المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثامن والعشرون - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٦

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب العدّة

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌كتاب اللّعان

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌كتاب الرّضاع

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب القسامة

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

الفصل: ‌الحديث الثامن والعشرون

‌الحديث الثامن والعشرون

332 -

عن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه ، قال: ذُكر العزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟ ولَم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم ، فإنه ليست نفسٌ مخلوقةٌ إلَّا الله خالقها. (1)

قوله: (ذُكر العزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية للشيخين من طريق ربيعة عن محمّد بن يحيى بن حبّان عن ابن محيريزٍ عن أبي سعيد قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة، ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ".

وفي رواية يونس وشعيب عن الزهري عن ابن محيريز عند البخاري فقال: إنّا نُصيب سبياً ونحبّ المال ، فكيف ترى في العزل؟.

ووقع عند مسلم من طريق عبد الرّحمن بن بشر عن أبي سعيد قال: ذُكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وما ذلكم؟ قالوا: الرّجل تكون له المرأة ترضع له ، فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، والرّجل تكون

(1) أخرجه مسلم (1438) من رواية مجاهد عن قزعة عن أبي سعيد رضي الله عنه

وذكره البخاري في كتاب التوحيد مُعلّقاً. كما سيذكره الشارح.

وأخرجه البخاري (2116) ومواضع أخرى. ومسلم (1438) من طريق ابن محيريز عن أبي سعيد رضي الله عنه نحوه مطوّلاً ومختصراً.

وأخرجه مسلم (1438) من وجوه أخرى عن أبي سعيد

ص: 162

له الأمة ، فيصيب منها ويكره أن تحمل منه ".

ففي هذه الرّواية ، إشارة إلى أنّ سبب العزل شيئان.

أحدهما: كراهة مجيء الولد من الأمة ، وهو إمّا أنفة من ذلك ، وإمّا لئلا يتعذّر بيع الأمة إذا صارت أمّ ولد ، وإمّا لغير ذلك. كما سأذكره بعده.

الثّاني: كراهة أن تحمل الموطوءة ، وهي ترضع فيضرّ ذلك بالولد المرضع.

قوله: (ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟ ولَم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم) في رواية مالك عن الزهري " أو إنّكم لتفعلون؟ ".

هذا الاستفهام يشعر بأنّه صلى الله عليه وسلم ما كان اطّلع على فعلهم ذلك، ففيه تعقّب على مَن قال: إنّ قول الصّحابيّ كنّا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعٌ ، معتلاً بأنّ الظّاهر اطّلاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، ففي هذا الخبر أنّهم فعلوا العزل ، ولَم يعلم به حتّى سألوه عنه.

نعم. للقائل أن يقول: كانت دواعيهم متوفّرة على سؤاله عن أمور الدّين، فإذا فعلوا الشّيء ، وعلموا أنّه لَم يطّلع عليه ، بادروا إلى سؤاله عن الحكم فيه ، فيكون الظّهور من هذه الحيثيّة.

ووقع في رواية ربيعة " لا عليكم أن لا تفعلوا "، ووقع في رواية مسلم من طريق أخرى عن محمّد بن سيرين عن عبد الرّحمن بن بشر عن أبي سعيد " لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك " قال ابن سيرين: قوله " لا عليكم " أقرب إلى النّهي.

ص: 163

وله من طريق ابن عون عن محمّد بن سيرين نحوه دون قول محمّد، قال ابن عون فحدّثت به الحسن فقال: والله لكأنّ هذا زجر.

قال القرطبيّ: كأنّ هؤلاء فهموا من " لا " النّهي عمّا سألوه عنه ، فكأنّ عندهم بعد " لا " حذفاً ، تقديره لا تعزلوا وعليكم أن لا تفعلوا، ويكون قوله " وعليكم .. إلخ " تأكيداً للنّهي.

وتعقّب: بأنّ الأصل عدم هذا التّقدير، وإنّما معناه: ليس عليكم أن تتركوا، وهو الذي يساوي أن لا تفعلوا.

