المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السادس: عبودية الرجاء - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

قبل أن نذكر ما يدل على عبودية الرجاء من السورة نذكر تعريفه أولاً في اللغة والاصطلاح ليفهم معنى الرجاء الذي تعبد الله به عباده والذي لا يجوز صرفه لغير الله تعالى.

فأما تعريفه في اللغة:

فقد جاء في الصحاح: الرجاء من الأمل ممدود يقال: رجوت فلاناً رجواً ورجاءاً ورجاوة

وقد يكون الرجو والرجاء بمعنى الخوف قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً} 1 أي تخافون عظمة الله2.

وجاء في القاموس: "الرجاء ضد اليأس" أ. هـ3.

وجاء في النهاية لابن الأثير: "الرجاء بمعنى التوقع والأمل"4.

وقال في المصباح المنير: "الرجاء بالمد ورجيته أرجيه من باب رمى لغة ويستعمل بمعنى الخوف لأن الراجي يخاف أنه لا يدرك ما يترجاه"5.

وأما تعريفه في الاصطلاح:

فقد قال العلامة ابن القيم: "الرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب وهو الله والدار الآخرة ويطيب لها السير.

1- سورة نوح آية: 13.

2-

الصحاح 6/2352.

3-

4/334.

4-

2/207.

5-

1/221.

ص: 229

وقيل هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى والارتياح لمطالعة كرمه ـ سبحانه ـ.

وقيل: هو الثقة بجود الرب ـ تعالى ـ1.

وقال الجرجاني: "الرجاء في اللغة: الأمل وفي الاصطلاح تعلق القلب بحصول محبوب في المستقبل"أ. هـ2.

والذي نستفيده من تعريف الرجاء في اللغة والاصطلاح أن الرجاء هو الأمل في الخير وترقب حصوله وانتظاره ممن يملكه ويقدر على تحقيقه لمن أمله فيه ورجاه منه، ولا يكون ذلك إلا من الله ـ جل وعلا ـ فعلى العبد أن يجعل قلبه معلقاً بالله خوفاً ورجاءاً فلا يرجو إلا الله ـ تعالى ـ وحده لا شريك له، ولا يجوز للإنسان أن يرجو سواه فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى كما يفعله الذين ينادون الأموات، أو غيرهم رجاء حصول مطالبهم من جهتهم لأن هذا شرك أكبر إذ الرجاء نوع من أنواع العبادات التي لا يستحقها إلا الله ـ جلا وعلا ـ فلا رجاء إلا في الله ـ تعالى ـ وقد دلت سورة "الزمر" على أن الرجاء عبادة، وأنه حق من حقوق الله ـ تعالى ـ على خلقه في آية واحدة منها قال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} .

هذه الآية من السورة فيها مقابلة بين العامل بطاعة الله وغيره وبين العالم والجاهل، وهذه الأمور متقرر في العقول تباينها وتفاوتها، فليس المعرض عن طاعة الله والذي يتبع هواه كمن هو مطيع بأفضل العبادات، وهي الصلاة في أفضل الأوقات وهو الليل فوصفه بكثرة العمل وأفضله، ثم وصفه بالخوف والرجاء وذكر ـ تعالى ـ أن متعلق الخوف عذاب الآخرة على ما سلف من الذنوب، وأن متعلق الرجاء رحمة الله، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن، فعلى العبد أن يكون في عبادته خائفاً من عقاب الله راجياً لرحمته، ولا بد من الجمع بين الخوف والرجاء في العبادة، وفي الآية رد على من ذم العبادة خوفاً من النار أو رجاء الجنة.

1- مدارج السالكين 2/35.

2-

كتاب التعريفات ص101.

ص: 230

روى ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "ما تقول في الصلاة؟ " قال: أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ فقال:"حولها ندندن"1.

فبين لنا صلى الله عليه وسلم أن نعبد الله ـ تعالى ـ خوفاً من عقابه وطمعاً في رحمته، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:"من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه"2.

ثم إن القانت في الآية ذكر القرطبي في معناه أربعة أقوال:

قيل: إن القانت هو المطيع.

