المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أندادا لله تعالى - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أندادا لله تعالى

‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

لقد جاء في السورة الذم والعتاب للإنسان الذي يجعل لله تعالى الأنداد، وأوضحت أن من فعل ذلك فإن مصيره إلى النار.

قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} .

هذه الآية من السورة تضمنت ذماً وعتاباً من الله تعالى لمن جعل لله الأنداد والأشباه من المخلوقين فيحبها كما يحب الله ويرجوها كما يرجو الله وهذا من فعل الضالين المشركين بالله عز وجل.

فقد أوضح الله في هذه الآية أن الإنسان إذا نزل به الضر واشتد به الكرب يضرع إلى الله ويخلص له الدعاء والإنابة لا يشرك به غيره، فإذا ما أزيح عنه ذلك وخوله الله بشتى النعم ينسى ربه الذي كان يدعوه عند الشدة والكرب وعند الفقر والمرض، فيشرع في اتخاذ الشركاء من الأصنام التي هي عبارة عن أحجار وأخشاب فيتوجه إليها بالعبادة والدعاء والاستغاثة ويصرف لها الكثير من أنواع العبادات التي لا يستحقها إلا الله تعالى، أو يجعل لله أنداداً من طواغيت البشر فيطيعهم في معصية الله ـ تعالى ـ كما قال السدي رحمه الله تعالى: الأنداد من الرجال يطيعونهم في معاصي الله وقال غيره: "عنى بذلك أنه عبد الأوثان فجعلها لله أنداداً في عبادتهم إياها" وقال ابن جرير: "وأولى القولين بالصواب قول من قال عني به أنه أطاع الشيطان في عبادة الأوثان فجعل له الأوثان أنداداً لأن ذلك في سياق عتاب الله إياهم على عبادتها"اهـ1.

1- جامع البيان "23/200".

ص: 397

قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حول قوله تعالى في الآية: {وَجَعَلَ للهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي من مات وهو يدعو لله نداً، أي: يجعل لله نداً فيما يختص به ـ تعالى ـ ويستحقه من الربوبية والإلهية دخل النار، لأنه مشرك، فإن الله تعالى هو المستحق للعبادة لذاته لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب إليه وتفزع إليه عند الشدائد وما سواه فهو مفتقر إليه مقهور بالعبودية له تجري عليه أقداره وأحكامه طوعاً وكرهاً فكيف يصلح أن يكون نداً1.

وقد نهى الله تعالى عباده عن أن يجعلوا له الأنداد وذمهم على ذلك قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2.

قال البغوي3: {فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً} أي أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله وقال أبو عبيدة4: الند: الضد وهو من الأضداد والله تعالى بريء من المثل والضد {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه واحد خالق هذه الأشياء اهـ5.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الأنداد: الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله" وقال ابن زيد: "الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له" وقال ابن عباس: "الأنداد: الأشباه"6.

وقال تعالى في ذم بعض الناس الذين اتخذوا من دونه أنداداً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} 7.

1- تيسير العزيز الحميد ص95.

2-

سورة البقرة آية: 22.

3-

هو الإمام محي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي فقيه، محدث مفسر نسبته إلى "بغا" من قرى خراسان بين هراة ومرو ولد سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وتوفي سنة عشر وخمسمائة هجرية انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 1/145 تهذيب ابن عساكر 4/348".

4-

هو: معمر بن المثنى التيمي بالولاء البصري أبو عبيدة النحوي من أئمة العلم بالأدب واللغة ولد سنة عشر ومائة وتوفي سنة تسع ومائتين هجرية انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب 10/246، الميزان 3/189 وفيات الأعيان 2/105 تاريخ بغداد 13/252".

5-

تفسير البغوي المسمى "معالم التنزيل" على حاشية الخازن 1/33 مجاز القرآن 1/34.

6-

تفسير ابن جرير الطبري 1/163، إغاثة اللهفان 2/229.

7-

سورة البقرة آية: 165.

ص: 398

قال ابن القيم: "فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلاً للخالق فالند: الشبه يقال: فلان ند فلان وند يده أي مثله وشبهه

فالذي أنكره الله ـ سبحانه ـ عليهم هو تشبيه المخلوق به حتى جعلوه نداً لله ـ تعالى ـ يعبدونه كما يعبدون الله"اهـ1.