وقال غيره: قوله " لا عليكم أن لا تفعلوا " أي لا حرج عليكم أن لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا ، إلَّا إن ادّعى أنّ " لا " زائدة ، فيقال الأصل عدم ذلك.

ووقع في رواية مجاهد في البخاري تعليقاً. ووصلها مسلم وغيره " ذُكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولِمَ يفعل ذلك أحدكم "؟ ولَم يقل لا يفعل ذلك.

فأشار إلى أنّه لَم يصرّح لهم بالنّهي، وإنّما أشار أنّ الأولى ترك ذلك، لأنّ العزل إنّما كان خشية حصول الولد فلا فائدة في ذلك، لأنّ الله إن كان قدّر خلق الولد لَم يمنع العزل ذلك فقد يسبق الماء ، ولا يشعر العازل فيحصل العلوق ويلحقه الولد. ولا رادّ لِمَا قضى الله.

والفرار من حصول الولد يكون لأسبابٍ:

الأول: خشية علوق الزّوجة الأمة لئلا يصير الولد رقيقاً.

ص: 164

الثاني: خشية دخول الضّرر على الولد المرضع إذا كانت الموطوءة ترضعه.

الثالث: فراراً من كثرة العيال إذا كان الرّجل مقلاًّ فيرغب عن قلة الولد لئلا يتضرّر بتحصيل الكسب.

وكلّ ذلك لا يغني شيئاً. وقد أخرج أحمد والبزّار وصحّحه ابن حبّان من حديث أنس ، أنّ رجلاً سأل عن العزل، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أنّ الماء الذي يكون منه الولد ، أهرقته على صخرة ، لأخرج الله منها ولداً. وله شاهدان في " الكبير للطّبرانيّ " عن ابن عبّاس ، وفي " الأوسط " له عن ابن مسعود.

وليس في جميع الصّور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحاً ، سوى الصّورة المتقدّمة من عند مسلم في طريق عبد الرّحمن بن بشر عن أبي سعيد ، وهي خشية أن يضرّ الحمل بالولد المرضع ، لأنّه ممّا جُرّب فضرّ غالباً، لكن وقع في بقيّة الحديث عند مسلم ، أنّ العزل بسبب ذلك لا يفيد. لاحتمال أن يقع الحمل بغير الاختيار.

ووقع عند مسلم في حديث أسامة بن زيد: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي أعزل عن امرأتي شفقة على ولدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان كذلك فلا، ما ضرّ ذلك فارس ولا الرّوم.

وفي العزل أيضاً إدخال ضرر على المرأة لِما فيه من تفويت لذّتها.

وقد اختلف السّلف في حكم العزل.

قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين العلماء ، أنّه لا يعزل عن الزّوجة

ص: 165

الحرّة إلَّا بإذنها، لأنّ الجماع من حقّها، ولها المطالبة به. وليس الجماع المعروف إلَّا ما لا يلحقه عزل.

ووافقه في نقل هذا الإجماع ابن هبيرة.

وتعقّب: بأنّ المعروف عند الشّافعيّة ، أنّ المرأة لا حقّ لها في الجماع أصلاً، ثمّ في خصوص هذه المسألة عند الشّافعيّة خلاف مشهور في جواز العزل عن الحرّة بغير إذنها.

قال الغزاليّ وغيره: يجوز، وهو المصحّح عند المتأخّرين

واحتجّ الجمهور لذلك بحديث عن عمر. أخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ " نهى عن العزل عن الحرّة ، إلَّا بإذنها " وفي إسناده ابن لهيعة.

والوجه الآخر للشّافعيّة الجزم بالمنع إذا امتنعت، وفيما إذا رضيت وجهان. أصحّهما الجواز. وهذا كلّه في الحرّة.

