الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
354 -
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أنه قال: إنّ اليهود جاءوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم فذكروا له: أنّ امرأةً منهم ورجلاً زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويُجلدون، قال عبد الله بن سلامٍ: كذبتم، إنَّ فيها آية الرجم، فأتَوا بالتوراة فنَشَرُوها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقال: صدق يا محمّد، فأمر بهما النبيّ صلى الله عليه وسلم فرُجِما، قال: فرأيت الرجل، يجنأ على المرأة يقيها الحجارة. (1)
قال المصنِّف: يجنأ: ينحني. الرَّجل الذي وضع يده على آية الرجم. هو عبد الله بن صوريا.
قوله: (إنّ اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أنّ رجلاً منهم وامرأة زنيا) ذكر السّهيليّ عن ابن العربيّ ، أنّ اسم المرأة بُسرة - بضمّ الموحّدة وسكون المهملة - ولَم يسمّ الرّجل.
وذكر أبو داود السّبب في ذلك من طريق الزّهريّ سمعت رجلاً من مزينة ، ممّن تبع العلم ، وكان عند سعيد بن المسيّب يحدّث عن أبي هريرة قال: زنى رجلٌ من اليهود بامرأةٍ، فقال بعضهم لبعضٍ:
(1) أخرجه البخاري (1264 ، 3436، 4280، 6450، 6901، 7104) ومسلم (1669) من طرق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (6433) من وجهٍ أخر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر نحوه.
اذهبوا بنا إلى هذا النّبيّ ، فإنّه بعث بالتّخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرّجم قبلناها واحتججنا بها عند الله ، وقلنا فتيا نبيٍّ من أنبيائك. قال: فأتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا: يا أبا القاسم. ما ترى في رجل وامرأة زنيا منهم.
ونقل ابن العربيّ عن الطّبريّ والثّعلبيّ عن المفسّرين قالوا: انطلق قومٌ من قريظة والنّضير منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصّيف وكنانة بن أبي الحقيق وشاس بن قيس ويوسف بن عازوراء ، فسألوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان رجل وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا واسم المرأة بسرة، وكانت خيبر حينئذٍ حرباً ، فقال لهم: اسألوه، فنزل جبريل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: اجعل بينك وبينهم ابن صوريّا " فذكر القصّة مطوّلة.
ولفظ الطّبريّ من طريق الزّهريّ المذكورة " إنّ أحبار اليهود اجتمعوا في بيت المدراس، وقد زنى رجلٌ منهم بعد إحصانه بامرأةٍ منهم قد أحصنت. فذكر القصّة. وفيها. فقال: اخرجوا إلى عبد الله بن صوريّا الأعور ".
قال ابن إسحاق: ويقال: إنّهم أخرجوا معه أبا ياسر بن أحطب ووهب بن يهودا، فخلا النّبيّ صلى الله عليه وسلم، بابن صوريّا " فذكر الحديث.
ووقع عند مسلم من حديث البراء: مرّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيهوديٍّ محمّماً مجلوداً. فدعاهم فقال: هكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟ قالوا: نعم.
وهذا يخالف الأوّل ، من حيث إنّ فيه أنّهم ابتدءوا السّؤال قبل إقامة الحدّ، وفي هذا أنّهم أقاموا الحدّ قبل السّؤال.
ويمكن الجمع بالتّعدّد: بأن يكون الذين سألوا عنهما غير الذي جلدوه.
ويحتمل أن يكون: بادروا فجلدوه ، ثمّ بدا لهم فسألوا فاتّفق المرور بالمجلود في حال سؤالهم عن ذلك ، فأمرهم بإحضارهما فوقع ما وقع والعلم عند الله.
ويؤيّد الجمع. ما وقع عند الطّبرانيّ من حديث ابن عبّاس ، أنّ رهطاً من اليهود أتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومعهم امرأة ، فقالوا: يا محمّد ما أنزل عليك في الزّنا.
فيتّجه أنّهم جلدوا الرّجل ، ثمّ بدا لهم أن يسألوا عن الحكم ، فأحضروا المرأة وذكروا القصّة والسّؤال.
