المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث السادس والعشرون - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٦

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب العدّة

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌كتاب اللّعان

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌كتاب الرّضاع

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب القسامة

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

الفصل: ‌الحديث السادس والعشرون

‌الحديث السادس والعشرون

330 -

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: اختصم سعد بن أبي وقّاص وعبد بن زمعة في غلامٍ، فقال سعدٌ: يا رسولَ الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقّاص، عهد إليّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسولَ الله، وُلد على فراش أَبِي من وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبَهَاً بيّناً بعُتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة، فلم ير سودةَ قطّ. (1)

قوله: (وعبد بن زمعة) زمعة بفتح الزّاي وسكون الميم ، وقد تحرّك، قال النّوويّ: التّسكين أشهر.

وقال أبو الوليد الوقشيّ: التّحريك هو الصّواب.

قلت: والجاري على ألسنة المحدّثين التّسكين في الاسم والتّحريك في النّسبة، وهو ابن قيس بن عبد شمس القرشيّ العامريّ والد سودة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وعبد بن زمعة بغير إضافة.

ووقع في " مختصر ابن الحاجب " عبد الله. وهو غلط، نعم. عبد الله بن زمعة آخر، وفي بعض الطّرق من غير رواية عائشة عند

(1) أخرجه البخاري (2053 ، 2105، 2289، 2396، 2594، 4052، 6368، 6384، 6431، 6760) ومسلم (1457) من طرق عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 128

الطّحاويّ في هذا الحديث عبد الله بن زمعة ، ونبّه على أنّه غلط ، وأنّ عبد الله بن زمعة هو ابن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى آخر.

قلت: وهو الذي حديثه في تفسير (والشّمس وضحاها)(1).

وقد وقع لابن منده خبطٌ في ترجمة عبد الرّحمن بن زمعة ، فإنّه زعم أنّ عبد الرّحمن وعبد الله وعبداً إخوةٌ ثلاثةٌ ، أولاد زمعة بن الأسود، وليس كذلك ، بل عبدٌ بغير إضافة. وعبد الرّحمن أخوان عامريّان من قريش، وعبد الله بن زمعة قرشيٌّ أسديّ من قريش أيضاً.

وقد أوضحت ذلك في " الإصابة في تمييز الصّحابة "

قوله: (عتبة بن أبي وقّاص) أخو سعد مختلف في صحبته. فذكره في الصّحابة العسكريّ ، وذكر ما نقله الزّبير بن بكّار في النّسب ، أنّه كان أصاب دماً بمكّة في قريش فانتقل إلى المدينة، ولَمّا مات أوصى إلى سعد.

وذكره ابن منده في الصّحابة ، ولَم يذكر مستنداً إلَّا قول سعد: عهد إليَّ أخي أنّه ولده. واستنكر أبو نعيم ذلك ، وذكر أنّه الذي شجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحدٍ، قال: وما علمتُ له إسلاماً.

بل قد روى عبد الرّزّاق من طريق عثمان الجزريّ عن مقسمٍ ، أنّ

(1) أخرجه البخاري في " الصحيح "(4942) ومسلم (2855) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن زمعة، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الناقة. وذكر الذي عقرها، فقال: إذ انبعث أشقاها: انبعث لها رجلٌ عزيزٌ عارمٌ منيعٌ في رهطه، مثل أبي زمعة.

ص: 129

النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، دعا بأن لَّا يحول على عتبة الحول حتّى يموت كافراً ، فمات قبل الحول. وهذا مرسل، وأخرجه من وجه آخر عن سعيد بن المسيّب بنحوه.

وأخرج الحاكم في " المستدرك " من طريق صفوان بن سليمٍ عن أنس أنّه سمع حاطب بن أبي بلتعة يقول: إنّ عتبة لَمَّا فعل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ما فعل تبعته فقتلته. كذا قال.

وجزم ابن التّين والدّمياطيّ (1) بأنّه مات كافراً.

قلت: وأمّ عتبة هند بنت وهب بن الحارث بن زهرة، وأمّ أخيه سعد حمنة بنت سفيان بن أُميَّة.

قوله: (فقال سعدٌ: يا رسولَ الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقّاص، عهد إليّ أنه ابنه) وعتبة بالجرّ بدل من لفظ أخي أو عطف بيان، والضّمير في أخي لسعدٍ لا لعتبة.

وللبخاري من رواية مالك عن الزهري " كان عتبة عهد إلى أخيه " وفي رواية ابن عيينة عن الزّهريّ في البخاري " أوصاني أخي إذا قدمت يعني مكّة أن اقبض إليك ابنَ أمة زمعة فإنّه ابني "

وفي رواية يونس عن الزّهريّ في البخاري " فلمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة في الفتح " وفي رواية معمر عن الزّهريّ عند أحمد، وهي لمسلمٍ " لكن لَم يسق لفظها " فلمّا كان يوم الفتح ، رأى سعد الغلام فعرفه بالشّبه ، فاحتضنه ، وقال: ابن أخي وربّ الكعبة ".

(1) عبد المؤمن بن خلف الدمياطي المتوفى سنة 705 هـ تقدَّمت ترجمته (2/ 47).

ص: 130

والابن المذكور اسمه عبد الرّحمن ، وذكره ابن عبد البرّ في الصّحابة وغيره، وقد أعقب بالمدينة.

قوله: (وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسولَ الله، ولد على فراش أَبي من وليدته) وللبخاري من رواية مالك " كان عتبة عهد إلى أخيه سعد أنّ ابن وليدة زمعة منّي فاقبضه إليك ، وفيه فقال: أخي وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه ، فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم "

في رواية ابن عيينة عن ابن شهاب " ابن أمة زمعة " وفي رواية معمر " فجاء عبد بن زمعة فقال: بل هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته " وفي رواية يونس " يا رسولَ الله ، هذا أخي هذا ابن زمعة ولد على فراشه " وفي رواية يونس " فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو أشبه النّاس بعتبة بن أبي وقاصّ "

والوليدة في الأصل المولودة، وتطلق على الأمة، وهذه الوليدة لَم أقف على اسمها ، لكن ذكر مصعبٌ الزّبيريّ وابن أخيه الزّبير في " نسب قريشٍ ": أنّها كانت أَمَةً يمانيّةً.

