المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الأول 350 - عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٦

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب العدّة

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌كتاب اللّعان

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌كتاب الرّضاع

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب القسامة

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

الفصل: ‌ ‌الحديث الأول 350 - عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه

‌الحديث الأول

350 -

عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه ، قال: قَدِم ناسٌ من عُكلٍ أو عُرينة فاجتووا المدينة، فأمر لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بلقاحٍ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحُّوا. قتلوا راعي النبيّ صلى الله عليه وسلم واستاقوا النَّعَم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلمَّا ارتفع النهار جِيء بهم، فأمر بهم، فقُطّعت أيديهم وأرجلهم، وسُمرت أعينهم، وتُركوا في الحرّة يستسقون. فلا يسقون.

قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله، أخرجه الجماعة. (1)

قوله: (قدم ناسٌ) أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصرّح به البخاري من طريق أبي رجاء عن أبي قلابة عن أنس.

قوله: (من عكلٍ أو عرينة) الشّكّ فيه من حمّاد ، وللبخاري في المحاربين عن قتيبة عن حمّاد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة " أنّ رهطاً من عكلٍ ، أو قال من عرينة. ولا أعلمه إلَّا قال: من عكلٍ ".

(1) أخرجه البخاري (231 ، 2855 ، 3957 ، 4334 ، 4617 ، 4618 ، 4619 ، 6420 ، 6503) ومسلم (1671) من طرق عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه. واللفظ للبخاري. وليس عند مسلم قول أبي قلابة.

وأخرجه البخاري (1430 ، 3956 ، 5362 ، 5395) ومسلم (1671) من طرق عن قتادة عن أنس رضي الله عنه نحوه.

وأخرجه البخاري (5361) من طريق ثابت ، ومسلم (1671) من طريق حميد وعبد العزيز بن صهيب وسليمان التيمي ومعاوية بن قرّة كلهم عن أنس بنحوه.

ص: 343

وله في " الجهاد " عن وهيبٍ عن أيّوب " أنّ رهطاً من عكلٍ " ولَم يشكّ ، وكذا في " المحاربين " عن يحيى بن أبي كثير ، وفي " الدّيات " عن أبي رجاء كلاهما عن أبي قلابة.

وله في " الزّكاة " عن شعبة عن قتادة عن أنس " أنّ ناساً من عرينة " ولَم يشكّ أيضاً ، وكذا لمسلمٍ من رواية معاوية بن قرّة عن أنس.

وفي البخاري عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة " أنّ ناساً من عكلٍ وعرينة " بالواو العاطفة ، وهو الصّواب.

ويؤيّده ما رواه أبو عوانة والطّبريّ من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال: كانوا أربعةً من عرينة وثلاثة من عكلٍ.

ولا يخالف هذا ما عند البخاري في " الجهاد " من طريق وهيب عن أيّوب ، وفي " الدّيات " من طريق حجّاج الصّوّاف عن أبي رجاء كلاهما عن أبي قلابة عن أنس ، أنّ رهطاً من عكلٍ ثمانية. لاحتمال أن يكون الثّامن من غير القبيلتين ، وكان من أتباعهم فلم ينسب.

وغفل من نسب عدّتهم ثمانية لرواية أبي يعلى ، وهي عند البخاريّ ، وكذا عند مسلم.

وزعم ابن التّين تبعاً للدّاوديّ ، أنّ عرينة هم عكل وهو غلطٌ، بل هما قبيلتان متغايرتان: عكلٌ من عدنان. وعرينة من قحطان.

وعُكْل: بضمّ المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم الرّباب.

وعُرَيْنة: بالعين والرّاء المهملتين والنّون مصغّراً حيٌّ من قضاعة وحيٌّ من بجيلة.

ص: 344

والمراد هنا الثّاني. كذا ذكره موسى بن عقبة في " المغازي " ، وكذا رواه الطّبريّ من وجهٍ آخر عن أنس.

ووقع عند عبد الرّزّاق من حديث أبي هريرة بإسنادٍ ساقطٍ " أنّهم من بني فزارة ". وهو غلطٌ؛ لأنّ بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكلٍ ولا مع عرينة أصلاً.

وذكر ابن إسحاق في " المغازي ": أنّ قدومهم كان بعد غزوة ذي قردٍ ، وكانت في جمادى الآخرة سنة ستّ. وذكرها البخاري بعد الحديبية ، وكانت في ذي القعدة منها.

وذكر الواقديّ: أنّها كانت في شوّالٍ منها ، وتبعه ابن سعد وابن حبّان وغيرهما. والله أعلم.

وللبخاري في " المحاربين " من طريق وهيب عن أيّوب " أنّهم كانوا في الصّفّة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل ".