وأما اتخاذ العدلاء، بمعنى: جعلهم شركاء لله في العبادة فقد بين ـ تعالى ـ بأن ذلك فعل المشركين.

قال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2 وقال مجاهد "يعدلون" يشركون وقال محمد بن جرير الطبري: "يجعلون شريكاً في عبادتهم إياه فيعبدون معه الآلهة والأنداد، والأصنام، والأوثان وليس منها شيء شاركه في خلق شيء من ذلك ولا في إنعامه عليهم بما أنعم عليهم، بل هو المفرد بذلك كله وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره"3.

ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخاذ الند من أعظم الذنوب والآثام لما روي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك

"الحديث 4.

قال ابن الأثير: "الأنداد جمع ند بالكسر وهو مثل الشيء الذي يضاده في أموره ويناده: أي يخالفه ويريد بها ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله" اهـ5. ولقد بعث الله نبي الهدى صلى الله عليه وسلم لخلع جميع الأنداد التي كانت تعبد من دون الله ـ تعالى ـ وقد كان المشركين يتنافسون فيها وكانت تمثل كثرة هائلة حتى أنه أصبح لكل مشرك في الجاهلية معبود وحتى أنه كان إذا سافر أحدهم يصطحب صنمه معه وكانت حالتهم سيئة كما سنبين ذلك فنقول: لقد بين الله ـ تعالى ـ في كتابه أن المعبودات سواه كثرت وتنوعت من عبادة الأشخاص، إلى عبادة الأحجار والأخشاب، إلى عبادة الهوى إلى عبادة الأجرام السماوية إلى عبادة الملائكة وسنأتي بنبذة حول كل من هذه المذكورات.

1- إغاثة اللهفان 2/229.

2-

سورة الأنعام آية: 1.

3-

جامع البيان 7/144.

4-

متفق عليه صحيح البخاري 3/98، صحيح مسلم 1/90.

5-

النهاية في غريب الحديث والأثر 5/35.

ص: 399

1ـ عبادة الأشخاص من بني الإنسان:

لقد أخبرنا الباري ـ سبحانه ـ أن بعض عبيده ادعوا الألوهية واستعبدوا أتباعهم عن طريق القهر والعنف كما استغلوا جهلهم ونشروا في صفوفهم الضلال عن طريق الكذب والتدجيل وهذا كما حصل من فرعون الذي أخبرنا الله عنه أنه قال لقومه منادياً لهم: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 1 وقال ـ تعالى ـ حاكياً توعده لمن آمن بنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} 2 ومثل فرعون علماء الضلال الذين يشرعون للخلق ما لم يأذن به الله ولا يرضاه وقد ذم الله أهل الكتاب على هذا الصنيع قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ} 3 فقد أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله فأنزلوهم منزلة الرب ـ سبحانه ـ إذ أنه لا حق لأحد في التحليل والتحريم إذ ذلك من خصائص الباري ـ سبحانه ـ دون سواه، والسبب الذي جعل أتباع فرعون، وأتباع الأحبار والرهبان من أهل الكتاب يعبدونهم ويطيعونهم عدم تحقيقهم عبودية الخوف لله ـ جل وعلا ـ ومن عبادة الإنسان غلو اليهود في العزير والنصارى في عيسى عليه الصلاة والسلام وقد بينا بطلان دعواهم تحت عنوان "تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه" وقد تقدم هذا فليرجع إليه.

2ـ عبادة الأصنام والأوثان:

قال ابن جرير رحمه الله تعالى ـ "والأصنام جمع صنم" والصنم: التمثال من حجر أو خشب أو غير ذلك، في صورة إنسان، وهو الوثن وقد يقال للصورة المصورة على صورة الإنسان في الحائط غيره: صنم ووثن اهـ4.

أما الراغب الأصبهاني فقد فرق بين الصنم والوثن فقال: الصنم جثة متخذة من فضة

1- سورة القصص آية: 38.

2-

سورة الأعراف آية: 123 ـ 124.

3-

سورة التوبة آية: 31.

4-

جامع البيان 7/244.

ص: 400

أو نحاس أو خشب كانوا يعبدونه متقربين به إلى الله ـ تعالى ـ وجمعه "أصنام" قال الله ـ تعالى ـ {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1.

