الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة
لقد وردت آيات كثيرة في السورة كلها توجب على العباد أن يفردوا الله بتوحيد العبادة، ويخصوه بها وحده دون سواه.
قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} .
وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} .
وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} .
وقال تعالى: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .
هذه الآيات الكريمة من السورة تقرر أنه ـ سبحانه ـ هو الذي يستحق أن توجه له العبادة بجميع أنواعها الإعتقادية والقولية والعملية وليس لأحد سواه كائناً من كان أي شيء من أنواع العبادة، كما تقرر أن أي نوع من أنواع العبادة لم يوجه لله، أو وجه له، ولكن فيه شركة لغيره معه، فإنه باطل، وغير مقبول، لأن الله ـ تعالى ـ لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، وأن من عمل أي عملٍ لله، وأشرك معه فيه غيره من المخلوقين كائناً من كان فإن الله يتركه وشركه، لأنه ـ سبحانه ـ أغنى الشركاء عن الشرك.
فالآيات المتقدمة عددها ثمان آيات كلها دلت على وجوب إفراد الله ـ تعالى ـ بتوحيد العبادة وتجريدها له وحده دون سواه.
فالآية الأولى: منها هي قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} فهذه الآية أمر من الله ـ جل وعلا ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يخلص لله جميع دينه من العبادات الظاهرة والباطنة، وأن يفرد الله بها وحده، ويقصد بها وجهه ولا يتطلع إلى أي مقصد آخر، وأمته تبع له في ذلك، وإن كان الخطاب موجهاً له أصلاً وذاتاً فالخطاب موجه إلى كل مكلف من العباد.
قال العلامة ابن جرير حول هذه الآية: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} :
"يقول تعالى ذكره: فاخشع لله يا محمد بالطاعة، وأخلص له الألوهية وأفرده بالعبادة ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكاً كما فعلت عبدة الأوثان" اهـ1.
وقال ابن كثير: أي: "فاعبد الله ـ وحده ـ لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له ـ وحده ـ وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد"2.
وأما الآية الثانية: فهي قوله تعالى: {أَلا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} فهي تقرير للأمر في الآية السابقة بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، فكما أنه ـ سبحانه ـ له الكمال المطلق، وله التفضل كله على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الذي صفي من كل شوائب الشرك صغيرها، وكبيرها، وهذا هو الدين الذي ارتضاه لنفسه وارتضاه لرسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، وأمرهم به لأنه يتضمن التأله لله في حبه ورجائه، وخوفه، والإنابة إليه في العبودية، والرجوع إليه في تحصيل جميع المطالب لعباده، ومتى كانت العبادة خالصة لله كانت سبباً لصلاح القلوب وتزكيتها وتطهيرها أما إذا كانت ملوثة بالشرك فإن الله بريء منها، وليس له فيها شيء فهو الغني عن عبادة شابها شرك لأنه ـ سبحانه ـ أغنى الشركاء عن الشرك الذي هو مفسد للقلوب والأرواح ومشقٍ للنفوس في الآخرة والأولى.
وأما الآية الثالثة: فهي قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} فهذه الآية أيضاً: فيها الأمر من الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين من قومه: إن الله أمره أن يعبده مفرداً له الطاعة دون كل ما يدعى من دونه من الآلهة والأنداد التي يعبدها المشركون.
1- جامع البيان 23/190.
2-
تفسير ابن كثير 6/78.
قال ابن كثير: "وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة لله ـ وحده ـ لا شريك له"1.
وأما الآية الرابعة: فهي قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} .
وهذه الآية أيضاً: فيها أمر من الله جل جلاله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يكون أول المسلمين من أمته. قال أبو عبد الله القرطبي2: "وكذلك كان فإنه كان أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام، وحطمها وأسلم لله وآمن به ودعا إليه صلى الله عليه وسلم" اهـ3.
والحال كما أخبر به القرطبي فإنه عليه الصلاة والسلام كان سباقاً إلى امتثال أمر الله لأنه الداعي للخلق إلى ربهم فيقتضي أن يكون أول منفذ لأمر الله ومطبقاً له، وأول من يسلم وجهه لله، وهذا الأمر لا بد من وقوعه منه عليه الصلاة والسلام وكذلك لا بد أن يكون من ادعى أنه من أتباعه فلا بد من الإسلام في جميع الأعمال الظاهرة والإخلاص لله في جميع الأعمال الظاهرة والباطنة.
وأما الآية الخامسة: فهي قوله تعالى: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} .
هذه الآية أيضاً: نصت على أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن لكفار قريش أنه لا يعبد إلا لله العبادة الخالصة ويفرده وحده بالطاعة.
قال ابن جرير حول هذه الآية: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} "قل يا محمد لمشركي قومك: الله أعبد مخلصاً، مفرداً له طاعتي، وعبادتي لا أجعل له في ذلك شريكاً ولكني أفرده بالألوهية، وأبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة" اهـ4.
وأما الآية السادسة: فهي قوله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
1- تفسير القرآن العظيم 6/83.
2-
هو: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبو عبد الله القرطبي، من كبار المفسرين صالح متعبد من أهل قرطبة، توفي سنة إحدى وسبعين وستمائة هجرية. انظر ترجمته في مقدمة كتاب:"الجامع لأحكام القرآن"، طبقات المفسرين 2/69 ـ 71، الأعلام 6/217.
3-
الجامع لأحكام القرآن 15/242.
4-
جامع البيان 23/204.
هذه الآية: سمتها التهديد والوعيد الشديد لمن خذل نفسه وأصر على كفره وإشراكه بالله ـ تعالى ـ بعبادته ما سواه من الأحجار وغيرها من المعبودات التي عبدت من دون الله، فلم يستجب لأوامر الله التي تقضي بإفراده ـ سبحانه ـ بالعبادة التي هي خالص حقه على عباده.