قوله: (فاجتووا المدينة) زاد في رواية يحيى بن أبي كثير قبل هذا " فأسلموا " ، وفي رواية أبي رجاء قبل هذا " فبايعوه على الإسلام ".

قال ابن فارس: اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه ، وإن كنت في نعمة. وقيّده الخطّابيّ بما إذا تضرّر بالإقامة ، وهو المناسب لهذه القصّة.

وقال القزّاز: اجتووا. أي: لَم يوافقهم طعامها.

وقال ابن العربيّ: الجوى داء يأخذ من الوباء. وفي روايةٍ أخرى يعني رواية أبي رجاء المذكورة " استوخموا " قال: وهو بمعناه.

وقال غيره: الجوى داء يصيب الجوف.

ص: 345

وللبخاري من رواية سعيدٍ عن قتادة في هذه القصّة " فقالوا: يا نبيّ الله. إنّا كنّا أهل ضرع ، ولَم نكن أهل ريف ". وله في " الطّبّ " من رواية ثابتٍ عن أنس ، أنّ ناساً كان بهم سقمٌ قالوا: يا رسولَ الله آونا وأطعمنا. فلمّا صحوا ، قالوا: إنّ المدينة وخمة.

والظّاهر أنّهم قدموا سقاماً ، فلمّا صحّوا من السّقم كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها، فأمّا السّقم الذي كان بهم ، فهو الهزال الشّديد والجهد من الجوع. فعند أبي عوانة من رواية غيلان عن أنس: كان بهم هزال شديد. وعنده من رواية أبي سعد عنه " مصفرّة ألوانهم ".

وأمّا الوخم الذي شكوا منه بعد أن صحّت أجسامهم ، فهو من حُمّى المدينة كما عند أحمد من رواية حميدٍ عن أنس.

وللبخاري من حديث عائشة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعا الله أن ينقلها إلى الجحفة.

ووقع عند مسلم من رواية معاوية بن قرّة عن أنس " وقع بالمدينة المُوم " أي: بضمّ الميم وسكون الواو ، قال: وهو البرسام. أي: بكسر الموحّدة ، سريانيّ معرّب ، أطلق على اختلال العقل ، وعلى ورم الرّأس ، وعلى ورم الصّدر.

والمراد هنا الأخير. فعند أبي عوانة من رواية همّام عن قتادة عن أنس في هذه القصّة " فعظُمت بطونهم "

قوله: (فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحٍ) أي: فأمرهم أن يلحقوا بها ، وللبخاري في رواية همّام عن قتادة " فأمرهم أن يلحقوا براعيه ".

ص: 346

وله عن قتيبة عن حمّاد " فأمر لهم بلقاح "؛ بزيادة اللام ، فيحتمل أن تكون زائدة ، أو للتّعليل ، أو لشبه الملك أو للاختصاص ، وليست للتّمليك.

وعند أبي عوانة من رواية معاوية بن قرّة ، التي أخرج مسلمٌ إسنادَها " أنّهم بدءوا بطلب الخروج إلى اللقاح فقالوا: يا رسولَ الله قد وقع هذا الوجع ، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل ".

وللبخاري من رواية وهيب عن أيّوب أنّهم قالوا: يا رسولَ الله أبغنا رسلاً. أي: اطلب لنا لبناً. قال: ما أجد لكم إلَّا أن تلحقوا بالذّود.

والرِّسل: بكسر الرّاء وسكون المهملة اللبن وبفتحتين ، المال من الإبل والغنم.

وقيل: بل الإبل خاصّةً إذا أرسلت إلى الماء ، تسمّى رسلاً ، وفي رواية أبي رجاء " هذه نعمٌ لنا تخرج فاخرجوا فيها ".

واللقاح: باللام المكسورة والقاف وآخره مهملة: النّوق ذوات الألبان ، واحدها لقحة بكسر اللام وإسكان القاف.

وقال أبو عمرو: يقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهرٍ ، ثمّ هي لبونٌ.

وظاهر ما مضى ، أنّ اللقاح كانت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وصرّح بذلك في البخاري عن موسى عن وهيب بسنده فقال " إلَّا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

وله من رواية الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كثير بسنده " فأمرهم أن

ص: 347

يأتوا إبل الصّدقة " وكذا له من طريق شعبة عن قتادة.

والجمع بينهما. أنّ إبل الصّدقة كانت ترعى خارج المدينة ، وصادف بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى ما طلب هؤلاء النّفر الخروج إلى الصّحراء لشرب ألبان الإبل ، فأمرهم أن يخرجوا مع راعيه ، فخرجوا معه إلى الإبل ، ففعلوا ما فعلوا ، وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم " إنّ المدينة تنفي خبثها " متفق عليه.