قال بعض الحكماء: كل ما عبد من دون الله بل كل ما يشغل عن الله ـ تعالى ـ يقال له "صنم".

وأما الوثن: فإنه قال فيه "الوثن واحد الأوثان وهو حجارة كانت تعبد، قال تعالى:{إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً} 2.

وممن فرق بين الصنم والوثن الشيخ عبد الرحمن بن حسن فقال: "الصنم ما كان منحوتاً على صورة، والوثن ما كان موضوعاً على غير ذلك.."

إلى أن قال: "وقد يسمى الصنم وثناً كما قال الخليل عليه السلام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً} 3 ويقال: إن الوثن أعم وهو قوي، فالأصنام أوثان كما أن القبور أوثان"اهـ4.

ونقول: مهما وجدت من فروق بين الأصنام والأوثان في المادة والهيئة، فغرض الوثنين منها واحد وهو عبادتها من دون الله ـ تعالى ـ على أي كيفية كانت وعلى أي صورة وجدت، ولقد انتشرت عبادة الأصنام والأوثان بين العرب الجاهليين انتشاراً هائلاً ولقد صوَّر لنا ابن إسحاق5 رحمه الله تعالى ـ بدء الانحراف عند العرب من نسل إسماعيل عليه السلام في عبادتهم، فقد كان أول انحرافهم أنهم كانوا يعظمون الحرم فلا يرتحلون منه حتى كثروا وضاقت بهم مكة فأخذوا يرتحلون عنه طالبين السعة والفسح في البلاد فكان لا يظعن ظاعن منهم عن الحرم إلى غيره إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً له.

1- سورة الأنعام آية: 74.

2-

المفردات للراغب ص287، 512 والآية رقم 25 من سورة العنكبوت.

3-

سورة العنكبوت آية: 17.

4-

فتح المجيد ص79.

5-

محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء المدني من أقدم مؤرخي العرب من أهل المدينة وكان من أحسن الناس سياقاً للأخبار مات سنة إحدى وخمسين ومائة وقيل سنة اثنتين وخمسين ومائه انظر ترجمته في "تذكرة الحفاظ 1/172، تهذيب التهذيب 9/38 ـ 46 الأعلام للزركلي 6/252.

ص: 401

فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، ثم أدى بهم حالهم ذلك إلى عبادة تلك الأحجار ثم كانوا يعبدون من الأحجار ما استحسنته عقولهم"اهـ1.

واسمع ما صار إليه حالهم قال أبو رجاء العطاردي: "كنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبنا عليه ثم طفنا به"2.

ومن عجائب أمر الجاهلية أن أحدهم إذا كان مسافراً أخذ معه أربعة أحجار ثلاثة لقدره والرابع يعبده3.

ولقد بالغ العرب الجاهليون في إكثارهم من الأصنام حتى أنه كان لأهل كل دار بمكة صنم يعبدونه وكان أحدهم إذا أراد السفر تمسح بصنمه وإذا رجع من سفره فعل كذلك قبل أن يدخل منزله4.

وكان من أقدم أصنامهم "مناة" وكان منصوباً على ساحل البحر الأحمر من ناحية "المشلل" بقديد بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعاً تعظمه، وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المواضع يعظمونه ويذبحون له ويهدون له وكانت الأوس والخزرج من أشد الناس تعظيماً له حتى أنه بلغ من تعظيمهم أنهم كانوا يحجون ويقفون المواقف كلها ولا يحلقون رؤوسهم فإذا نفروا أتوه فحلقوا رؤوسهم ولا يرون حجهم صحيحاً إلا إذا فعلوا ذلك وكانت "مناة" لهذيل وخزاعة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عام الفتح فهدمها5.

ثم اتخذت العرب بعد "مناة""اللات" بالطائف وهي أحدث من "مناة" وكانت صخرة مربعة وكانت سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها وكانت قريش وجميع العرب يعظمونها وبها كانت تسمى "زيد اللات""تيم اللات" وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى فلم تزل كذلك حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة لما أسلمت

1- ذكره عنه ابن هشام السيرة النبوية "1/77".

2-

صحيح البخاري مع الفتح 8/90.

3-

إغاثة اللهفان 2/220.

4-

البداية والنهاية لابن كثير 2/210.