وأمّا الأمة ، فإن كانت زوجة ، فهي مرتّبة على الحرّة إن جاز فيها. ففي الأمة أولى، وإن امتنع فوجهان ، أصحّهما الجواز تحرّزاً من إرقاق الولد، وإن كانت سرّيّة جاز بلا خلاف عندهم إلَّا في وجه حكاه الرّويانيّ في المنع مطلقاً كمذهب ابن حزم.

وإن كانت السّرّيّة مستولدة ، فالرّاجح الجواز فيه مطلقاً ، لأنّها ليست راسخة في الفراش، وقيل: حكمها حكم الأمة المزوّجة.

هذا واتّفقت المذاهب الثّلاثة على أنّ الحرّة لا يعزل عنها إلَّا بإذنها ، وأنّ الأمة يعزل عنها بغير إذنها.

واختلفوا في المزوّجة.

ص: 166

فعند المالكيّة: يحتاج إلى إذن سيّدها، وهو قول أبي حنيفة، والرّاجح عن محمّد

وقال أبو يوسف وأحمد: الإذن لها، وهي رواية عن أحمد، وعنه: بإذنها، وعنه: يباح العزل مطلقاً، وعنه: المنع مطلقاً.

والذي احتجّ به من جنح إلى التّفصيل لا يصحّ إلَّا عند عبد الرّزّاق بسندٍ صحيح عن ابن عبّاس قال: تستأمر الحرّة في العزل ، ولا تستأمر الأمة السّرّيّة فإن كانت أمة تحت حرّ ، فعليه أن يستأمرها.

وهذا نصّ في المسألة، فلو كان مرفوعاً لَم يجز العدول عنه.

وقد استنكر ابن العربيّ القول بمنع العزل عمّن يقول: بأنّ المرأة لا حقّ لها في الوطء، ونقل عن مالك ، أنّ لها حقّ المطالبة به إذا قصد بتركه إضرارها. وعن الشّافعيّ وأبي حنيفة: لا حقّ لها فيه إلَّا في وطئة واحدة يستقرّ بها المهر.

قال: فإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون لها حقّ في العزل؟ فإن خصّوه بالوطئة الأولى فيمكن ، وإلَّا فلا يسوغ فيما بعد ذلك إلَّا على مذهب مالك بالشّرط المذكور. انتهى.

وما نقله عن الشّافعيّ غريب، والمعروف عند أصحابه ، أنّه لا حقّ لها أصلاً.

نعم. جزم ابن حزم بوجوب الوطء وبتحريم العزل.

واستند إلى حديث جذامة بنت وهب ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل؟ فقال: ذلك الوأد الخفيّ. أخرجه مسلم.

ص: 167

وهذا معارَض بحديثين:

أحدهما: أخرجه التّرمذيّ والنّسائيّ وصحّحه من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمّد بن عبد الرّحمن بن ثوبان عن جابر قال: كانت لنا جواري وكنّا نعزل، فقالت اليهود: إنّ تلك الموءودة الصّغرى، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لَم تستطع ردّه.

وأخرجه النّسائيّ من طريق هشام وعليّ بن المبارك وغيرهما عن يحيى عن محمّد بن عبد الرّحمن عن أبي مطيع بن رفاعة عن أبي سعيد نحوه، ومن طريق أبي عامر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه، ومن طريق سليمان الأحول أنّه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرّحمن عن العزل؟ فقال: زعم أبو سعيد، فذكر نحوه، قال فسألت أبا سلمة أسمعته من أبي سعيد؟ قال: لا، ولكن أخبرني رجل عنه.

والحديث الثّاني: في النّسائيّ من وجه آخر عن محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وهذه طرق يقوى بعضها ببعضٍ.

وجُمع بينها وبين حديث جذامة.

الأول: بحمل حديث جذامة ، على التّنزيه. وهذه طريقة البيهقيّ.

الثاني: منهم مَن ضعّف حديث جذامة ، بأنّه معارض بما هو أكثر طرقاً منه، وكيف يصرّح بتكذيب اليهود في ذلك ثمّ يثبته؟

وهذا دفع للأحاديث الصّحيحة بالتّوهّم، والحديث صحيح لا

ص: 168

ريب فيه ، والجمع ممكن.