والوليدة فعيلةٌ من الولادة بمعنى مفعولة.

قال الجوهريّ: هي الصّبية والأمة والجمع ولائد.

وقيل: إنّها اسم لغير أمّ الولد.

قوله " فتساوقا " أي: تلازما في الذّهاب بحيث إنّ كلاً منهما كان كالذي يسوق الآخر.

قال الخطّابيّ وتبعه عياض والقرطبيّ وغيرهما: كان أهل الجاهليّة

ص: 131

يقتنون الولائد ، ويقرّرون عليهنّ الضّرائب فيكتسبن بالفجور، وكانوا يلحقون النّسب بالزّناة إذا ادّعوا الولد كما في النّكاح، وكانت لزمعة أمة ، وكان يلمّ بها ، فظهر بها حمل زعم عتبة بن أبي وقاصّ أنّه منه ، وعهد إلى أخيه سعد أن يستلحقه، فخاصم فيه عبد بن زمعة، فقال لي سعد: هو ابن أخي ، على ما كان عليه الأمر في الجاهليّة، وقال عبد: هو أخي ، على ما استقرّ عليه الأمر في الإسلام، فأبطل النّبيّ صلى الله عليه وسلم حكم الجاهليّة وألحقه بزمعة.

وأبدل عياض قوله إذا ادّعوا الولد ، بقوله: إذا اعترفت به الأمّ.

وبنى عليهما القرطبيّ فقال: ولَم يكن حصل إلحاقه بعتبة في الجاهليّة ، إمّا لعدم الدّعوى ، وإمّا لكون الأمّ لَم تعترف به لعتبة.

قلت: وفي البخاري من حديث عائشة ما يؤيّد أنّهم كانوا يعتبرون استلحاق الأمّ في صورة ، وإلحاق القائف في صورة. ولفظها " إنّ النّكاح في الجاهليّة كان على أربعة أنحاء .. الحديث. وفيه يجتمع الرّهط ما دون العشر ، فيدخلون على المرأة كلّهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومضت ليالٍ ، أرسلت إليهم ، فاجتمعوا عندها فقالت: قد ولدتُ فهو ابنك يا فلان، فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع .. إلى أن قالت: ونكاح البغايا ، كنّ ينصبن على أبوابهنّ رايات، فمن أرادهنّ دخل عليهنّ، فإذا حملت إحداهنّ فوضعت ، جمعوا لها القافة ، ثمّ ألحقوا ولدها بالذي يرى القائف لا يمتنع من ذلك " انتهى.

واللائق بقصّة أمة زمعة الأخير، فلعل جمع القافة لهذا الولد تعذّر

ص: 132

بوجهٍ من الوجوه، أو أنّها لَم تكن بصفة البغايا ، بل أصابها عتبة سرّاً من زناً وهما كافران ، فحملت وولدت ولداً يشبهه فغلب على ظنّه أنّه منه ، فبغته الموت قبل استلحاقه ، فأوصى أخاه أن يستلحقه، فعمل سعد بعد ذلك تمسّكاً بالبراءة الأصليّة.

قال القرطبيّ: وكان عبد بن زمعة سمع أنّ الشّرع ورد بأنّ الولد للفراش، وإلا فلم يكن عادتهم الإلحاق به.

كذا قاله، وما أدري من أين له هذا الجزم بالنّفي؟ وكأنّه بناه على ما قال الخطّابيّ ، أمة زمعة كانت من البغايا اللاتي عليهنّ من الضّرائب، فكان الإلحاق مختصّاً باستلحاقها على ما ذكر، أو بإلحاق القائف على ما في حديث عائشة، لكن لَم يذكر الخطّابيّ مستنداً لذلك.

والذي يظهر من سياق القصّة ما قدّمته ، أنّها كانت أمة مستفرشة لزمعة ، فاتّفق أنّ عتبة زنى بها كما تقدّم، وكانت طريقة الجاهليّة في مثل ذلك أنّ السّيّد إنّ استلحقه لحقه ، وإن نفاه انتفى عنه ، وإذا ادّعاه غيره كان مردّ ذلك إلى السّيّد أو القافة.

وقد وقع في حديث ابن الزّبير الذي أسوقه بعد هذا ما يؤيّد ما قلته.

وأمّا قول الخطابي: إنّ عبد بن زمعة سمع أنّ الشّرع .. إلخ.

ففيه نظرٌ؛ لأنّه يبعد أن يسمع ذلك عبد بن زمعة وهو بمكّة لَم يسلم بعد. ولا يسمعه سعد بن أبي وقاصّ، وهو من السّابقين

ص: 133

الأوّلين الملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حين إسلامه إلى حين فتح مكّة نحو العشرين سنّة، حتّى ولو قلنا: إنّ الشّرع لَم يرد بذلك إلَّا في زمن الفتح ، فبلوغه لعبد قبل سعد بعيدٌ أيضاً.

والذي يظهر لي أنّ شرعيّة ذلك إنّما عرفت من قوله صلى الله عليه وسلم في هذه القصّة " الولد للفراش " وإلَّا فما كان سعد لو سبق علمه بذلك ليدّعيه، بل الذي يظهر أنّ كلاً من سعد وعتبة بنى على البراءة الأصليّة، وأنّ مثل هذا الولد يقبل النّزاع.

وقد أخرج أبو داود تلو حديث الباب بسندٍ حسن إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قام رجل فقال: يا رسولَ الله ، إنّ فلاناً ابني عاهرت بأمّه في الجاهليّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا دِعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهليّة، الولد للفراش وللعاهر الحجر.

وقد وقع في بعض طرقه أنّ ذلك وقع في زمن الفتح، وهو يؤيّد ما قلته.

واستدل بهذه القصّة على أنّ الاستلحاق لا يختصّ بالأب ، بل للأخ أن يستلحق وهو قول الشّافعيّة وجماعة ، بشرط أن يكون الأخ حائزاً أو يوافقه باقي الورثة ، وإمكان كونه من المذكور ، وأن يوافق على ذلك إن كان بالغاً عاقلاً، وأن لا يكون معروف الأب.

وتعقّب: بأنّ زمعة كان له ورثة غير عبد.