ووقع في رواية عبيد الله العمريّ عن نافع عن ابن عمر عند مسلم " أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديٍّ ويهوديّة زنيا ". ونحوه في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر في البخاري. ولفظه " أَحْدَثَا ".
وفي حديث عبد الله بن الحارث عند البزّار " أنّ اليهود أتوا بيهوديّين زنيا ، وقد أحصنا ".
قوله: (ما تجدون في التّوراة في شأن الرّجم؟) قال الباجيّ:
يحتمل: أن يكون علم بالوحي ، أنّ حكم الرّجم فيها ثابت على ما شرع ، لَم يلحقه تبدّل.
ويحتمل: أن يكون علم ذلك بإخبار عبد الله بن سلام وغيره ، ممّن أسلم منهم على وجه حصل له به العلم بصحّة نقلهم.
ويحتمل: أن يكون إنّما سألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه ، ثمّ يتعلم صحّة ذلك من قِبَل الله تعالى.
قوله: (فقالوا: نفضحهم) بفتح أوّله وثالثه من الفضيحة.
قوله: (ويجلدون) وقع بيان الفضيحة في رواية أيّوب عن نافع في البخاري بلفظ " قالوا: نسخّم وجوههما، ونخزيهما " وفي رواية عبيد الله (1) بن عمر " قالوا: نسوّد وجوههما ونحمّمهما ونخالف بين وجوههما. ويطاف بهما ".
وفي رواية عبد الله بن دينار " أنّ أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه ، والتّجبيه " وفي حديث أبي هريرة " يحمّم ويجبّه ويجلد ".
وقوله " نحمّمهما " بمهملةٍ ثمّ ميم مثقلة ، أي: نسكب عليهما الماء الحميم.
وقيل: نجعل في وجوههما الحمة بمهملة وميم خفيفة. أي: السّواد.
والتّجبيه ، أن يحمل الزّانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما.
وجزم إبراهيم الحربيّ ، بأنّ تفسير التّجبيه من قول الزّهريّ ، فكأنّه
(1) وقع في المطبوع من الفتح " عبد الله " وهو خطأ ، والتصويب من صحيح مسلم (1699).
أدرج في الخبر ، لأنّ أصل الحديث من روايته.
وقال المنذريّ: يشبه أن يكون أصله الهمزة ، وأنّه التّجبئة ، وهي الرّدع والزّجر ، يقال: جبّأته تجبيئاً. أي: ردعته.
والتّجبية أن ينكّس رأسه ، فيحتمل: أن يكون من فعل به ذلك ، ينكّس رأسه استحياء ، فسمّي ذلك الفعل تجبية.
ويحتمل: أن يكون من الجبه وهو الاستقبال بالمكروه ، وأصله من إصابة الجبهة ، تقول جَبَهْته إذا أصبت جبهته كرأسته إذا أصبت رأسه.
وقال الفارابيّ: جبّ بفتح الجيم وتشديد الموحّدة ، قام قيام الرّاكع ، وهو عريان.
وقال الباجيّ: ظاهر الأمر ، أنّهم قصدوا في جوابهم تحريف حكم التّوراة والكذب على النّبيّ ، إمّا رجاء أن يحكم بينهم بغير ما أنزل الله ، وإمّا لأنّهم قصدوا بتحكيمه التّخفيف عن الزّانيين ، واعتقدوا أنّ ذلك يخرجهم عمّا وجب عليهم، أو قصدوا اختبار أمره، لأنّه من المقرّر أنّ من كان نبيّاً لا يقرّ على باطل، فظهر بتوفيق الله نبيّه كذبهم وصدقه ، ولله الحمد.
قوله: (قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إنّ فيها الرّجم) رواية أيّوب وعبيد الله بن عمر " قال: فأتوا بالتّوراة، قال: فاتلوها إن كنتم صادقين ".
