المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الخامس 345 - عن أبي هريرة رضي الله عنه ، - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٦

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب العدّة

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌كتاب اللّعان

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌كتاب الرّضاع

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب القسامة

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

الفصل: ‌ ‌الحديث الخامس 345 - عن أبي هريرة رضي الله عنه ،

‌الحديث الخامس

345 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: لَمَّا فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قتلتْ خزاعةُ رجلاً من بني ليثٍ بقتيلٍ كان لهم في الجاهلية، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: إنّ الله عز وجل قد حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، أَلَا وإنها لَم تحلُّ لأحدٍ قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحلِّتْ لي ساعةً من نهارٍ، وإنها ساعتي هذه، حرامٌ، لا يُعضد شجرها، ولا يُختلى شوكها، ولا تُلتقط ساقطتها إلَّا لمنشدٍ، ومن قُتل له قتيلٌ، فهو بخير النّظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى، فقام رجلٌ من أهل اليمن يقال له أبو شاهٍ ، فقال: يا رسولَ الله اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاهٍ، ثم قام العباس، فقال: يا رسولَ الله إلَّا الإذخر، فإنا نجعله في بيوتنا، وقبورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلَّا الإذخر. (1)

قوله: (لَمَّا فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قتلت) في رواية لهما " لَمَّا فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكّة ، قام في النّاس ".

ظاهره أنّ الخطبة وقعت عقب الفتح، وليس كذلك ، بل وقعت قبل الفتح عقب قتل رجلٍ من خزاعة رجلاً من بني ليث، ففي السّياق حذف هذا بيانه.

(1) أخرجه البخاري (122 ، 2302 ، 6486) ومسلم (1355) من طريق شيبان والأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه -

ص: 291

ففي الصحيحين من وجه آخر عن شيبان عن يحيى بن أبي كثير " إنَّ خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه ، فأُخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب راحلته فخطب. فقال: إن الله عز وجل حبس عن مكة الفيل. الحديث

ووقع في رواية ابن أبي ذئب عن سعيد المقبريّ عن أبي شُرْيح ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله حرّم مكّة. فذكر الحديث. وفيه. ثمّ إنّكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرّجل من هذيل، وإنّي عاقله. وقع نحو ذلك في رواية ابن إسحاق عن المقبريّ. كما أوردته في كتاب الحجّ. (1)

قوله: (قتلتْ خزاعة) أي: القبيلة المشهورة.

اختلف في نسبهم. من مضر أم اليمن؟.

مع الاتّفاق على أنّهم من ولد عمرو بن لحيّ - باللام والمهملة مصغّر – وهو ابن حارثة بن عمرو بن عامر بن ماء السّماء.

قال ابن الكلبيّ،: لَمَّا تفرّق أهل سبأ بسبب سيل العرم نزل بنو مازن على ماء يقال له غسّان، فمن أقام به منهم فهو غسّانيّ، وانخزعت منهم عمرو بن لحيّ عن قومهم فنزلوا مكّة وما حولها فسُمّوا خزاعة، وتفرّقت سائر الأزد.

وفي ذلك يقول حسّان بن ثابت:

ولَمَّا نزلنا بطن مرّ تخزّعت

خزاعة منّا في جموع كراكر

(1) حديث أبي شُرْيح رضي الله عنه. تقدّم مشروحاً مبسوطاً في كتاب الحج من العمدة. برقم (223)

ص: 292

قوله: (رجلاً من بني ليثٍ بقتيلٍ كان لهم في الجاهلية) بنو ليث قبيلةٌ مشهورةٌ يُنسبون إلى ليث بن بكر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر

وأمّا هذيل فقبيلة كبيرة يُنسبون إلى هذيل ، وهم بنو مدركة بن إلياس بن مضر، وكانت هذيل وبكر من سكّان مكّة ، وكانوا في ظواهرها خارجين من الحرم.

وأمّا خزاعة. فكانوا غلبوا على مكّة وحكموا فيها ، ثمّ أُخرجوا منها فصاروا في ظاهرها، وكانت بينهم وبين بني بكر عداوة ظاهرة في الجاهليّة، وكانت خزاعة حلفاء بني هاشم بن عبد مناف إلى عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان بنو بكر حلفاء قريش.

وقد ذكرت في كتاب العلم (1) ، أنّ اسم القاتل من خزاعة خراش – بمعجمتين - ابن أُميَّة الخزاعيّ، وأنّ المقتول منهم في الجاهليّة كان اسمه أحمر. وأنّ المقتول من بني ليث لَم يسمّ. وكذا القاتل.

