المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌20 - باب ما ينهى عنه أن يستنجى به - فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود - جـ ١

[ياسر فتحي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌1 - كتاب الطهارة

- ‌1 - باب التخلي عند قضاء الحاجة

- ‌2 - باب الرجل يتبوأ لبوله

- ‌3 - باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء

- ‌4 - باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة

- ‌5 - باب الرخصة في ذلك

- ‌6 - باب كيف التكشف عند الحاجة

- ‌7 - باب كراهية الكلام عند الخلاء [وفي نسخة: عند الحاجة]

- ‌8 - باب في الرجل يردُّ السلام وهو يبول

- ‌9 - باب في الرجل يذكر الله تعالى على غير طهر

- ‌10 - باب الخاتم يكون فيه ذكر الله تعالى يدخل به الخلاء

- ‌11 - باب الاستبراء من البول

- ‌12 - باب البول قائمًا

- ‌13 - باب في الرجل يبول بالليل في الإناء ثم يضعه عنده

- ‌(1/ 1843/160 - 1847).***14 -باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول فيها

- ‌15 - باب في البول في المستحم

- ‌16 - باب النهي عن البول في الجحر

- ‌17 - باب ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء

- ‌18 - باب كراهية مس الذكر باليمين في الاستبراء

- ‌19 - باب الاستتار في الخلاء

- ‌20 - باب ما يُنهى عنه أن يُستنجى به

- ‌21 - باب الاستنجاء بالحجارة

- ‌22 - باب الاستبراء

- ‌23 - باب في الاستنجاء بالماء

- ‌ 251).***24 -باب الرجل يدلك يده بالأرض إذا استنجى

- ‌25 - باب السواك

- ‌ 208)].***26 -باب كيف يستاك

- ‌27 - باب في الرجل يستاك بسواك غيره

- ‌28 - باب غسل السواك

- ‌29 - باب السواك من الفطرة

- ‌38)].***30 -باب السواك للذي قام من الليل

- ‌31 - باب فرض الوضوء

- ‌32 - باب الرجل يجدد الوضوء من غير حدث

- ‌33 - باب ما ينجس الماء

- ‌ 343)].***34 -باب ما جاء في بئر بضاعة

- ‌35 - باب الماء لا يجنب

- ‌36 - باب البول في الماء الراكد

- ‌37 - باب الوضوء بسؤر الكلب

- ‌ 304)].*** •38 -باب سؤر الهرة

- ‌39 - باب الوضوء بفضل وضوء المرأة

- ‌40 - باب النهي عن ذلك

- ‌41 - باب الوضوء بماء البحر

- ‌42 - باب الوضوء بالنبيذ

- ‌43 - باب أيصلي الرجل وهو حاقن

- ‌44 - باب ما يجزئ من الماء في الوضوء

- ‌4).***45 -باب الإسراف في الماء

- ‌46 - باب في إسباغ الوضوء

- ‌47 - باب الوضوء في آنية الصفر

الفصل: ‌20 - باب ما ينهى عنه أن يستنجى به

وعلى هذا فهو تابعي مجهول.

وأما حصين الراوي عنه: فمجهول أيضًا، قال ابن حجر:"مجهول"[التقريب (256)]، وقال الذهبي:"لا يعرف"[الميزان (1/ 555)]، وانظر: التلخيص (1/ 180).

وممن نص على ضعف هذا الحديث لجهالة هذين الراويين: ابن حزم وابن عبد البر: قال ابن حزم في المحلى (1/ 99): "فإن [ابن] الحصين: مجهول، وأبو سعيد أو أبو سعد كذلك".

وقال ابن عبد البر في التمهيد (11/ 21): "وهو حديث ليس بالقوي؛ لأن إسناده ليس بالقائم، فيه مجهولون".

وضعفه أيضًا البيهقي، فقد قال في الخلافيات:"ليس هذا بمشهور، ولا يعارض حديث سلمان المخرج في الصحيح، ولم يحتج بهذا الإسناد أحد منهما"، وقال في المعرفة (1/ 201):"ليس بالقوي"، وأشار إلى ذلك في السنن (1/ 104).

وقال عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى (1/ 136): "في إسناده الحصين الحبراني، وليس بقوي".

وفي متن الحديث نكارة، ومخالفة للأحاديث الصحيحة، ألمح البيهقي إلى شيء منها. كما ضعفه الألباني في الضعيفة برقم (1028).

• ومما صح في الاستتار:

1 -

حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم (3012 - 3014) وغيره، وتقدم ذكره تحت الحديث الثاني.

2 -

حديث عبد الله بن جعفر، قال: وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفًا أو حائش نخل.

أخرجه مسلم (342 و 2429) وغيره، ويأتي عند أبي داود برقم (2549) إن شاء الله تعالى.

***

‌20 - باب ما يُنهى عنه أن يُستنجى به

36 -

. . . المُفضَّل -يعني: ابن فَضالة المصري-، عن عياش بن عباس القِتْباني، أن شِيَيْمَ بن بَيتانَ، أخبره عن شيبان القتباني، قال: إن مَسْلمة بن مُخلَّد استعمل رُويفِع بن ثابت على أسفل الأرض. قال شيبان: فَسِرنا معه من كُوم شريك إلى عَلقماء، أو: من عَلقماء إلى كُوم شريك -يريد: عَلقام- فقال رويفع: إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نِضْوَ أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف، وإن كان أحدنا لَيَطيرُ له النَّصل والريش وللآخر القِدْح، ثم قال: قال لي

ص: 122

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رويفع لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أنه من عقد لحيته، أو تقلَّد وَتَرًا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم منه بريء".

• شاذ بذكر شيبان القتباني في الإسناد، وهو حديث صحيح.

أخرجه أحمد (4/ 109)، وابن عبد الحكم في فتوح مصر (140 و 470)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 210/ 2196)، والبزار (6/ 301/ 2317)، والطبراني في الكبير (5/ 28/ 4491)، والخطابي في غريب الحديث (1/ 422 - 423) و (2/ 169 - 170)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2/ 1068/ 2704)، والبيهقي (1/ 110)، والبغوي في شرح السُّنَّة (11/ 28/ 2680)، والمزي في تهذيب الكمال (12/ 592).

قال البزار: "وإسناده حسن غير شيبان، فإنه لا نعلم روى عنه غير شِييم بن بيتان، وعياش بن عباس مشهور".

قلت: رجاله ثقات؛ غير شيبان بن أمية أو ابن قيس القتباني المصري، فإنه مجهول [التقريب (441)].

وللمفضل بن فضالة فيه إسناد آخر: فقد روى الحديث عن المفضل: يحيى بن غيلان، وسعيد بن أبي مريم، ومُعلَّى بن منصور، وعبد الأعلى بن حماد، ويزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب، وأبو الأسود النضر بن عبد الجبار [وهم ثقات]، وقد رواه الأخيران عنه بالإسنادين جميعًا:

***

37 -

قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد: حدثنا مفضل، عن عياش، أن شييم بن بيتان أخبره بهذا الحديث أيضًا، عن أبي سالم الجيشاني، عن عبد الله بن عمرو، يذكر ذلك وهو معه مُرابِط بحصن باب أَليُون.

قال أبو داود: حصن أليون بالفسطاط على جبل.

قال أبو داود: وهو شيبان بن أمية، يُكْنى أبا حذيفة.

• حديث صحيح

وأخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر (140 - 141)، قال: حدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبار، قال: حدثنا المفضل بن فضالة، قال: أخبرنا عياش بن عباس القتباني

فذكر حديث شيبان عن رويفع، ثم قال: قال عياش بن عباس: أخبرني شييم بن بيتان، عن أبي سالم الجيشاني، أنه سمع عبد الله بن عمرو -وهو مرابط حصن باب أليون- يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث. وأعاده مرة أخرى في موضع آخر (470).