قوله: (فأتوا) بصيغة الفعل الماضي، وفي رواية أيّوب " فجاءوا "
وزاد عبيد الله بن عمر " بها فقرءوها " وفي رواية زيد بن أسلم " فأتى بها فنزع الوسادة من تحته ، فوضع التّوراة عليها ، ثمّ قال: آمنت بك وبمن أنزلك ". (1)
وفي حديث البراء عند مسلم " فدعا رجلاً من علمائهم ، فقال: أنشدك بالله وبمن أنزله " وفي حديث جابر عند أبي داود " فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم، فأتي بابن صوريّا ".
زاد الطّبريّ في حديث ابن عبّاس " ائتوني برجلين من علماء بني إسرائيل، فأتوه برجلين ، أحدهما شابّ والآخر شيخ ، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ".
ولابن أبي حاتم من طريق مجاهد ، أنّ اليهود استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الزّانيين فأفتاهم بالرّجم فأنكروه، فأمرهم أن يأتوا بأحبارهم ، فناشدهم فكتموه ، إلَّا رجلاً من أصاغرهم أعور فقال: كذبوك يا رسولَ الله في التّوراة ".
قوله: (فأَتَوا بالتّوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرّجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها) ونحوه في رواية عبد الله بن دينار ، وفي رواية عبيد الله بن عمر " فوضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرّجم ، فقرأ ما بين يديها وما وراءها ".
وفي رواية أيّوب " فقالوا لرجلٍ ممّن يرضون: يا أعور اقرأ. فقرأ،
(1) أخرجه أبو داود (4449) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنه به.
حتّى انتهى إلى موضع منها ، فوضع يده عليه ".
واسم هذا الرّجل عبد الله بن صوريّا كما تقدّم.
وقد وقع عند النّقّاش في " تفسيره " ، أنّه أسلم، لكن ذكر مكّيّ في " تفسيره " ، أنّه ارتدّ بعد أن أسلم، كذا ذكر القرطبيّ.
ثمّ وجدته عند الطّبريّ بالسّند المتقدّم في الحديث الماضي (1) أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ناشده قال: يا رسولَ الله ، إنّهم ليعلمون أنّك نبيّ مرسل ، ولكنّهم يحسدونك " وقال في آخر الحديث " ثمّ كفر بعد ذلك ابن صوريّا ، ونزلت فيه {يا أيّها الرّسول لا يحزُنْك الذين يسارعون في الكفر} الآية.
قوله: (فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا فيها آية الرّجم) في رواية عبد الله بن دينار " فإذا آية الرّجم تحت يده ".
ووقع في حديث البراء " فحدُّه الرّجم، ولكنّه كثر في أشرافنا ، فكنّا إذا أخذنا الشّريف تركناه ، وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشّريف والوضيع ، فجعلنا التّحميم والجلد مكان الرّجم ".
ووقع بيان ما في التّوراة من آية الرّجم في رواية أبي هريرة " المحصن والمحصنة إذا زنيا ، فقامت عليهما البيّنة رُجما، وإن كانت المرأة حُبلى ، تربّص بها حتّى تضع ما في بطنها ".
وفي حديث جابر عند أبي داود " قالا: نجد في التّوراة إذا شهد
(1) أي: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود. الذي تقدّم في أول شرح هذا الحديث.
أربعة أنّهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما ".
زاد البزّار من هذا الوجه " فإن وجدوا الرّجل مع المرأة في بيت أو في ثوبها أو على بطنها فهي ريبة وفيها عقوبة، قال: فما منعكما أن ترجموهما ، قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل "
وفي حديث أبي هريرة " فما أوّل ما ارتخصتم أمر الله؟ قال: زنى ذو قرابة من الملك فأخّر عنه الرّجم، ثمّ زنى رجل شريف ، فأرادوا رجمه ، فحال قومه دونه ، وقالوا: ابدأ بصاحبك، فاصطلحوا على هذه العقوبة ".
وفي حديث ابن عبّاس عند الطّبرانيّ " إنّا كنّا شببة ، وكان في نسائنا حسن وجه ، فكثر فينا ، فلم يقم له ، فصرنا نجلد " والله أعلم.