وأجيب: بأنّه لَم يخلف وارثاً غيره إلَّا سودة، فإن كان زمعة مات كافراً فلم يرثه إلَّا عبد وحده، وعلى تقدير أن يكون أسلم وورثته

ص: 134

سودة فيحتمل أن تكون وكّلت أخاها في ذلك أو ادّعت أيضاً.

وخصّ مالك وطائفة الاستلحاق بالأب.

وأجابوا بأنّ الإلحاق لَم ينحصر في استلحاق عبد ، لاحتمال أن يكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم اطّلع على ذلك بوجهٍ من الوجوه كاعتراف زمعة بالوطء، ولأنّه إنّما حكم بالفراش؛ لأنّه قال بعد قوله: هو لك " الولد للفراش " لأنّه لَمَّا أبطل الشّرع إلحاق هذا الولد بالزّاني لَم يبق صاحب الفراش.

وجرى المزنيّ على القول بأنّ الإلحاق يختصّ بالأب فقال: أجمعوا على أنّه لا يقبل إقرار أحد على غيره، والذي عندي في قصّة عبد بن زمعة أنّه صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة ، فأعلمهم أنّ الحكم كذا بشرط أن يدّعي صاحب الفراش ، لا أنّه قَبِل دعوى سعد عن أخيه عتبة ، ولا دعوى عبد بن زمعة عن زمعة ، بل عرّفهم أنّ الحكم في مثلها يكون كذلك. قال: ولذلك قال " احتجبي منه يا سودة ".

وتعقّب: بأنّ قوله لعبد بن زمعة " هو أخوك " يدفع هذا التّأويل.

واستُدل به على أنّ الوصيّ يجوز له أن يستلحق ولد موصيه إذا أوصى إليه بأن يستلحقه ، ويكون كالوكيل عنه في ذلك.

قال ابن المنير ما ملخّصه: دعوى الوصيّ عن الموصى عليه لا نزاع فيه.

واستدل به.

وهو القول الأول: على أنّ الأمة تصير فراشاً بالوطء، فإذا اعترف

ص: 135

السّيّد بوطء أمته أو ثبت ذلك بأيّ طريق كان ، ثمّ أتت بولدٍ لمدّة الإمكان بعد الوطء لحقه من غير استلحاق كما في الزّوجة، لكن الزّوجة تصير فراشاً بمجرّد العقد فلا يشترط في الاستلحاق إلَّا الإمكان؛ لأنّها تراد للوطء فجعل العقد عليها كالوطء. بخلاف الأمة فإنّها تراد لمنافع أخرى فاشترط في حقّها الوطء ومن ثَمَّ يجوز الجمع بين الأختين بالملك دون الوطء. وهذا قول الجمهور.

القول الثاني: عن الحنفيّة ، لا تصير الأمة فراشاً إلَّا إذا ولدت من السّيّد ولداً ولَحِق به ، فمهما ولدت بعد ذلك لحقه إلَّا أن ينفيه.

القول الثالث: عن الحنابلة ، من اعترف بالوطء فأتت منه لمدّة الإمكان لحقه ، وإن ولدت منه أوّلاً فاستلحقه لَم يلحقه ما بعده إلَّا بإقرار مستأنف على الرّاجح عندهم.

وترجيح المذهب الأوّل ظاهر؛ لأنّه لَم ينقل أنّه كان لزمعة من هذه الأمة ولد آخر، والكلّ متّفقون على أنّها لا تصير فراشاً إلَّا بالوطء.

قال النّوويّ: وطء زمعة أمته المذكورة علم إمّا ببيّنةٍ ، وإمّا باطّلاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك.

قلت: وفي حديث ابن الزّبير ما يشعر بأنّ ذلك كان أمراً مشهوراً.

وسأذكر لفظه قريباً.

واستدل به على أنّ السّبب لا يخرج ، ولو قلنا إنّ العبرة بعموم اللفظ.

ونقل الغزاليّ تبعاً لشيخه والآمدي ومن تبعه عن الشّافعيّ قولاً

ص: 136

بخصوص السّبب تمسّكاً بما نقل عن الشّافعيّ ، أنّه ناظر بعض الحنفيّة لَمَّا قال: إنّ أبا حنيفة خصّ الفراش بالزّوجة ، وأخرج الأمة من عموم " الولد للفراش " ، فردّ عليه الشّافعيّ بأنّ هذا ورد على سبب خاصّ.

وردّ ذلك الفخر الرّازّي على مَن قاله: بأنّ مراد الشّافعيّ أنّ خصوص السّبب لا يخرج، والخبر إنّما ورد في حقّ الأمة فلا يجوز إخراجه.

ثمّ وقع الاتّفاق على تعميمه في الزّوجات ، لكن شرط الشّافعيّ والجمهور الإمكان زماناً ومكاناً.

وعن الحنفيّة: يكفي مجرّد العقد ، فتصير فراشاً ، ويلحق الزّوج الولد.

وحجّتهم عموم قوله " الولد للفراش " لأنّه لا يحتاج إلى تقدير، وهو الولد لصاحب الفراش؛ لأنّ المراد بالفراش الموطوءة.

وردّه القرطبيّ: بأنّ الفراش كناية عن الموطوءة لكون الواطئ يستفرشها ، أي: يصيّرها بوطئه لها فراشاً له ، يعني فلا بدّ من اعتبار الوطء حتّى تسمّى فراشاً ، وألحق به إمكان الوطء فمع عدم إمكان الوطء لا تسمّى فراشاً.

وفهم بعض الشّرّاح عن القرطبيّ خلاف مراده فقال: كلامه يقتضي حصول مقصود الجمهور بمجرّد كون الفراش هو الموطوءة، وليس هو المراد فعلم أنّه لا بدّ من تقدير محذوف؛ لأنّه قال: إنّ

ص: 137

الفراش هو الموطوءة والمراد به أنّ الولد لا يلحق بالواطئ، قال المعترض: وهذا لا يستقيم إلَّا مع تقدير الحذف.

قلت: وقد بيّنت وجه استقامته بحمد الله.

ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ ابن الأعرابيّ اللغويّ نقل أنّ الفراش عند العرب يعبّر به عن الزّوج، وعن المرأة ، والأكثر إطلاقه على المرأة، وممّا ورد في التّعبير به عن الرّجل قول جرير فيمن تزوّجت بعد قتل زوجها أو سيّدها:

باتت تعانقه وبات فراشها

خلق العباءة بالبلاء ثقيلاً.