وقيل: هو الخاشع في صلاته.

وقيل: هو القائم في صلاته.

وقيل: "هو الداعي لربه، وكلها تدخل تحت القول الأول لأنه أعم وأجمع"3.

والقنوت ينقسم إلى خاص، وعام، والسجود كذلك.

والآية التي معنا في هذا المبحث وهي قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً

} الآية المراد بالقنوت فيها القنوت الخاص، ومثل هذه الآية قوله تعالى في حق مريم:{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} 4.

وأما القنوت العام: فكقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 5 أي: خاضعون أذلاء.

وأما السجود الخاص فكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} 6.

1- سنن ابن ماجة 1/295.

2-

تفسير القرطبي 15/239.

3-

الجامع لأحكام القرآن 15/239.

4-

سورة التحريم آية: 12.

5-

سورة الروم آية: 26.

6-

سورة الأعراف آية: 206.

ص: 231

وأما السجود العام فكقوله تعالى: {وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} 1.

فهذا السجود هنا سجود عام لكل مخلوق طوعاً وكرهاً وهو أعم من السجود الذي ذكره الله في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ والشَّجًرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} 2. فهذه الآية خص فيها بالسجود كثيراً من الناس وعمهم بالسجود في قوله: {وَلله يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ} 3.

وهذا السجود هو سجود الذل والقهر والخضوع فكل أحد خاضع لربوبيته ـ تعالى ـ ذليل لعزته مقهور تحت سلطانه ـ تعالى ـ4.

وأما قوله تعالى في تمام الآية: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} .

بين الله في هذا الجزء من الآية أنه لا يستوي عنده من وحده وأخلص له العبودية ومن جعل لله الأنداد وأشرك بالله غيره ولم يخلص له العبادة.

قال ابن كثير: "أي: هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله. {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} أي: إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل" أ. هـ5. فأولو الألباب أهل العقول السليمة هم الذين يدركون الفرق بين مكانة الموحد الطائع لربه آناء الليل، وآناء النهار ومكانة المشرك بالله العاصي لخالقه، فالعابد لله الذي أفرد الله بجميع أنواع العبادات كريم عند الله ـ تعالى ـ، وأما من جعل له الأشباه والنظائر فهو مهين عنده ـ سبحانه ـ قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} 6.

1- سورة الرعد آية: 15.

2-

سورة الحج آية: 18.

3-

سورة النحل آية: 49.

4-

مدارج السالكين 1/106 ـ 107.

5-

تفسير ابن كثير 6/82 ـ 83.

6-

سورة الحج آية: 18.

ص: 232

وبعد هذا الإستطراد اليسير الذي لا يخلو من الفائدة نرجع إلى عبودية الرجاء فنقول: إن مما ينبغي لكل إنسان أن تكون حياته بين الخوف والرجاء يخاف عقاب الله ويرجو رحمته. روى ابن جرير بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} قال: "يحذر عقاب الآخرة ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنة"1. واختلف العلماء في أيهما يكون الغالب على العبد؟

فقيل: إن العبد إذا كان صحيحاً يستحب أن يغلِّب عليه جانب الخوف وإن كان في حالة المرض يغلِّب جانب الرجاء.

وقال قوم: يستحب الإقتصار على الرجاء عند الإشراف على الموت لما يتضمنه الرجاء من الإفتقار إلى الله تعالى ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذر فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته واستدلوا بحديث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله"2.

وقالت طائفة ثالثة: لا يهمل جانب الخوف أصلاً بحيث يجزم بأنه آمن، واستدلوا بحديث أنس عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له:"كيف تجدك؟ " فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف" قال الترمذي: هذا حديث غريب. وقد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً3 قال الحافظ بعد أن أورد هذا الحديث: "ولعل البخاري أشار إليه في الترجمة ولما لم يوافق شرطه أورد ما يؤخذ منه وإن لم يكن مساوياً له في التصريح بالمقصود"4.

ولقد حث الله ـ تعالى ـ عباده في مواضع كثيرة في كتابه على أن يتعبدوه بالرجاء وحده

1- جامع البيان 23/202.

