الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع
347 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: اقتتلتِ امرأتان من هذيلٍ، فرمتْ إحداهما الأخرى بحجر، فقتَلَتْها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ دية جنينها غرةٌ عبدٌ، أو وليدةٌ وقضى بدية المرأة على عاقلتِها، وورّثها ولدها ومن معهم.
فقام حَمَل بن النابغة الهذلي، فقال: يا رسولَ الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكلْ، ولا نطق ولا استهلْ، فمثل ذلك يطلْ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هو من إخوان الكُهّان، من أجل سجعه الذي سجع. (1)
قوله: (اقتتلت امرأتان من هذيلٍ) في رواية مالك عن ابن شهابٍ عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين " أنّ امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى " ، وفي رواية حَمَلٍ التي سأُنبّه عليها " إحداهما لحيانيّة ".
قلت: ولحيان بطن من هذيل، وهاتان المرأتان كانتا ضرّتين ، وكانتا تحت حَمَل بن النّابغة الهذليّ ، فأخرج أبو داود من طريق ابن جريجٍ عن عمرو بن دينار عن طاوسٍ عن ابن عبّاس عن عمر ، أنّه
(1) أخرجه البخاري (5426 ، 5427 ، 6359 ، 6508 ، 6511 ، 6512) ومسلم (1681) من طرق عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذا لفظ يونس عند لمسلم.
سأل عن قضيّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقام حَمَلُ بن مالك بن النّابغة فقال: كنتُ بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى. هكذا رواه موصولاً.
وأخرجه الشّافعيّ عن سفيان بن عيينة عن عمر ، فلم يذكر ابن عبّاس في السّند. ولفظه " أنّ عمر قال: أذكر الله امرأً سمع من النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئاً " وكذا قال عبد الرّزّاق عن معمر عن ابن طاوسٍ عن أبيه ، أنّ عمر استشار ".
وأخرج الطّبرانيّ من طريق أبي المليح بن أسامة بن عمير الهذليّ عن أبيه قال: كان فينا رجلٌ يقال له حمل بن مالك ، له امرأتان إحداهما هذليّة والأخرى عامريّة ، فضربت الهذليّة بطن العامريّة ". وأخرجه الحارث من طريق أبي المليح فأرسله ، لَم يقل عن أبيه. ولفظه " أنّ حمل بن النّابغة كانت له امرأتان مُلَيْكة وأمّ عفيف ".
وأخرج الطّبرانيّ من طريق عون بن عويم قال: كانت أختي مُلَيْكة وامرأة منّا يقال لها أمّ عفيف بنت مسروح ، تحت حمل بن النّابغة. فضربت أمّ عفيف مُلَيْكة.
وأمّ عفيف - بمهملةٍ وفاءين وزن عظيم - ووقع في " المبهمات " للخطيب، وأصله عند أبي داود والنّسائيّ من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عبّاس ، أنّها أمّ غطيف - بغينٍ ثمّ طاء - مهملة مصغّر.
وهذا الذي وقفت عليه منقولاً، وبالآخر جزم الخطيب في " المبهمات ".
وزاد بعض شرّاح العمدة. وقيل: أمّ مكلف ، وقيل: أمّ مُلَيْكة.
قوله: (فرمتْ إحداهما الأخرى بحجر) زاد عبد الرّحمن بن خالد عن الزهري عند البخاري " فأصاب بطنها وهي حامل " وكذا في رواية أبي المليح عند الحارث ، لكن قال " فخَذَفت. وقال: فأصاب قُبُلَها ".
ووقع في رواية أبي داود المذكورة من طريق حمل بن مالك " فضربت إحداهما الأخرى بمسطحٍ ". وعند مسلم من طريق عبيد بن نضيلة - بنونٍ وضاد معجمة مصغّر - عن المغيرة بن شعبة قال: ضربتْ امرأة ضرّتها بعمود فسطاط ، وهي حبلى فقتلتها.
وكذا في حديث أبي المليح بن أسامة عن أبيه: فضربت الهذليّة بطن العامريّة بعمود فسطاط أو خباء.
وفي حديث عويم " ضربتها بمسطح بيتها وهي حامل " وكذا عند أبي داود من حديث حمل بن مالك " بمسطح " ومن حديث بريدة ، أنّ امرأة خذفت امرأة أخرى.