ثمّ رأيت في " السّيرة النّبويّة " لابن إسحاق ، أنّ الخزاعيّ المقتول اسمه منبّه.

قال ابن إسحاق في " المغازي ": حدّثني سعيد بن أبي سندر الأسلميّ عن رجل من قومه ، قال: كان معنا رجلٌ يقال له أحمر ، كان شجاعاً ، وكان إذا نام غطّ فإذا طرقهم شيء صاحوا به فيثور مثل الأسد، فغزاهم قومٌ من هذيل في الجاهليّة ، فقال لهم ابن الأثوع -

(1) صحيح البخاري رقم (112) في كتاب العلم.

ص: 293

وهو بالثّاء المثلثة والعين المهملة -: لا تعجلوا حتّى أنظر. فإن كان أحمر فيهم فلا سبيل إليهم، فاستمع فإذا غطيط أحمر فمشى إليه حتّى وضع السّيف في صدره فقتله وأغاروا على الحيّ، فلمّا كان عام الفتح. وكان الغد من يوم الفتح. أتى ابن الأثوع الهذليّ حتّى دخل مكّة وهو على شركه، فرأتْه خزاعة فعرفوه فأقبل خراش بن أُميَّة ، فقال: أفرجوا عن الرّجل فطعنه بالسّيف في بطنه فوقع قتيلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، ولقد قتلتم قتيلاً لَأَدِيَنّه.

قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد الرّحمن بن حرملة الأسلميّ عن سعيد بن المسيّب قال: لَمَّا بلغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما صنع خراش بن أُميَّة ، قال: إنّ خراشاً لقتّالٌ. يعيبه بذلك. ثمّ ذكر حديث أبي شُرْيح الخزاعيّ كما تقدّم.

فهذا قصّة الهذليّ.

وأمّا قصّة المقتول من بني ليث فكأنّها أخرى، وقد ذكر ابن هشام ، أنّ المقتول من بني ليث اسمه جندب بن الأدلع.

وقال: بلغني أنّ أوّل قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، جندب بن الأدلع قتله بنو كعب فوداه بمائة ناقة، لكن ذكر الواقديّ أنّ اسمه جندب بن الأدلع، فرآه جندب بن الأعجب الأسلميّ فخرج يستجيش عليه فجاء خراش فقتله.

فظهر أنّ القصّة واحدة ، فلعله كان هذليّاً حالف بني ليث أو

ص: 294

بالعكس.

ورأيت في آخر الجزء الثّالث من " فوائد أبي عليّ بن خزيمة " أنّ اسم الخزاعيّ القاتل هلال بن أُميَّة، فإن ثبت فلعل هلالاً لقب خراش. والله أعلم.

قوله: (فقام النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية شيبان (1) عن يحيى بن أبي كثير: فأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك فركب راحلته فخطب.

قوله: (إنّ الله حبس) أي: منع.

قوله: (عن مكّة الفيل) وللبخاري " القتل أو الفيل " القتل. أي: بالقاف والمثنّاة من فوق ، أو الفيل. أي: بالفاء المكسورة بعدها ياء تحتانيّة. وهو الصواب اسم الحيوان المشهور.

وأشار بحبسه عن مكّة إلى قصّة الحبشة ، وهي مشهورة ساقها ابن إسحاق مبسوطة.

وحاصل ما ساقه ، أنّ أبرهة الحبشيّ لَمَّا غلب على اليمن - وكان نصرانيّاً - بنى كنيسة وألزم النّاس بالحجّ إليها، فعَمَد بعضُ العرب فاستغفل الحَجَبَة وتغوّط فهرب، فغضب أبرهة وعزم على تخريب الكعبة، فتجهّز في جيش كثيف واستصحب معه فيلاً عظيماً. فلمّا قرب من مكّة خرج إليه عبد المطّلب فأعظمه وكان جميل الهيئة، فطلب منه أن يردّ عليه إبلاً له نهبت فاستقصر همّته. وقال: لقد

(1) وقع في المطبوع من الفتح " سفيان " وهو تصحيف. وتقدّم أن رواية شيبان في الصحيحين.

ص: 295

ظننت أنّك لا تسألني إلَّا في الأمر الذي جئت فيه، فقال: إنّ لهذا البيت ربّاً سيحميه، فأعاد إليه إبله، وتقدّم أبرهة بجيوشه فقدّموا الفيل فبرك وعجزوا فيه، وأرسل الله عليهم طيراً مع كلّ واحد ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجراً في منقاره. فألقوها عليهم. فلم يبق منهم أحدٌ إلَّا أصيب.