وقد يعبّر به عن حالة الافتراش ، ويمكن حمل الخبر عليها فلا يتعيّن الحذف.

نعم. لا يمكن حمل الخبر على كلّ واطئٍ ، بل المراد من له الاختصاص بالوطء كالزّوج والسّيّد، ومن ثَمَّ قال ابن دقيق العيد: معنى " الولد للفراش " تابع للفراش أو محكوم به للفراش ، أو ما يقارب هذا.

وقد شنّع بعضهم على الحنفيّة ، بأنّ من لازم مذهبهم إخراج السّبب مع المبالغة في العمل بالعموم في الأحوال.

وأجاب بعضهم: بأنّه خصّص الظّاهر القويّ بالقياس، وقد عرف من قاعدته تقديم القياس في مواضع على خبر الواحد وهذا منها.

واستدل به على أنّ القائف إنّما يعتمد في الشّبه إذا لَم يعارضه ما هو أقوى منه؛ لأنّ الشّارع لَم يلتفت هنا إلى الشّبه والتفت إليه في قصّة

ص: 138

زيد بن حارثة (1)، وكذا لَم يحكم بالشّبه في قصّة الملاعنة (2)؛ لأنّه عارضه حكمٌ أقوى منه، وهو مشروعيّة اللعان.

وفيه تخصيص عموم " الولد للفراش " وقد تمسّك بالعموم الشّعبيّ وبعض المالكيّة. وهو شاذٌّ.

ونقل عن الشّافعيّ أنّه قال: لقوله " الولد للفراش " معنيان.

أحدهما: هو له ما لَم ينفه ، فإذا نفاه بما شرع له كاللعان انتفى عنه.

الثّاني: إذا تنازع ربّ الفراش والعاهر. فالولد لربّ الفراش.

قلت: والثّاني منطبق على خصوص الواقعة. والأوّل أعمّ.

تكميل: قال البخاري في كتاب العتق: باب أم الولد. قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربها. ثم ذكر حديث الباب.

قوله: (باب أم الولد) أي هل يحكم بعتقها أم لا؟

أورد فيه حديثين. وليس فيهما ما يفصح بالحكم عنده، وأظن ذلك لقوة الخلاف في المسألة بين السلف، وإن كان الأمر استقرَّ عند الخلف على المنع حتى وافق في ذلك ابنُ حزم ومن تبعه من أهل الظاهر على عدم جواز بيعهن ، ولم يبق إلا شذوذ.

(1) قصة زيد بن حارثة سيأتي إن شاء الله بعد هذا الحديث من العمدة

(2)

أخرج البخاري (4747) عن ابن عبّاس في قصة المتلاعنين. وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك ابن سحماء ، فجاءتْ به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأنٌ.

ص: 139

قوله: وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربها. (1) والمراد بالرب السيد أو المالك، ولا دليل فيه على جواز بيع أم الولد ولا عدمه.

قال النووي: استدل به إمامان جليلان أحدهما على جواز بيع أمهات الأولاد ، والآخر على منعه.

فأما من استدل به على الجواز. فقال: ظاهر قوله: " ربها " أن المراد به سيدها ، لأن ولدها من سيدها ينزل منزلة سيدها لمصير مال الإنسان إلى ولده غالباً.

وأما من استدلَّ به على المنع. فقال: لا شك أنَّ الأولاد من الإماء كانوا موجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه كثيرا، والحديث مسوق للعلامات التي قرب قيام الساعة، فدل على حدوث قدر زائد على مجرد التسري.

قال: والمراد أن الجهل يغلب في آخر الزمان حتى تباع أمهات الأولاد فيكثر ترداد الأمة في الأيدي حتى يشتريها ولدها وهو لا يدري، فيكون فيه إشارة إلى تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا يخفى تكلف الاستدلال من الطرفين، والله أعلم.

ثم أورد البخاري حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة، والشاهد منه قول عبد بن زمعة " أخي ولد على فراش أبي " وحكمه

(1) أخرجه البخاري (50) ومسلم (9).

ص: 140

- صلى الله عليه وسلم لابن زمعة بأنه أخوه، فإن فيه ثبوت أمية أم الولد، ولكن ليس فيه تعرض لحريتها ولا لإرقاقها.

إلَّا أن ابن المنير أجاب بأن فيه إشارة إلى حرية أم الولد لأنَّه جعلها فراشاً فسوى بينها وبين الزوجة في ذلك، وأفاد الكرماني ، أنه رأى في بعض النسخ في آخر الباب ما نصه " فسمى النبي صلى الله عليه وسلم أم ولد زمعة أمة ووليدة فدل على أنها لم تكن عتيقة " اهـ.

فعلى هذا فهو ميل منه إلى أنها لا تعتق بموت السيد، وكأنه اختار أحد التأويلين في الحديث الأول، وقد تقدم ما فيه.

قال الكرماني: وبقية كلامه لم تكن عتيقة من هذا الحديث، لكن من يحتج بعتقها في هذه الآية:(إلا ما ملكت أيمانكم) يكون له ذلك حجة.

قال الكرماني: كأنه أشار إلى أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عبد بن زمعة على قوله: " أمة أبي " ينزل منزلة القول منه صلى الله عليه وسلم، ووجه الدلالة مما قال إن الخطاب في الآية للمؤمنين، وزمعة لم يكن مؤمناً فلم يكن له ملك يمين فيكون ما في يده في حكم الأحرار.

قال: ولعلَّ غرض البخاري أن بعض الحنفية لا يقول: إن الولد في الأمة للفراش، فلا يلحقونه بالسيد، إلا إن أقر به، ويخصون الفراش بالحرة، فإذا احتج عليهم بما في هذا الحديث أن الولد للفراش قالوا: ما كانت أمة ، بل كانت حرة، فأشار البخاري إلى رد حجتهم هذه بما ذكره.

ص: 141

وتعلَّق الأئمة بأحاديث. أصحُّها حديثان:

أحدهما: حديث أبي سعيد في سؤالهم عن العزل كما سيأتي شرحه (1).