قوله: (فقتلتها وما في بطنها) في رواية مالك " فطرحت جنينها " وفي رواية عبد الرّحمن بن خالد " فقتلت ولدها في بطنها " وفي حديث حمل بن مالك مثله بلفظ " فقتلتها وجنينها " ونحوه في رواية عويم ، وكذا في رواية أبي المليح عن أبيه.
والجنين بجيمٍ ونونين ، وزن عظيم ، حمل المرأة ما دام في بطنها، سُمِّي بذلك لاستتاره، فإن خرج حيّاً فهو ولد ، أو ميّتاً فهو سقط، وقد يطلق عليه جنين.
قال الباجيّ في " شرح رجال الموطّأ ": الجنين ما ألقته المرأة ممّا يعرف أنّه ولد ، سواء كان ذكراً أو أنثى ، ما لَم يستهل صارخاً. كذا قال.
قوله: (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ دية جنينها غرةٌ عبدٌ، أو وليدةٌ) وفي رواية مالك " فقضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرّةٍ عبد أو أمة " ووقع في حديث أبي هريرة من طريق محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عنه: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرّةٍ عبد أو أمة أو فرس أو بغل. (1)
وكذا وقع عند عبد الرّزّاق في رواية ابن طاوسٍ عن أبيه عن عمر مرسلاً: فقال حمل بن النّابغة: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدّية في المرأة ، وفي الجنين غرّة عبد أو أمة أو فرس.
وأشار البيهقيّ إلى أنّ ذكر الفرس في المرفوع وهْم ، وأنّ ذلك أُدرج من بعض رواته على سبيل التّفسير للغرّة، وذكر أنّه في رواية حمّاد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوسٍ بلفظ " فقضى أنّ في الجنين غرّة ، قال طاوسٌ: الفرس غرّة "
قلت: وكذا أخرج الإسماعيليّ من طريق حمّاد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه قال " الفرس غرّة " وكأنّهما رأيا أنّ الفرس أحقّ بإطلاق لفظ الغرّة من الآدميّ.
(1) أخرجه أبو داود (4579) وابن حبان في " صحيحه "(6022)، والدارقطني (3/ 114) والبيهقي (8/ 115) من طريق عيسى بن يونس عن محمد بن عمرو به.
قال أبو داود: روى هذا الحديث حماد بن سلمة وخالد بن عبد الله عن محمد بن عمرو. لَم يذكرا أو فرس أو بغل.
ونقل ابن المنذر والخطّابيّ عن طاوسٍ ومجاهد وعروة بن الزّبير " الغرّة عبد أو أمة أو فرس ".
وتوسّع داود ومن تبعه من أهل الظّاهر ، فقالوا: يجزئ كلّ ما وقع عليه اسم غرّة.
والغرّة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس، وقد استعمل للآدميّ في الحديث المتقدّم في الوضوء " إنّ أمّتي يدعون يوم القيامة غرّاً "(1).
وتطلق الغرّة على الشّيء النّفيس آدميّاً كان أو غيره. ذكراً كان أو أنثى.
وقيل: أطلق على الآدميّ غرّة. لأنّه أشرف الحيوان، فإنّ محلّ الغرّة الوجه. والوجه أشرف الأعضاء.
وقوله في الحديث " غرّة عبد أو أمة " قال الإسماعيليّ: قَرَأَه العامّة بالإضافة وغيرهم بالتّنوين.
وحكى القاضي عياض الخلاف، وقال: التّنوين أوجه لأنّه بيان للغرّة ما هي، وتوجيه الآخر. أنّ الشّيء قد يضاف إلى نفسه ، لكنّه نادر.
وقال الباجيّ: يحتمل: أن تكون " أو " شكّاً من الرّاوي في تلك الواقعة المخصوصة، ويحتمل: أن تكون للتّنويع ، وهو الأظهر. وقيل المرفوع من الحديث قوله " بغرّة " وأمّا قوله " عبد أو أمة " فشكّ من
(1) تقدّم في كتاب الطهارة في العمدة برقم (11)
الرّاوي في المراد بها.
قال: وقال مالك: الحُمران أولى من السّودان في هذا.
وعن أبي عمرو بن العلاء قال: الغرّة عبد أبيض أو أمة بيضاء، قال: فلا يجزئ في دية الجنين سوداء. إذ لو لَم يكن في الغرّة معنىً زائد لَمَا ذكرها ، ولقال عبد أو أمة.
ويقال: إنّه انفرد بذلك.
وسائر الفقهاء على الإجزاء فيما لو أخرج سوداء.