وذكر ابن سعد ، أنّ عدد لقاحه صلى الله عليه وسلم كانت خمس عشرة ، وأنّهم نحروا منها واحدة ، يقال: لها الحنّاء ، وهو في ذلك متابعٌ للواقديّ ، وقد ذكره الواقديّ في " المغازي " بإسنادٍ ضعيفٍ مرسل.

قوله: (وأمرهم: أن يشربوا) وللبخاري في رواية أبي رجاء " فاخرجوا فاشربوا من ألبانها وأبوالها " بصيغة الأمر، وفي رواية شعبة عن قتادة " فرخّص لهم أن يأتوا الصّدقة فيشربوا ".

فأمّا شربهم ألبان الصّدقة فلأنّهم من أبناء السّبيل.

وأمّا شربهم لبن لقاح النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبإذنه المذكور.

وأمّا شربهم البول.

القول الأول: احتجّ به مَن قال بطهارته.

أمّا من الإبل فبهذا الحديث ، وأمّا من مأكول اللحم فبالقياس عليه، وهذا قول مالك وأحمد وطائفةٍ من السّلف ووافقهم من الشّافعيّة ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان والإصطخريّ والرّويانيّ

القول الثاني: ذهب الشّافعيّ والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال

ص: 348

والأرواث كلّها من مأكول اللحم وغيره.

واحتجّ ابن المنذر لقوله ، بأنّ الأشياء على الطّهارة حتّى تثبت النّجاسة.

قال: ومن زعم أنّ هذا خاصٌّ بأولئك الأقوام لَم يصب ، الخصائص لا تثبت إلَّا بدليلٍ.

قال: وفي ترك أهل العلم بيع النّاس أبعار الغنم في أسواقهم ، واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديماً وحديثاً من غير نكير ، دليل على طهارتها.

قلت: وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنّ المختلف فيه لا يجب إنكاره. فلا يدل ترك إنكاره على جوازه فضلاً عن طهارته.

وقد دلَّ على نجاسة الأبوال كلّها حديث أبي هريرة الذي صحّحه ابن خزيمة وغيره مرفوعاً بلفظ: استنزهوا من البول ، فإنّ عامّة عذاب القبر منه.

لأنّه ظاهرٌ في تناول جميع الأبوال (1) فيجب اجتنابها لهذا الوعيد.

(1) قال الشيخ ابن باز (1/ 438): هذا ليس بجيد ، والصواب طهارة أبوال الإبل ونحوها مما يؤكل لحمه كما في حديث العرنيين و " ال " في قوله صلى الله عليه وسلم: استنزهوا من البول. للعهد. والمعهود بينهم بول الناس كما قاله البخاري ، وكما يدلُّ عليه حديث القبرين وأثر وأبي موسى المذكور " انتهى كلام ابن باز.

قلت: أثر أبي موسى ذكره البخاري معلَّقاً بلفظ " وصلَّى أبو موسى في دار البريد. والسرقين والبرية إلى جنبه، فقال: هاهنا وثَمَّ سواء "

قال ابن حجر في " الفتح "(1/ 437): وصله أبو نعيم شيخ البخاري في " كتاب الصلاة " له قال: حدثنا الأعمش عن مالك بن الحارث - هو السلمي الكوفي - عن أبيه ، قال: صلَّى بنا أبو موسى في دار البريد ، وهناك سرقين الدواب والبرية على الباب ، فقالوا: لو صليت على الباب. فذكره ، والسرقين: بكسر المهملة وإسكان الراء. هو الزبل ، وحكى فيه ابن سيدة: فتح أوله. وهو فارسي معرب ، ويقال: له السرجين بالجيم ، وهو في الأصل حرف بين القاف والجيم يقرب من الكاف.

والبرية: الصحراء منسوبة إلى البر ، ودار البريد المذكورة موضع ، قوله " سواء " يريد أنهما متساويان في صحة الصلاة.

وتعقب: بأنه ليس فيه دليل على طهارة أرواث الدواب عند أبي موسى ، لأنه يمكن أن يُصلِّي فيها على ثوب يبسطه.

وأجيب: بأنَّ الأصل عدمه ، وقد رواه سفيان الثوري في " جامعه " عن الأعمش بسنده. ولفظه " صلَّى بنا أبو موسى على مكان فيه سرقين " وهذا ظاهر في أنه بغير حائل.