قوله: (فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِما) زاد في حديث أبي هريرة " فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: فإنّي أحكم بما في التّوراة " وفي حديث البراء " اللهمّ إنّي أوّل من أحيي أمرك إذ أماتوه ".
ووقع في حديث جابر من الزّيادة أيضاً " فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشّهود، فجاء أربعة فشهدوا أنّهم رأوا ذكره في فرجها ، مثل الميل في المكحلة، فأمر بهما فرجما ".
قوله: (فرأيت الرّجلَ يجنأ) وللبخاري " يحني " كذا في رواية أبي ذرّ عن السّرخسيّ. بالحاء المهملة بعدها نون مكسورة ثمّ تحتانيّة ساكنة.
وعن المستملي والكشميهنيّ بجيمٍ ونون مفتوحة ثمّ همزة، وهو
الذي قال ابن دقيق العيد: إنّه الرّاجح في الرّواية.
وفي رواية أيّوب " يجانئ " بضمّ أوّله وجيم مهموز.
قال ابن القطّاع: جنأ على الشّيء حنا ظهره عليه.
وقال الأصمعيّ: أجنأ التّرس جعله مجنأً. أي: محدوباً.
وقال عياض: الصّحيح في هذا ، ما قاله أبو عبيدة. يعني: بالجيم والهمز.
وقال ابن عبد البرّ: وقع في رواية يحيى بن يحيى كالسّرخسيّ. والصّواب " يحني " أي: يميل.
وجملة ما حصل لنا من الاختلاف في ضبط هذه اللفظة عشرة أوجه:
الأوّلان والثّالث: بضمّ أوّله والجيم وكسر النّون وبالهمزة.
الرّابع: كالأوّل. إلَّا أنّه بالموحّدة بدل النّون.
الخامس: كالثّاني. إلَّا أنّه بواوٍ بدل التّحتانيّة.
السّادس: كالأوّل. إلَّا أنّه بالجيم.
السّابع: بضمّ أوّله وفتح المهملة وتشديد النّون.
الثّامن: " يجاني " بالنّون.
التّاسع مثله ، لكن بالحاء.
العاشر: مثله ، لكنّه بالفاء بدل النّون وبالجيم أيضاً.
ورأيت في " الزّهريّات " للذّهليّ بخطّ الضّياء في هذا الحديث من طريق معمر عن الزّهريّ " يجافي " بجيمٍ وفاء بغير همز ، وعلى الفاء
صح صح.
قوله: (يقيها) بفتح أوّله ثمّ قاف تفسير لقوله " يحني " وفي رواية عبيد الله بن عمر " فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه " ولابن ماجه من هذا الوجه " يسترها ".
وفي حديث ابن عبّاس عند الطّبرانيّ " فلمّا وجد مسّ الحجارة ، قام على صاحبته يحني عليها ، يقيها الحجارة حتّى قتلا جميعاً ، فكان ذلك ممّا صنع الله لرسوله في تحقيق الزّنا منهما ".
وفي هذا الحديث من الفوائد.
وجوب الحدّ على الكافر الذّمّيّ إذا زنى ، وهو قول الجمهور، وفيه خلاف عند الشّافعيّة.
وقد ذهل ابن عبد البرّ ، فنقل الاتّفاق على أنّ شرط الإحصان الموجب للرّجم الإسلام.
وردّ عليه بأنّ الشّافعيّة وأحمد لا يشترطان ذلك.
ويؤيّد مذهبهما ، وقوع التّصريح بأنّ اليهوديّين اللذين رجما ، كانا قد أحصنا كما تقدّم نقله.
وقال المالكيّة ومعظم الحنفيّة وربيعة شيخ مالك: شرط الإحصان الإسلام.
وأجابوا عن حديث الباب: بأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما رجمهما بحكم التّوراة ، وليس هو من حكم الإسلام في شيء، وإنّما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بما في كتابهم، فإنّ في التّوراة الرّجم على المحصن وغير
المحصن.