ص: 123

وأبو سالم الجيشاني: هو سفيان بن هانئ المصري ممن شهد فتح مصر ووفد على عليٍّ، وهو تابعي مخضرم، ثقة مشهور، وقد سمع من عبد الله بن عمرو كما ترى، وهما مرابطان معًا بحصن باب أليون؛ فالإسناد صحيح.

• تابع المفضل بن الفضالة على إسناده الأول:

عبد الله بن عياش، عن أبيه، عن شييم بن بيتان، عن شيبان بن أمية، عن رويفع بن ثابت، قال: كنت في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكنت من أحدثهم سنًا، فنظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"رويفع! لعله سيطول بك العمر، فأخبر الناس أنه من استنجى بروث دابة أو بعظم، أو تعلق وترًا -يريد تميمة-، أو عقد لحيته في الصلاة؛ فقد برئت منه ذمة محمد".

أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر (469).

وعبد الله بن عياش بن عباس القتبانى: ضعيف [التهذيب (2/ 400)، الميزان (2/ 469)].

• وقد خالفهما:

حيوة بن شريح [ثقة ثبت فقيه زاهد. التقريب (282)]، وابن لهيعة [ضعيف]:

فروياه: عن عياش بن عباس القتباني، أن شييم بن بيتان حدثه، أنه سمع رويفع بن ثابت يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا رويفع لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أنه من عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمدًا بريء منه".

أخرجه النسائي (8/ 135 - 136/ 5067)، وأحمد (4/ 108)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 123)، وابن الأثير في أسد الغابة (2/ 286).

وحيوة بن شريح المصري: ثقة ثبت فقيه، قدمه أبو حاتم على المفضل بن فضالة، فقال:"حيوة أعلى القوم، وهو ثقة، وأحب إليَّ من المفضل بن فضالة"[التهذيب (2/ 487)].

وعلى هذا فروايته المتصلة مقدمة على رواية المفضل وابن عياش، ولم ينفرد بذلك حيوة -وإن كان لا يضره التفرد-، فقد تابعه ابن لهيعة على ذلك، فاتصل الإسناد برواية الثقات، فهو إسناد مصري صحيح، وصح الحديث والحمد لله.

والحديث جوَّد إسناده النووي في المجموع (1/ 359) و (2/ 135)، وابن الملقن في البدر المنير (2/ 352).

وقد وهم فيه ابن لهيعة حيث رواه مرة: عن عياش بن عباس، عن شييم بن بيتان، عن أبي سالم، عن شيبان بن أمية، عن رويفع بن ثابت الأنصاري: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكان أحدنا يأخذ الناقة على النصف مما يغنم، حتى أن لأحدنا القاخ وللآخر النصل والريش.

أخرجه أحمد (4/ 108).

ص: 124

وانظر أيضًا: مسند ابن أبي شيبة (736).

• غريب الحديث:

كوم شريك: قرب الإسكندرية بمصر، وعلقماء أو علقام: موضع بأسفل مصر [معجم البلدان (4/ 495)].

نضو أخيه: يعني: الناقة المهزولة.

ليطير له النصل: أي يصيبه في القسمة.

القِدح: خشب السهم قبل أن يراش ويُركَّب فيه النصل، وفيه جواز قسمة الشيء ما لم تذهب منفعته وتبطل قيمته.

وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن عقد اللحية فإن ذلك يفسر على وجهين: أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من عقد اللحى في الحروب، وذلك من زي الأعاجم، يفتلونها، ويعقدونها، وقيل معناه: معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التوضيع والتأنيث، ووقع في رواية ابن أبي عاصم:"عقص لحيته".

وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن تقليد الوتر، فقد قيل: إن ذلك من أجل العُوَذ التي يعلقونها عليه، والتمائم التي يشدونها بتلك الأوتار، وكانوا يرون أنها تعصم من الآفات، وتدفع عنهم المكاره، وقيل غير ذلك [معالم السنن (1/ 24)، غريب الحديث للخطابي (1/ 422 - 423) و (2/ 169 - 170)، شرح السُّنَّة (11/ 28)، النهاية (3/ 270) و (4/ 99)، المجموع (1/ 359)، الإمام (2/ 560)، البدر المنير (2/ 353)، زهر الربى (8/ 135)، عون المعبود (1/ 39)، تيسير العزيز الحميد (134)].

***

38 -

. . . روح بن عبادة: حدثنا زكريا بن إسحاق: حدثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتمسح بعظم، أو بعر.

• حديث صحيح

أخرجه مسلم (263)، وأبو عوانة (1/ 186/ 583)، وأبو نعيم في مستخرجه (1/ 319/ 608)، وأحمد (3/ 343 و 384)، وأبو يعلى (4/ 168/ 2242)، والبيهقي (1/ 110)، وابن عبد البر (11/ 19).

ولم ينفرد بذلك زكريا بن إسحاق المكي عن أبي الزبير المكي به، وإن كان لا يضره تفرده لو تفرد، فقد تابعه: ابن لهيعة عن أبي الزبير به.

قال ابن لهيعة: حدثنا أبو الزبير، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى ببعرة أو بعظم.

أخرجه أحمد (3/ 336).

***

ص: 125

39 -

. . . ابن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الله بن مسعود، قال: قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! اِنْهَ أُمتَّك أن يستنجوا بعظم أو رَوْثة أو حُمَمَة؛ فإن الله عز وجل جعل لنا فيها رزقًا، قال: فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

• حديث ضعيف

أخرجه الدارقطني (1/ 55 - 56)، والبيهقي (1/ 109)، والبغوي في شرح السُّنَّة (1/ 366/ 180).

قال الدارقطني: "إسناد شامي ليس بثابت".

وقال البيهقي: "إسناد شامي غير قوي".

وقال الحازمي: "لا يعرف متصلًا إلا من حديث الشاميين، وهو على شرط أبي داود"[البدر المنير (2/ 351)].

وقال النووي في المجموع (2/ 136): "هذا الحديث ضعيف"، وذكره في فصل الضعيف من الخلاصة (377).

لكن أخرج الطبراني في مسند الشاميين (2/ 37/ 872)، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرق الحمصي: ثنا محمد بن مصفى: ثنا بقية، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الله بن مسعود، قال: قدم وفد الجن

الحديث.

وليس هذا من حديث الأوزاعي في شيء: بقية بن الوليد: يدلس ويسوي عن الكذابين والمجهولين، وقد عنعنه، وتفرد به عن الأوزاعي [التهذيب (1/ 495)، الميزان (1/ 331)].

وشيخ الطبراني: قال الذهبي "شيخ للطبراني غير معتمد"[الميزان (1/ 63)، اللسان (1/ 104)].

وعليه: فالحديث إنما يعرف بإسماعيل بن عياش ولا متابع له، والله أعلم.

ومع كون ابن عياش إنما ضُعِّف في روايته عن غير أهل الشام وأما روايته عنهم فمستقيمة، مع ذلك فلم يحتج بهذا الإسناد الدارقطني ولا البيهقي مع كونه إسنادًا شاميًّا.

فإن لم يكونا قد أعلاه بابن عياش، فقد أعلاه بمخالفة أهل الشام في روايتهم لرواية أهل الكوفة وهم أعلم بابن مسعود من غيرهم؛ كما سيأتي بيانه.

• ولم ينفرد أهل الشام بذلك بل تابعهم عليه أهل مصر.

وقبل أن نستطرد بذكر رواية أهل مصر؛ فقد يقال بأن لإسناد ابن عياش علة أخرى، وهي أن عبد الله بن فيروز الديلمي الشامي لا يعرف له سماع من ابن مسعود [انظر:

ص: 126

التاريخ الكبير (5/ 80)، فيقال: قد ثبت لقاؤه به وسماعه منه في حديث: "لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه

" [أخرجه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77)].

