق أهل الأصول ، لكنّ حديث سبيعة نصّ بأنّها تحل بوضع الحمل ، فكان فيه بيانٌ للمراد بقوله تعالى (يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرا) أنّه في حقّ من لَم تضع ، وإلى ذلك أشار ابن مسعودٍ بقوله: إنّ آية الطّلاق نزلت بعد آية البقرة.
وفهم بعضهم منه. أنّه يرى نسخ الأولى بالأخيرة ، وليس ذلك مراده ، وإنّما يعني أنّها مخصّصةٌ لها فإنّها أخرجت منها بعض متناولاتها.
وقال ابن عبد البرّ: لولا حديث سبيعة لكان القول ما قال عليّ وابن عبّاس ، لأنّهما عدتان مجتمعان بصفتين ، وقد اجتمعتا في الحامل
(1) هو صاحب المفهم أحمد بن عمر ، سبق ترجمته (1/ 26)
المتوفّى عنها زوجها ، فلا تخرج من عدّتها إلَّا بيقينٍ واليقين آخر الأجلين. وقد اتّفق الفقهاء من أهل الحجاز والعراق ، أنّ أمّ الولد لو كانت متزوّجةً فمات زوجها ومات سيّدها معاً ، أنّ عليها أن تأتي بالعدّة والاستبراء ، بأن تتربّص أربعة أشهرٍ وعشراً فيها حيضةٌ أو بعدها.
ويترجّح قول الجمهور أيضاً بأنّ الآيتين - وإن كانتا عامّتين من وجهٍ خاصّتين من وجهٍ - فكان الاحتياط أن لا تنقضي العدّة إلَّا بآخر الأجلين ، لكن لَمَّا كان المعنى المقصود الأصليّ من العدّة براءة الرّحم ، ولا سيّما فيمن تحيض يحصل المطلوب بالوضع ووافق ما دلَّ عليه حديث سبيعة ، ويقوّيه قول ابن مسعود ، في تأخّر نزول آية الطّلاق عن آية البقرة
قوله: (قال ابن شهاب) أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه، نُسب إلى جد جده لشهرته. زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم. اتفقوا على إتقانه وإمامته.
قوله: (ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها، حتى تطهر)
القول الأول: وبه قال الجمهور ، بأنّه يجوز العقد عليها إذا وضعت ولو لَم تطهر من دم النّفاس.
واستدلوا بقوله " فأفتاني بأنّي حللتُ حين وضعتُ حملي "
القول الثاني: قال الشّعبيّ والحسن والنّخعيّ وحمّاد بن سلمة: لا تنكح حتّى تطهر.
قال القرطبيّ: وحديث سبيعة حجّةٌ عليهم ، ولا حجّة لهم في قوله في بعض طرقه " فلمّا تعلّت من نفاسها " ، لأنّ لفظ تعلَّت كما يجوز أن يكون معناه طهرت جاز أن يكون استعلت من أَلَم النّفاس.
وعلى تقدير تسليم الأوّل ، فلا حجّة فيه أيضاً ، لأنّها حكاية واقعة سبيعة.
والحجّة إنّما هو في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّها حلت حين وضعت. كما في حديث الزّهريّ ، وفي رواية معمر عن الزّهريّ " حللتِ حين وضعتِ حملك " وكذا أخرجه أحمد من حديث أبيّ بن كعبٍ ، أنّ امرأته أمّ الطّفيل قالت لعمر: قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيعة أن تنكح إذا وضعت. وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى (أن يضعن حملهنّ) فعلَّق الحِلَّ بحين الوضع ، وقصره عليه ، ولَم يقل إذا طهرت ، ولا إذا انقطع دمك. فصحّ ما قال الجمهور
وفي قصّة سبيعة من الفوائد.
أنّ الصّحابة كانوا يفتون في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأنّ المفتي إذا كان له ميلٌ إلى الشّيء لا ينبغي له أن يفتي فيه ، لئلا يحمله الميل إليه على ترجيح ما هو مرجوحٌ كما وقع لأبي السّنابل ، حيث أفتى سبيعة أنّها لا تحل بالوضع لكونه كان خطبها فمنعته ورجا أنّها إذا قبلت ذلك منه ، وانتظرت مضيّ المدّة حضر أهلها فرغّبوها في
زواجه دون غيره.