وأجابوا: بأنّ المعنى الزّائد كونه نفيساً ، فلذلك فسّره بعبدٍ أو أمة ، لأنّ الآدميّ أشرف الحيوان، وعلى هذا فالذي وقع في رواية محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. من زيادة ذكر الفرس في هذا الحديث وهْمٌ. ولفظه " غرّة عبد أو أمة أو فرس أو بغل ".
ويمكن - إنْ كان محفوظاً - أنّ الفرس هي الأصل في الغرّة كما تقدّم.
وعلى قول الجمهور. فأقل ما يجزئ من العبد والأمة ما سلم من العيوب التي يثبت بها الرّدّ في البيع لأنّ المعيب ليس من الخيار.
واستنبط الشّافعيّ من ذلك. أن يكون منتفعاً به ، فشرَط أن لا ينقص عن سبع سنين ، لأنّ من لَم يبلغها لا يستقلّ غالباً بنفسه فيحتاج إلى التّعهّد بالتّربية فلا يجبر المستحقّ على أخذه.
وأخذ بعضهم من لفظ الغلام. أن لا يزيد على خمس عشرة ، ولا تزيد الجارية على عشرين.
ومنهم: من جعل الحدّ ما بين السّبع والعشرين.
والرّاجح كما قال ابن دقيق العيد: أنّه يجزئ. ولو بلغ السّتّين وأكثر منها. ما لَم يصل إلى عدم الاستقلال بالهرم. والله أعلم.
قوله: (وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورّثها ولدها ومن معهم ، فقام حمل بن النابغة الهذلي) حمل بفتح المهملة والميم الخفيفة ابن مالك بن النابغة الهذلي ، وكنية حمل المذكور أبو نضلة، وهو صحابي نزل البصرة.
وفي رواية معمر من طريق أبي سلمة عند مسلم " فقال قائل: كيف نعقل "؟ وفي رواية عبد الرّحمن بن خالد في البخاري " فقال وليّ المرأة التي غرمت - ثمّ اتّفقا -: كيف أغرم يا رسولَ الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطلّ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّما هذا من إخوان الكهّان ".
وفي مرسل سعيد بن المسيّب عند مالك " قضى في الجنين يقتل في بطن أمّه بغرّةٍ عبد أو وليدة ". وفي رواية الليث في الصحيحين من طريق سعيد نحوه عند التّرمذيّ ، ولكن قال " إنّ هذا ليقول بقول شاعر ، بل فيه غرّة " وفيه " ثمّ إنّ المرأة التي قضي عليها بالغرّة توفّيت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّ ميراثها لبنيها وزوجها ، وأنّ العقل على عصبتها ".
وفي رواية عكرمة عن ابن عبّاس: فقال عمّها: إنّها قد أسقطت غلاماً قد نبت شعره، فقال أبو القاتلة: إنّه كاذب، إنّه والله ما استهل
ولا شرب ولا أكل، فمثله يطلّ. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الجاهليّة وكهانتها.
وفي رواية عبيد بن نضيلة عن المغيرة: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة وغرّة لِما في بطنها، فقال رجلٌ من عصبة القاتلة: أنغرم من لا أكل - وفي آخره - أسجعٌ كسجع الأعراب؟ وجعل عليهم الدّية.
وفي حديث عويم عند الطّبرانيّ: فقال أخوها العلاء بن مسروح: يا رسولَ الله أنغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل هذا يطلّ. فقال: أسجعٌ كسجع الجاهليّة. ونحوه عند أبي يعلى من حديث جابر ، لكن قال: فقالت عاقلة القاتلة.
وعند البيهقيّ من حديث أسامة بن عميرة: فقال أبوها: إنّما يعقلها بنوها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الدّية على العصبة وفي الجنين غرّة، فقال: ما وضع فحل ولا صاح فاستهل، فأبطله فمثله يطلّ.
وبهذا يجمع الاختلاف. فيكون كلّ من أبيها وأخيها وزوجها ، قالوا ذلك ، لأنّهم كلّهم من عصبتها بخلاف المقتولة ، فإنّ في حديث أسامة بن عمير ، أنّ المقتولة عامريّة والقاتلة هذليّة.
ووقع في رواية أسامة " فقال: دعني من أراجيز الأعراب " وفي لفظ " أسجاعة بك " وفي آخر " أسجع كسجع الجاهليّة؟ قيل: يا رسولَ الله إنّه شاعر " وفي لفظ " لسنا من أساجيع الجاهليّة في شيء.