الثالث: منهم مَن ادّعى أنّه منسوخ، وردّ بعدم معرفة التّاريخ.

وقال الطّحاويّ: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أوّلاً من موافقة أهل الكتاب، وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لَم ينزل عليه، ثمّ أعلمه الله بالحكم فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه.

وتعقّبه ابن رشد ثمّ ابن العربيّ: بأنّه لا يجزم بشيءٍ تبعاً لليهود ثمّ يصرّح بتكذيبهم فيه.

الرابع: منهم من رجّح حديث جذامة بثبوته في الصّحيح، وضعّف مقابله بأنّه حديث واحد اختلف في إسناده فاضطرب.

ورُدّ. بأنّ الاختلاف إنّما يقدح حيث لا يقوى بعض الوجوه ، فمتى قوي بعضها عمل به، وهو هنا كذلك والجمع ممكن.

الخامس: رجّح ابن حزم العمل بحديث جذامة ، بأنّ أحاديث غيرها توافق أصل الإباحة ، وحديثها يدلّ على المنع.

قال: فمن ادّعى أنّه أبيح بعد أن منع فعليه البيان.

وتعقّب: بأنّ حديثها ليس صريحاً في المنع إذ لا يلزم من تسميته وأداً خفيّاً على طريق التّشبيه أن يكون حراماً.

السادس: خصّه بعضهم بالعزل عن الحامل ، لزوال المعنى الذي كان يحذره الذي يعزل من حصول الحمل، لكن فيه تضييع الحمل ، لأنّ المنيّ يغذوه فقد يؤدّي العزل إلى موته ، أو إلى ضعفه المفضي إلى

ص: 169

موته. فيكون وأداً خفيّاً.

وجمعوا أيضاً بين تكذيب اليهود في قولهم الموءودة الصّغرى ، وبين إثبات كونه وأداً خفيّاً في حديث جذامة ، بأنّ قولهم الموءودة الصّغرى يقتضي أنّه وأد ظاهر، لكنّه صغير بالنّسبة إلى دفن المولود بعد وضعه حيّاً، فلا يعارض قوله إنّ العزل وأد خفيّ ، فإنّه يدلّ على أنّه ليس في حكم الظّاهر أصلاً فلا يترتّب عليه حكم، وإنّما جعله وأداً من جهة اشتراكهما في قطع الولادة.

السابع: قال بعضهم: قوله " الوأد الخفيّ " ورد على طريق التّشبيه ، لأنّه قطع طريق الولادة قبل مجيئه ، فأشبه قتل الولد بعد مجيئه.

قال ابن القيّم: الذي كذبت فيه اليهود ، زعمهم أنّ العزل لا يتصوّر معه الحمل أصلاً وجعلوه بمنزلة قطع النّسل بالوأد، فأكذبهم وأخبر أنّه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لَم يرد خلقه لَم يكن وأداً حقيقة، وإنّما سمّاه وأداً خفيّاً في حديث جذامة ، لأنّ الرّجل إنّما يعزل هرباً من الحمل ، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكنّ الفرق بينهما أنّ الوأد ظاهر بالمباشرة اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفاً فلذلك وصفه بكونه خفيّاً.

فهذه عدّة أجوبة يقف معها الاستدلال بحديث جذامة على المنع.

وقد جنح إلى المنع من الشّافعيّة ابن حبّان ، فقال في صحيحه " ذِكر الخبر الدّالّ على أنّ هذا الفعل مزجور عنه لا يباح استعماله " ثمّ ساق حديث أبي ذرّ رفعه " ضعه في حلاله وجنّبه حرامه وأقرره، فإن شاء

ص: 170

الله أحياه وإن شاء أماته ، ولك أجر " انتهى.

ولا دلالة فيما ساقه على ما ادّعاه من التّحريم ، بل هو أمر إرشاد ، لِمَا دلَّت عليه بقيّة الأخبار. والله أعلم.