وأخرج ابن مردويه بسندٍ حسن عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: جاء أصحاب الفيل حتّى نزلوا الصّفاح - وهو بكسر المهملة ثمّ فاء ثمّ مهملة موضع خارج مكّة من جهة طريق اليمن - فأتاهم عبد المطّلب فقال: إنّ هذا بيت الله لَم يسلِّط عليه أحداً، قالوا: لا نرجع حتّى نهدمه، فكانوا لا يقدّمون فيلَهم إلَّا تأخّر، فدعا الله الطّير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء فلمّا حاذتهم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلَّا أخذته الحكّة، فكان لا يحكّ أحدٌ منهم جلده إلَّا تساقط لحمه.

قال ابن إسحاق: حدّثني يعقوب بن عتبة قال: حُدّثت أنّ أوّل ما وقعت الحصباء والجدريّ بأرض العرب من يومئذٍ.

وعند الطّبريّ بسندٍ صحيح عن عكرمة ، أنّها كانت طيراً خضراً خرجت من البحر لها رءوس كرءوس السّباع.

ولابن أبي حاتم من طريق عبيد بن عمير بسندٍ قويّ: بعث الله عليهم طيراً أنشأها من البحر كأمثال الخطاطيف. فذكر نحو ما تقدّم.

قوله: (وسلّط عليها رسوله والمؤمنين) وللبخاري " وسُلط

ص: 296

عليهم رسوله والمؤمنون " هو بضمّ أوّله، ورسول مرفوع ، والمؤمنون معطوف عليه.

قوله: (ولا تحل لأحدٍ بعدي) وللبخاري من طريق الأوزاعيّ عن يحيى " ولن تحل " وهي أليق بالمستقبل.

قوله: (وإنما أُحلَّت لي ساعةً من نهارٍ، وإنها ساعتي هذه، حرامٌ لا يعضد شجرها، ولا يُختلى شوكها، ولا تلتقط ساقطتها إلَّا لمنشدٍ) قد تقدّم الكلام عليه مستوفى في كتاب الحج (1)

قوله: (ومن قُتل له قتيل) أي: من قُتل له قريب ، كان حيّاً فصار قتيلاً بذلك القتل.

قوله: (فهو بخير النّظرين) وللبخاري بلفظ " ومن قُتل فهو بخير النّظرين " وهو مختصر. ولا يمكن حمله على ظاهره ، لأنّ المقتول لا اختيار له وإنّما الاختيار لوليّه ، وقد أشار إلى نحو ذلك الخطّابيّ.

ووقع في رواية التّرمذيّ من طريق الأوزاعيّ عن يحيى " فإمّا أن يعفو ، وإمّا أن يقتل " والمراد العفو على الدّية جمعاً بين الرّوايتين.

ويؤيّده أنّ عنده في حديث أبي شُرْيح " فمن قُتل له قتيل بعد اليوم ، فأهله بين خيرتين: إمّا أن يقتلوا أو يأخذوا الدّية ".

ولأبي داود وابن ماجه وعلّقه التّرمذيّ من وجه آخر عن أبي شُرْيح بلفظ " فإنّه يختار إحدى ثلاث ، إمّا أن يقتصّ، وإمّا أن يعفو، وإمّا أن يأخذ الدّية ، فإن أراد الرّابعة فخذوا على يديه " أي: إن أراد زيادة

(1) انظر حديث ابن عبّاس رضي الله عنه في الحج من العمدة. برقم (224)

ص: 297

على القصاص أو الدّية

قوله: (إما أن يقتل) وللبخاري " وإمّا أن يقاد " أي: يقتل به. ولمسلم " إمّا أن يعطي الدّية ، وإمّا أن يقاد أهل القتيل " وهو بيان لقوله " إمّا أن يقاد "

قوله: (وإما أن يفدى) وللبخاري " إمّا أن يودي " بسكون الواو. أي: يعطي القاتل أو أولياؤه لأولياء المقتول الدّية.

وللبخاري أيضاً بلفظ " إمّا أن يعقل " بدل " إمّا أن يودي " وهو بمعناه، والعقل الدّية. وفي رواية الأوزاعيّ عند البخاري " إمّا أن يفدي " بالفاء بدل الواو، وفي نسخة " وإمّا أن يعطي " أي الدّية.

