المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

معنى الرحمة:

جاء في النهاية: في أسماء الله ـ تعالى ـ "الرحمن الرحيم" وهما اسمان مشتقان من الرحمة مثل ندمان ونديم، وهما من أبنية المبالغة، و"رحمن" أبلغ من "رحيم" و"الرحمن" خاص لله ـ تعالى ـ لا يسمى به غيره ولا يوصف. "والرحيم" يوصف به غير الله فيقال: رجل رحيم، ولا يقال:"رحمن" أ. هـ1.

وقال صاحب القاموس2: "الرحمة": الرقة والمغفرة والتعطف

أ. هـ3.

قال العلامة ابن القيم: "وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده فالتأليه عنهم له، والربوبية منه لهم، والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم، وأنعم عليهم فبينهم وبينه سبب العبودية وبينه وبينهم سبب الرحمة، واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه فا {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4. مطابق لقوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى

1- 3/390.

2-

هو: محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر أبو طاهر مجد الدين الفيروزأبادي كان من أئمة اللغة والأدب، ولد سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وتوفي سنة سبع عشرة وثمانمائة هجرية. انظر ترجمته في "البدر الطالع" 2/280، كشف الظنون 2/1657.

3-

القاموس "طه" 2/106.

4-

سورة طه، آية:5.

ص: 117

شمول الرحمة وسعتها فوسع كل شيء برحمته وربوبيته مع أن في كونه رباً للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء"1 أ. هـ.

معنى المغفرة: قال الزجاج رحمه الله تعالى: "الغفور" هو فعول من قولهم غفرت الشيء إذا سترته وفعول موضوع للمبالغة وكذلك فعال2.

وجاء في النهاية: "الغفار الساتر لذنوب عباده، وعيوبهم المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم، وأصل الغفر التغطية يقال: غفر الله لك غفراً، وغفراناً ومغفرة والمغفرة إلباس الله ـ تعالى ـ العفو للمؤمنين"3.

وجاء في القاموس: "غفره ستره وغفر الله ذنبه يغفره غفراً........ غطى عليه وعفا عنه"4.

وقال العلامة ابن رجب5 رحمه الله تعالى: "المغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها" أ. هـ6.

والذي نستفيده من هذه الأقوال التي ذكرت حول بيان معنى اسمه ـ تعالى ـ "الرحيم" واسمه ـ تعالى ـ "الغفور".

إن اسمه ـ تعالى ـ "الرحيم" يدل على كثرة من تناله الرحمة من خالقه فهي صفة فعل باعتبار تجددها على حسب أحوال المرحومين، وهي صفة ذات باعتبار أصلها لأن الله ـ تعالى ـ لم يزل ولا يزال متصفاً بهذه الصفة.

1- مدارج السالكين: 1/35.

2-

تفسير أسماء الله الحسنى ص96.

3-

3/372.

4-

2/106.

5-

هو: الإمام الحافظ: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي أبو الفرج زين الدين ولد في بغداد سنة ست وثلاثين وسبعمائة وتوفي سنة خمس وتسعين وسبعمائة هجرية في دمشق. أنظر ترجمته في "شذرات الذهب" 6/339، الدرر الكامنة 2/321، طبقات الحافظ للسيوطي ص540 رقم الترجمة "1170".

6-

جامع العلوم والحكم ص344.

ص: 118

ويدل اسمه "الرحيم" على أنه ـ تعالى ـ يرحم خلقه برحمته ويتجاوز عن سيئاتهم مهما بلغت صغرت أم كبرت إذا أتوا بأسباب التوبة وصدقت رغبتهم في طلبها.

وأما اسمه ـ تعالى ـ " الغفور" فمعناه هو الكثير المغفرة وأن المغفرة ستر الذنوب والتجاوز عنها، والعفو عن مغترفيها وصونهم من أن يمسهم العذاب بسببها وإلباسهم العفو عن خطيئاتهم، فالله سبحانه وتعالى "غفور" أي كثير الستر لذنوب عباده المؤمنين عظيم التجاوز عنهم.