• وأما رواية أهل مصر: فيرويها موسى بن عُلَي بن رباح عن أبيه عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نستنجي بعظم حائل أو روثة أو حممة.

أخرجه أحمد (1/ 457)، والطبراني في الأوسط (9/ 17/ 8995)، والدارقطني (1/ 56)، والخطابي في غريب الحديث (1/ 238)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 109)، وفي الدلائل (2/ 231).

ولفظ أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ليلة الجن ومعه عظم حائل وبعرة وفحمة، فقال:"لا تستنجين بشيء من هذا إذا خرجت إلى الخلاء".

ولفظ البيهقي في الدلائل: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن نفرًا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتونني الليلة فأقرأ عليهم القرآن" فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فخط لي خطًّا، وأجلسني فيه، وقال لي:"لا تخرج من هذا" فبِتُّ فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السَّحَر، في يده عظم حائل وروثة وحممة، فقال لي:"إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء" قال: فلما أصبحت قلت: لأعلمن علمي حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيرًا.

والعظم الحائل: المتغير من البلى.

قال الدارقطني: "عُلَي بن رباح لا يثبت سماعه من ابن مسعود ولا يصح".

وقال البيهقي في السنن: "عُلَي بن رباح لم يثبت سماعه من ابن مسعود، والأول: إسناد شامي غير قوي، والله أعلم".

• وقد رُوي نحو هذا:

عن أبي عثمان بن سَنَّة الخزاعي، وعبد الرحمن بن رافع التنوخي، عن ابن مسعود؛ إلا أنه ليس في روايتهما ذكر الحممة.

وانظر: تحفة التحصيل (234)، ولا تغتر بتعقب ابن التركماني في الجوهر النقي فقد جانب الصواب ومشى على ظاهر الإسناد.

ولحديث ابن مسعود طرق كثيرة جدًّا أغلبها لا يصح [انظر: تفسير الطبري (11/ 298)، المعجم الكبير للطبراني (10/ 63)، سنن البيهقي (1/ 9 - 0 1)، تفسير ابن كثير (4/ 166)، مجمع الزوائد (8/ 313)، نصب الراية (1/ 137)، وغيرها] وليس في شيء منها ذكر الحممة أو الفحمة.

وقد اشتمل بعض هذه الطرق أو أغلبها على زيادات لا تصح في قصة وفد الجن.

ومن هذه الطرق:

أ- ما رواه يونس بن يزيد، وعقيل بن خالد: عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو عثمان بن سَنَّة الخزاعي -وكان رجلًا من أهل الشام-، أنه سمع ابن مسعود يقول: إن

ص: 127

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة: "من أحب منكم أن بحضر الليلة أمر الجن فليفعل" فلم يحضر منهم أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطًّا، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فغشيته أَسْوِدة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا فطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم رهط، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق فتبرز، ثم أتاني فقال:"ما فعل الرهط؟ " فقلت: هم أولئك يا رسول الله، فأخذ عظمًا وروثًا فأعطاهم إياه زادًا، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث.

أخرجه النسائي (1/ 37 - 38/ 39) مختصرًا. والحاكم (2/ 503 - 504)، والفاكهي في أخبار مكة (4/ 21/ 2316)، وابن جرير الطبري في تفسيره (11/ 299)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 123)، وأبو الشيخ في العظمة (5/ 1662/ 1102)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (5/ 2971/ 6924)، وفي الدلائل (263)، والبيهقي في الدلائل (2/ 230) واللفظ له. وابن عساكر في تاريخ دمشق (67/ 74 و 75)، والمزي في التهذيب (34/ 67).

قال الحاكم: "وقد رُوي حديث تداوله الأئمة الثقات، عن رجل مجهول، عن عبد الله بن مسعود: أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن" ثم أخرج حديث ابن سَنَّة هذا.

وأبو عثمان بن سَنَّة هذا في عداد المجهولين، كما قال الحاكم، لم يرو عنه سوى الزهري، وقال أبو زرعة الرازي:"لا أعرف اسمه"، ولم أر من وثقه [انظر ترجمته في: المنفردات والوحدان لمسلم (236)، طبقات ابن سعد (5/ 248)، علل ابن المديني (100)، الإصابة (4/ 149)، الاستيعاب (4/ 142 - بهامش الإصابة)، الجرح والتعديل (9/ 408)، التهذيب (10/ 185)، الميزان (4/ 549)].

ب- ومنها ما رواه أبو فزارة العبسي الكوفي راشد بن كيسان، عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث المخزومي، عن عبد الله بن مسعود قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهو في نفر من أصحابه إذ قال: "لِيَقُم معي رجل منكم، ولا يقومَنَّ معي رجل في قلبه من الغش مثقال ذرة" قال: فقمت معه وأخذت إداوة، ولا أحسبها إلا ماءً، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بأعلى مكة، رأيت أسودة مجتمعة، قال: فخط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، ثم قال:"قم ها هنا حتى آتيك" قال: فقمت، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فرأيتهم يتثورون إليه، قال: فسمر معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلًا طويلًا حتى جاءني مع الفجر، فقال لي:"ما زلت قائمًا يا ابن مسعود؟ " قال: فقلت له: يا رسول الله أولم تقل لي: قم حتى آتيك؟! قال: ثم قال لي: "هل معك من وضوء؟ " قال: فقلت: نعم، ففتحت الإداوة، فإذا هو نبيذ، قال: فقلت له: يا رسول الله، والله لقد أخذت الإداوة، ولا أحسبها إلا ماءً، فإذا هو نبيذ، قال: فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "تمرة طيبة وماء طهور" قال: ثم توضأ منها، فلما قام يصلي أدركه شخصان منهم، قالا له: يا رسول الله إنا نحب أن تؤمنا في صلاتنا، قال: فصفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ثم صلى بنا، فلما انصرف قلت له: من هؤلاء يا

ص: 128

رسول الله؟ قال: "هؤلاء جن نصيبين، جاؤوا يختصمون إليَّ في أمور كانت بينهم، وقد سألوني الزاد فزودتهم" قال: فقلت له: وهل عندك يا رسول الله من شيء تزودهم إياه؟ قال: فقال: "قد زودتهم الرجعة، وما وجدوا من روث وجدوه شعيرًا، وما وجدوه من عظم وجدوه كاسيًا" قال: وعند ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يستطاب بالروث والعظم.

أخرجه هكذا مطولًا: أحمد (1/ 458) بإسناد صحيح إلى راشد.

وأخرجه مطولًا ومختصرًا: أبو داود (84)، والترمذي (88)، وأبو علي الطوسي في مستخرجه عليه "مختصر الأحكام"(71)، والنسائي في كتاب الأغراب (205)، وابن ماجه (384)، وأحمد (1/ 402 و 449 و 450)، وعبد الرزاق (1/ 179/ 693)، وأبو عبيد القاسم بن سلام في الطهور (252)، وابن أبي شيبة في المصنف (1/ 263/31)، وفي المسند (300)، وأبو يعلى (8/ 459/ 5046) و (9/ 203/ 5301)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 256/ 173)، والهيثم بن كليب في مسنده (2/ 248 و 254/ 822 و 827 و 828)، وابن الأعرابي في المعجم (727)، وابن حبان في المجروحين (3/ 158)، والطبراني في الكبير (10/ 63 - 66/ 9962 - 9967)، وابن عدي في الكامل (4/ 15) و (7/ 291 و 292)، وابن شاهين في الناسخ (94)، والبيهقي في السنن (1/ 9 و 9 - 10)، وفي الخلافيات (1/ 157 - 160/ 19 - 25)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 52/ 30 و 31)، وفي العلل المتناهية (1/ 355/ 587)، والمزي في تهذيب الكمال (33/ 333).