وقد روى سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب وغيره ، أنَّ الصلاة على الطنفسة مُحدَث. وإسناده صحيح

والأولى أن يقال: إن هذا من فعل أبي موسى ، وقد خالفه غيره من الصحابة كابن عمر وغيره فلا يكون حجة ، أو لعلَّ أبا موسى كان لا يرى الطهارة شرطاً في صحة الصلاة ، بل يراها واجبة برأسها ، وهو مذهب مشهور.

ومثله في قصة الصحابي الذي صلَّى بعد أنْ جُرح ، وظهر عليه الدم الكثير ، فلا يكون فيه حجة على أنَّ الروث طاهر ، كما أنه لا حجة في ذاك على أنَّ الدم طاهر.

وقياس غير المأكول على المأكول غير واضح ، لأنَّ الفرق بينهما متجه لو ثبت أنَّ روث المأكول طاهر ، والتمسُّك بعموم حديث أبي هريرة الذي صححه ابن خزيمة وغيره مرفوعاً بلفظ " استنزهوا من البول. فإنَّ عامة عذاب القبر منه " أولى ، لأنَّه ظاهر في تناول جميع الابوال. فيجب اجتنابها لهذا الوعيد. والله أعلم

ص: 349

والله أعلم.

وقال ابن العربيّ: تعلَّق بهذا الحديث ، مَن قال بطهارة أبوال الإبل ، وعورضوا بأنّه أذن لهم في شربها للتّداوي.

وتعقّب: بأنّ التّداوي ليس حال ضرورة ، بدليل أنّه لا يجب فكيف يباح الحرام لِمَا لا يجب؟.

ص: 350

وأجيب: بمنع أنّه ليس حال ضرورة ، بل هو حال ضرورة إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره ، وما أبيح للضّرورة لا يسمّى حراماً وقت تناوله لقوله تعالى {وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلَّا ما اضطررتم إليه} فما اضطرّ إليه المرء فهو غير محرّمٍ عليه كالميتة للمضطرّ. والله أعلم.

وما تضمّنه كلامه ، من أنّ الحرام لا يباح إلَّا لأمرٍ واجبٍ. غير مسلّمٍ، فإنّ الفطر في رمضان حرام ، ومع ذلك فيباح لأمرٍ جائز كالسّفر مثلاً.

وأمّا قول غيره ، لو كان نجساً ما جاز التّداوي به لقوله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله لَم يجعل شفاء أمّتي فيما حرّم عليها. رواه أبو داود من حديث أمّ سلمة ، والنّجس حرام فلا يتداوى به؛ لأنّه غير شفاء.

فجوابه: أنّ الحديث محمولٌ على حالة الاختيار، وأمّا في حال الضّرورة فلا يكون حراماً كالميتة للمضطرّ.

ولا يرد قوله صلى الله عليه وسلم في الخمر: إنّها ليست بدواء ، إنّها داء. في جواب مَن سأله عن التّداوي بها ، فيما رواه مسلم ، فإنّ ذلك خاصّ بالخمر ويلتحق به غيرها من المسكر.

والفرق بين المسكر وبين غيره من النّجاسات ، أنّ الحدّ يثبت باستعماله في حالة الاختيار دون غيره؛ ولأنّ شربه يجرّ إلى مفاسد كثيرةٍ ، ولأنّهم كانوا في الجاهليّة يعتقدون أنّ في الخمر شفاءً ، فجاء الشّرع بخلاف معتقدهم، قاله الطّحاويّ بمعناه.

ص: 351

وأمّا أبوال الإبل ، فقد روى ابن المنذر عن ابن عبّاس مرفوعاً: أنّ في أبوال الإبل شفاءً للذّربة بطونهم.

والذّربة: بفتح المعجمة وكسر الرّاء جمع ذربٍ ، والذّرب بفتحتين فساد المعدة، فلا يقاس ما ثبت أنّ فيه دواءً على ما ثبت نفي الدّواء عنه. والله أعلم.

وبهذه الطّريقة يحصل الجمع بين الأدلة (1)، والعمل بمقتضاها كلّها.

قوله: (فلمّا صحُّوا ، قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم) في السّياق حذف تقديره " فشربوا من أبوالها وألبانها فلمّا صحّوا ". وقد ثبت ذلك في رواية أبي رجاء.

وزاد في رواية وهيب " وسمنوا " وللإسماعيليّ من رواية ثابت " ورجعت إليهم ألوانهم ".

قوله: (واستاقوا النّعم) من السّوق ، وهو السّير العنيف.

قوله: (فجاء الخبر) في رواية وهيب عن أيّوب " الصّريخ " بالخاء المعجمة وهو فعيلٌ بمعنى فاعل ، أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم.