ونقل ابن التّين عن الدّاوديّ ، أنّ في رواية أخرى " إمّا أن يودي أو يفادي ".

وتعقّبه: بأنّه غير صحيح ، لأنّه لو كان بالفاء لَم يكن له فائدة لتقدّم ذِكر الدّية. ولو كان بالقاف واحتمل أن يكون للمقتول وليّان لذكرا بالتّثنية ، أي: يقادا بقتيلهما. والأصل عدم التّعدّد.

قال: وصحيح الرّواية " إمّا أن يودي أو يقاد " وإنّما يصحّ " يفادى ". إن تقدّمه " أن يقتصّ ". والحاصل تفسير " النّظرين " بالقصاص أو الدّية.

وفي الحديث جواز إيقاع القصاص بالحرم ، لأنّه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك بمكّة ولَم يقيّده بغير الحرم.

ص: 298

وتمسّك بعمومه مَن قال: يقتل المسلم بالذّمّيّ. وقد سبق ما فيه (1).

ذهب الجمهور: على أنّ المخيّر في القود أو أخذ الدّية هو الوليّ.

وقرّره الخطّابيّ بأنّ العفو في الآية (فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ) يحتاج إلى بيان، لأنّ ظاهر القصاص أنْ لا تبعة لأحدهما على الآخر، لكنّ المعنى أنّ من عفي عنه من القصاص إلى الدّية فعلى مستحقّ الدّية الاتّباع بالمعروف وهو المطالبة ، وعلى القاتل الأداء وهو دفع الدّية بإحسانٍ.

وذهب مالك والثّوريّ وأبو حنيفة: إلى أنّ الخيار في القصاص أو الدّية للقاتل.

قال الطّحاويّ: والحجّة لهم حديث أنس في قصّة الرّبيّع عمّته ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص. فإنّه حكم بالقصاص ولَم يخيّر، ولو كان الخيار للوليّ لأعلمهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكّم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأنّ الحقّ له في أحدهما، فلمّا حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله " فهو بخير النّظرين " أي: وليّ المقتول مخيّرٌ بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدّية.

وتعقّب: بأنّ قوله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص. إنّما وقع عند طلب أولياء المجنيّ عليه في العمد القود ، فأعلم أنّ كتاب الله نزل على أنّ

(1) انظر حديث ابن مسعود رضي الله عنه أول أحاديث الباب برقم (341) ، وانظر فتح الباري. كتاب الديات. باب (لا يُقتل المسلم بالكافر).

ص: 299

المجنيّ عليه إذا طلب القود أجيب إليه ، وليس فيه ما ادّعاه من تأخير البيان.

واحتجّ الطّحاويّ أيضاً: بأنّهم أجمعوا على أنّ الوليّ لو قال للقاتل: رضيت أن تعطيني كذا على أن لا أقتلك ، أنّ القاتل لا يُجبر على ذلك ، ولا يؤخذ منه كرهاً. وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه.

وقال المُهلَّب وغيره: يستفاد من قوله " فهو بخير النّظرين " أنّ الوليّ إذا سئل في العفو على مال. إن شاء قبل ذلك وإن شاء اقتصّ ، وعلى الولي اتّباع الأولى في ذلك، وليس فيه ما يدلّ على إكراه القاتل على بذل الدّية.

واستدل بالآية على أنّ الواجب في قتل العمد القود. والدّية بدلٌ منه. وقيل: الواجب الخيار، وهما قولان للعلماء، وكذا في مذهب الشّافعيّ أصحّهما الأوّل.

واختلف في سبب نزول الآية.

فقيل: نزلت في حيّين من العرب ، كان لأحدهما طَولٌ على الآخر في الشّرف فكانوا يتزوّجون من نسائهم بغير مهر ، وإذا قُتل منهم عبدٌ قتلوا به حرّاً أو امرأةٌ قتلوا بها رجلاً. أخرجه الطّبريّ عن الشّعبيّ.

وأخرج أبو داود من طريق عليّ بن صالح بن حيّ عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: كان قريظة والنّضير ، وكان النّضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجلٌ من قريظة رجلاً من

ص: 300

النّضير قُتل به ، وإذا قَتل رجلٌ من النّضير رجلاً من قريظة يودى بمائة وسق من التّمر، فلمّا بُعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم قتلَ رجلٌ من النّضير رجلاً من قريظة ، فقالوا: ادفعوه لنا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتوه فنزلت {وإنْ حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط} والقسط: النّفس بالنّفس، ثمّ نزلت (أفحكم الجاهليّة يبغون).