قال أبو عبيد القاسم بن سلام في الطهور (ص 201): "وأما الذي رُوي عن ابن مسعود في ليلة الجن فإنا لا نثبته؛ من أجل أن الإسناد فيه من ليس بمعروف، وقد وجدنا مع هذا أهل الخبرة والمعرفة بابن مسعود ينكرون أن يكون حضر في تلك الليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: ابنه أبو عبيدة بن عبد الله، وصاحبه علقمة بن قيس، مع هذا كله أنه لو كان له أصل لكان منسوخًا

".

وقال ابن المديني: "ورواه سفيان عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن عبد الله بن مسعود؛ فخفت أن لا يكون أبو زيد سمعه من عبد الله؛ لأني لم أعرفه، ولم أعرف لقيه له؛ فرواه شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد قال: حدثنا عبد الله بن مسعود فجوَّده بقوله: حدثنا عبد الله بن مسعود"[علل ابن المديني (100)، المراسيل (966)].

وقال البخاري: "أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تمرة طيبة وماء طهور": رجل مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، وروى علقمة عن عبد الله أنه قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال: سألت أبا عبيدة: أكان عبد الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا"[الكامل (7/ 291)، سنن البيهقي (1/ 10)][وانظر: الكامل (4/ 15)].

وقال أبو زرعة: "حديث أبي فزارة: ليس بصحيح، وأبو زيد مجهول"[العلل (1/ 14/ 17)].

ص: 129

وقال أبو حاتم وأبو زرعة: "هذا حديث ليس بقوي"[العلل (1/ 44/ 99)] وسينقل بتمامه إن شاء الله في موضعه.

وقال أبو حاتم أيضًا: "لم يلق أبو زيد: عبد الله"[المراسيل (967)].

وتصرف أبي داود في سننه يدل على تضعيفه وإنكاره له؛ فقد أخرج بعده ما يعارضه من قول ابن مسعود في ليلة الجن: "ما كان معه منا أحد".

وقال الترمذي: "وإنما رُوي هذا الحديث عن أبي زيد عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو زيد: رجل مجهول عند أهل الحديث، لا تعرف له رواية غير هذا الحديث".

وقال ابن المنذر: "وضعف هذا الحديث غير واحد من أصحابنا، وقالوا: حديث ابن مسعود لا يثبت؛ لأن الذي رواه أبو زيد وهو: مجهول، لا يعرف بصحبة عبد الله، ولا بالسماع منه، ولا يجوز ترك ظاهر الكتاب وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم لرواية رجل مجهول، مع أن علقمة قد أنكر أن يكون عبد الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن"، وتبعهما ابن قدامة في المغني (1/ 24).

وقال ابن حبان في أبي زيد: "يروي عن ابن مسعود ما لم يتابع عليه، ليس يُدرى من هو، لا يعرف أبوه ولا بلده، والإنسان إذا كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبرًا واحدًا خالف فيه الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس والنظر والرأي يستحق مجانبته فيها ولا يحتج به"، وانظر نفيه لشهود ابن مسعود ليلة الجن: صحيح ابن حبان (14/ 6319/224).

وقال ابن عدي: "وهذا الحديث مداره على أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود، وأبو فزارة مشهور واسمه: راشد بن كيسان، وأبو زيد مولى عمرو بن حريث: مجهول، ولا يصح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف القرآن، وقد رواه ابن لهيعة عن حبيش [كذا، ولعله: حنش] عن أبي هبيرة عن ابن عباس عن ابن مسعود شبه من هذا المتن، وهو غير محفوظ أيضًا"، وقال في الموضع الأول:"وأبو فزارة: راشد بن كيسان، وأبو زيد مولى عمرو بن حريث: مجهول، والحديث ضعيف لأجل أبي زيد هذا".

وقال الدارقطني في السنن (1/ 76): "وقيل: إن ابن مسعود لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، كذلك رواه علقمة بن قيس وأبو عبيدة بن عبد الله وغيرهما عنه: أنه قال: ما شهدت ليلة الجن"، ثم قال (1/ 77) بعد رواية علقمة عن ابن مسعود في عدم شهوده ليلة الجن:"هذا الصحيح عن ابن مسعود"، وقال في العلل (5/ 347):"والصحيح: ما رُوي عن ابن مسعود أنه لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، والله أعلم".

وضعف ابن حزم هذا الحديث في مواضع كثيرة من المحلى منها (1/ 204) و (2/ 189) و (5/ 75) و (8/ 466) و (9/ 346) و (10/ 16 و 367) وقال في بعضها بأنه خبر مكذوب.

وقال البيهقي في المعرفة (1/ 140 - 141): "وأما حديث ابن مسعود

فقد رُوي

ص: 130

من أوجه كلها ضعيف، وأشهرها رواية أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود، وقد ضعفها أهل العلم بالحديث".

وقال البغوي في شرح السُّنَّة (2/ 64): "وهذا حديث غير ثابت؛ لأن أبا زيد: مجهول، وقد صح عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقال الجوزقاني في الأباطيل (1/ 498): "هذا حديث باطل، مخالف للكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس".

وقال النووي في شرح مسلم (4/ 169): "وحديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين، ومداره على أبي زيد مولى عمرو بن حريث، وهو مجهول"، وقال في المجموع (1/ 141):"ضعيف بإجماع المحدثين"، وذكره في فصل الضعيف من الخلاصة (29)، وقال:"أجمعوا على ضعفه".

وقال ابن حجر في الفتح (1/ 422): "وهذا الحديث: أطبق علماء السلف على تضعيفه".

وحديث الوضوء بالنبيذ له طرق كثيرة يأتي الكلام عليها مفصلًا عند الحديث رقم (84) من سنن أبي داود، إن شاء الله تعالى.

لكني أردت من ذكر هذين الطريقين: بيان اشتمالهما على زيادات لا تصح، ومع ذلك فلم يرد فيها ولا في غيرها ذكر الحممة.

• بقي أن نتكلم عن مسألتين هامتين:

الأولى: وهي: هل حضر ابن مسعود ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دلت على ذلك طرق كثيرة لهذا الحديث أم لا؟

والثانية: الكلام عن ثبوت موضع الشاهد في حديث ابن مسعود.

أما المسألة الأولى:

فيشفي غليلنا فيها أصحاب عبد الله بن مسعود الكوفيون، الذين لازموه دهرًا طويلًا، وكانوا أعرف به من غيرهم، وهؤلاء يمثلهم: علقمة بن قيس النخعي الكوفي: الثقة الثبت الفقيه العابد، والذي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أعلم الناس بعبد الله بن مسعود، وأشبههم به هديًا وسمتًا ودلًا [انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (4/ 53)، تذكرة الحفاظ (1/ 48)، التاريخ الكبير (7/ 41)، الجرح والتعديل (6/ 404)، علل ابن المديني (42)، تاريخ بغداد (12/ 296)، الطبقات الكبرى (6/ 86)، وغيرها] فإذا خالف علقمة مائة من مثل ابن سَنَّة أو غيره فلا يؤبه له.

ومن ألصق الناس بالرجل وأعرفهم به من غيرهم: أهل بيته، وهؤلاء يمثلهم ابنه أبو عبيدة: فقد روى شعبة عن عمرو بن مرة قال: قلت لأبي عبيدة: حضر عبد الله بن مسعود ليلة الجن؟ قال: لا.

ص: 131

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 201)، وفي الأوسط (1/ 342)، وأحمد في العلل (1/ 284/ 456) و (2/ 115/ 1745)، وابن أبي شيبة (7/ 26/ 33946)، ويعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 321) و (3/ 241)، وأبو القاسم البغوي في مسند ابن الجعد (106)، والطحاوي (1/ 95)، والشاشي في مسنده (2/ 330/ 920)، وابن المظفر في حديث شعبة (192)، والدارقطني (1/ 77)، وابن شاهين في الناسخ (99)، والخليلي في الإرشاد (2/ 559/ 169)، والبيهقي (1/ 11).