5-

الأصنام لابن الكلبي ص13 ـ 15 إغاثة اللهفان 2/211 ـ 212.

ص: 402

ثقيف فهدمها وحرقها بالنار1 غير أن ابن جرير روى في تفسيره عن مجاهد في قوله تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} 2 قال كان يلت السويق فمات فعكفوا على قبره3 وقد روى البخاري في صحيحه موقوفاً على ابن عباس قاتل: كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج4.

ثم اتخذت العرب بعد اللات "العزى" فهي تعتبر أحدث من "اللات" اتخذها رجل يقال له: ظالم بن أسعد بوادي نخلة فوق ذات عرق وبنوا عليها بيتاً فكانوا يسمعون منها الصوت وذكر ابن عباس أنه كانت للعزى شيطانه تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال: ائت بطن نخلة فإنك ستجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال: فاعضد الثانية فعضدها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل رأيت شيئاً: قال: لا. قال: فاعضد الثالثة فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تضرب بأنيابها وخلفها سادنها فقال خالد:

كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة وقتل السادن ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: تلك العزى ولا عزى بعدها للعرب وكانت العزى لأهل مكة في موضع قريب من عرفات وكانت شجرة يذبحون عندها ويدعون. اهـ5.

قال الكلبي6 في كتابه الأصنام:

"وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وأعظمها "هبل" وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفراً أتوه فاستقسموا

1- الأصنام ص16 ـ 17، إغاثة اللهفان 2/212.

2-

سورة النجم آية: 19.

3-

جامع البيان 27/58.

4-

صحيح البخاري مع الفتح 8/611.

5-

الأصنام لابن الكلبي ص17 ـ 18، 25 ـ 26.

6-

هو أبو المنذر هشام بن محمد أبي النضير بن السائب بن بشر الكلبي مؤرخ عالم كثير التصانيف توفي سنة أربع ومائتين هجرية انظر الأعلام للزركلي 9/78.

ص: 403

عنده بالقداح وهو الذي قال أبو سفيان يوم أحد أعل هبل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "قولوا الله أعلى وأجل"1.

وهناك أصنام قوم نوح التي ذكرها الله في كتابه فإنها آلت إلى العرب وعبدوها وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 2 وقد قدمنا قول ابن عباس كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم فلما طال عليهم الأمد عبدوهم.

فكان "ود" لبني كلب بن مرة بن تغلب بن حلوان عن عمران بن الحاف بن قضاعة وكان منصوباً بدومة الجندل3.

وكان "سواع" لبني هذيل بن إلياس بن مدركة بن مضر، وكان منصوباً بمكان يقال له "رهاط"4.

وأما يغوث: فكان لبني أنعم من طيئ ولأهل جرش5 من مذحج وكان منصوباً بجرش، وأما يعوق، فكان بأرض همدان من اليمن لبني خيوان بطن من همدان.

وأما "نسر" فقد كان بأرض حمير لقبيلة يقال لهم: "ذو الكلاع"6 وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل بالبدع المحدثة ونشر الأصنام في الجزيرة العربية رجل يقال له: عمرو بن عامر الخزاعي وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب"7 وقد اختلفت الروايات في الكيفية التي نشر بها عمرو الأصنام في الجزيرة العربية فإحدى الروايات تقول: أنه كان له رئي من الجن وهو الذي دله على الأصنام التي كانت عند قوم نوح وكانت قد دفنت منذ عهد نوح حيث قذفها الطوفان إلى ساحل جدة فوارتها الرمال على كر الأيام فجاء رئيه من الجن فأخبره بذلك فنبشها عمرو ووزعها على عرب الجزيرة، ودعاهم إلى عبادتها8.

1- كتاب الأصنام ص28 والحديث رواه البخاري انظر الفتح 6/162 ـ 163 من حديث البراء بن عازب.

2-

سورة نوح آية: 23.

3-

دومة الجندل: بلدة في وادي القرى في الشمال الشرقي من المدينة المنورة منها. انظر معجم البلدان 2/487.

4-

رهاط كغراب موضع على ثلاث ليال من مكة. انظر معجم البلدان 1/107.

5-

جرش: كزفر مخلاف باليمن انظر معجم البلدان 2/126.

6-

انظر الأصنام لابن الكلبي ص55، 57، إغاثة اللهفان 2/207 ـ 208 البداية لابن كثير 2/208 مطبعة الفجالة الجديدة بدون تاريخ.