قالوا: وكان ذلك أوّل دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان مأموراً باتّباع حكم التّوراة والعمل بها حتّى ينسخ ذلك في شرعه، فرجَمَ اليهوديّين على ذلك الحكم، ثمّ نسخ ذلك بقوله تعالى {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم} إلى قوله {أو يجعل الله لهنّ سبيلاً} ثمّ نسخ ذلك بالتّفرقة بين من أحصن ومن لَم يحصن كما تقدّم. انتهى
وفي دعوى الرّجم على من لَم يحصن نظرٌ، لِمَا تقدّم من رواية الطّبريّ وغيره.
وقال مالك: إنّما رجم اليهوديّين ، لأنّ اليهود يومئذٍ لَم يكن لهم ذمّة فتحاكموا إليه.
وتعقّبه الطّحاويّ: بأنّه لو لَم يكن واجباً ما فعله، قال: وإذا أقام الحدّ على من لا ذمّة له ، فلأن يقيمه على من له ذمّة أولى.
وقال المازريّ: يُعترض على جواب مالك بكونه رجم المرأة ، وهو يقول: لا تقتل المرأة إلَّا إن أجاب ذلك كان قبل النّهي عن قتل النّساء.
وأيّد القرطبيّ أنّهما كانا حربيّين بما أخرجه الطّبريّ كما تقدّم، ولا حجّة فيه لأنّه منقطع.
قال القرطبيّ: ويُعكّر عليه أنَّ مجيئهم سائلين يوجب لهم عهداً ، كما لو دخلوا لغرضٍ كتجارةٍ أو رسالة أو نحو ذلك ، فإنّهم في أمان
إلى أن يردّوا إلى مأمنهم.
قلت: ولَم ينفصل عن هذا إلَّا أن يقول: إنّ السّائل عن ذلك ليس هو صاحب الواقعة.
وقال النّوويّ: دعوى أنّهما كان حربيّين باطلةٌ بل كانا من أهل العهد.
كذا قال. وسلَّم بعض المالكيّة: أنّهما كانا من أهل العهد ، واحتجّ بأنّ الحاكم مخيّر إذا تحاكم إليه أهل الذّمّة ، بين أن يحكم فيهم بحكم الله ، وبين أن يعرض عنهم على ظاهر الآية، فاختار صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أن يحكم بينهم.
وتعقّب: بأنّ ذلك لا يستقيم على مذهب مالك ، لأنّ شرط الإحصان عنده الإسلام وهما كانا كافرين.
وانفصل ابن العربيّ عن ذلك ، بأنّهما كانا محكّمين له في الظّاهر ومختبرين ما عنده في الباطن ، هل هو نبيّ حقّ أو مسامح في الحقّ، وهذا لا يرفع الإشكال ولا يخلص عن الإيراد.
ثمّ قال ابن العربيّ: في الحديث أنّ الإسلام ليس شرطاً في الإحصان، والجواب بأنّه إنّما رجمهما لإقامة الحجّة على اليهود فيما حكّموه فيه من حكم التّوراة. فيه نظر، لأنّه كيف يقيم الحجّة عليهم بما لا يراه في شرعه. مع قوله {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} ؟.
قال: وأجيب بأنّ سياق القصّة يقتضي ما قلناه، ومن ثَمّ استدعى شهودهم ليقيم الحجّة عليهم منهم.
إلى أن قال: والحقّ أحقّ أن يتّبع ، ولو جاءوني لحكمت عليهم بالرّجم ، ولَم أعتبر الإسلام في الإحصان.
وقال ابن عبد البرّ: حدّ الزّاني حقّ من حقوق الله. وعلى الحاكم إقامته، وقد كان لليهود حاكم ، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما. وقول بعضهم: إنّ الزّانيين حكّماه دعوى مردودةٌ، واعترض بأنّ التّحكيم لا يكون إلَّا لغير الحاكم، وأمّا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحكمه بطريق الولاية لا بطريق التّحكيم.
وأجاب الحنفيّة عن رجم اليهوديّين: بأنّه وقع بحكم التّوراة.