قال الطحاوي: "فإن قال قائل: الآثار الأول أولى من هذا لأنها متصلة، وهذا منقطع لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا.

قيل له: ليس من هذه الجهة احتججنا بكلام أبي عبيدة، إنما احتججنا به لأن مثله -على تقدمه في العلم، وموضعه من عبد الله، وخلطته لخاصته من بعده- لا يخفى عليه مثل هذا من أموره، فجعلنا قوله ذلك حجة فيما ذكرناه، لا من الطريق الذي وضعت، وقد روينا عن عبد الله بن مسعود من كلامه بالإسناد المتصل، ما قد وافق ما قال أبو عبيدة.

حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لم أكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، ولوددت أني كنت معه"، ثم أخرجه من الطريق الآخر الذي سنذكره بعد.

أخرجه من طريق خالد بن عبد الله الواسطي الطحان:

مسلم (450/ 152)، وأبو عوانة (2/ 451/ 3790 و 3791)، وأبو نعيم في مستخرجه على مسلم (998)، والبزار (4/ 348/ 1545)، وابن المنذر (1/ 256/ 174)، والشاشي (1/ 349/ 331)، والطبراني في الكبير (68/ 10/ 9971)، وابن عدي (7/ 291)، وابن شاهين في الناسخ (100)، والبيهقي (1/ 11).

• تابع أبا معشر عليه: سليمان الأعمش.

أخرجه الشاشي (332) بإسناد صحيح إليه. وأخرجه الخطيب في الموضح (1/ 490) من طريق آخر عن الأعمش به.

• وقد رواه داود بن أبي هند عن الشعبي قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك، فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال:"أتاني داعي الجن، فدهبت معه فقرأت عليهم القرآن" قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.

قال الشعبي: وسألوه الزاد، وكانوا من جن الجزيرة.

فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل

ص: 132

بعرة علف لدوابكم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم [وفي رواية: زاد إخوانكم من الجن] ".

هكذا جزم ابن مسعود نفسه -من رواية علقمة صاحبه عنه-، وكذا ابنه أبو عبيدة بعدم حضور ابن مسعود ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة المتصلة، وبذا تكون جهيزة قد قطعت قول كل خطيب.

• وبهذا احتج الأئمة:

قال ابن المديني في العلل (100) في حديث ابن مسعود في ليلة الجن: "رواه غير واحد عن عبد الله؛ منهم: علقمة، وأبو عثمان النهدي، وعمرو البكالي، وأبو عثمان بن سَنَّة الخزاعي، وأبو زيد مولى عمرو بن حريث، فأما علقمة: فكان منكرًا أن يكون ابن مسعود معه ليلة الجن، وكان أعلمهم بعبد الله

".

وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (32): "وأصحاب الحديث لا يثبتون حديث الزط وما ذكر من حضوره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وهم القدوة عندنا في المعرفة بصحيح الأخبار وسقيمها

".

وقال الدارقطني في العلل (5/ 347): "والصحيح: ما رُوي عن ابن مسعود أنه لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، والله أعلم".

وقال في السنن (1/ 77) بعد رواية الشعبي عن علقمة: "وهذا الصحيح عن ابن مسعود" يعني: عدم شهوده ليلة الجن.

وقال البيهقي في الخلافيات (1/ 142 - مختصره): "فهذان الخبران اللذان اتفق العلماء بصحيح الأخبار وسقيمها على صحتهما وعدالة رواتهما يدلان على أن عبد الله لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وانظر: المعرفة (1/ 140).

وقال في الدلائل (2/ 230): "والأحاديث الصحاح تدل على أن عبد الله بن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وإنما كان معه حين انطلق به وبغيره يريهم آثار الجن وآثار نيرانهم".

وبهذا احتج ابن عدي في رد حديث أبي زيد في الوضوء بالنبيذ؛ وهو ما فهمه من مسلك البخاري في تاريخه الكبير (2/ 201)، والأوسط (1/ 341 - 342) وعليه يدل مسلكه.

وهو أيضًا ما يدل عليه مسلك مسلم في الصحيح، وسبق نقل كلام أبي عبيد القاسم بن سلام في هذا المعنى.

وقال النووي في شرح مسلم (4/ 169): "هذا صريح في إبطال الحديث المروي في سنن أبي داود وغيره: المذكور فيه الوضوء بالنبيذ، وحضور ابن مسعود معه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فإن هذا الحديث: صحيح، وحديث النبيذ: ضعيف باتفاق المحدثين، ومداره على أبي زيد مولى عمرو بن حريث، وهو مجهول".

ص: 133

وهذا يقتضي رد كل الروايات التي تثبت شهود ابن مسعود ليلة الجن، وكذا رد كل التفاصيل التي اشتملت عليها هذه الروايات.

وهذا تضعيف مطلق مجمل لكل هذه الروايات بدون الخوض في تفاصيل أسانيدها، وإن كان بعضها يبدو متماسكًا إلا إنه عند التحقيق لا يلبث أن تتهاوى دعائمه، والله أعلم.

• نرجع مرة أخرى إلى رواية داود بن أبي هند، فقد اختلف عليه:

1 -

فرواه عبد الأعلى بن عبد الأعلى [بصري، ثقة. التقريب (562)]، وعلي بن عاصم [واسطي، صدوق يخطئ ويصر. التقريب (699)]، وعدي بن عبد الرحمن الطائي [ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في الثقات من رواية ثلاثة عنه ثم قال: "روى الزبيدي عنه عن داود بن أبي هند نسخة مستقيمة"، لكن يعكر عليه قول ابن أبي حاتم: "فسألت أبي عن الزبيدي هذا من هو؟ فقال: هو سعيد بن عبد الجبار الزبيدي. قال أبو محمد: سعيد بن عبد الجبار هذا هو الذي قدم الري: ضعيف، وسعيد بن عبد الجبار أبو شيبة: قوي"، التاريخ الكبير (7/ 45)، الجرح والتعديل (7/ 3)، الثقات (7/ 291)، والراوي عنه هنا هو الزبيدي هذا سعيد بن عبد الجبار: ضعيف، كان جرير يكذبه. التقريب (382)].

فأدرج ثلاثتهم: عبد الأعلى وعلي وعدي، قول الشعبي المرسل: "وسألوه الزاد

" في الحديث.

أخرجه مسلم (450/ 150)، وأبو نعيم في مستخرجه (2/ 69/ 996)، وابن خزيمة (82)، وابن حبان (14/ 461/ 6527)، وأبو العباس السراج في مسنده (104)، والبيهقي (1/ 11 و 108 - 109)، والبغوي في تفسيره (4/ 174)، والخطيب في الفصل (2/ 621 و 622 و 626)، والذهبي في السير (14/ 391).

وتابعهم: حفص بن غياث [كوفي، ثقة فقيه تغير حفظه قليلًا في الآخر. التقريب (260)] فاختصر الحديث واقتصر على آخره المدرج، فرواه مسندًا مرفوعًا، عن داود، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن".

أخرجه الترمذي (18)، وأبو علي الطوسي في مستخرجه عليه "مختصر الأحكام"(17)، والنسائي في الكبرى (1/ 39/72)، وابن أبي شيبة في المصنف (1/ 143/ 1649)، وفي المسند (197)، والبزار (5/ 37/ 1598)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 124)، والشاشي (1/ 337/ 316)، وابن حزم في المحلى (1/ 14)، والخطيب في الفصل (2/ 632 - 634)، والبغوي في شرح السُّنَّة (1/ 363 - 364/ 178)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 125/ 109).

قال الدارقطني في التتبع (235): "ووهم فيه حفص".

وقال الترمذي: "وكأن رواية إسماعيل أصح من رواية حفص بن غياث".