7-

صحيح البخاري مع الفتح 8/283.

8-

إغاثة اللهفان 2/207.

ص: 404

ورواية أخرى تقول: "إنه جاء بالأصنام من بلاد الشام عندما رآهم يعبدونها طلب منهم صنماً فأعطوه واحداً نصبه بمكة وأمر الناس بعبادته وتعظيمه"1.

وعلى كل فإن عمرو هذا استطاع التأثير على العرب واستخفهم فأطاعوه حتى غير عليهم دين إبراهيم لما كان له من مكانة فيهم، فأطاعوه في معصية الله تعالى فيما ابتدعه من الأمور التي لم يأذن بها الله.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "والمقصود أن عمرو بن لحي لعنه الله كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين غير بها دين الخليل فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالاً بعيداً بيناً قطعياً شنيعاً" اهـ2.

هذه لمحة عن بعض الأصنام التي كانت شائعة عند العرب، وهناك أصنام ومعبودات أخرى يضيق المقام بذكرها، وذكرنا هذا الطرف منها للتمثيل لمعرفة ما كانت عليه حالة العرب في الجاهلية من توجيههم العبادة لتلك الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنهم من الله شيئاً، فقد كانوا لفرط جهلهم يدعونها من دون الله ويفزعون إليها في النائبات ويزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وهذا نتيجة الجهل والغلو في المخلوق وإعطائه منزلة فوق منزلته، قال العلامة ابن القيم مبيناً سبب إقبال العرب على عبادة الأصنام: "ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته حتى جعل فيه حظ من الإلهية وشبهوه بالله ـ سبحانه ـ وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله ـ سبحانه ـ وبعث رسله، وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله، فهو ـ سبحانه ـ ينفي وينهي أن يجعل غيره مثلاً له، ونداً له وشبهاً له لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الأمم المعروفة أمة جعلته ـ سبحانه ـ مثلاً لشيء من مخلوقاته فجعلت المخلوق أصلاً وشبهت به الخالق، فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم، وإنما الأول هو المعروف في طوائف أهل الشرك غلواً فيمن يعظمونه، ويحبونه حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلهاً واحداً وقالوا:{وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} 3 وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف ويعظم ويسجد له ويحلف باسمه،

1- السيرة النبوية لابن هشام 1/77.

2-

البداية 2/207 مطبعة الفجالة ـ القاهرة.

3-

سورة ص آية: 6.

ص: 405

وتقرب له القرابين إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله، فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله ـ سبحانه ـ وإن لم يشبهه به من كل وجه"اهـ1.

3ـ عبادة الهوى:

من أنواع المعبودات التي عبدت من دون الله "الهوى" وقد ورد الإنكار الشديد في كتاب الله تعالى لمن جعل إلهه هواه فيتبعه في كل ما يملئ عليه.

قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} 2.

وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} 3.

فالذي يترك أوامر الله ويعرض عنها ويرفض الحق إذا جاءه، فإنه يعد من عبدة الهوى ويصر هواه معبوداً له من دون الله تعالى.

قال عبد الله بن عباس: "ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان".

وقال قتادة: "هو الكافر لا يهوى شيئاً إلا ركبه لا يخاف الله"4.

وقال ابن كثير: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} . أي إنما يأتمر بهواه فمهما رآه حسناً فعله ومهما رآه قبيحاً تركه5.

ومتى خضع الإنسان لهواه واستسلم له كان بمنزلة الأنعام بل أضل منها كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 6.

قال ابن القيم: "فشبه أكثر الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والإنقياد له، وجعل الأكثرين أضل سبيلاً من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي ويتبع الطريق، فلا تحيد عنها يميناً ولا شمالاً، والأكثرون يدعوهم الرسل

1- إغاثة اللهفان 2/226 ـ 227.

2-

سورة الفرقان آية: 43.

3-

سورة الجاثية آية: 23.

4-

جامع البيان 25/150.

5-

تفسير القرآن العظيم 6/269.

6-

سورة الفرقان آية: 44.

ص: 406

ويهدونهم السبي فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره، والله ـ تعالى ـ لم يخلق للأنعام قلوباً تعقل بها، ولا ألسنة تنطق بها وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق ـ مع الدليل ـ إليه أضل وأسوأ حالاً ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه"1.