وعند عبد الرّزّاق وجه آخر عن ابن عبّاس ، أنّه أنكر أن يكون العزل وأداً ، وقال: المنيّ يكون نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظماً ثمّ يكسى لحماً، قال: والعزل قبل ذلك كلّه.

وأخرج الطّحاويّ من طريق عبد الله بن عديّ بن الخِيَار عن عليّ نحوه في قصّة حرب عند عمر وسنده جيّد.

واختلفوا في عِلَّة النّهي عن العزل:

فقيل: لتفويت حقّ المرأة.

وقيل: لمعاندة القدر. وهذا الثّاني هو الذي يقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك، والأوّل مبنيّ على صحّة الخبر المفرّق بين الحرّة والأمة.

وقال إمام الحرمين: موضع المنع أنّه ينزع بقصد الإنزال خارج الفرج خشية العلوق ومتى فقد ذلك لَم يمنع، وكأنّه راعى سبب المنع ، فإذا فقد بقي أصل الإباحة فله أن ينزع متى شاء ، حتّى لو نزع فأنزل خارج الفرج اتّفاقاً لَم يتعلق به النّهي. والله أعلم.

وينتزع من حكم العزل. حكم معالجة المرأة إسقاط النّطفة قبل نفخ الرّوح، فمَن قال بالمنع هناك ففي هذه أولى، ومَن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا.

ص: 171

ويمكن أن يفرّق بأنّه أشدّ ، لأنّ العزل لَم يقع فيه تعاطي السّبب ، ومعالجة السّقط تقع بعد تعاطي السّبب.

ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله، وقد أفتى بعض متأخّري الشّافعيّة بالمنع، وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقاً. والله أعلم

واستدل بقوله في حديث أبي سعيد " وأصبنا كرائم العرب ، وطالت علينا العزبة ، وأردنا أن نستمتع وأحببنا الفداء " لمن أجاز استرقاق العرب وهي مسألةٌ مشهورةٌ.

والجمهور. على أنّ العربيّ إذا سبي جاز أن يسترقّ، وإذا تزوّج أمةً بشرطه كان ولدها رقيقاً.

وذهب الأوزاعيّ والثّوريّ وأبو ثور ، إلى أنّ على سيّد الأمة تقويم الولد ، ويُلزم أبوه بأداء القيمة ، ولا يسترقّ الولد أصلاً.

وقد جنح البخاري إلى الجواز.

واستدل به من أجاز وطء المشركات بملك اليمين ، وإن لَم يكنّ من أهل الكتاب ، لأنّ بني المصطلق كانوا أهل أوثان.

وقد انفصل عنه مَن منَعَ.

باحتمال: أن يكونوا ممّن دان بدين أهل الكتاب وهو باطل.

وباحتمال: أن يكون ذلك في أوّل الأمر ثمّ نسخ.

وفيه نظرٌ. إذ النّسخ لا يثبت بالاحتمال.

وباحتمال: أن تكون المسبيّات أسلمن قبل الوطء ، وهذا لا يتمّ مع

ص: 172

قوله في الحديث " وأحببنا الفداء " فإنّ المسلمة لا تعاد للمشرك.

نعم. يمكن حمل الفداء على معنى أخصّ ، وهو أنّهنّ يفدين أنفسهنّ فيعتقن من الرّقّ، ولا يلزم منه إعادتهنّ للمشركين.

وحمله بعضهم على إرادة الثّمن ، لأنّ الفداء المتخوّف من فوته هو الثّمن.

ويؤيّد هذا الحمل قوله في رواية البخاري " فقال: يا رسولَ الله ، إنّا أصبنا سبياً ، ونحبّ الأثمان ، فكيف ترى في العزل "؟

وهذا أقوى من جميع ما تقدّم، والله أعلم

قوله: (فإنه ليست نفسٌ مخلوقةٌ إلَّا الله خالقها) في رواية مالك " ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة، إلَّا هي كائنةٌ ". وفي رواية موسى بن عقبة عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز عند البخاري " فإنّ الله قد كتب من هو خالقٌ إلى يوم القيامة ".