وقد دلت سورة ـ "الزُمَرْ" على إثبات صفتي الرحمة والمغفرة ـ للرب جل جلاله في آيتين منها:

قال تعالى: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} .

وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .

فهاتان الآيتان من السورة تضمنتا إثبات صفتي الرحمة والمغفرة ـ للبارئ جل وعلا ـ وقد أمر الله نبيه في الآية الثانية من هاتين الآيتين أن يبلغ عباده المؤمنين أن لا ييأسوا من مغفرته فإنه ـ سبحانه ـ يغفر الذنوب جميعاً مهما أسرفوا على أنفسهم وأفرطوا ما عدا الإشراك بالله ـ سبحانه ـ فإنه لا يغفره إلا بالتوبة منه بالدخول في دين الله الحق فهو ـ سبحانه ـ ذو مغفرة عظيمة ورحمة واسعة للمقبلين عليه المنيبين إليه، والمنقادين له انقياداً تاماً ظاهراً وباطناً عن طواعية ورضى.

قال ابن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ

} الآية. اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية.

فقال بعضهم: عنى بها قوم من أهل الشرك قالوا: لما دعوا إلى الإيمان بالله كيف نؤمن، وقد أشركنا وقتلنا النفس التي حرم الله والله ـ يعد ـ فاعل ذلك النار فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان فنزلت هذه الآية والذين قالوا: بهذا القول هم عبد الله بن عباس

ص: 119

رضي الله عنهما، ومجاهد1 وعطاء2 وزيد بن أسلم وقتادة والسدي وابن زيد3 والشعبي4 رحمهم الله تعالى.

وقال آخرون بل عنى بذلك أهل الإسلام وقالوا: تأويل الكلام إن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء قالوا: وهي كذلك في مصحف عبد الله وقالوا: إنما نزلت هذه الآية في قوم صدهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة وقال: بهذا القول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعلي بن أبي طالب ومحمد بن كعب القرطبي وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون: نزلت في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء، وهذا قول آخر لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وقال ابن جرير: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى ـ تعالى ـ ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك لأن الله عم بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} جميع المسرفين فلم يخصص به مسرفاً دون مسرف.

فإن قال قائل: فيغفر الله الشرك؟ قيل: نعم إذا تاب منه المشرك وإنما عنى بقوله: {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} لمن يشاء..... وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه فقال: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5.

فأخبر أنه لا يغفر الشرك إلا بعد التوبة بقوله: {إِلَاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} 6.

1- هو: مجاهد بن جبر أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير وفي العلم مات سنة أربع ومائة هجرية. التقريب 2/229.

2-

عطاء هو: ابن أبي رباح أسلم القرشي، مولاهم، المكي ثقة فقيه فاضل لكنه كثير الإرسال توفي سنة خمس عشرة ومائة هجرية انظر التهذيب 7/199 وما بعدها

3-

هو: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، مولاهم المدني روى عن أبيه. تقريب التهذيب 1/480، طبقات المفسرين للداودي 1/271.

4-

هو: عامر بن شراحيل الشعبي أبو عمرو ثقة مشهور فقيه فاضل توفي بعد المائة. انظر التقريب 1/386.

5-

سورة النساء، آية:48.

6-

سورة الفرقان، آية:70.

ص: 120

فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه إن شاء تفضل عليه فعفا له عنه وإن شاء عدل عليه فجازاه به.

وأما قوله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} فإنه يعني: لا تيأسوا من رحمة الله وقوله: {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} يقول: إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها. أ. هـ1.

وأما العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى فقد قال حول الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} "هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة".

وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر ولا يصح حمل هذه على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه2.