والناظر في زمننا الحاضر يرى بأم عينيه أن عبادة الهوى غلبت على الكثير من الأمة الإسلامية فتراهم يستحسنون ما تمليه عليهم أهواؤهم فيستحسنون ويستقبحون بعقولهم ولم يلتفتوا إلى الهدى الذي جاءهم من ربهم جل وعلا بل إننا نرى الكثير ينصر ما توحيه الشياطين إلى أوليائهم من الإنس من المبادئ والمذاهب والتسميات والحزبيات التي كانت سبباً في تفرقهم واختلافهم وكان من أهم الأسباب التي جعلت عدوهم يطمع فيهم وذلك نتيجة لاتباع الهوى، والبعد عما فيه الرشاد والهدى، لا قوة إلا بالله.

4ـ عبادة الأجرام السماوية:

ومن المعبودات التي عبدت من دون الله ـ تعالى ـ بعض الآيات الكونية مثل الشمس والقمر والكواكب والماء والنار وغير ذلك من المخلوقات.

قال العلامة ابن القيم: "وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده فطلبوا تحريقه، وهو مذهب قديم في العالم، وأهله طوائف شتى فمنهم عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها، وهي عندهم ملك الفلك فيستحق التعظيم، والسجود والدعاء"2.

وقد ذكر الجصاص3 أن الصابئة اتخذوا الأجرام السماوية معبودات لهم من دون

1- أعلام الموقعين 1/159.

2-

إغاثة اللهفان 2/223.

3-

هو أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص "أبو بكر" فقيه، مجتهد ورد بغداد في شبيبته، ودرس، وجمع ودرس عليه كثير من الفقهاء توفي ببغداد سنة سبعين وثلاثمائة هجرية انظر ترجمته في الفهرس لابن النديم ص293 المنتظم لابن الجوزي 7/105، 106 الفوائد البهية 27، 28 النجوم الزاهرة 4/138.

ص: 407

الله حيث قال: "وكانوا قوماً صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة

وهم الذين بعث الله ـ تعالى ـ إليهم إبراهيم خليله صلوات الله عليه فدعاهم إلى الله وحاجهم بالحجاج الذي بهرهم به وأقام عليهم به الحجة من حيث لم يمكنهم دفعة"اهـ1.

فالإنسان حين يسعى في تعطيل عقله عما خلق له فإنه يوقع نفسه في السخافات والمهانات والتذلل للمخلوقات مثله وبذلك يفقد تكريمه الذي نوه الله به في كتابه كما يفقد تفضيله على كثير من المخلوقات فيتدنى حتى يضل عن سواء السبيل فهذه المخلوقات العجيبة المبثوثة في أرجاء هذا الكون علويه وسفليه لم تخلق لتعبد من دون الله وإنما جعلها الله دلائل واضحات وآيات بينات على وحدانيته وتفرده بالعبادة، وجميع المخلوقات التي يشاهدها الإنسان والتي لم يشاهدها كلها خاضعة لله طوعاً وكرهاً قال ـ تعالى ـ ناهياً عباده عن أن يسجدوا للشمس والقمر وآمراً لهم بالسجود له وحده:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2 قال ابن جرير الطبري: لا تسجدوا أيها الناس للشمس ولا للقمر فإنهما وإن جرياً في الفلك بمنافعكم فإنما يجريان بها لكم بإجراء الله إياهما لكم طائعين له في جريهما ومسيرهما بأنهما يقدران بأنفسهما على سير وجري دون إجراء الله إياهما وتسييرهما أو يستطيعان لكم نفعاً أو ضراً وإنما الله مسخرهما لكم لمنافعكم ومصالحكم فله فاسجدوا وإياه فاعبدوا دونهما فإنه إن شاء طمس ضوءهما فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلاً ولا تبصرون شيئاً3.

وكما أن الآية بينت أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله التي يستدل بهما على عبادته وحده دون سواه كذلك دلت على بطلان عبادتهما من دون الله وقد بين الله ـ تعالى ـ بطلان عبادة جميع المخلوقات سوى الله ـ تعالى ـ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ

1- أحكام القرآن 1/43.

2-

سورة فصلت آية: 37.