وردّه الخطّابيّ ، لأنّ الله قال {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وإنّما جاءه القوم سائلين عن الحكم عنده ، كما دلَّت عليه الرّواية المذكورة ، فأشار عليهم بما كتموه من حكم التّوراة، ولا جائز أن يكون حكم الإسلام عنده مخالفاً لذلك ، لأنّه لا يجوز الحكم بالمنسوخ، فدلَّ على أنّه إنّما حكم بالنّاسخ.
وأمّا قوله في حديث أبي هريرة: فإنّي أحكم بما في التّوراة. ففي سنده رجل مبهم، ومع ذلك ، فلو ثبت لكان معناه لإقامة الحجّة عليهم، وهو موافق لشريعته.
قلت: ويؤيّده أنّ الرّجم جاء ناسخاً للجلد كما تقدّم تقريره، ولَم يقل أحدٌ: إنّ الرّجم شرع ثمّ نسخ بالجلد ثمّ نسخ الجلد بالرّجم، وإذا كان حكم الرّجم باقياً منذ شرع ، فما حكم عليهما بالرّجم بمجرّد حكم التّوراة ، بل بشرعه الذي استمرّ حكم التّوراة عليه ، ولَم يقدّر
أنّهم بدّلوه فيما بدّلوا.
وأمّا ما جاء من أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجمهما أوّل ما قدم المدينة. لقوله في بعض طرق القصّة " لَمَّا قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه اليهود "(1).
فالجواب: أنّه لا يلزم من ذلك الفور، ففي بعض طرقه الصّحيحة كما تقدّم أنّهم تحاكموا إليه وهو في المسجد بين أصحابه، والمسجد لَم يكمل بناؤه إلَّا بعد مدّة من دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة فبطل الفور.
وأيضاً ففي حديث عبد الله بن الحارث بن جزء أنّه حضر ذلك ، وعبد الله إنّما قدم مع أبيه مسلماً بعد فتح مكّة، وقد تقدّم حديث ابن عبّاس ، وفيه ما يشعر بأنّه شاهد ذلك.
وفيه. أنّ المرأة إذا أقيم عليها الحدّ تكون قاعدةً ، هكذا استدل به الطّحاويّ، وقد تقدّم أنّهم اختلفوا في الحفر للمرجومة (2)، فمن يرى أنّه يحفر لها ، تكون في الغالب قاعدةً في الحفرة.
واختلافهم في إقامة الحدّ عليها قاعدةً أو قائمةً إنّما هو في الجلد، ففي الاستدلال بصورة الجلد على صورة الرّجم. نظر لا يخفى.
وفيه قبول شهادة أهل الذّمّة بعضهم على بعض، وزعم ابن العربيّ أنّ معنى قوله في حديث جابر " فدعا بالشّهود " أي: شهود الإسلام
(1) أخرجها أبو داود في " السنن "(4451) والبيهقي في " الكبرى "(8/ 430) من طريق ابن إسحاق عن الزهري. قال: سمعتُ رجلاً من مزينة يحدّث عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: زنى رجلٌ وامرأةٌ من اليهود وقد أُحصنا، حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فذكر الحديث. وقد ذكر الشارح بعضَ ألفاظه في أول الشرح.
(2)
تقدّم في شرح حديث قصة ماعز رضي الله عنه الماضي.
على اعترافهما، وقوله " فرجمهما بشهادة الشّهود " أي: البيّنة على اعترافهما.
وردّ هذا التّأويل: بقوله في نفس الحديث " إنّهم رأوا ذكَرَه في فرجها كالميل في المكحلة " وهو صريح في أنّ الشّهادة بالمشاهدة لا بالاعتراف.
وقال القرطبيّ: الجمهور على أنّ الكافر لا تقبل شهادته على مسلم ، ولا على كافر لا في حدّ ولا في غيره ، ولا فرق بين السّفر والحضر في ذلك، وقَبِلَ شهادتهم جماعةٌ من التّابعين وبعض الفقهاء ، إذا لَم يوجد مسلم، واستثنى أحمد: حالة السّفر إذا لَم يوجد مسلم.