وممن تعلَّق به النسائي في " السنن " فقال: باب ما يستدل به على منع بيع أم الولد. فساق حديث أبي سعيد.

ثم ساق حديث عمرو بن الحارث الخزاعي كما في البخاري، قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً ولا أمةً " الحديث.

ووجه الدلالة من حديث أبي سعيد أنهم قالوا: " إنا نصيب سبايا فنحب الأثمان، فكيف ترى في العزل "؟ وهذا لفظ البخاري.

قال البيهقي: لولا أنَّ الاستيلاء يمنع من نقل الملك ، وإلَّا لم يكن لعزلهم لأجل محبة الأثمان فائدة.

وللنسائي من وجه آخر عن أبي سعيد " فكان منَّا من يريد أن يتخذ أهلاً، ومنَّا من يريد البيع، فتراجعنا في العزل " الحديث.

وفي رواية لمسلم " وطالت علينا العزبة ، ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل ".

وفي الاستدلال به نظرٌ، إذ لا تلازم بين حملهن وبين استمرار امتناع البيع، فلعلهم أحبوا تعجيل الفداء وأخذ الثمن، فلو حملت المسبية لتأخر بيعها إلى وضعها.

(1) متفق عليه. انظر الحديث الأتي برقم (332) في العمدة.

ص: 142

ووجه الدلالة من حديث عمرو بن الحارث ، أن مارية أم ولده إبراهيم كانت قد عاشت بعده، فلولا أنها خرجت عن الوصف بالرق لَما صح قوله:" أنه لم يترك أمة ".

وقد ورد الحديث عن عائشة أيضاً عند ابن حبان مثله، وهو عند مسلم ، لكن ليس فيه ذكر الأمة.

وفي صحة الاستدلال بذلك وقفة، لاحتمال أن يكون نجز عتقها، وأما بقية أحاديث الباب فضعيفة.

ويعارضها حديث جابر " كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد. والنبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ لا يرى بذلك بأسا " وفي لفظ " بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلمَّا كان عمر نهانا فانتهينا ".

وقول الصحابي: " كنا نفعل " محمول على الرفع على الصحيح، وعليه جرى عمل الشيخين في صحيحهما ، ولم يستند الشافعي في القول بالمنع إلَّا إلى عمر. فقال: قلتُه تقليداً لعمر.

قال بعض أصحابه: لأنَّ عمر لمَّا نهى عنه فانتهوا صار إجماعاً - يعني فلا عبرة بندور المخالف بعد ذلك - ولا يتعين معرفة سند الإجماع.

قوله: (هو لك يا عبد بن زمعة) كذا للأكثر، وعبد يجوز فيه الضّمّ والفتح، وأمّا ابن فهو منصوبٌ على الحالين.

ووقع في روايةٍ للنّسائيّ " هو لك عبد بن زمعة " بحذف حرف النّداء.

ص: 143

وقرأه بعض المخالفين بالتّنوين ، وهو مردود. فقد وقع في رواية يونس المعلقة في البخاري " هو لك، هو أخوك يا عبد "(1).

ووقع لمسدّدٍ عن ابن عيينة. عند أبي داود " هو أخوك يا عبد ". (2)

قال ابن عبد البرّ: تثبُتُ الأمة فراشاً عند أهل الحجاز. إن أقرّ سيّدها أنّه كان يلمّ بها، وعند أهل العراق إن أقرّ سيّدها بالولد.

وقال المازريّ: يتعلق بهذا الحديث استلحاق الأخ لأخيه، وهو صحيح عند الشّافعيّ إذا لَم يكن له وارث سواه، وقد تعلق أصحابه بهذا الحديث ، لأنّه لَم يرد أنّ زمعة ادّعاه ولداً ، ولا اعترف بوطء أمّه ، فكان المعوّل في هذه القصّة على استلحاق عبد بن زمعة.

قال: وعندنا لا يصحّ استلحاق الأخ، ولا حجّة في هذا الحديث؛ لأنّه يمكن أن يكون ثبت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ زمعة كان يطأ أمته فألحق الولد به ، لأنّ من ثبت وطؤه لا يحتاج إلى الاعتراف بالوطء، وإنّما يصعب هذا على العراقيّين ، ويعسر عليهم الانفصال عمّا قاله الشّافعيّ

(1) علّقه البخاري في كتاب المغازي (4052) عقِب روايته للحديث من طريق مالك عن الزهري .. ثم قال: وقال الليث حدثني يونس عن الزهري به.

قال ابن حجر في " الفتح "(8/ 24): وصله الذهلي في " الزهريات " ، وساقه البخاريُّ هنا على لفظ يونس ، وأورده مقروناً بطريق مالك ، وفيه مخالفة شديدة له ، وقد عابه الإسماعيلي ، وقال: قرن بين روايتي مالك ويونس مع شدة اختلافهما. ولم يبيّن ذلك. انتهى.

(2)

وأخرجه البيهقي في " الكبرى "(6/ 142) من طريق أبي داود.

ثم قال البيهقي: وهذه زيادة محفوظة، وقد رواها أيضاً يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري

ص: 144

لِمَا قرّرناه أنّه لَم يكن لزمعة ولدٌ من الأمة المذكورة سابقٌ، ومجرّد الوطء لا عبرة به عندهم فيلزمهم تسليم ما قال الشّافعيّ.

قال: ولَمّا ضاق عليهم الأمر ، قالوا الرّواية في هذا الحديث " هو لك عبدٌ بنَ زمعة " وحذف حرف النّداء بين عبد وابن زمعة ، والأصل يا ابن زمعة، قالوا: والمراد أنّ الولد لا يلحق بزمعة ، بل هو عبدٌ لولده؛ لأنّه وارثه ولذلك أمر سودة بالاحتجاب منه ، لأنّها لَم ترث زمعة؛ لأنّه مات كافراً وهي مسلمةٌ.

قال: وهذه الرّواية التي ذكروها غير صحيحة، ولو وردت لرددناها إلى الرّواية المشهورة، وقلنا: بل المحذوف حرف النّداء بين لك وعبد كقوله تعالى حكايةً عن صاحب يوسف حيث قال {يوسف أعرض عن هذا} . انتهى.