وهذا الصّارخ أحد الرّاعيين ، كما ثبت في صحيح أبي عوانة من رواية معاوية بن قرّة عن أنس، وقد أخرج مسلم إسناده ولفظه

(1) قال الشيخ ابن باز (1/ 441): ليس بين الأدلة في هذا الباب بحمد الله اختلاف، والصواب طهارة أبوال مأكول اللحم من الأبل وغيرهما كما تقدم الجواب عما ذكره الشارح. ولو كانت الأبوال من الإبل ونحوها نجسة لأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل أفواههم عنها ، وأوضح لهم حكمها ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.

ص: 352

" فقتلوا أحد الرّاعيين ، وجاء الآخر قد جزع فقال: قد قتلوا صاحبي ، وذهبوا بالإبل ".

واسم راعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم المقتول يسار - بياءٍ تحتانيّةٍ ثمّ مهملة خفيفة - كذا ذكره ابن إسحاق في " المغازي " ، ورواه الطّبرانيّ موصولاً من حديث سلمة بن الأكوع بإسناد صالحٍ ، قال: كان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم غلام يقال له يسار.

زاد ابن إسحاق " أصابه في غزوة بني ثعلبة " قال سلمة: فرآه يحسن الصّلاة فأعتقه وبعثه في لقاحٍ له بالحرّة ، فكان بها " فذكر قصّة العرنيّن ، وأنّهم قتلوه.

ولَم أقف على تسمية الرّاعي الآتي بالخبر، والظّاهر أنّه راعي إبل الصّدقة.

ولَم تختلف روايات البخاريّ ، في أنّ المقتول راعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي ذِكْره بالإفراد، وكذا لمسلمٍ ، لكن عنده من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس " ثمّ مالوا على الرّعاة فقتلوهم " بصيغة الجمع، ونحوه لابن حبّان من رواية يحيى بن سعيد عن أنس.

فيحتمل: أنَّ إبل الصّدقة كان لها رعاة ، فقتل بعضهم مع راعي اللقاح ، فاقتصر بعض الرّواة على راعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وذكر بعضهم معه غيره.

ويحتمل: أن يكون بعض الرّواة ذكره بالمعنى ، فتجوَّز في الإتيان بصيغة الجمع.

ص: 353

وهذا أرجح؛ لأنّ أصحاب المغازي. لَم يذكر أحدٌ منهم أنّهم قتلوا غير يسار. والله أعلم

قوله: (فبعث في آثارهم) زاد في رواية الأوزاعيّ " الطّلب " وفي حديث سلمة بن الأكوع " خيلاً من المسلمين أميرهم كُرْز بن جابر الفهريّ " وكذا ذكره ابن إسحاق والأكثرون ، وهو بضمّ الكاف وسكون الرّاء بعدها زاي.

وللنّسائيّ من رواية الأوزاعيّ " فبعث في طلبهم قافةً " أي: جمع قائفٍ ، ولمسلمٍ من رواية معاوية بن قرّة عن أنس ، أنّهم شبابٌ من الأنصار قريب من عشرين رجلاً ، وبعث معهم قائفاً يقتصّ آثارهم.

ولَم أقف على اسم هذا القائف ، ولا على اسم واحدٍ من العشرين ، لكن في مغازي الواقديّ ، أنّ السّريّة كانت عشرين رجلاً ، ولَم يقل من الأنصار ، بل سمّى منهم جماعةً من المهاجرين. منهم بريدة بن الحصيب وسلمة بن الأكوع الأسلميّان ، وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيّان ، وأبو ذرٍّ وأبو رهمٍ الغفاريّان ، وبلال بن الحارث ، وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيّان وغيرهم.

والواقديّ لا يحتجّ به إذا انفرد. فكيف إذا خالف؟.

لكن يحتمل أن يكون من لَم يسمّه الواقديّ من الأنصار. فأطلق الأنصار تغليباً ، أو قيل للجميع أنصار بالمعنى الأعمّ.

وفي مغازي موسى بن عقبة ، أنّ أمير هذه السّريّة سعيد بن زيد ،

ص: 354

كذا عنده بزيادة ياء ، والذي ذكره غيره ، أنّه سعد بسكون العين بن زيد الأشهليّ ، وهذا أيضاً أنصاريّ ، فيحتمل أنّه كان رأس الأنصار ، وكان كُرْزٌ أميرَ الجماعة.

وروى الطّبريّ وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجليّ ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه في آثارهم. لكنّ إسناده ضعيف ، والمعروف أنّ جريراً تأخّر إسلامه عن هذا الوقت بمدّة. والله أعلم.

قوله: (فلمّا ارتفع) فيه حذف تقديره ، فأدركوا في ذلك اليوم فأخذوا ، فلمّا ارتفع النّهار جيء بهم. أي: إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أسارى. وللبخاري " فما ترجّل النهار " بالجيم. أي: ارتفع.