2-

رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله 4/2206.

3-

سنن الترمذي 2/227.

4-

فتح الباري 11/301، تفسير ابن كثير 6/82.

ص: 233

لا شريك له قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} 1 ففي هذه الآية إشارة على أن التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وحالاً مما يعين على تحقيق عبودية الرجاء وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 2.

وهذه الآية توضح لنا أن العبد إذا كان يرجو لقاء الله صادقاً مخلصاً في ذلك فإن عاقبة ذلك ونتيجة يؤدي به إلى إصلاح عمله.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} ، أي ثوابه وجزاءه الصالح اهـ3. وإضافة إلى قول ابن كثير أقول إن الآية فيها إشارة قاطعة إلى أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل ورجاء العبد لقاء ربه الذي خلقه هو من أفضل ما يرجوه العبد المؤمن ويأمله قال العلامة ابن القيم:"وهذا الرجاء هو محض الإيمان وزبدته وإليه شخصت أبصار المشتاقين ولذلك سلاهم الله بإتيان أجل لقائه وضرب لهم أجلاً يسكن نفوسهم ويطمئنها4" اهـ. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5 وهذه الآية بينت أن من صفات المؤمنين أنهم يرجون رحمة الله بمعنى أنهم يطمعون في رحمة الله ويرجون أن يدخلهم الجنة برحمته إياهم وفضله عليهم.

قال قتادة رحمه الله تعالى: "أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسن الثناء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هؤلاء خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب ومن خاف هرب" اهـ6.

1- سورة الأحزاب آية: 21.

2-

سورة الكهف آية: 110.

3-

تفسير القرآن العظيم 4/432.

4-

مدارج السالكين 2/54.

5-

سورة البقرة آية: 218.

6-

انظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2/356.

ص: 234

وقد أخبرنا العليم الخبير بأن خواص عباده الذين كان أهل الشرك يزعمون أنهم ما كانوا يعبدونهم إلا رجاء أن يقربوهم إلى الله زلفى أنهم كانوا من أشد الناس تحقيقاً لعبودية الرجاء وعبودية الخوف قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 1.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "يقول تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم من دوني هم عبادي، يتقربون إلي بطاعتي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي فلماذا تدعونه من دوني؟ فأثنى عليهم بأفضل أحوالهم ومقاماتهم من الحب والخوف والرجاء. اهـ2.

واختلف المفسرون في هؤلاء المدعوين:

فقيل: إنهم نفر من الجن كان يعبدهم نفر من الإنس فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فأنزل الله الآية.

وقيل: إنهم صنف من الملائكة يقال لهم الجن، كان قبائل من العرب يعبدونهم ويقولون لهم بنات الله.

وقيل: إن المراد بهؤلاء المدعوين الملائكة والمسيح وعزير كان المشركون يعبدونهم3 قال شيخ الإسلام بعد ذكره الآية السابقة: قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله كما أن الذين يعبدونهم عباد الله وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين. اهـ4.

فالذي يتضح لنا من هذا أن المشركين كانوا في واد والذين يدعونهم في واد آخر حيث إن المدعوين كانوا مشتغلين بأنفسهم متجهين إلى ربهم يدعونه خوفاً من عذابه ورجاء رحمته.

1- سورة الإسراء آية: 56 ـ 57.

2-

مدارج السالكين 2/42.

3-

الدر المنثور للسيوطي 5/305.

4-

مجموع الفتاوى 1/158.