وقد استدل ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ على أنه لا يصح حمل هذه الآية على غير توبة بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: إن الذي تقول، وتدعوا إليه لحسن لو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} 3 ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} 4.

قال ابن كثير: والمراد من الآية الأولى ـ أي آية الفرقان ـ قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَاباً} 5.

1- جامع البيان 24/14 ـ 17.

2-

تفسير القرآن العظيم 6/100. وانظر مجموع الفتاوى 16/18 ـ 32.

3-

سورة الفرقان، آية:68.

4-

صحيح البخاري 3/182، ورواه مسلم أيضاً: 4/2318.

5-

تفسير القرآن العظيم 6/100 والآية رقم 71 من سورة الفرقان.

ص: 121

فابن جرير وابن كثير ـ رحمهما الله تعالى ـ اعتبرا الآية عامة في جميع المسرفين في الذنوب من بني آدم، وأنه ـ تعالى ـ يغفر جميع ذلك مع التوبة النصوح ولا يجوز لعبد أن يقنط نفسه، أو غيره من رحمة الله ـ تعالى ـ ومغفرته اللتين هما من صفات الكمال ولذلك اتصف بهما رب العالمين سبحانه وتعالى.

وصفتا الرحمة والمغفرة وردا في كتاب الله تعالى في مواضع كثيرة:

قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1.

وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2.

قال العلامة ابن القيم: "وصفات الإحسان والجود والبر والمنة والرأفة واللطف أخص باسم "الرحمن" وكرر إيذاناً بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته "فالرحمن" الذي الرحمة وصفه، والرحيم الراحم لعباده ولهذا يقول تعالى {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 3 {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 4.

ولم يجيء رحمن بعباده، ولا رحمن بالمؤمنين مع ما في اسم "الرحمن" الذي هو على وزن "فعلان" من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به.

ألا ترى أنهم يقولون: غضبان للممتلئ غضباً وندمان وحيران، وسكران، ولهفان لمن ملئ بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الإسم كثيراً {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 5.

فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} 6. فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء.

1- سورة البقرة، آية:163.

2-

سورة طه، آية:5.

3-

سورة الأحزاب، آية:43.

4-

سورة التوبة، آية:117.

5-

سورة الفرقان، آية:59.

6-

سورة الأعراف، آية:156.

ص: 122

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو موضوع على العرش إن رحمتي تغلب غضبي" وفي لفظ فهو عنده على العرش"1.

فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة ووصفه عنده على العرش وطابق بين ذلك وبين قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 3 ينفتح لك باب عظيم من معرفة ـ الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم. أ. هـ4.

فرحمته ـ تعالى ـ عمت كل شيء في العالم العلوي والسفلي البر والفاجر المؤمن والكافر فلا يخلو مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمته وغمره فضله وإحسانه، ولكن هناك رحمة خاصة ليست لكل أحد، وهي المقصودة بقوله:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} 5.

وقال تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ للهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 6.

هذه الآية أمر الله ـ تعالى ـ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين مقرراً وملزماً بالتوحيد لمن ما في السموات فإن أجابوك وإلا فقل إن الله هو الذي خلق هذا الكون، وهو مالكه ومتصرف فيه كيف يشاء ثم أخبر بأنه كتب على نفسه الرحمة ترغيباً للمتولين عن الإقبال عليه، وإخباراً منه بأنه رحيم بالعباد، قادر على أن يعاجلهم بالعقوبة ولكنه كتب على نفسه الرحمة ووعد بها فضلاً منه، وإحساناً ولم يوجبها عليه أحد، والكتابة تكون شرعية، وتكون كونية فالكتابة الشرعية الأمرية مثل قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 7.

1- صحيح البخاري 2/208، صحيح مسلم 4/2107.

2-

سورة طه، آية:5.

3-

سورة الفرقان، آية:59.

4-

مدارج السالكين 1/33 ـ 34.

5-

سورة الأعراف، آية:156.

6-

سورة الأنعام، آية:12.