3-

جامع البيان عن تأويل آي القرآن 24/121.

ص: 408

فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} 1.

فأخبرنا تعالى بأن جميع المخلوقات التي يحويها هذا الكون من شمس وقمر ونجوم وجبال وشجر ودواب وكثير من الناس خاضعة لله مطيعة له كلها عبد لديه مفتقرة إليه فلا يصح عبادة شيء منها ألبتة.

قال العلامة ابن كثير: "يخبر ـ تعالى ـ أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد له لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً"2.

5ـ عبادة الملائكة:

لقد افترى عبدة الشياطين أنهم يعبدون الملائكة على حسب زعمهم لكن من المقطوع به والمعلوم بالضرورة من الأدلة القرآنية أن هؤلاء عبدوا المردة من الشياطين.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن تلاعبه ـ أي الشيطان ـ بهم أن زين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم بزعمهم ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم ولكن كانت للشياطين فعبدوا أقبح خلق الله وأحقهم باللعن والذم قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3.

وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَاناً مَرِيداً} 4 قال ابن عباس رضي الله عنهما {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَاناً مَرِيداً} قال: هو شيطان في الصنم، في كل صنم شيطان يتراءى لسدنته فيكلمهم.

وقال أبي بن كعب5: مع كل صنم جنية.

1- سورة الحج آية: 18.

2-

تفسير ابن كثير 4/622.

3-

سورة سبأ آية: 40 ـ 41.

4-

سورة النساء آية: 117.

5-

هو أبي بن كعب بن قيس أبو المنذر الأنصاري الخزرجي أقرأ الصحابة وسيد القراء توفي بالمدينة في سنة تسع عشرة هجرية الإصابة 1/31، تذكرة الحفاظ 1/16 شذرات الذهب 1/31.

ص: 409

وقال مقاتل1: "أنه إبليس: وعبادته طاعته فيما سول لهم"2.

ومما تقدم يتبين أن المعبودات من دون الله تعالى تنقسم إلى قسمين:

1ـ قسم عاقل وهذا كالآدمي والملائكة والجن.

2ـ وقسم غير عاقل وهذا كالأحجار والأشجار وغيرهما مما لا يعقل3.

والقسم الأول: ينقسم إلى قسمين:

قسم راض بأن يعبد من دون الله تعالى.

وقسم غير راض بأن يعبد من دون الله، ومثال الأول: فرعون وإبليس وغيرهما من الطواغيت وهؤلاء جميعهم في النار هم وعابدوهم.

قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 4.

وقال تعالى في شأن إبليس وأتباعه: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} 5..

وقال تعالى في شأن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} 6.

وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} 7 إلى غير ذلك من الآيات وأما القسم الثاني: الذي لم

1- هو مقاتل بن سليمان بن كثير الأزدي الخراساني أبو الحسن البلخي المفسر روى عن الضحاك ومجاهد وله كتاب "نظائر القرآن والتفسير الكبير" مات سنة خمسين ومائة هجرية انظر ترجمته في "طبقات المفسرين 2/330، تهذيب التهذيب 10/279 ميزان الإعتدال 3/196.

2-

زاد المسير في علم التفسير 2/203.

3-

انظر معارج القبول للشيخ حافظ بن أحمد حكمي 1/447.

4-

سورة البقرة آية: 166 ـ 167.

5-

سورة ص آية: 85.

6-

سورة هود آية: 98.

7-

سورة فصلت آية: 29.

ص: 410

يرض بالعبادة فكالمسيح وعزير والملائكة وغيرهم وهؤلاء كلهم برآء ممن عبدهم في الدنيا والآخرة كما أخبر ـ سبحانه ـ عن عيسى عليه السلام بقوله: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1.

وقال تعالى في شأن الملائكة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2.

وقال تعالى في شأن كل من عبد من دونه من ملك أو نبي، أو ولي صالح:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} 3.

وأما ما عبد من دونه ـ تعالى ـ مما لا يعقل من جماد شجر أو حجر وغير ذلك فإنه يدخل في عموم قوله ـ تعالى ـ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} 4.

وبما أن الأشجار والأحجار لا أرواح لها إلا أنه يعذب بها من عبدها من دون الله تعالى كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 5 وقال ابن كثير: وقودها أي حطبها الذي يلقى فيها جثث بني آدم والحجارة قيل: المراد بها

1- سورة المائدة آية: 116 ـ 117.