ص: 235

والمشركون زين لهم الشيطان توجيه حق الله من الدعاء والرجاء وطلب الشفاعة لأولئك الصالحين بشبهة أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ولم يشعروا لفرط جهلهم أنهم يزدادون بعداً عن الله بعمله ذلك، وهذا المزلق الذي كان سبباً في شرك المشركين الأولين وقع فيه الكثير من جهلة المسلمين اليوم فإنهم يرجون من يسمونهم بالأولياء كما يرجون الله ويدعونهم كما يدعون الله تعالى في الشدة والرخاء بل ويخافونهم كما يخافون الله تعالى وصرفوا لهم من التعظيم الذي لا يكون إلا لله الشيء الذي يجعل العاقل حيران فإنه وصل بهم الغلو في الصالحين إلى حد أنهم عبدوهم مع الله جل وعلا، بدعوى أنهم يحبونهم ويقدرونهم، ولقد انتشرت الأضرحة في أكثر البلدان الإسلامية والذي يصل إلى هذه البلدان يرى الجم الغفير من المسلمين عاكفين حول تلك القبور والأضرحة زاعمين أنهم يلتمسون البركة من أصحابها وأحياناً يصل بهم هذا التبرك إلى أنهم يطوفون بها وبعض الجهلة يسجد على عتبة الضريح والمصيبة كل المصيبة أنه يوجد حول تلك الأضرحة بعض الأشخاص من شياطين الإنس الذين يزينون للوافدين ذلك العمل من الطواف والسجود والتبرك الذي لا يجوز صرفه لغير الله.

ويقولون للوافدين هذا ليس من الشرك في شيء وإنما هو من باب محبة الصالحين أو التوسل بهم.

وهذا الأمر الحاصل بين صفوف المسلمين له خطره العظيم في إيقاع العامة من عباد الله في عبادة غير الله بحيث جعلوا الأولياء أنداداً لله وشركاء له في صرف العبادة لهم باسم التبرك والمحبة وهذا بعينه بريد الشرك وإعادة الوثنية التي كانت شائعة في القوم الذي بعث الله فيهم رسله عليهم الصلاة والسلام لتطهير أنفسهم من عبادة غير الله وخلع الأوثان التي كانت تعبد من دون الله.

وقد يتبادر إلى ذهن بعض البسطاء من هذا أننا نكره الأولياء والصالحين ونؤذيهم ونستخف بهم، حاشا وكلا ليس ذلك فينا بل إننا نحبهم في الله ونواليهم فيه ونطلب منهم الدعاء في حال الحياة لا بعد الممات وحال الغياب، وذلك ما يسمى بالتوسل بدعاء أهل الصلاح ويجب أن يفهم عنا أننا نفرق بين محبتهم في الله ومحبتهم مع الله، فمحبتهم في الله من الأعمال الصالحة ومحبتهم مع الله هو الشرك الذي وقع فيه كفار قريش قال تعالى:

ص: 236

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ} 1.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن أحب مخلوقاً مثل ما يحب الله فهو مشرك ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله"اهـ2.

ولنعد إلى موضوع الرجاء فنقول: إن الواجب على العبد أن يكون رجاؤه في الله تعالى لا في غيره فيرجو لقاء الله بصدق وإخلاص قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 3 فهذه الآية فيها حث الإنسان على أن يكون راجياً في ثواب المصير إلى الله تعالى فالرجاء سبب من الأسباب التي ينال بها العبد ما عند الله من مغفرة ذنوبه وهدايته وتوفيقه وإعانته على طاعته ودخوله الجنة ونجاته من النار فالرجاء هو قطب الرحى الذي يدور عليه صلاح العبادة.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة، ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات" أ. هـ4.

ولا يقال أن الرجاء اعتراض من العبد على ما سبق به حكم الله فليس الأمر كذلك بل إنما هو تعلق بما سبق به الحكم فإن العبد إنما يرجو فضلاً وإحساناً ورحمة سبق بها القضاء والقدر وجعل الرجاء أسباب حصولها فليس الرجاء اعتراضاً على القدر بل هو طلب لما سبق به قدر الله5.

وقد ذم الله الكافرين الذين لا يرجون لقاءه ورضوا بالحياة الزائلة واطمأنوا إليها فقد

1- سورة البقرة آية: 165.

2-

مجموع الفتاوى 15/49.

3-

سورة العنكبوت آية: 5.

4-

مدارج السالكين 2/42.

5-

مدارج السالكين 2/46.

ص: 237

حكم لهم بأن مأواهم النار قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1.