ص: 134

2 -

ورواه عبد الوهاب بن عطاء الخفاف [بصري، صدوق ربما أخطأ. التقريب (633)]، فرواه عنه بعضهم بآخره مدرجًا مرفوعًا، ورواه عنه الصاغاني مطولًا، وفصل مرسل الشعبي، لكن قال في آخره:"قال داود: فلا أدري هو في الحديث أو شيء قاله الشعبي" فأسند التردد إلى ابن أبي هند، والذي يظهر لي أن الخفاف كان يختصره أحيانًا فيدرجه، وأحيانًا يرويه على الوجه مفصولًا، لكن يسند التردد إلى داود بن أبي هند، والله أعلم.

أخرجه أبو عوانة (1/ 186/ 584) و (2/ 450/ 3787)، والطحاوي (1/ 124)، والخطيب في الفصل (2/ 632).

3 -

ورواه يحيى بن زكريا أبي زائدة [كوفي، ثقة متقن. التقريب (1054)]، ويزيد بن زريع [بصري، ثقة ثبت. التقريب (1074)]، ووهيب بن خالد [بصري، ثقة ثبت. التقريب (1045)] واختلف عليهم:

أ- أما ابن أبي زائدة:

فرواه أبو هاشم زياد بن أيوب [بغدادي، ثقة حافظ. التقريب (343)]، وعمرو بن زرارة [نيسابوري، ثقة ثبت. التقريب (735)]: كلاهما عن ابن أبي زائدة به فأدرجاه.

أخرجه ابن خزيمة (82)، وابن حبان (4/ 281/ 1432).

ورواه عنه بدون مرسل الشعبي: أحمد بن منيع [بغدادي ثقة حافظ. التقريب (100)]، وأسد بن موسى [مصري، صدوق يغرب وفيه نصب. التقريب (134)].

أخرجه النسائي في الكبرى (6/ 499/ 11623)، والطحاوي (1/ 96).

ورواه عنه ففصل المدرج من المرفوع: إمام الحفظ والإتقان أحمد بن حنبل في المسند (1/ 436)، ومن طريقه: البيهقي في الدلائل (2/ 229)، والخطيب في الفصل (2/ 629).

وعليه تحمل رواية ابن أبي زائدة؛ أعني: على الفصل.

ب- وأما يزيد بن زريع:

فأدرجه عنه: أبو داود الطيالسي سليمان بن داود [بصري، ثقة حافظ غلط في أحاديث. التقريب (406)]، ونصر بن علي الجهضمي الحفيد [بصري، ثقة ثبت. التقريب (1000)].

أخرجه أبو داود الطيالسي (281)، والبزار (5/ 35/ 1594)، وأبو عوانة (2/ 451/ 3789).

ورواه عنه ففصل مرسل الشعبي من المرفوع: إسحاق بن أبي إسرائيل [مروزي نزيل بغداد، صدوق. التقريب (126)]. ويحيى بن غيلان [بغدادي، ثقة. التقريب (1063)].

أخرجه أبو عوانة (1/ 186/ 586) و (2/ 451/ 3788)، والخطيب في الفصل (2/ 631).

وعليه تحمل أيضًا رواية يزيد بن زريع -على الفصل-.

ص: 135

ج- وأما وهيب بن خالد:

فرواه عنه مدرجًا مقرونًا بيزيد بن زريع: أبو داود الطيالسي (281)، ومن طريقه: أبو عوانة (2/ 451/ 3789).

ورواه عنه بدون مرسل الشعبي: موسى بن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي [ثقة ثبت. التقريب (977)].

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 201)، والأوسط (1/ 342)، وأبو داود (85).

وبذا يعلم أن أبا داود الطيالسي أحال رواية وهيب على رواية يزيد بعد أن أدرج فيها المرسل.

4 -

ورواه عبد الله بن إدريس [كوفي، ثقة فقيه عابد. التقريب (491)] فلم يزد شيئًا على قوله: "وآثار نيرانهم"، فلم يذكر مرسل الشعبي.

أخرجه مسلم (450/ 151)، وأبو نعيم (2/ 997/69)، وابن أبي شيبة في المسند (211)، والخطيب في الفصل (2/ 631 - 632).

5 -

ورواه على الصواب ففصل قوله: "وسألوه الزاد

" إلى آخره عن المرفوع، فلم يدرجه في الحديث، وجعله من مرسل الشعبي.

إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابن علية [بصري، ثقة حافظ. التقريب (136)]، وبشر بن المفضل [بصري، ثقة ثبت عابد. التقريب (171)]، ومحمد بن أبي عدي [بصري، ثقة. التقريب (820)]، إلا أن ابن أبي عدي قال في روايته: "قال داود: ولا أدري في حديث علقمة أو في حديث عامر أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة الزاد

" فذكره.

أخرجه مسلم (450/ 150)، وأبو نعيم (2/ 69/ 996)، والترمذي (3258)، وابن حبان (14/ 225/ 6320)، وأحمد (1/ 436)، وأبو يعلى (9/ 153/ 5237)، وأبو العباس السراج في مسنده (105)، وابن عدي (7/ 291)، والدارقطني (1/ 77)، والبيهقي في السنن (1/ 109)، وفي الدلائل (2/ 229)، والخطيب في الفصل (2/ 628 - 630).

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" وكان قبلُ أعلَّ رواية من أدرجه.

وبذا يظهر أن غالب البصريين فصلوا مرسل الشعبي؛ فلم يدرجوه في حديث ابن مسعود المرفوع، وهو الصواب؛ إذ إن أهل بلد الرجل أعلم بحديثه من غيرهم، وداود بن أبي هند: بصري، وهو ثقة متقن.

قال الإمام أحمد: "أما إسماعيل بن إبراهيم ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة فقالا جميعًا: قال الشعبي، وليس هو في حديث علقمة: "سألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة

"، قال: فبلغني أن حفص بن غياث حدث به، فجعله في حديث علقمة عن عبد الله، فنرى أنه وهم، وهذا أثبت"[مسائل صالح (690)].

ص: 136

وقال الدارقطني في العلل (5/ 132): "والصحيح قول من فصله فإنه من كلام الشعبي مرسلًا"، وقال في التتبع (234):"وآخر الحديث إنما هو من قول الشعبي مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم".

وقال الترمذي: "وكأن رواية إسماعيل أصح من رواية حفص بن غياث".

وهو ما ذهب إليه مسلم -فيما يدل عليه مسلكه في الصحيح-، وما صرح به الخطيب في الفصل، والله أعلم. وانظر كلام ابن خزيمة في: إتحاف المهرة (10/ 351).

وقال النووي في شرح مسلم (4/ 170) معلقًا على كلام الدارقطني: "ومعنى قوله أنه من كلام الشعبي: أنه ليس مرويًا عن ابن مسعود بهذا الحديث، وإلا فالشعبي لا يقول هذا الكلام إلا بتوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم".

قلت: قد صح ذلك من حديث أبي هريرة ويأتي.

وعلى هذا فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم" و "فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن": لا يصح من حديث ابن مسعود مرفوعًا، وإنما هو من مرسل الشعبي، والله أعلم.

وبهذا نصل إلى الجواب عن المسألة الثانية: وهي في ثبوت موضع الشاهد من حديث ابن مسعود.

فالجواب ظاهر في عدم ثبوت ذلك من حديث ابن مسعود، أعني: النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث -في حديث الجن-، فضلًا عن ثبوت النهي عن الاستنجاء بالحممة.

• إلا أن هذا الأخير قد ورد النهي عنه في حديث عبد الله بن الحارث بن جَزْء:

يرويه ابن لهيعة، عن ابن المغيرة -يعني: عبيد الله-، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجي أحد بعظم أو روثة أو حممة.

أخرجه البزار (9/ 243/ 3783).

وإسناده ضعيف؛ لضعف ابن لهيعة.

وانظر: مجمع الزوائد (1/ 209).