وقد سلك الطّحاويّ فيه مسلكاً آخر ، فقال: معنى قوله " هو لك " أي: يدك عليه لا أنّك تملكه، ولكن تمنع غيرك منه إلى أن يتبيّن أمره كما قال لصاحب اللقطة " هي لك " وقال له " إذا جاء صاحبها فأدّها إليه ".

قال: ولمّا كانت سودة شريكة لعبد في ذلك ، لكن لَم يعلم منها تصديق ذلك ولا الدّعوى به ، ألزم عبداً بما أقرّ به على نفسه، ولَم يجعل ذلك حجّة عليها فأمرها بالاحتجاب.

وكلامه كلّه متعقّبٌ بالرّواية الثّانية المصرّح فيها بقوله " هو أخوك " فإنّها رفعت الإشكال، وكأنّه لَم يقف عليها، ولا على حديث ابن

ص: 145

الزّبير وسودة الدّالّ على أنّ سودة وافقت أخاها عبداً في الدّعوى بذلك.

قوله: (الولد للفراش) أي: لمالك الفراش. وهو السيد أو الزوج.

قال بن أبي جمرة: الفراش كناية عن الجماع. أي: لمن يطأ في الفراش ، والكناية عن الأشياء التي يُستحى منها كثيرة في القرآن والسنة.

قوله: (وللعاهر الحجر) أي: للزّاني الخيبة والحرمان، والعهر بفتحتين الزّنا، وقيل: يختصّ بالليل.

ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدّعيه، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب: له الحجر وبفيه الحجر والتّراب. ونحو ذلك.

وقيل: المراد بالحجر هنا أنّه يرجم.

قال النّوويّ: وهو ضعيفٌ؛ لأنّ الرّجم مختصٌّ بالمحصن، ولأنّه لا يلزم من رجمه نفي الولد، والخبر إنّما سيق لنفي الولد.

وقال السّبكيّ: والأوّل أشبه بمساق الحديث لتعمّ الخيبة كل زانٍ، ودليل الرّجم، مأخوذ من موضع آخر فلا حاجة للتّخصيص من غير دليل.

قلت: ويؤيّد الأوّل أيضاً ما أخرجه أبو أحمد الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه " الولد للفراش. وفي فم العاهر الحجر " وفي حديث ابن عمر عند ابن حبّان " الولد للفراش وبفي العاهر الأثلب "

ص: 146

: بمثلثةٍ ثمّ موحّدة بينهما لامٌ وبفتح أوّله وثالثه ويكسران.

قيل: هو الحجر ، وقيل: دقاقه ، وقيل: التّراب.

قوله: (ثمّ قال لسودة: احتجبي منه) وللشيخين من رواية الليث عن الزهري " واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة ".

قوله: (فلم ير سودة قطّ) وللبخاري من رواية مالك " فما رآها حتّى لقي الله " وفي رواية معمر " قالت عائشة: فوالله ما رآها حتّى ماتت " وفي رواية الليث " فلم تره سودة قطّ " يعني في المدّة التي بين هذا القول وبين موت أحدهما، وكذا لمسلمٍ من طريقه، وفي رواية ابن جريجٍ في صحيح أبي عوانة مثله.

وفي رواية البخاري في حديث الليث أيضاً " فلم تره سودة بعد " وهذه إذا ضمّت إلى رواية مالك ومعمر استفيد منها أنّها امتثلت الأمر ، وبالغت في الاحتجاب منه ، حتّى إنّها لَم تره فضلاً عن أن يراها؛ لأنّه ليس في الأمر المذكور دلالةٌ على منعها من رؤيته.

وقد استدل به الحنفيّة على أنّه لَم يلحقه بزمعة؛ لأنّه لو ألحقه به لكان أخا سودة ، والأخ لا يؤمر بالاحتجاب منه.

وأجاب الجمهور: بأنّ الأمر بذلك كان للاحتياط ، لأنّه وإن حكم بأنّه أخوها لقوله في الطّرق الصّحيحة " هو أخوك يا عبد " وإذا ثبت أنّه أخو عبد لأبيه ، فهو أخو سودة لأبيها، لكن لَمَّا رأى الشّبه بيّناً بعتبة أمرها بالاحتجاب منه احتياطاً.

وأشار الخطّابيّ ، إلى أنّ في ذلك مزيّةً لأمّهات المؤمنين؛ لأنّ لهنّ في

ص: 147

ذلك ما ليس لغيرهنّ، قال: والشّبه يعتبر في بعض المواطن ، لكن لا يُقضى به إذا وجد ما هو أقوى منه، وهو كما يحكم في الحادثة بالقياس ، ثمّ يوجد فيها نصٌّ فيترك القياس.

قال: وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث. وليس بالثّابت " احتجبي منه يا سودة فإنّه ليس لك بأخٍ ".

وتبعه النّوويّ فقال: هذه الزّيادة باطلة مردودة.

وتعقّب: بأنّها وقعت في حديث عبد الله بن الزّبير عند النّسائيّ بسندٍ حسنٍ ، ولفظه: كانت لزمعة جارية يطؤها ، وكان يظنّ بآخر أنّه يقع عليها ، فجاءت بولدٍ يشبه الذي كان يظنّ به ، فمات زمعة، فذكرت ذلك سودة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخٍ.

ورجال سنده رجال الصّحيح إلَّا شيخ مجاهد وهو يوسف مولى آل الزّبير. وقد طعن البيهقيّ في سنده فقال: فيه جرير. وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيه يوسف وهو غير معروفٍ.

وعلى تقدير ثبوته فلا يعارِض حديث عائشة المتّفق على صحّته.

وتعقّب: بأنّ جريراً هذا لَم ينسب إلى سوء حفظٍ، وكأنّه اشتبه عليه بجرير بن حازم، وبأنّ الجمع بينهما ممكنٌ فلا ترجيح. وبأنّ يوسف معروفٌ في موالي آل الزّبير، وعلى هذا فيتعيّن تأويله.

وإذا ثبتت هذه الزّيادة ، تعيّن تأويل نفي الأخوّة عن سودة على نحو ما تقدّم من أمرها بالاحتجاب منه.

ص: 148

ونقل ابن العربيّ في " القوانين " عن الشّافعيّ نحو ما تقدّم ، وزاد: ولو كان أخاها بنسبٍ محقّقٍ لَمَا منعها كما أمر عائشة أن لَّا تحتجب من عمّها من الرّضاعة.