كما تضمنت التبرِّي ممن حاله كذلك، وبينت الخسارة التي تلحق أهل الإشراك وتحل بهم في الآخرة وتلك الخسارة هي خسارة الأنفس والأهل يوم القيامة حيث يتفارقون فلا يلتقون سواءً ذهب أهلوهم إلى الجنة، وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أمر بهم إلى النار ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "وليس من أحد إلا وقد خلق له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله"1.
وقال ابن زيد: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: "هؤلاء أهل النار خسروا أنفسهم في الدنيا وخسروا الأهلين، فلم يجدوا في النار أهلاً، وقد كان لهم في الدنيا أهل".
وقال مجاهد: "غبنوا أنفسهم وأهليهم قال: يخسرون أهليهم فلا يكون لهم أهل يرجعون إليهم، ويخسرون أنفسهم فيهلكون في النار فيموتون وهم أحياء فيخسرونهما"2 وهذا هو الخسران الظاهر البين الذي لا يصل في درجته أي خسران وسيحل بهم هذا الخسران عقوبة لهم على إشراكهم بالله العظيم حيث عبدوا معه من لا يستحق العبادة، وطأطئوا رؤوسهم لمخلوقين مثلهم لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً، ولا حياة ولا نشوراً، وبذلك حل بهم خسران ليس مثله خسران، وهو خسران دائم لا ربح بعده ولا سلامة.
وأما الآية السابعة: فهي قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} هذه الآية تضمنت استنكاراً بليغاً صدع به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أمره الله ـ تعالى ـ به، وهو أن يقول للمشركين الذين طلبوا منه أن يعبد آلهتهم أو يكف عن تحقيرها: {أَفَغَيْرَ اللهِ
1- الجامع لأحكام القرآن 15/243.
2-
جامع البيان 23/205.
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} .
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجلاً بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء فقالوا: هذا لك يا محمد، وتكف عن شتم إلهتنا ولا تذكرها بسوء فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة. قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. َلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد. ُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وأنزل {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 1.
وهذا العرض من المشركين ينبئ عن فرط جهلهم وسخافة عقولهم حيث ظنوا أن القضية مساومة، ولم يدركوا أن أمر العبادة والعقيدة هو أمر الله وحده، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء، وإنما الأمر في ذلك لله وحده لا شريك له، فهو ـ سبحانه ـ الآمر الذي لا راد لأمره وهو الذي يحكم فلا معقب لحكمه، فيتضح من هذا أنه لا التقاء بين التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبين الشرك الذي امتلأت به قلوب المشركين، وخيم على عقولهم لأنهم ليسوا على دين وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون بتوجيههم العبادة التي هي لله على عباده إلى من لا يستحقها من المخلوقات والجمادات بدعوى أنها تقربهم إلى الله زلفى وليس كذلك، وإنما تزيدهم عن الله بعداً، ومن النار قرباً.
وأما الآية الثامنة: فهي قوله تعالى: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .
قال العلامة ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا تعبد ما أمرك به هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بعبادته بل الله فاعبد دون كل ما سواه من الآلهة والأوثان والأنداد {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لله على نعمته عليك بما أنعم من الهداية لعبادته، والبراءة من عبادة الأصنام والأوثان" اهـ2.
وقال ابن كثير: " {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدقك" اهـ3.
وبهذه الآيات المتقدمة يتبين لنا أن توحيد الألوهية هو أول الدين وآخره وباطنه
1- لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص236.
2-
جامع البيان 24/24 ـ 25.
3-
تفسير القرآن العظيم 6/106.
وظاهره، وهو أول دعوة المرسلين وآخرها، ومن أجله خلق الله الخلق قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 1.
قال العلامة ابن القيم: "إن الله ـ سبحانه ـ إنما خلق لعبادته الجامعة لمحبته والخضوع له وطاعته وهذا هو الحق الذي خلقت به السموات والأرض، وهو غاية الخلق والأمر، ونفيه كما يقول أعداؤه: هو الباطل والعبث الذي نزه نفسه عنه أن يترك الإنسان عليه وهو ـ سبحانه ـ يحب أن يعبد ويطاع، ولا يعبأ بخلقه شيئاً لولا محبتهم له، وطاعتهم له، ودعاؤهم له، وقد أنكر على من زعم أنه خلقهم لغير ذلك، وأنهم لو خلقوا لغير عبادته وتوحيده وطاعته لكان خلقهم عبثاً وباطلاً وسدى، وذلك مما يتعالى عنه أحكم الحاكمين، والإله الحق، فإذا خرج عن أحب الأشياء إليه، وعن الغاية التي لأجلها خلقت الخليقة، وصار كأنه خلق عبثاً لغير شيء إذ لم تخرج أرضه البذر الذي وضع فيها بل قلبته شوكاً ودغلاً، فإذا راجع ما خلق له، وأوجد لأجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحب الأشياء إلى خالقه وفاطره، ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خلق لأجلها وخرج عن معنى العبث والسدى والباطل فاشتدت محبة ـ الرب ـ له فإن الله يحب المتطهرين"اهـ2.
ومن أجل هذا النوع من أنواع التوحيد ـ توحيد الألوهية ـ انقسم الخلق إلى مؤمنين وكافرين.
قال شيخ الإسلام: "وهذا التوحيد هو الفارق يبن الموحدين والمشركين وعليه يقع الجزاء والثواب في الأولى والآخرة فمن لم يأت به كان من المشركين"3.
1- سورة الذاريات آية: 56.
2-
مدارج السالكين 1/215، وانظر مجموع الفتاوى 1/23.
3-
الحسنة والسيئة ص126.