7-

سورة البقرة، آية:183.

ص: 123

والكونية والقدرية كقوله تعالى: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} 1.

فالمراد بالكتابة في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} كونية قدرية، فقد كتب على نفسه الرحمة تفضلاً منه، وإحساناً من غير أن يوجبها عليه أحد.

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} 2.

هذه الآية تضمنت إثبات الرحمة والمغفرة للذين يبادرون بالتوبة ويمشون على الصراط المستقيم ـ فسبحان ـ ربنا وسعت رحمته وعلمه كل شيء فما من مسلم ولا كافر إلا وهو يتقلب في نعم الله التي لا تحصى ولا تعد.

وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 3.

فسورة الفاتحة التي هي أول سور القرآن دلت على إثبات صفة الرحمة ـ للباري جل وعلا ـ وهي السورة التي اشتملت على أمهات المطالب العالية.

قال العلامة ابن القيم حول تفسيره لهذه السورة العظيمة: "وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة:

أحدها: كونه رب العالمين فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملاً لا يعرّفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وما يضرهم فيها فهذا هضم للربوبية، ونسبة الرب ـ تعالى ـ إلى ما لا يليق به وما قدره حق قدره من نسبه إليه.

الثاني: أخذها من اسم "الله" وهو المألوه المعبود ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله.

الثالث: من اسمه "الرحمن" فإن رحمته تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم، فمن أعطى اسم "الرحمن" حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب أعظم من تضمنه إنزال الغيث، وإنبات الكلأ وإخراج الحب فاقتضاء الرحمة لما

1- سورة المجادلة آية: 21.

2-

سورة غافر آية: 7.

3-

سورة الفاتحة آية: 1 ـ 2.

ص: 124

تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم وأدرك منه أولو الألباب أمراً وراء ذلك"1.

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله ـ تعالى ـ موصوف بالرحمة والمغفرة.

فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار"؟ قلنا: لا. والله وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها"2.

ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في شأن ثبوت صفة المغفرة لله ـ جل وعلا ـ الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة رضي الله ـ تعالى ـ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: "أذنب عبدي ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي ربي أغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب إعمل ما شئت فقد غفرت لك"3.

فهذان الحديثان دلا على أنه ـ تعالى ـ موصوف حقيقة بصفتي الرحمة والمغفرة كما يليق بذاته ـ جل وعلا ـ كما يقال في سائر الصفات: فالله ـ تعالى ـ هو الذي يتطلب منه المغفرة للذنوب، والرحمة للخلق فما دام العباد منيبين إليه قارعين بابه فإنه يتوب عليهم ويرحمهم برحمته التي وسعت كل شيء، والذي يتضح من الآيات والأحاديث المتقدمة التي سقناها أدلة على أن الله ـ تعالى ـ موصوف بصفتي الرحمة والمغفرة أن الرحمة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: رحمة عامة يشترك فيها المسلم والكافر، والبر والفاجر والبهائم وسائر الخلق دل على هذا القسم قوله تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 4.

1- مدارج السالكين 1/8، والتفسير القيم ص7 ـ 9.

2-

صحيح مسلم 4/2109.

3-

المصدر السابق 4/2112.

4-

سورة الأعراف، آية:156.

ص: 125

وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} 1.

القسم الثاني: قسم خاص بالأنبياء والرسل وعباده المؤمنين دل على هذا القسم قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 2.

وقوله تعالى: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3.

والرحمة المضافة إلى الله ـ تعالى ـ نوعان:

النوع الأول: من إضافة المفعول إلى فاعله ومثال هذا النوع الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احتجت الجنة والنار..... الحديث وفيه: "فقال للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي" 4 فهذه رحمة مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى خالقه، وسماها رحمة لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة وخص بها أهل الرحمة، وإنما يدخلها الرحماء.