وفيه ما كان في سبيعة من الشّهامة والفطنة ، حيث تردّدت فيما أفتاها به حتّى حملها ذلك على استيضاح الحكم من الشّارع ، وهكذا ينبغي لمن ارتاب في فتوى المفتى ، أو حكم الحاكم في مواضع الاجتهاد أن يبحث عن النّصّ في تلك المسألة.
ولعل ما وقع من أبي السّنابل من ذلك هو السّرّ في إطلاق النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنّه كذب في الفتوى المذكورة. كما أخرجه أحمد من حديث ابن مسعودٍ ، على أنَّ الخطأ قد يطلق عليه الكذب ، وهو في كلام أهل الحجاز كثيرٌ.
وحمله بعض العلماء على ظاهره ، فقال: إنّما كذّبه لأنّه كان عالماً بالقصّة ، وأفتى بخلافه. حكاه ابن داود عن الشّافعي في شرح المختصر. وهو بعيدٌ.
وفيه الرّجوع في الوقائع إلى الأعلم ، ومباشرة المرأة السّؤال عمّا ينزل بها ولو كان ممّا يستحي النّساء من مثله ، لكن خروجها من منزلها ليلاً يكون أستر لها كما فعلت سبيعة.
وفيه أنَّ الحامل تنقضي عدّتها بالوضع على أيّ صفةٍ كان ، من مضغةٍ أو من علقةٍ ، سواء استبان خلق الآدميّ أم لا ، لأنّه صلى الله عليه وسلم رتّب الحِلَّ على الوضع من غير تفصيل.
وتوقَّف ابن دقيق العيد فيه. من جهة أنّ الغالب في إطلاق وضع الحامل هو الحمل التّامّ المتخلق ، وأمّا خروج المضغة أو العلقة فهو
نادرٌ ، والحمل على الغالب أقوى ، ولهذا نقل عن الشّافعيّ ، قولٌ بأنّ العدّة لا تنقضي بوضع قطعة لحمٍ ليس فيها صورةٌ بيّنةٌ ولا خفيّةٌ.
وأجيب عن الجمهور: بأنّ المقصود في انقضاء العدّة براءة الرّحم وهو حاصلٌ بخروج المضغة أو العلقة.
بخلاف أمّ الولد فإنّ المقصود منها الولادة ، وما لا يصدق عليه أنّه أصلُ آدميٍ لا يقال فيه ولدت.
وفيه جواز تجمّل المرأة بعد انقضاء عدّتها لمن يخطبها ، لأنّ في رواية الزّهريّ التي في البخاري فقال " مالي أراكِ تَجمّلتِ للخطاب " وفي رواية ابن إسحاق " فتهيّأت للنّكاح واختضبت ".
وفي رواية معمّرٍ عن الزّهري عند أحمد " فلقيها أبو السّنابل وقد اكتحلت " وفي رواية الأسود " فتطيّبت وتصنّعت ".
واستدل به على أنّ المرأة لا يجب عليها التّزويج ، لقولها في الخبر " وأمرني بالتّزويج إن بدا لي " وهو مبيّنٌ للمراد من قوله في رواية سليمان بن يسارٍ عن كريب عن أم سلمة عند مسلم " وأمرها بالتّزويج " فيكون معناه وأذن لها.
وكذا ما وقع في البخاري عن أم سلمة " فقال: انكحي " وفي رواية ابن إسحاق عند أحمد " فقد حللتِ فتزوّجي ".
ووقع في رواية الأسود عن أبي السنابل عند ابن ماجه في آخره فقال: إن وجدتِ زوجاً صالحاً فتزوجي. وفي حديث ابن مسعودٍ عند أحمد " إذا أتاك أحدٌ ترضينه ".
وفيه أنَّ الثّيّب لا تزوّج إلَّا برضاها من ترضاه ، ولا إجبار لأحدٍ عليها ، وقد تقدّم بيانه في غير هذا الحديث. (1)
(1) انظر حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي برقم (313)