2-

سورة سبأ آية: 40 ـ 41.

3-

سورة الفرقان آية: 17 ـ 19.

4-

سورة الأنبياء آية: 98 ـ 99.

5-

سورة التحريم آية: 6.

ص: 411

الأصنام التي تعبد لقوله ـ تعالى ـ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 1 وقد جاء في حديث الشفاعة الطويل الذي رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله ـ سبحانه ـ من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب2 فيدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب3 يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار ثم فيدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون؟ فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا قال فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العلمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فما تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً "مرتين أو ثلاثاً " حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم فيكشف عن ساقه فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء أو رياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا

" الحديث4.

هذا الحديث يبين النهاية في الآخرة لأهل الشرك وكيف يكون لهم ذلك المصير السيئ الذي تجف منه القلوب وتقشعر له الجلود نعوذ بالله من الشرك وأهله.

1- تفسير القرآن العظيم 6/59 آية: من سورة الأنبياء آية: 98.

2-

غبر أهل الكتاب: معناه بقاياهم جمع غابر.

3-

السراب ما يتراءى للناس في الأرض القفر والقاع المستوى وسط النهار في الحر الشديد لامعاً مثل الماء.

4-

صحيح مسلم 1/167 ـ 171.

ص: 412

تلك بعض معبودات المشركين التي استطعنا جمعها تحت هذا المبحث والذي نخلص إليه مما تقدم أن السورة أوضحت لنا أصل الشرك الذي دفع المشركين لعبادة غير الله ـ تعالى ـ من المعبودات التي ذكرناها والتي لم نذكرها وأن السبب الوحيد في حدوث الشرك هو قياس الخالق سبحانه على المخلوق فإن المشركين زعموا بعقولهم الفاسدة أن ملوك الدنيا لا يتوصل إليهم إلا بالوجهاء والشفعاء والوزراء الذين يرفعون إليهم حوائج رعاياهم ويطلبون لهم عطفهم فيكون ذلك تمهيداً للأمر المطلوب منهم. فظن المشركون أن الله ـ تعالى ـ كذلك، وهذا ظن سوء بالله ـ تعالى ـ وهذا القياس من أفسد الأقيسة إذ أنه يتضمن تسوية الخالق بالمخلوق مع ثبوت الفرق العظيم عقلاً، ونقلاً وفطرة إذ ملوك الدنيا إنما يحتاجون إلى الوساطة بينهم وبين رعاياهم لعدم علمهم بأحوال من استرعاهم الله فهم في أشد الحاجة إلى من يعلمهم بذلك، ولأنه ربما لا يكون في قلوبهم رحمة أو شفقة لصاحب الحاجة، فيحتاجون إلى من يعطفهم عليهم ويسترحمهم له، ولذلك يحتاجون إلى الشفعاء والوزراء فيقضون حوائج العباد مراعاة لوزرائهم ومداراة لخواطرهم وقد يمتنعون من ذلك خشية الفقر لأنهم فقراء.

أما الباري ـ سبحانه ـ فإنه أحاط بكل شيء علماً يعلم ظواهر الأمور وبواطنها فلا يحتاج إلى من يخبره بأحوال عباده، ولا من يشفع لهم عنده، لأنه رحيم بعبادة جواد بالعطاء، ولا يحتاج إلى أحد منهم بل هو أرحم بهم من أنفسهم ومن والديهم وهو الكريم الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأخذ بالأسباب التي ينالون بها رحمته وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدونه لأنفسهم. وهو الغني الذي له الغنى التام المطلق الذي لو اجتمع الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم في صعيد واحد فسألوه جميعهم فأعطى كلاً مسألته لم ينقصوا مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.

وجميع الشفعاء يخافون منه ـ سبحانه ـ ولا شفاعة لأحد عنده إلا بعد إذنه له الشفاعة كلها.

ومن هذه الأمور يدرك المؤمن جهل المشركين ويعرف سفاهتهم وشدة جرأتهم على الله ـ تعالى ـ كما يعلم الحكمة في كون الشرك أعظم الذنوب وأنه لا يغفره الله لأنه يتضمن القدح في الله تعالى ـ نسأل الله أن يجنبنا ذلك.

ص: 413