النوع الثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى موصوف وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 5 ورغم كثرة النصوص في إثبات صفتي الرحمة والمغفرة وثبوتها لله عز وجل حقيقة على ما يليق بجلاله وعظيم سلطانه فإنه قد وجد من أنكرها ووجد من أولها تأويلاً باطلاً بغير المراد منها، فالجهمية مذهبهم كما هو معلوم إنكار صفات الله ـ تعالى ـ وأسمائه كلية لا يثبتون له صفة ولا اسماً6. ووافقهم المعتزلة في نفي صفاته ـ تعالى ـ وأثبتوا له أسماءاً بدون صفات7. وهاتان الطائفتان متفقتان على نفي صفة الرحمة والمغفرة، فقد زعموا أن الرحمة ضعف وخور في الطبيعة وتألم على المرحوم وبناءاً على هذه الشبهة الباطلة نفوها كلية ويزعمون أن هذا من التنزيه وهو في

1- سورة غافر، آية:7.

2-

سورة الأحزاب، آية:43.

3-

سورة التوبة، آية:117.

4-

صحيح البخاري 3/182.

5-

بدائع الفوائد 2/183 والآية رقم: 56 من سورة الأعراف، وانظر هادي الأرواح ص258.

6-

مجموع الفتاوى 12/507، 205.

7-

المصدر السابق 3/20.

ص: 126

الحقيقة تعطيل وجحد لصفات الله تعالى، ومن مبالغة الجهمية في إنكارهم صفة الرحمة أن قدوتهم الأول في الضلالة "الجهم بن صفوان" كان يقف على الجذامى ويشاهد ما هم فيه من البلايا ويقول:"أرحم الراحمين يفعل مثل هذا يعني أنه ليس ثم رحمة في الحقيقة، وأن الأمر راجع إلى محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة، ولا حكمة عنده ولا رحمة، فإن الرحمة لا تعقل إلا من فعل من يفعل الشيء لرحمة غيره ونفعه، والإحسان إليه، فإذا لم يفعل لغرض ولا غاية ولا حكمة لم يفعل الرحمة والإحسان"1.

فإمام الجهمية في الضلال ينكر رحمة الله وحكمته وعلى ذلك جرى أتباعه أما شبهة الجهمية وأفراخهم المعتزلة التي أدت بهم إلى إنكار صفة الرحمة وهي قولهم: أن الرحمة ضعف وخور في الطبيعة، وتألم على المرحوم فهذا زعم باطل من وجوه:

الوجه الأول: أن الضعف والخور مذموم في الآدميين والرحمة ممدوحة قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} 2، وقد نهى الله عن الوهن والحزن فقال:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3، وندبهم إلى الرحمة فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تنزع الرحمة إلا من شقي" 4 وقال: "من لا يَرْحَم لا يُرْحَم" 5 وقال: "الرَّاحمون يرحمهم الرحمن" 6 ومحال أن يقول: لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي، ولما كانت الرحمة تقارن في حق كثير من الناس الضعف والخور كما في رحمة النساء ونحو ذلك ظن الغالط أنها كذلك مطلقاً.

الوجه الثاني: أنه لو قدر أنها في حق المخلوقين مستلزمة لذلك لم يجب أن تكون في حق الله ـ تعالى ـ مستلزمة لذلك، كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا يستلزم من النقص والحاجة ما يجب تنزيه الله عنه.

الوجه الثالث: إنا نعلم بالاضطرار أنا إذا فرضنا موجوديْن أحدهما يرحم غيره

1- مجموع الفتاوى 17/177، إغاثة اللهفان 2/277، شفاء العليل ص202.

2-

سورة البلد، آية:17.

3-

سورة آل عمران، آية:139.

4-

رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 2/301.

5-

متفق عليه: صحيح البخاري 4/51، صحيح مسلم 4/1809 كلاهما من حديث أبي هريرة.

6-

رواه أبو داود في سننه 2/582، والترمذي 3/217 كلاهما من حديث عبد الله بن عمرو.