وأجاب القرطبيّ عن الجمهور عن واقعة اليهود: بأنّه صلى الله عليه وسلم نفّذ عليهم ما علم أنّه حكم التّوراة ، وألزمهم العمل به ، إظهاراً لتحريفهم كتابهم وتغييرهم حكمه، أو كان ذلك خاصّاً بهذه الواقعة.
كذا قال، والثّاني مردود.
وقال النّوويّ: الظّاهر أنّه رجمهما بالاعتراف، فإن ثبت حديث جابر فلعل الشّهود كانوا مسلمين ، وإلَّا فلا عبرة بشهادتهم، ويتعيّن أنّهما أقرّا بالزّنا.
قلت: لَم يثبت أنّهم كانوا مسلمين، ويحتمل: أن يكون الشّهود أخبروا بذلك ، لسؤال بقيّة اليهود لهم ، فسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم كلامهم ، ولَم يحكم فيهم إلَّا مستنداً لِمَا أطلعه الله تعالى ، فحكم في ذلك بالوحي ، وألزمهم الحجّة بينهم كما قال تعالى {وشهد شاهد من أهلها} وأنّ
شهودهم شهدوا عليهم عند أحبارهم بما ذكر ، فلمّا رفعوا الأمر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعلم القصّة على وجهها ، فذكر كل من حضره من الرّواة ما حفظه في ذلك، ولَم يكن مستند حكم النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلَّا ما أطلعه الله عليه.
واستدل به بعض المالكيّة. على أنّ المجلود يجلد قائماً ، إن كان رجلاً والمرأة قاعدةً ، لقول ابن عمر: رأيت الرّجل يقيها الحجارة. فدلَّ على أنّه كان قائماً وهي قاعدة.
وتعقّب: بأنّه واقعة عين فلا دلالة فيه ، على أنّ قيام الرّجل كان بطريق الحكم عليه بذلك.
واستُدل به على رجم المحصن. وقد تقدّم البحث فيه مستوفىً. (1)
وعلى الاقتصار على الرّجم ، ولا يضمّ إليه الجلد.
وقد تقدّم الخلاف فيه.
كذا احتجّ به بعضهم، ولو احتجّ به لعكسه لكان أقرب ، لأنّه في حديث البراء عند مسلم " أنّ الزّاني جلد أوّلاً ثمّ رُجم " كما تقدّم (2). لكن يمكن الانفصال ، بأنّ الجلد الذي وقع له ، لَم يكن بحكم حاكم.
وفيه أنّ أنكحة الكفّار صحيحة ، لأنّ ثبوت الإحصان فرع ثبوت
(1) في حديث أبي هريرة الماضي. وكذا في زيد بن خالد وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(2)
بلفظ: مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي مُحمَّماً مجلوداً، فدعاهم صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم. الحديث. وفيه: فأمر به فرُجم. الحديث.
صحّة النّكاح.
وفيه أنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة، وفي أخذه من هذه القصّة بعدٌ.
وفيه أنّ اليهود كانوا يَنسُبون إلى التّوراة ما ليس فيها ، ولو لَم يكن ممّا أقدموا على تبديله ، وإلا لكان في الجواب حيدة عن السّؤال ، لأنّه سأل عمّا يجدون في التّوراة ، فعدلوا عن ذلك لِمَا يفعلونه ، وأوهموا أنّ فعلهم موافق لِمَا في التّوراة ، فأكذبهم عبد الله بن سلام.
وقد استدل به بعضهم على أنّهم لَم يسقطوا شيئاً من ألفاظها.
والاستدلال به لذلك غير واضحٍ ، لاحتمال خصوص ذلك بهذه الواقعة فلا يدلّ على التّعميم.
وكذا من استدل به ، على أنّ التّوراة التي أحضرت حينئذٍ كانت كلّها صحيحة سالمة من التّبديل ، لأنّه يطرقه هذا الاحتمال بعينه ، ولا يردّه قوله " آمنت بك وبمن أنزلك " ، لأنّ المراد أصل التّوراة.