قوله: (فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم) قال الدّاوديّ: يعني قطع يَدَيْ كلّ واحد ورجليه.

قلت: تردّه رواية التّرمذيّ " من خلاف " وكذا ذكره الإسماعيليّ عن الفريابيّ عن الأوزاعيّ بسنده.

وللبخاري من رواية الأوزاعيّ أيضاً " ولَم يحسمهم ".

والحسم: بفتح الحاء وسكون السّين المهملتين ، الكيّ بالنّار لقطع الدّم ، حسمته فانحسم كقطعته فانقطع ، وحسمت العرق. معناه حبست دم العرق فمنعته أن يسيل، بل تركه ينزف.

وقال الدّاوديّ: الحسم هنا أن توضع اليد بعد القطع في زيت حارٍّ.

قلت: وهذا من صور الحسم ، وليس محصوراً فيه.

قال ابن بطّال: إنّما ترك حسمهم ، لأنّه أراد إهلاكهم ، فأمّا من

ص: 355

قطع في سرقة مثلاً ، فإنّه يجب حسمه ، لأنّه لا يؤمن معه التّلف غالباً بنزف الدّم.

قوله: (وسُمّرت أعينهم) تشديد الميم ، وفي رواية أبي رجاء " وسَمَر " بتخفيف الميم. ولَم تختلف روايات البخاريّ في أنّه بالرّاء (1). ووقع لمسلمٍ من رواية عبد العزيز " وسمل " بالتّخفيف واللام.

قال الخطّابيّ: السّمل. فقء العين بأيّ شيءٍ كان.

قال أبو ذؤيب الهذليّ: والعين بعدهم كأنّ حداقها سملت بشوكٍ ، فهي عورٌ تدمع قال: والسّمر لغة في السّمل ومخرجهما متقارب. قال: وقد يكون من المسمار يريد أنّهم كحّلوا بأميالٍ قد أحميت.

قلت: قد وقع التّصريح بالمراد عند البخاري من رواية وهيب عن أيّوب ، ومن رواية الأوزاعيّ عن يحيى كلاهما عن أبي قلابة ولفظه " ثمّ أمر بمسامير فأُحميت ، فكحلهم بها " فهذا يوضّح ما تقدّم ، ولا يخالف ذلك رواية السّمل؛ لأنّه فقء العين بأيّ شيءٍ كان كما مضى.

(1) وقعت رواية " سمل " باللام في رواية الأوزاعي عن يحيى عن أبي قلابة عن أنس. في البخاري برقم (6802) في (باب المحاربين من أهل الكفر والردة).

وقد ذكر هذا الشارح نفسه في كتاب الحدود ، ولعله لَم يستحضر الرواية في شرحه للحديث في كتاب الطهارة. فقال: وقع في رواية الأوزاعي في أول المحاربين " وسَمَلَ " باللام وهما بمعنى، قال ابن التين وغيره: وفيه نظر.

قال عياض: سمر العين بالتخفيف كحلها بالمسمار المحمي فيطابق السمل فإنه فُسر بأن يدنى من العين حديدة محماة حتى يذهب نظرُها فيطابق الأول بأن تكون الحديدة مسماراً.

قال: وضبطناه بالتشديد في بعض النسخ. والأول أوجه، وفسروا السَّمَل أيضاً بأنه فقء العين بالشوك وليس هو المراد هنا. انتهى

ص: 356

قوله: (وألقوا في الحرّة) هي أرضٌ ذات حجارةٍ سودٍ معروفة بالمدينة ، وإنّما ألقوا فيها؛ لأنّها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا.

قوله: (يستسقون فلا يسقون) زاد وهيب والأوزاعيّ " حتّى ماتوا " وفي رواية أبي رجاء " ثمّ نبذهم في الشّمس حتّى ماتوا " وفي رواية شعبة عن قتادة " يعضّون الحجارة ".

وفي البخاري من رواية ثابت قال أنس: فرأيت الرّجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتّى يموت. ولأبي عوانة من هذا الوجه " يعضّ الأرض ليجد بردها ممّا يجد من الحرّ والشّدّة ".

وزعم الواقديّ ، أنّهم صلبوا ، والرّوايات الصّحيحة تردّه. لكن عند أبي عوانة من رواية أبي عقيل عن أنس " فصلب اثنين وقطع اثنين وسمل اثنين " كذا ذكرَ ستّة فقط ، فإن كان محفوظاً فعقوبتهم كانت موزّعة.

ومال جماعة منهم ابن الجوزيّ. إلى أنّ ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص؛ لِما عند مسلم من حديث سليمان التّيميّ عن أنس: إنّما سمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعينهم؛ لأنّهم سملوا أعين الرّعاة. وقصّر من اقتصر في عزوه للتّرمذيّ والنّسائيّ.

وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ المثلة في حقّهم وقعت من جهاتٍ ، وليس في الحديث إلَّا السّمل ، فيحتاج إلى ثبوت البقيّة.

قلت: كأنّهم تمسّكوا بما نقله أهل المغازي ، أنّهم مثّلوا بالرّاعي

وذهب آخرون: إلى أنّ ذلك منسوخٌ.

ص: 357

قال ابن شاهين عقب حديث عمران بن حصينٍ في النّهي عن المثلة: هذا الحديث ينسخ كلّ مثلة.

وتعقّبه ابن الجوزيّ: بأنّ ادّعاء النّسخ يحتاج إلى تاريخ.

قلت: يدل عليه ما رواه البخاريّ من حديث أبي هريرة في النّهي عن التّعذيب بالنّار بعد الإذن فيه (1) ، وقصّة العرنيّن قبل إسلام أبي هريرة. وقد حضر الإذن ثمّ النّهي.

وروى قتادة عن ابن سيرين ، أنّ قصّتهم كانت قبل أن تنزل الحدود.

ولموسى بن عقبة في " المغازي ": وذكروا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المُثلة (2) بالآية التي في سورة المائدة.

وإلى هذا مال البخاريّ ، وحكاه إمام الحرمين في النّهاية عن الشّافعيّ.

واستشكل القاضي عياض. عدم سقيهم الماء للإجماع على أنّ من وجب عليه القتل فاستسقى ، لا يمنع. وأجاب: بأنّ ذلك لَم يقع عن أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا وقع منه نهي عن سقيهم. انتهى

(1) صحيح البخاري (3016) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: إنْ وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: إني أمرتكم أن تُحرقوا فلاناً وفلاناً، وإنَّ النار لا يعذب بها إلَّا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما.

(2)

أخرج البخاري حديث الباب (3956) من طريق قتادة عن أنس فذكر الحديث. قال قتادة: بلغنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة.

ص: 358

وهو ضعيفٌ جدّاً؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اطّلع على ذلك ، وسكوته كافٍ في ثبوت الحكم.

وأجاب النّوويّ: بأنّ المحارب المرتدّ لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره ، ويدل عليه أنّ من ليس معه ماءٌ إلَّا لطهارته ليس له أن يسقيه للمرتدّ ويتيمّم ، بل يستعمله ولو مات المرتدّ عطشاً.

وقال الخطّابيّ: إنّما فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بهم ذلك؛ لأنّه أراد بهم الموت بذلك ، وقيل: إنّ الحكمة في تعطيشهم؛ لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشّفاء من الجوع والوخم.

ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعا بالعطش على من عطّش آل بيته ، في قصّةٍ رواها النّسائيّ وابن وهب من مرسل سعيد بن المسيب.

فيحتمل أن يكونوا في تلك الليلة منعوا إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يراح به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من لقاحه في كل ليلةٍ ، كما ذكر ذلك ابن سعد. والله أعلم

قوله: (قال أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو. وقيل: عامر بن ناتل - بنون ومثناة - بن مالك بن عبيد الجرمي. بفتح الجيم وسكون الراء.

قوله: (فهؤلاء سرقوا) أي: لأنّهم أخذوا اللقاح من حرزٍ مثلها. وهذا قاله أبو قلابة استنباطاً.

قوله: (وقتلوا) أي: الرّاعي. كما تقدّم.

قوله: (وكفروا) هو في رواية سعيدٍ عن قتادة عن أنس عند

ص: 359

البخاري في " المغازي ". وكذا في رواية وهيب عن أيّوب في " الجهاد " في أصل الحديث ، وليس موقوفاً على أبي قلابة كما توهّمه بعضهم.

وكذا قوله " وحاربوا " ثبت عند أحمد من رواية حميدٍ عن أنس في أصل الحديث " وهربوا محاربين "

وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم:

قدوم الوفود على الإمام ونظره في مصالحهم.

وفيه مشروعيّة الطّبّ والتّداوي بألبان الإبل وأبوالها.

وفيه أنّ كل جسدٍ يطبّب بما اعتاده.

وفيه قتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة إن قلنا إنّ قتلهم كان قصاصاً

وفيه المماثلة في القصاص ، وليس ذلك من المُثلة المنهيّ عنها ، وثبوت حكم المحاربة في الصّحراء وأمّا في القرى ففيه خلاف.

وفيه جواز استعمال أبناء السّبيل إبل الصّدقة في الشّرب وفي غيره قياساً عليه بإذن الإمام ، وفيه العمل بقول القائف وللعرب في ذلك المعرفة التّامّة.