ص: 127

فيجلب له المنفعة، ويدفع عنه المضرة، والآخر قد استوى عنده هذا وهذا وليس عنده ما يقتضي جلب منفعة ولا دفع مضرة كان الأول أكمل1.

وأما مذهب الأشعرية: في صفتي الرحمة، والمغفرة فإنهم يؤولونهما بغير المراد منهما، فقد تأولوا صفة الرحمة بمعنى الإحسان أو إرادة الإحسان قال البيجوري2 و"الرحمن الرحيم" صفتان مأخوذتان من الرحمة بمعنى الإحسان أو إرادة الإحسان لاستحالة ذلك في حقه ـ تعالى ـ فالرحمن الرحيم "في حقه بمعنى المحسن، أو مريد الإحسان لكن الأول بمعنى المحسن بجلائل النعم أي: بالنعم الجليلة والثاني بمعنى المحسن بدقائق النعم أي: بالنعم الدقيقة" أ. هـ3.

وذكر صاحب الجوهرة مذهب الأشاعرة في الصفات فقال:

وكل نص أوهم التشبيه

أوله أو فوض ورم تنزيها4

وقال الرازي بعد أن ذكر بعض الصفات الفعلية: "إن هذه المتشابهات يجب القطع بأن مراد الله منها شيء غير ظواهرها كما يجب تفويض معناها إلى الله ـ تعالى ـ، ولا يجوز الخوض في تفسيرها"5.

فمذهب الأشعرية عموماً إثبات بعض الصفات وتأويل الكثير منها بغير المراد منها فتأويلهم صفة الرحمة بمعنى الإحسان، أو إرادة الإحسان مغالطة ظاهرة إذ الحق إثبات صفة الرحمة كما يليق بجلاله ـ تعالى ـ كالقول في سائر الصفات، والرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته استلزام الخاص للعام فكما أنه يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته.

وبعض الأشاعرة تأول صفة الرحمة بمعنى الثواب، ويرد على هذا التأويل البعيد

1- مجموعة الرسائل والمسائل: 4/226 ـ 227. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان.

2-

هو: إبراهيم بن محمد بن أحمد الشافعي الباجوري المتوفى سنة 1277 هـ.

3-

تحفة المريد على جوهرة التوحيد ص3.

4-

المصدر السابق ص91.

5-

أساس التقديس ص223.

ص: 128

عن الحق والصواب ـ بأن البارئ سبحانه ـ قد فرق بين رحمته ورضوانه وثوابه المنفصل فقال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} 1.

فالرحمة والرضوان صفته، والجنة ثوابه وهذا يبطل قول من جعل الرحمة والرضوان ثواباً منفصلاً مخلوقاً، وقول من قال: هي إرادته الإحسان فإن إرادته الإحسان من لوازم رحمته فإنه يلزم من الرحمة أن يريد الإحسان وكذلك لفظ اللعنة والغضب، والمقت هي أمور مستلزمة للعقوبة فإذا انتفت حقائق تلك الصفات انتفى لازمها فإن ثبوت لازم الحقيقة مع انتفائها ممتنع، فالحقيقة لا توجد منفكة عن لوازمها2.

والذي نخلص إليه مما تقدم أن صفتي الرحمة، والمغفرة ثابتتان ـ للباري سبحانه ـ على ما يليق به، والذين نفوهما أو أولوهما بغير المراد منهما ليس معهم ما يؤيدهم على دعواهم أي دليل لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من العقل، أو الفطرة، أو اللغة وإنما الذي حملهم على مزاعمهم الباطلة، إنما هو قياسهم الخالق على المخلوق واتباع الهوى الذي جرهم إلى النفي والتعطيل وتحريف الكلم عن مواضعه نعوذ بالله من شر ذلك.

1- سورة التوبة، آية:21.

2-

انظر مختصر الصواعق المرسلة 2/121.

ص: 129