وفيه. فقال: إنّ لها ولداً هم سادة الحيّ وهم أحقّ أن يعقلوا عن أمّهم، قال: بل أنت أحقّ أن تعقل عن أختك من ولدها، فقال: ما لي شيء، قال حَمَلٌ - وهو يومئذٍ على صدقات هذيل وهو زوج المرأة وأبو الجنين -: اقبض من صدقات هذيل " أخرجه البيهقيّ.
وفي رواية ابن أبي عاصم " ما له عبد ولا أمة ، قال: عشر من الإبل، قالوا: ما له من شيء إلَّا أن تعينه من صدقة بني لحيان فأعانه بها، فسعى حملٌ عليها حتّى استوفاها ".
وفي حديثه عند الحارث بن أبي أسامة " فقضى أنّ الدّية على عاقلة القاتلة ، وفي الجنين غرّة عبد أو أمة وعشر من الإبل أو مائة شاة "
قوله: (كيف أغرم يا رسولَ الله من لا شرب ولا أكل؟) في رواية مالك " من لا أكل ولا شرب ". والأوّل أولى لمناسبة السّجع.
ووقع في رواية الكشميهنيّ في رواية مالك " ما لا " بدل " من لا " وهذا هو الذي في " الموطّأ ".
وقال أبو عثمان بن جنّيّ: معنى قوله " لا أكل " أي: لَم يأكل، أقام الفعل الماضي مقام المضارع.
قوله: (فمثل ذلك يطلّ) للأكثر - بضمّ المثنّاة التّحتانيّة وفتح الطّاء المهملة وتشديد اللام - أي: يهدر، يقال: دم فلان هدر إذا ترك الطّلب بثأره، وطل الدّم - بضمّ الطّاء وبفتحها أيضاً - وحكي " أطل " ولَم يعرفه الأصمعيّ.
ووقع للكشميهنيّ في رواية ابن مسافر (1)" بطل " بفتح الموحّدة والتّخفيف من البطلان. كذا رأيته في نسخة معتمدة من رواية أبي ذرّ.
وزعم عياض ، أنّه وقع هنا للجميع بالموحّدة، قال: وبالوجهين في الموطّأ.
وقد رجّح الخطّابيّ أنّه من البطلان، وأنكره ابن بطّال فقال: كذا يقوله أهل الحديث، وإنّما هو طلّ الدّم إذا هدر.
قلت: وليس لإنكاره معنىً بعد ثبوت الرّواية، وهو موجّه، راجعٌ إلى معنى الرّواية الأخرى.
قوله: (إنّما هذا من إخوان الكهّان) أي: لمشابهة كلامه كلامهم. (2)
قوله: (من أجل سجعه الذي سجع) قال القرطبيّ: هو من تفسير الرّاوي، وقد ورد مستند ذلك فيما أخرجه مسلم في حديث المغيرة بن شعبة: فقال رجلٌ من عصبة القاتلة يغرم. فذكر نحوه. وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الأعراب؟.
والسّجع هو تناسب آخر الكلمات لفظاً، وأصله الاستواء، وفي الاصطلاح الكلام المقفّى. والجمع أسجاع وأساجيع.
قال ابن بطّال: فيه ذمّ الكفّار وذمّ من تشبّه بهم في ألفاظهم، وإنّما لَم يعاقبه ، لأنّه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالصّفح عن الجاهلين.
(1) هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الذي تقدّم ذكره. نُسب إلى جدّه. وروايته في صحيح البخاري (5426) عنه عن الزهري. كما تقدّم تخريجه.
(2)
تقدّم الكلام عن تعريف الكهانة وأنواعها مستوفى في كتاب البيوع برقم (269)
واستدل به على ذمّ السّجع في الكلام، ومحلّ الكراهة إذا كان ظاهر التّكلف، وكذا لو كان منسجماً ، لكنّه في إبطال حقّ أو تحقيق باطل، فأمّا لو كان منسجماً - وهو في حقّ أو مباح - فلا كراهة.
بل ربّما كان في بعضه ما يستحبّ مثل أن يكون فيه إذعان مخالف للطّاعة كما وقع لمثل القاضي الفاضل (1) في بعض رسائله ، أو إقلاع عن معصية كما وقع لمثل أبي الفرج بن الجوزيّ في بعض مواعظه.
وعلى هذا يُحمل ما جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وكذا عن غيره من السّلف الصّالح.
والذي يظهر لي أنّ الذي جاء من ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَم يكن عن قصد إلى التّسجيع ، وإنّما جاء اتّفاقاً لعظم بلاغته، وأمّا مَن بَعْده فقد يكون كذلك ، وقد يكون عن قصد وهو الغالب، ومراتبهم في ذلك متفاوتة جدّاً.