واستدل به الجمهور على جواز أخذ الدّية في قتل العمد ، ولو كان غيلة ، وهو أن يخدع شخصاً حتّى يصير به إلى موضع خفيّ فيقتله، خلافاً للمالكيّة.

والحقه مالك بالمحارب فإنّ الأمر فيه إلى السّلطان ، وليس للأولياء العفو عنه. وهذا على أصله في أنّ حدّ المحارب القتل إذا رآه الإمام ، وأنّ " أو " في الآية للتّخيير لا للتّنويع.

وفيه أنّ من قَتل متأوّلاً كان حكمه حكم من قَتل خطأ في وجوب الدّية لقوله صلى الله عليه وسلم: فإنّي عاقله.

واستدلَّ به بعض المالكيّة على قتل من التجأ إلى الحرم بعد أن يقتل عمداً ، خلافاً لِمَن قال: لا يقتل في الحرم بل يلجأ إلى الخروج منه.

ووجه الدّلالة أنّه صلى الله عليه وسلم قاله في قصّة قتيل خزاعة المقتول في الحرم، وأنّ القوَدَ مشروع فيمن قتل عمداً، ولا يعارضه ما ذكر من حرمة الحرم ، فإنّ المراد به تعظيمه بتحريم ما حرّم الله، وإقامة الحدّ على الجاني به من جملة تعظيم حرمات الله.

ص: 301

وقد تقدّم شيء من هذا في كتاب الحجّ (1).

وفي الحديث، أنّ وليّ الدّم يخيّر بين القصاص والدّية.

واختلف إذا اختار الدّية. هل يجب على القاتل إجابته؟.

القول الأول: ذهب الأكثر إلى ذلك.

القول الثاني: عن مالك لا يجب إلَّا برضا القاتل.

واستدل بقوله " ومن قُتل له " بأنّ الحقّ يتعلق بورثة المقتول، فلو كان بعضهم غائباً أو طفلاً لَم يكن للباقين القصاص حتّى يبلغ الطّفل ويقدم الغائب.

قوله: (فقام رجلٌ من أهل اليمن. يُقال له أبو شاه) أبو شاهٍ بهاءٍ منوّنةٍ ، وحكى السّلفيّ ، أنّ بعضهم نطق بها بتاءٍ في آخره ، وغلَّطه.

وقال: هو فارسيّ من فرسان الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن.

قوله: (اكتبوا لأبي شاهٍ) زاد الشيخان عن الوليد بن مسلم: قلت للأوزاعيّ: ما قوله: اكتبوا لي؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: وبهذا تظهر مطابقة هذا الحديث للترجمة (2).

ويستفاد منه. أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة الحديث عنه، وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدريّ ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تكتبوا عنّي

(1) انظر حديث أبي شُرْيح في الحج (223)

(2)

ترجم عليه البخاري (باب كتابة العلم)

ص: 302

شيئاً غير القرآن " رواه مسلم. والجمع بينهما.

قيل: إنّ النّهي خاصّ بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك.

وقيل: إنّ النّهي خاصّ بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد ، والإذن في تفريقهما.

وقيل: النّهي متقدّم ، والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنّه لا ينافيها.

وقيل: النّهي خاصّ بمن خشي منه الاتّكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك.

ومنهم من أَعلَّ حديث أبي سعيد ، وقال: الصّواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاريّ وغيره.

قال العلماء: كره جماعة من الصّحابة والتّابعين كتابة الحديث. واستحبّوا أن يؤخذ عنهم حفظاً كما أخذوا حفظاً، لكن لَمَّا قصُرت الهمم وخشي الأئمّة ضياع العلم دوّنوه.

وأوّل من دوّن الحديث ابن شهاب الزّهريّ على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثمّ كثر التّدوين ثمّ التّصنيف، وحصل بذلك خير كثير. فلله الحمد

قوله: (ثم قام العباس) في رواية للشيخين " ثمّ قام رجلٌ من قريش " هو العباس ، ووقع في رواية لابن أبي شيبة " فقال رجلٌ من قريش يقال له شاه " وهو غلَطٌ

ص: 303

قوله: (إلَّا الإذخر) كذا هو في روايتنا بالنّصب، ويجوز رفعه على البدل ممّا قبله. (1)

(1) تقدّم الكلام عليه في شرح حديث ابن عباس في الحج من العمدة. برقم (224)

ص: 304