وقال البيهقيّ: معنى قوله " ليس لك بأخٍ " إن ثبت ليس لك بأخٍ شبهاً ، فلا يخالف قوله لعبدٍ " هو أخوك ".

قلت: أو معنى قوله " ليس لك بأخٍ " بالنّسبة للميراث من زمعة ، لأنّ زمعة مات كافراً وخلف عبد بن زمعة والولد المذكور وسودة ، فلا حقّ لسودة في إرثه ، بل حازه عبدٌ قبل الاستلحاق. فإذا استلحق الابن المذكور شاركه في الإرث دون سودة فلهذا قال لعبدٍ " هو أخوك " وقال لسودة " ليس لك بأخٍ ".

وقال القرطبيّ بعد أن قرّر أنّ أمر سودة بالاحتجاب للاحتياط وتوقّي الشّبهات: ويحتمل: أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حقّ أمّهات المؤمنين كما قال " أفعمياوان أنتما؟ "(1) فنهاهما عن رؤية

(1) أخرجه أبو داود (4112)، والترمذي (2778) وقال: حسن صحيح، والنسائي في " الكبرى "(9197) وغيرهم من طريق ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة حدثه ، أن أم سلمة حدثته ، أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه. فقلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟. وأُعلّ بالنكارة وجهالة نبهان مولى أم سلمة.

قال الحافظ في " الفتح "(9/ 337): وإسناده قوي، وأكثر ما عُلّل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان. وليست بعلّة قادحة، فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ، ولم يجرحه أحدٌ لا ترد روايته. انتهى. ثم جمع بينه وبين حديث نظر عائشة إلى الحبشة المخرّج في الصحيح.

وقال في " التلخيص "(3/ 315): وليس في إسناده سوى نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري. وقد وثّق. وعند مالك عن عائشة ، أنها احتجبت من أعمى فقيل لها: إنه لا ينظر إليك. قالت: لكني أنظر إليه. وقال ابن عبد البر: حديث فاطمة بنت قيس يدلُّ على جواز نظر المرأة إلى الأعمى. وهو أصحُّ من هذا. وقال أبو داود: هذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً بدليل حديث فاطمة.

قلت: وهذا جمعٌ حسنٌ. وبه جمع المنذري في حواشيه ، واستحسنه شيخنا. اهـ

ص: 149

الأعمى مع قوله لفاطمة بنت قيس " اعتدّي عند ابن أمّ مكتوم فإنّه أعمى "(1) فغلظ الحجاب في حقّهنّ دون غيرهنّ.

وقد قال عياض: إنّه كان يحرم عليهنّ بعد الحجاب إبراز أشخاصهنّ ، ولو كنّ مستتراتٍ إلَّا لضرورةٍ ، بخلاف غيرهنّ فلا يشترط (2).

وأيضاً فإنّ للزّوج أن يمنع زوجته من الاجتماع بمحارمها ، فلعلَّ المراد بالاحتجاب عدم الاجتماع به في الخلوة.

وقال ابن حزم: لا يجب على المرأة أن يراها أخوها ، بل الواجب عليها صلة رحمها، وردّ على من زعم أنّ معنى قوله " هو لك " أي: عبدٌ، بأنّه لو قضى بأنّه عبدٌ ، لَمَا أمر سودة بالاحتجاب منه ، إمّا لأنّ لها فيه حصّةً، وإمّا لأنّ من في الرّقّ لا يحتجب منه على القول بذلك.

وقد تقدّم جواب المزنيّ عن ذلك قريباً.

واستدل به بعض المالكيّة على مشروعيّة الحكم بين حكمين ، وهو

(1) حديث فاطمة بنت قيس تقدّم في العمدة (322)

(2)

كلام عياض رحمه الله نقله الحافظ في موضعين من الفتح.

ورّده بقوله في (9/ 337): والحاصل في رد قوله. كثرة الأخبار الواردة أنَّهنَّ كنَّ يحججن ويطفن ويخرجن إلى المساجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده. انتهى

ص: 150

أن يأخذ الفرع شبهاً من أكثر من أصلٍ فيعطى أحكاماً بعدد ذلك، وذلك أنّ الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النّسب والشّبه يقتضي إلحاقه بعتبة ، فأعطى الفرع حكماً بين حكمين فروعي الفراش في النّسب والشّبه البيّن في الاحتجاب.

قال: وإلحاقه بهما، ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كلّ وجه.

قال ابن دقيق العيد: ويعترض على هذا بأنّ صورة المسألة ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيّين ، وهنا الإلحاق شرعيٌّ للتّصريح بقوله " الولد للفراش " فبقي الأمر بالاحتجاب مشكلاً؛ لأنّه يناقض الإلحاق ، فتعيّن أنّه للاحتياط لا لوجوب حكمٍ شرعيٍّ، وليس فيه إلَّا ترك مباحٍ مع ثبوت المحرميّة.

واستدل به على أنّ حكم الحاكم لا يحل الأمر في الباطن ، كما لو حكم بشهادةٍ فظهر أنّها زورٌ؛ لأنّه حكم بأنّه أخو عبدٍ ، وأمر سودة بالاحتجاب بسبب الشّبه بعتبة، فلو كان الحكم يحل الأمر في الباطن لَمَا أمرها بالاحتجاب.

واستدل به.

وهو القول الأول. على أنّ لِوطء الزّنا حكمَ وطء الحلال في حرمة المصاهرة ، وهو قول الجمهور.

ووجه الدّلالة أمر سودة بالاحتجاب بعد الحكم بأنّه أخوها لأجل الشّبه بالزّاني.

ص: 151

القول الثاني: قال مالك في المشهور عنه والشّافعيّ: لا أثر لوطء الزّنا ، بل للزّاني أن يتزوّج أمّ التي زنى بها وبنتها.

وزاد الشّافعيّ ووافقه ابن الماجشون: والبنت التي تلدها المزنيّ بها، ولو عرفت أنّها منه.