وفي الحديث أنّ أفعال العباد وإن صدرت عنهم ، لكنّها قد سبق علم الله بوقوعها بتقديره، ففيها بطلان قول القدريّة صريحاً.

قوله: (خالقها) قال بن بطّالٍ: الخالق في هذا الباب يراد به المبدع المنشىء لأعيان المخلوقين ، وهو معنىً لا يشارك اللهَ فيه أحدٌ.

قال: ولَم يزل الله مسمّياً نفسه خالقاً على معنى أنّه سيخلق لاستحالةٍ قدم الخلق.

وقال الكرمانيّ: معنى قوله في الحديث " إلَّا وهي مخلوقةٌ " أي: مقدّرة الخلق أو معلومة الخلق عند الله لا بدّ من إبرازها إلى الوجود.

ص: 173

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب.

قال الطّيبيّ: قيل: إنّ الألفاظ الثّلاثة في قوله تعالى {هو الله الخالق البارئ المصور} مترادفة، وهو وهمٌ فإنّ " الخالق " من الخلق، وأصله التّقدير المستقيم ، ويطلق على الإبداع وهو إيجاد الشّيء على غير مثال كقوله تعالى {خلق السّماوات والأرض} ، وعلى التّكوين كقوله تعالى {خلق الإنسان من نطفة} .

و" البارئ " من البرء، وأصله خلوص الشّيء عن غيره ، إمّا على سبيل التّقصّي منه، وعليه قولهم برئ فلان من مرضه، والمديون من دينه، ومنه استبرأت الجارية، وإمّا على سبيل الإنشاء، ومنه برأ الله النّسمة.

وقيل: البارئ الخالق البريء من التّفاوت والتّنافر المخلين بالنّظام.

و" المصوّر " مبدعُ صورِ المخترعاتِ ومرتّبها بحسب مقتضى الحكمة، فالله خالق كلّ شيء بمعنى أنّه موجده من أصل ومن غير أصل، وبارئه بحسب ما اقتضته الحكمة من غير تفاوت ولا اختلال، ومصوّره في صورة يترتّب عليها خواصّه ويتمّ بها كماله، والثّلاثة من صفات الفعل ، إلَّا إذا أريد بالخالق المقدّر ، فيكون من صفات الذّات؛ لأنّ مرجع التّقدير إلى الإرادة، وعلى هذا فالتّقدير يقع أوّلاً، ثمّ الإحداث على الوجه المقدّر يقع ثانياً، ثمّ التّصوير بالتّسوية يقع ثالثاً. انتهى.

وقال الرّاغب: ليس الخلق بمعنى الإبداع إلَّا لله ، وإلى ذلك أشار

ص: 174

بقوله تعالى {أفمن يخلق كمن لا يخلق} وأمّا الذي يوجد بالاستحالة ، فقد وقع لغيره بتقديره سبحانه وتعالى، مثل قوله لعيسى {وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير بإذني} والخلق في حقّ غير الله ، يقع بمعنى التّقدير وبمعنى الكذب.

و" البارئ " أخصّ بوصف الله تعالى. والبريّة الخلق، قيل: أصله الهمز فهو من برّأ.

وقيل: أصله البري من بريت العود.

وقيل: البريّة من البرى بالقصر وهو التّراب ، فيحتمل أن يكون معناه موجد الخلق من البرى. وهو التّراب.

و" المصوّر " معناه المهيّئ قال تعالى {يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} والصّورة في الأصل ما يتميّز به الشّيء عن غيره، ومنه محسوس كصورة الإنسان والفرس، ومنه معقول كالذي اختصّ به الإنسان من العقل والرّؤية ، وإلى كلّ منهما الإشارة بقوله تعالى {خلقناكم ثمّ صوّرناكم} وقوله {وصوّركم فأحسن صوركم} وقوله {هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} .

ص: 175