تكميل: قال ابن بطّال: ذهب البخاريّ إلى أنّ آية المحاربة {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسله

} الآية. نزلت في أهل الكفر والرّدّة، وساق حديث العرنيّين وليس فيه تصريح بذلك، ولكن أخرج عبد الرّزّاق عن معمر عن قتادة حديث العرنيّين. وفي آخره ، قال: بلغنا أنّ هذه الآية نزلت فيهم: {إنّما جزاء الذين يحاربون الله

ص: 360

ورسوله .. الآية}، ووقع مثله في حديث أبي هريرة، وممَن قال ذلك الحسن وعطاء والضّحّاك والزّهريّ.

قال: وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطّريق، وهو قول مالك والشّافعيّ والكوفيّين.

ثمّ قال: ليس هذا منافياً للقول الأوّل ، لأنّها وإن نزلت في العرنيّين بأعيانهم ، لكنّ لفظها عامٌّ يدخل في معناه كلّ من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد.

قلت: بل هما متغايران، والمرجع إلى تفسير المراد بالمحاربة: فمن حملها على الكفر خصّ الآية بأهل الكفر ، ومن حملها على المعصية عمّم.

ثمّ نقل ابن بطّال عن إسماعيل القاضي ، أنّ ظاهر القرآن وما مضى عليه عمل المسلمين ، يدلّ على أنّ الحدود المذكورة في هذه الآية نزلت في المسلمين، وأمّا الكفّار فقد نزل فيهم {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرّقاب} إلى آخر الآية فكان حكمهم خارجاً عن ذلك، وقال تعالى في آية المحاربة {إلَّا الذين تابوا من قبل أن تقْدِروا عليهم} وهي دالةٌ على أنّ من تاب من المحاربين يسقط عنه الطّلب بما ذكر بما جناه فيها، ولو كانت الآية في الكافر لنفعته المحاربة، ولكان إذا أحدث الحرابة مع كفره اكتفينا بما ذكر في الآية وسلم من القتل فتكون الحرابة خفّفت عنه القتل.

ص: 361

وأجيب عن هذا الإشكال: بأنّه لا يلزم من إقامة هذه الحدود على المحارب المرتدّ مثلاً أن تسقط عنه المطالبة بالعود إلى الإسلام أو القتل.

وقد نقل البخاري في " تفسير المائدة " عن سعيد بن جبير ، أنّ معنى المحاربة لله الكفر به. وأخرج الطّبريّ من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في آخر قصّة العرنيّين قال: فذُكر لنا أنّ هذه الآية نزلت فيهم {إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} ، وأخرج نحوه من وجه آخر عن أنس.

وأخرج الإسماعيليّ هناك من طريق مروان بن معاوية عن معاوية بن أبي العبّاس عن أيّوب عن أبي قلابة عن أنس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {إنّما جزاء الذّين يحاربون الله ورسوله} قال: هم من عكل.

قلت: قد ثبت في الصّحيحين أنّهم كانوا من عكل وعرينة، فقد وجد التّصريح الذي نفاه ابن بطّال.

والمعتمد: أنّ الآية نزلت أوّلاً فيهم ، وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطّريق، لكنّ عقوبة الفريقين مختلفة: فإن كانوا كفّاراً يخيّر الإمام فيهم إذا ظفر بهم.

وإن كانوا مسلمين فعلى قولين:

القول الأول: وهو قول الشّافعيّ والكوفيّين ، ينظر في الجناية فمن قَتَل قُتل ومن أخذ المال قُطع ، ومن لَم يَقْتل ، ولَم يأخذ مالاً نفي، وجعلوا " أو " للتّنويع.

ص: 362

القول الثاني: قال مالك: بل هي للتّخيير ، فيتخيّر الإمام في المحارب المسلم بين الأمور الثّلاثة، ورجّح الطّبريّ الأوّل.

واختلفوا في المراد بالنّفي في الآية:

القول الأول: قال مالك والشّافعيّ يخرج من بلد الجناية إلى بلدة أخرى، زاد مالك فيحبس فيها.

القول الثاني: عن أبي حنيفة ، بل يحبس في بلده.

وتعقّب: بأنّ الاستمرار في البلد ، ولو كان مع الحبس إقامة ، فهو ضدّ النّفي فإنّ حقيقة النّفي الإخراج من البلد، وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل ، قال تعالى {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} .

وحجّة أبي حنيفة: أنّه لا يؤمن منه استمرار المحاربة في البلدة الأخرى.

فانفصل عنه مالك بأنّه يحبس بها.

وقال الشّافعيّ: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلاناً وذلاً.

ص: 363