قال النّوويّ: وهذا احتجاجٌ باطلٌ؛ لأنّه على تقدير أن يكون من الزّنا فهو أجنبيٌّ من سودة لا يحل لها أن تظهر له. سواءٌ ألحق بالزّاني أم لا ، فلا تعلق له بمسألة البنت المخلوقة من الزّنا.

كذا قال ، وهو ردٌّ للفرع بردّ الأصل، وإلا فالبناء الذي بنوه صحيحٌ.

وقد أجاب الشّافعيّة عنه: بما تقدّم أنّ الأمر بالاحتجاب للاحتياط، ويحمل الأمر في ذلك إمّا على النّدب، وإمّا على تخصيص أمّهات المؤمنين بذلك، فعلى تقدير النّدب فالشّافعيّ قائل به في المخلوقة من الزّنا، وعلى التّخصيص فلا إشكال. والله أعلم.

ويلزم مَن قال بالوجوب أن يقول به في تزويج البنت المخلوقة من ماء الزّنا ، فيجيز عند فقد الشّبه ويمنع عند وجوده.

واستدل به على صحّة ملك الكافر الوثنيّ الأمة الكافرة، وأنّ حكمها بعد أن تلد من سيّدها حكم القنّ؛ لأنّ عبداً وسعداً أطلقا عليها أمة ووليدة، ولَم ينكر ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كذا أشار إليه البخاريّ في كتاب العتق ، عقب هذا الحديث بعد أن ترجم له " أمّ الولد " ولكنّه ليس في أكثر النُّسخ.

ص: 152

وأجيب: بأنّ عتق أمّ الولد بموت السّيّد ثبت بأدلةٍ أخرى.

وقيل: إنّ غرض البخاريّ بإيراده أنّ بعض الحنفيّة لَمَّا ألزم أنّ أمّ الولد المتنازع فيه كانت حرّة ردّ ذلك، وقال: بل كانت عتقت، وكأنّه قد ورد في بعض طرقه أنّها أمةٌ. فمن ادّعى أنّها عتقت فعليه البيان.

تكملةٌ: حديث " الولد للفراش ".

قال ابن عبد البرّ: هو من أصحّ ما يروى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم جاء عن بضعةٍ وعشرين نفساً من الصّحابة. فذكره البخاريّ عن أبي هريرة وعائشة.

وقال التّرمذيّ عقب حديث أبي هريرة: وفي الباب عن عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزّبير وعبد الله بن عمرو وأبي أُمامة وعمرو بن خارجة والبراء وزيد بن أرقم. انتهى

وزاد شيخنا عليه معاوية وابن عمر.

وزاد أبو القاسم بن منده في " تذكرته " معاذ بن جبل وعبادة بن الصّامت وأنس بن مالك وعليّ بن أبي طالب والحسين بن عليّ وعبد الله بن حذافة وسعد بن أبي وقّاصٍ وسودة بنت زمعة.

ووقع لي من حديث ابن عبّاس وأبي مسعود البدريّ وواثلة بن الأسقع وزينب بنت جحش، وقد رقمت عليها علامات من أخرجها من الأئمّة فـ طب علامة الطّبرانيّ في " الكبير "، وطس علامته في " الأوسط "، وبز علامة البزّار، وص علامة أبي يعلى الموصليّ، وتم علامة تمّام في " فوائده ".

ص: 153

وجميع هؤلاء وقع عندهم " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". ومنهم من اقتصر على الجملة الأولى، وفي حديث عثمان قصّة، وكذا عليّ.

وفي حديث معاوية قصّة أخرى له مع نصر بن حجّاج وعبد الرّحمن بن خالد بن الوليد ، فقال له نصر: فأين قضاؤك في زياد؟ فقال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من قضاء معاوية ".

وفي حديث أبي أُمامة وابن مسعود وعبادة أحكامٌ أخرى، وفي حديث عبد الله بن حذافة قصّةٌ له في سؤاله عن اسم أبيه.

وفي حديث ابن الزّبير قصّة نحو قصّة عائشة باختصارٍ. وقد أشرتُ إليه، وفي حديث سودة نحوه. ولَم تسمّ في رواية أحمد ، بل قال " عن بنت زمعة ". وفي حديث زينب قصّة. ولَم يُسمَّ أبوها ، بل فيه " عن زينب الأسديّة " وبالله التّوفيق.

وجاء من مرسل عبيد بن عمير - وهو أحد كبار التّابعين - أخرجه ابن عبد البرّ بسندٍ صحيحٍ إليه.

تكميل آخر: قال البخاري (باب إثم من انتفى من ولده) أورد فيه حديث عائشة في قصّة مخاصمة سعد بن أبي وقّاص وعبد بن زمعة.

وقد خفي توجيه هذه التّرجمة لهذا الحديث.

ويحتمل: أن يخرّج على أنّ عتبة بن أبي وقّاص مات مسلماً ، وأنّ الذي حمله على أن يوصي أخاه بأخذ ولد وليدة زمعة خشية أن يكون

ص: 154

سكوته عن ذلك مع اعتقاده أنّه ولده يتنزّل منزلة النّفي، وكان سمع ما ورد في حقّ من انتفى من ولده من الوعيد ، فعهد إلى أخيه أنّه ابنه وأمره باستلحاقه.

وعلى تقدير أن يكون عتبة مات كافراً ، فيحتمل أن يكون ذلك هو الحامل لسعدٍ على استلحاق ابن أخيه ، ويلحق انتفاء ولد الأخ بالانتفاء من الولد ، لأنّه قد يرث من عمّه كما يرث من أبيه.

وقد ورد الوعيد في حقّ من انتفى من ولده من رواية مجاهد عن ابن عمر رفعه " من انتفى من ولده ليفضحه في الدّنيا ، فضحه الله يوم القيامة " الحديث، وفي سنده الجرّاح والد وكيع مختلف فيه.

وله طريق أخرى عن ابن عمر أخرجه ابن عديٍّ بلفظ " من انتفى من ولده فليتبوّأ مقعده من النّار " وفي سنده محمّد بن أبي الزّعيزعة راوية عن نافعٍ. قال أبو حاتم: منكر الحديث.

وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود والنّسائيّ وصحّحه ابن حبّان والحاكم بلفظ " وأيّما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه " الحديث، وفي سنده عبيد الله بن يوسف حجازيّ ما روى عنه سوى يزيد بن الهاد.

ص: 155