والحاصل أنّه إن جمعَ الأمرين من التّكلف وإبطال الحقّ كان
(1) عبد الرحيم بن علي بن السعيد اللخمي، المعروف بالقاضي الفاضل: وزير، من أئمة الكتّاب. ولد بعسقلان (بفلسطين) سنة 529 هـ وانتقل إلى الإسكندرية، ثم إلى القاهرة وتوفي فيها سنة 596 هـ. كان من وزراء السلطان صلاح الدين، ومن مقرّبيه، ولم يخدم بعده أحداً. وكان سريع الخاطر في الإنشاء، كثير الرسائل، قيل: لو جُمعت رسائله وتعليقاته لم تقصر عن مئة مجلد، وهو مجيد في أكثرها. الأعلام للزركلي (3: 346).
قال الذهبي في السير (15/ 442): انتهت إلى القاضي الفاضل براعة الترسل وبلاغة الإنشاء، وله في ذلك الفنّ اليد البيضاء، والمعاني المبتكرة، والباع الأطول، لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره، مع الكثرة. انتهى
مذموماً، وإن اقتصر على أحدهما كان أخفّ في الذّمّ.
ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع: فالمحمود ما جاء عفواً في حقّ، ودونه ما يقع متكلفاً في حقّ أيضاً، والمذموم عكسهما.
وفي الحديث من الفوائد أيضاً رفع الجناية للحاكم، ووجوب الدّية في الجنين ولو خرج ميّتاً كما تقدّم تقريره.
واستدل به على عدم وجوب القصاص في القتل بالمثقّل ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لَم يأمر فيه بالقود وإنّما أمر بالدّية.
وأجاب مَن قال به: بأنّ عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصّغر بحيث يقتل بعضه غالباً ولا يقتل بعضه غالباً، وطرد المماثلة في القصاص إنّما يشرع فيما إذا وقعت الجناية بما يقتل غالباً.
وفي هذا الجواب نظر: فإنّ الذي يظهر أنّه إنّما لَم يوجب فيه القود لأنّها لَم يقصد مثلها، وشرط القود العمد ، وهذا إنّما هو شبه العمد ، فلا حجّة فيه للقتل بالمثقّل ولا عكسه.
وفيه ميراث المرأة والزّوج مع الوالد وغيره من الوارثين فلا يسقط إرث واحد منهما بحالٍ، بل يحطّ الولد الزّوج من النّصف إلى الرّبع، ويحطّ المرأة من الرّبع إلى الثّمن.
ووجه الدّلالة منه، أنّ ميراث الضّاربة لبنيها وزوجها لا لعصبتها الذين عقلوا عنها فورث الزّوج مع ولده، وكذا لو كان الأب هو الميّت لورثت الأمّ مع الأولاد، أشار إلى ذلك ابن التّين.
وكذا لو كان هناك عصبةٌ بغير ولدٍ.
تكميل: قال البخاري " باب جنين المرأة ، وأنّ العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد "
قال الإسماعيليّ: هكذا ترجم أنّ العقل على الوالد وعصبة الوالد، وليس في الخبر إيجاب العقل على الوالد، فإن أراد الوالدة التي كانت هي الجانية فقد يكون الحكم عليها فإذا ماتت أو عاشت فالعقل على عصبتها. انتهى.
والمعتمد ما قال ابن بطّال: مراده أنّ عقل المرأة المقتولة على والد القاتلة وعصبته.
قلت: وأبوها وعصبة أبيها عصبتها ، فطابق لفظ " وأنّ العقل على عصبتها " وبيّنه لفظ الخبر الثّاني " وقضى أنّ دية المرأة على عاقلتها " وإنّما ذكره بلفظ الوالد للإشارة إلى ما ورد في بعض طرق القصّة.
وقوله " لا على الولد " قال ابن بطّال: يريد أنّ ولد المرأة إذا لَم يكن من عصبتها لا يعقل عنها ، لأنّ العقل على العصبة دون ذوي الأرحام ، ولذلك لا يعقل الإخوة من الأمّ.
قال: ومقتضى الخبر أنّ من يرثها لا يعقل عنها إذا لَم يكن من عصبتها، وهو متّفق عليه بين العلماء كما قاله ابن المنذر.
قلت: وقد ذكرتُ قبل هذا ، أنّ في رواية أسامة بن عمير " فقال أبوها: إنّما يعقلها بنوها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: الدّية على العصبة ".