• وعليه فلا يثبت في النهي عن الاستنجاء بالحممة -وهي: الفحمة- شيء، قال في مغني المحتاج (1/ 161):"والنهي عن الاستنجاء بالفحم ضعيف".

• وأما النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث، وتعليل ذلك بأنهما من طعام الجن فثابت:

من حديث أبي هريرة الذي أخرجه: البخاري (155 و 3860)، والطحاوي (1/ 124)، والبيهقي في السنن (1/ 107)، وفي الدلائل (2/ 233).

من طريق عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه

ص: 137

كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوةً لوَضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال:"من هذا؟ " فقال: أنا أبو هريرة، فقال:"ابغني أحجارًا أستنفض بها [وفي رواية: أستطيب بهن]، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي، حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت معه، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: "هما من طعام الجن، وإنه أتانى وفد جن نَصِيبين، ونعم الجن!، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعامًا".

هذا هو الصحيح الثابت في تعليل النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث، وهو لكونهما من طعام الجن، ويلتحق بهما جميع المطعومات التي للآدميين قياسًا من باب الأولى، وكذا المحترمات كأوراق كتب العلم [انظر: الفتح (1/ 308)، شرح العمدة لابن تيمية (1/ 160)، المغني (1/ 104)].

• وأما تعليل النهي بكونهما لا يطهران، فقد رُوي من حديث أبي هريرة:

يرويه يعقوب بن حميد بن كاسب: نا سلمة بن رجاء، عن الحسن بن فرات القزاز، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُستنجى بعظم أو روث، وقال:"إنهما لا يطهران".

أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 331)، والإسماعيلي في معجم شيوخه (2/ 669)، والدارقطني في السنن (1/ 56)، وفي العلل (8/ 240)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 125/ 110).

قال الدارقطني: "إسناد صحيح".

وقال ابن عدي: "لا أعلم رواه عن فرات القزاز غير ابنه الحسن، وعن الحسن: سلمة بن رجاء، وعن سلمة: ابن كاسب، ولسلمة بن رجاء غير ما ذكرت من الحديث، وأحاديثه أفراد وغرائب، ويحدث عن قوم بأحاديث لا يتابع عليها".

وقال ابن حجر في الدراية (1/ 97): "إسناده حسن".

وما قاله ابن عدي هو الصواب في إنكاره لهذا الحديث؛ لتفرد هؤلاء به بهذه الزيادة "إنهما لا يطهران"، والتبعة فيه: إما على سلمة بن رجاء، فقد قال فيه الدارقطني وابن عدي بأنه ينفرد عن الثقات بأحاديث لا يتابع عليها [التهذيب (3/ 431)، الميزان (2/ 189)].

وإما على ابن كاسب فقد ضعفه جماعة لكثرة مناكيره وغرائبه، وهو في الأصل صدوق من علماء الحديث [التهذيب (9/ 401)، الميزان (4/ 450)].

وابن كاسب: مدني نزل مكة، وقد تفرد بهذا الحديث عن أهل الكوفة ولم يتابع عليه، فالإسناد كله كوفيون سواه؛ فالحمل عليه فيه أولى، والله أعلم.

وقد رواه بدون الزيادة: نصر بن حماد البصري الوراق، عن شعبة، عن فرات، عن أبي حازم، عن أبي هريرة: نهى أن يُستنجى بعظم أو روث.

أخرجه الدارقطني في العلل (8/ 239).

ص: 138

ولو صح هذا عن شعبة لكان حجة دامغة في إسقاط رواية ابن كاسب؛ إلا أن نصر بن حماد هذا: متروك، كذبه ابن معين، واتهمه الأزدي بالوضع [التهذيب (8/ 490)، الميزان (4/ 250)]، وفي تفرد مثله عن شعبة نكارة ظاهرة.

• وعليه فالعلة في تحريم الاستنجاء بالعظم والروث هي كونهما طعام الجن لحديث أبي هريرة.

• وقد ورد في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الروثة وقال: "هذا ركس"، وهو حديث مداره على أبي إسحاق السبيعي وقد اختلف عليه فيه اختلافًا شديدًا.

وقد أخرجه البخاري (156)، والترمذي في الجامع (17)، وفي العلل (11)، وأبو علي الطوسي في مستخرجه عليه "مختصر الأحكام"(16)، والنسائي (1/ 39 - 40/ 42)، وابن ماجه (314)، وأبن خزيمة (70)، وأحمد (1/ 388 و 418 و 427 و 450 و 456 و 465)، والطيالسي (287)، وابن أبي شيبة في المصنف (1/ 43/ 1643) و (7/ 305/ 36311)، وفي المسند (424)، والبزار (5/ 50 و 74 و 75/ 1611 و 1645 و 1646)، وأبو يعلى (8/ 390/ 4978) و (9/ 63 و 114 و 229/ 5127 و 5184 و 5336)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 344 و 350 و 355/ 296 و 312 و 318)، والطحاوي (1/ 122)، والعقيلي (2/ 214)، والشاشي (2/ 330/ 921)، والطبراني في الكبير (10/ 61 - 63/ 9951 - 9960)، وفي الأوسط (5/ 7 - 8/ 5637)، والدارقطني في السنن (1/ 55)، وفي العلل (5/ 28 - 39)، والبيهقي في السنن (1/ 108) و (2/ 413)، وفي الخلافيات (2/ 89 - 100/ 373 - 378)، وابن الجوزي في التحقيق (108)، وذكره ابن أبي حاتم في العلل (1/ 41/ 90)، والدارقطني في التتبع (330 - 334).

ولفظ البخاري: أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغائطَ فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال:"هذا ركس".

وفي بعض الروايات عند ابن ماجه وابن خزيمة وأبي يعلى وغيرهم: "رجس"، وقال النسائي:"الركس: طعام الجن"، وفي رواية عند الدارقطني في العلل:"وكان أبو إسحاق إذا سئل عن الركس؟ قال: طعام الجن"، وفي أخرى "إنها ركس، يعني: رجيعًا"، وفي رواية لأحمد والدارقطني:"المني بحجر"، وفي أخرى:"فأتني بغيرها"، وفيهما ضعف.

• ولا بأس بذكر بعض الاختلاف الوارد في هذا الحديث على سبيل الإجمال لا التفصيل للفائدة:

1 -

فقد رواه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجةٍ، فقال:"التمس لي ثلاثة أحجار"، فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وطرح الروثة، وقال:"إنها ركس".

2 -

ورواه زهير بن معاوية: حدثنا أبو إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن

ص: 139

عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الخلاء، وقال:"ائتني بثلاثة أحجار"، فالتمست، فوجدت حجرين، ولم أجد الثالث، فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال:"إنها ركس".

3 -

ورواه معمر بن راشد، عن أبي إسحاق، عن علقمة بن قيس، عن ابن مسعود؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته، فأمر ابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار، فجاءه بحجرين وبروثة، فألقى الروثة، وقال:"إنها ركس؛ ائتني بحجر".

4 -

ورواه زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

5 -

ورواه يزيد بن عطاء الواسطي [ليس بالقوي]، عن أبي إسحاق، عن علقمة والأسود، قالا: قال ابن مسعود،

فذكر نحوه.

قلت: هكذا اختلف على أبي إسحاق السبيعي في هذا الحديث اختلافًا شديدًا، وهذا بعضه، واختلف فيه على إسرائيل، وشريك، وابن أبي زائدة، وغيرهم، ولا يصح من حديث الثوري ولا من حديث شعبة عن أبي إسحاق، والكلام عليه يطول جدًّا، انظر مثلًا: صحيح البخاري (156)، جامع الترمذي (17)، علل الترمذي (11)، علل ابن أبي حاتم (90)، معجم الطبراني الكبير (10/ 61 - 63/ 9951 - 9960)، الإلزامات والتتبع (94)، علل الدارقطني (5/ 18 - 39/ 686)، النفح الشذي (1/ 197 - 215)، الإمام (2/ 566 - 571)، هدي الساري (348)، الفتح لابن حجر (1/ 257).