وفيه اكتفاء الحاكم بترجمانٍ واحد موثوق به.
واستُدل به على أنّ شرع من قبلنا شرع لنا ، إذا ثبت ذلك لنا بدليل قرآن أو حديث صحيح ، ما لَم يثبت نسخه بشريعة نبيّنا أو نبيّهم أو شريعتهم، وعلى هذا فيُحمل ما وقع في هذه القصّة ، على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علم أنّ هذا الحكم لَم ينسخ من التّوراة أصلاً.
وفيه من علامات النّبوّة ، من جهة أنّه أشار في الحديث إلى حكم التّوراة ، وهو أمّيّ لَم يقرأ التّوراة قبل ذلك ، فكان الأمر كما أشار إليه.
تكميل: زاد البخاري في آخره ، قال ابن عمر: فرُجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد " وله أيضاً " فرُجِما عند البلاط " ، والبلاط: وهو بفتح الموحّدة وفتح اللام. ما تفرش به الدّور من حجارة وآجرّ وغير ذلك.
والمراد بالبلاط هنا ، موضع معروف عند باب المسجد النّبويّ كان مفروشاً بالبلاط.
ويؤيّد ذلك قوله في هذا المتن " فرُجِما عند البلاط ".
وقيل: المراد بالبلاط الأرض الصّلبة. سواء كانت مفروشة أم لا. ورجّحه بعضهم. والرّاجح خلافه.
قال أبو عبيد البكريّ: البلاط بالمدينة ما بين المسجد والسّوق.
وحكى ابن بطّال عن ابن حبيب. أنّ مصلَّى الجنائز بالمدينة ، كان لاصقاً بمسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ناحية جهة المشرق. انتهى.
فإن ثبت ما قال ، وإلاّ فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المُصلَّى المتّخذ للعيدين والاستسقاء ، لأنّه لَم يكن عند المسجد النّبويّ مكان يتهيّأ فيه الرّجم، وتقدّم في قصّة ماعز " فرجمناه بالمُصلَّى ". (1)
ودلَّ حديث ابن عمر المذكور ، على أنّه كان للجنائز مكان معدّ للصّلاة عليها ، فقد يستفاد منه أنّ ما وقع من الصّلاة على بعض الجنائز في المسجد ، كان لأمرٍ عارض أو لبيان الجواز.
وفي " الموطّأ " عن عمّه أبي سهيل بن مالك بن أبي عامر عن أبيه:
(1) تقدم في الحديث الماضي
كنّا نسمع قراءة عمر بن الخطّاب ، ونحن عند دار أبي جهم بالبلاط.
وقد استشكل ابن بطّال ترجمة البخاري " الرجم في البلاط " فقال: البلاط وغيره في ذلك سواء.
وأجاب ابن المنير: بأنّه أراد أن ينبّه على أنّ الرّجم لا يختصّ بمكانٍ معيّن للأمر بالرّجم بالمُصلَّى تارة وبالبلاط أخرى.
قال: ويحتمل أنّه أراد أن ينبّه على أنّه لا يشترط الحفر للمرجوم ، لأنّ البلاط لا يتأتّى الحفر فيه.
وبهذا جزم ابن القيّم ، وقال: أراد ردّ رواية بشير بن المهاجر عن ابن بريدة عن أبيه ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر ، فحُفرتْ لماعز بن مالك حفرة فرجم فيها. أخرجه مسلم.
قال: هو وهمٌ سرى من قصّة الغامديّة إلى قصّة ماعز.
قلت: ويحتمل. أن يكون أراد أن ينبّه على أنّ المكان الذي يجاور المسجد لا يعطى حكم المسجد في الاحترام ، لأنّ البلاط المشار إليه موضع كان مجاوراً للمسجد النّبويّ كما تقدّم.
ومع ذلك أمر بالرّجم عنده، وقد وقع في حديث ابن عبّاس عند أحمد والحاكم: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم اليهوديّين عند باب المسجد.