والآيات في عبودية الرجاء كثيرة ونكتفي منها بما قدمنا ذكره ولنذكر بعض ما ورد من السنة في هذا المعنى ليكتمل هذا المبحث إذ السنة دلت على عبودية الرجاء كما دل على ذلك القرآن فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير في هذا الجانب.

روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم

" الحديث2.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قوله: "يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به، وقال الكرماني: وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف وكأنه أخذه من جهة التسوية فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد وهو جانب الخوف لأنه لا يختاره لنفسه بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد وهو جانب الرجاء وهو كما قال أهل التحقيق مقيد بالمحتضر" ا. هـ3.

وروى البخاري أيضاً في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة. وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار"4.

فهذا الحديث دل على أنه يستحب للعبد أن يجمع بين الخوف والرجاء ولا ينبغي له أن يغلِّب أحدهما على الآخر فإنه لو غلب جانب الرجاء وانهمك في العصيان لربه فإن ذلك قد يؤدي به إلى أن يمكر الله به وإذا غلب عليه جانب الخوف ربما جره ذلك إلى اليأس. والغرض من الرجاء أن الإنسان لو وقع في تقصير فعليه أن يحسن الظن بالله تعالى ويرجو

1- سورة يونس آية: 7، 8.

2-

صحيح البخاري مع الفتح 13/384، وانظر صحيح مسلم 4/2061.

3-

الفتح 13/385.

4-

صحيح البخاري مع الفتح 11/301، وانظر صحيح مسلم 4/2109.

ص: 238

منه أن يمحو عنه الذنب وكذلك إذا وفقه الله للإتيان بالطاعة يرجو من الله أن يقبلها منه. أما أن يقع في معصية الله ويرجو عدم المؤاخذة بدون أن يندم على فعلها أو يقلع فهذا مصاب بالغرور. قال أبو عثمان الجيزي: "من علامة السعادة أن تطيع وتخاف أن لا تقبل ومن علامة الشقاء أن تعصي وترجو أن تنجو"1.

ومن الأحاديث الدالة على عبودية الرجاء الحديث القدسي الذي رواه الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي"2.

روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل"3.

ومما جاء في دعاء المكروب عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوات المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت"4.

والذي نخلص إليه من الآيات والأحاديث المتقدمة أن الرجاء عبادة قلبية لا تكون إلا لله عز وجل ويحرم على الإنسان أن يرجو سوى الله تعالى أياً كان فيما هو من خصائص الألوهية لأن ذلك من حق الله على خلقه فعلى العبد أن يرجو ربه طمعاً في رحمته وخوفاً من عقابه.

ولا يلتفت إلى قول بعض الصوفية كالهروي بأن الرجاء وقوع في الرعونة5 فهذا يعتبر من شطحات القوم لأنه لا رعونة فيمن يتجه إلى الله يرجوه ويطمع في بره وإحسانه وفضله ويسأل ذلك من ربه بقلبه ولسانه فإن الرجاء استشراق القلب لنيل ما يرجوه فإذا كان حال العبد على هذا فلا رعونة ههنا وإنما الرعونة في خلاف ذلك

1- الفتح 11/301.

2-

5/209.

3-

4/2209.

4-

السنن 2/618.

5-

انظر منازل السائرين مع شرحه مدارج السالكين 2/37.

ص: 239

قال العلامة ابن القيم: "وهل الرعونة كل الرعونة إلا دعواه؛ أنه يحب ربه لعذابه لا لثوابه، وأنه إذا أحبه وأطاعه للثواب كان ذلك حظاً وإيثاراً لمراد النفس بخلاف ما إذا أحبه وأطاعه ليعذبه. فإنه لا حظ للنفس في ذلك، فو الله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج، وماذا يلعب الشيطان بالنفوس؟ وإن نفساً وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة المحتاجة إلى سؤال المعافاة" اهـ1.

والناظر إلى حال المتصوفة الذين غلب عليهم الهوى يجد الفرق الشاسع بين طريقتهم وطريق الأنبياء والرسل ويجد أنهم مخالفون لمنهج خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام فالرسول صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"2.

وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلِّمه دعاء يدعو به في الصلاة فقال "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت. فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"3.

وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلِّمها دعاء تدعو به إن هي وافقت ليلة القدر فقال لها: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني" قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح4.

وقد أخبرنا سبحانه وتعالى بأن أولي الألباب الذين هم أولياؤه وخاصته سألوه أن يقيهم عذاب النار فقال تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} 5.

فأين هذا من حال من يقول إنه لا يحب الله من أجل ثوابه لأنه عين حظه وإنما يحبه لعقابه. لأنه لا حظ له فيه. ويزعم أن الرجاء عين حظه فهذا يدل على فساد العقل واتباع الهوى.

1- مدارج السالكين 2/47 ـ 48.

2-

الحديث رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة 1/352.

3-

صحيح البخاري مع الفتح 2/317، صحيح مسلم 4/2078.

4-

سنن الترمذي 5/195.

5-

سورة آل عمران آية: 191.

ص: 240

وهؤلاء الصوفية قد يخطر على بال أحدهم أن الله لو عذبه لرضي بذلك العذاب كما يرضى صاحب الثواب بثوابه. ويعزم على ذلك بقلبه ولكن هذا من أماني الشيطان الخادعة إذ عند حصول الحقيقة لا يكون لتلك الأمنية أثر ألبتة ولو امتحن الله أحدهم بأدنى محنة لصاح واستغاث وجأر إلى الله أن يعافيه من ذلك، وقد ذكر ابن القيم أن رجلاً يقال له سمنون كان يقول:

وليس لي من هواك بد

فكيف ما شئت فامتحني

فامتحنه الله بعسر البول فضاعت هذه الدعوى عنه واضمحلت وجعل يطوف على الصبيان في المكاتب ويقول: ادعوا لعمك الكذاب. فالعزم على الرضى لون وحقيقته لون آخر"1.

فعلى العبد المسلم أن يلح على ربه ويرجوه ويستسلم لله في ذلك ويحذر من تلاعب الشيطان به فيؤدي به ذلك إلى ترك الرجاء وإذا وقع في ذلك لم تكتمل عبوديته لربه سبحانه وتعالى وكلما قوي تعلق العبد برجائه ربِّه وخوفه منه كثر فرحه يوم القيامة بحصول مرجوه فينبغي للعبد أن يكون خائفاً راجياً لأن الخوف مستلزم للرجاء والرجاء متضمن للخوف فكل راج خائف وكل خائف راج ولذلك جاء الرجاء في موضع يصلح فيه وقوع الخوف في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً} 2 قال الشوكاني3 رحمه الله تعالى: "أي: أيُّ عذر لكم في ترك الرجاء والرجاء هنا بمعنى الخوف أي ما لكم لا تخافون الله" أ. هـ4.

وقبل أن نختم هذا المبحث نقول: إنه ينبغي لكل مكلف أن يمضي حياته بين الخوف والرجاء ولا يفرط في الرجاء حتى يصير مع المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان

1- مدارج السالكين 2/49 ـ 50 بتصرف يسير.

2-

سورة نوح آية: 13.

3-

هو: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني: فقيه، مجتهد من كبار علماء اليمن من أهل صنعاء، ولد بهجرة شوكان "من بلاد خولان باليمن" ونشأ بصنعاء وولي قضاءها، ومات حاكماً بها. ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف وتوفي سنة خمسين ومائتين وألف هجرية. انظر ترجمته في "كتاب البدر الطالع 2/214 ـ 225، نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر 2/297، جلاء العينين ص46".

4-

فتح القدير 5/498.

ص: 241

شيء ولا يوغل في الخوف حتى يكون في صف الخوارج والمعتزلة الذين قالوا إن صاحب الكبيرة مخلد في النار إذا مات ولم يتب بل عليه أن يلزم الطريق الوسط بينهما كما قال عز وجل {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 1 والذي يمعن النظر في دين الإسلام يجد قواعده أصولاً وفروعاً كلها في جانب الوسط وبالله التوفيق وهو المستعان.

1 - سورة الإسراء آية: 57.

ص: 242