وقد قال باضطراب هذا الحديث أو مال إلى القول به: الدارمي، والترمذي، والدارقطني، ورجح أبو زرعة والترمذي رواية إسرائيل، وهو الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، لكن مع إمعان النظر، يظهر قوة الوجه الذي لأجله رجح البخاري رواية زهير، فأخرجها في صحيحه، فمنها مثلًا:

1 -

زهير أثبت وأحفظ وأضبط لحديثه من إسرائيل، ولا مقارنة، مع كون إسرائيل مقدم عليه في أبي إسحاق خاصة.

2 -

أبو إسحاق بيَّن في رواية زهير أنه كان يقول: أبو عبيدة، لكن الآن رجع عن ذلك، فالحديث ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن ابن مسعود، فقد استحضر رواية أبي عبيدة ونفى صحتها، لا سيما مع كون زهير متأخر السماع من أبي إسحاق، وهذا القول من أبي إسحاق يدل على تيقظه وضبطه حال روايته لهذا الحديث، وأنه لم يكن متغيرًا ذاهلًا.

3 -

توبع زهير على هذا الوجه عن أبي إسحاق من قِبَل: يوسف بن أبي إسحاق، وشريك، وابن أبي زائدة، وغيرهم، وإن كان اختلف على الأخيرين.

4 -

تابع أبا إسحاق على هذا الوجه من رواية زهير: ليث بن أبي سليم، وهو صالح في المتابعات.

ص: 140

5 -

ما ادعاه بعضهم من تدليس أبي إسحاق لهذا الحديث فليس بشيء، فقد صرح يوسف بن أبي إسحاق فيه بالسماع، وقد علقه البخاري، وقال الإسماعيلي في مستخرجه على البخاري: بأن يحيى بن سعيد لا يرضى أن يأخذ عن زهير عن أبي إسحاق ما ليس بسماع لأبي إسحاق.

ونختم ببيان أن زيادة: ائتني بحجر، ائتني بغيرها: زيادة غير محفوظة، فإنها لا تحفظ إلا من حديث أبي إسحاق عن علقمة عن ابن مسعود، وأبو إسحاق لم يسمع من علقمة، فضلًا عن كون هذا الطريق غير محفوظ، وإنما اختلف النقاد في ترجيح رواية إسرائيل على رواية زهير، أو العكس، واتفقوا على اطراح بقية الطرق عن أبي إسحاق، والله أعلم.

• أما على تأويل الركس بأنه طعام الجن فموافق لما تقدم من حديث أبي هريرة ومرسل الشعبي، وأما على تأويله بأنه نجس فمحمول على روث غير مأكول اللحم، ففي رواية ابن خزيمة بإسناد حسن:"وروثة حمار"[وانظر: الإمام (2/ 567)، فتح الباري (1/ 310)، عون المعبود (1/ 220)، هدي الساري (125)، وغيرها].

• بقيت مسألة أخيرة: هل ما قال به بعض أهل الظاهر، وهو رواية أبي بكر عبد العزيز عن أحمد: بأن الاستجمار بالحجر متعين لنصه صلى الله عليه وسلم عليه فلا يجزئ غيره، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، والأمر للوجوب، ولأنه موضع رخصة ورد الشرع فيها بآلة مخصوصة فوجب الاقتصار عليها؛ كالتراب في التيمم؟ [المغني (1/ 103)، النيل (1/ 94)].

والصحيح: هو ما ذهب إليه الجمهور: أن الحجر ليس متعينًا بل تقوم الخرقة والخشب وغير ذلك مقامه وكل جامد طاهر مزيل للعين ليس له حرمة ولا هو جزء من حيوان.

ويدل عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الاستنجاء بالعظم والروث، ثم علل ذلك النهي بكونهما طعام الجن، وبأن الروث نجس، فلما حصر المنهي عنه مع بيان علة النهي دل على أن غيره مما يقوم مقام الحجر مجزئ، وإلا لو كان الحجر متعينًا لنهى عما سواه مطلقًا، ولما علل رده للروثة بأنها ركس، ولقال بأنها ليست بحجر، ولما كان للتخصيص معنى.

"وإنما نص على الأحجار لكونها غالب الموجود للمستنجي بالفضاء، مع أنه لا مشقة فيها، ولا كلفة في تحصيلها، وهذا نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ونظائر ذلك، فكل هذا مما ليس له مفهوم يعمل به لخروجه على الغالب"[قاله النووي في المجموع (2/ 132 - 134)].

"ولأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى،

ص: 141

والقصد ههنا إزالة عين النجاسة، وهذا يحصل بغير الأحجار كحصوله بها، وبهذا يخرج التيمم فإنه غير معقول" [قاله ابن قدامة في المغني (1/ 104)].

وقال البغوي في شرح السُّنَّة (1/ 363): "ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالروث والرمة دليل على أن الاستنجاء لا يختص بالحجر، بل يجوز بكل ما يقوم مقام الحجر في الإنقاء، وهو كل ما كان جامدًا طاهرًا قالعًا غير محترم، مثل المدر والخشب والخزف والخرق ونحوها، ولا يجوز بما يكون نجسًا قياسًا على الروث، ولا يجوز بما لا يقلع كالأملس من الأشياء؛ لأنه ينشر النجاسة ولا يقلعها، ولا يجوز بالعظم؛ لأن النجس منه كالروث، والطاهر منه في معنى الطعام".

وقال شيخ الإسلام [المجموع (21/ 205)]: "لما أمر بالاستجمار بالأحجار لم يختص الحجر إلا لأنه كان الموجود غالبًا، لا لأن الاستجمار بغيره لا يجوز، بل الصواب قول الجمهور في جواز الاستجمار بغيره، كما هو أظهر الروايتين عن أحمد، لنهيه عن الاستجمار بالروث والرمة وقال: "إنهما طعام إخوانكم من الجن"، فلما نهى عن هذين تعليلًا بهذه العلة؛ علم أن الحكم ليس مختصًا بالحجر، وإلا لم يحتج إلى ذلك".

وقال أيضًا: "وليس نهيه عن الاستجمار بالروث والرمة إذنًا في الاستجمار بكل شيء، بل الاستجمار بطعام الآدميين وعلف دوابهم أولى بالنهي عنه من طعام الجن وعلف دوابهم، ولكن لما كان من عادة الناس أنهم لا يتوقون الاستجمار بما نهى عنه من ذلك، بخلاف طعام الإنس وعلف دوابهم فإنه لا يوجد من يفعله في العادة الغالبة" وانظر: (21/ 577) و (19/ 37).

وقال رحمه الله تعالى (21/ 211): "وأما إذا استجمر بالعظم واليمين فإنه يجزئه؛ فإنه قد حصل المقصود بذلك -وإن كان عاصيًا- والإعادة لا فائدة فيها، ولكن قد يؤمر بتنظيف العظم مما لوثه به".

قلت: وهذا مبني على ضعف حديث "إنهما لا يطهران".

وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 207): "ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار"، فلو ذهب معه بخرقة وتنظَّف أكثر من الأحجار، أو قطن، أو صوف، أو خَزٌّ، ونحو ذلك: جاز، وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز وأولى".

[راجع: الفتح (1/ 308)، المغني (1/ 103)، كشاف القناع (1/ 68)، المبدع (1/ 91)، الإنصاف (1/ 109)، إعلام الموقعين (3/ 14)، بلغة السالك لأقرب المسالك (1/ 71)، مغني المحتاج (1/ 161)، المجموع شرح المهذب (1/ 132)، الأشباه والنظائر للسيوطي (531)، التمهيد (11/ 18)، الهداية (1/ 34)، نيل الأوطار (1/ 94)، وغيرها].

***

ص: 142