الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة
لقد جاء في السورة ذكر العبودية العامة، والخاصة في عدة آيات منها:
فالعبودية العامة:
هي عبودية أهل السموات والأرض جميعهم عبيده ـ تعالى ـ برهم، وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم وهذه العبودية هي عبودية القهر والملك وهذه العبودية أشار إليها الله في السورة بقوله ـ تعالى ـ {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
وقوله ـ تعالى ـ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} الآية.
فلفظ "العباد" في هاتين الآيتين يتناول العبودية العامة والخاصة مثل قوله ـ تعالى ـ {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 1. فهذه يدخل فيها كل عباده مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم.
العبودية الخاصة:
وأما العبودية الخاصة فهي عبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر والبعد عن النواهي وقد جاء في السورة في عدة آيات قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} الآية.
وقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الآية.
وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} فالعبودية المذكورة في هذه الآيات هي
1- سورة مريم آية: 93.
عبودية أهل طاعته وولايته وهم عبيد إلهيته الذين أخلصوا له كل أنواع العبادة فلم يصرفوا منها شيئاً لسواه قط.
ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه على سبيل الإطلاق إلا لهؤلاء.
وأما وصف عبيد الربوبية فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه:
الوجه الأول: أن يأتي منكراً مثل قوله ـ تعالى ـ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 1
الوجه الثاني: أن يكون معرَّفاً باللام كقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} 2.
الوجه الثالث: أن يكون مقيداً بالإشارة كقوله ـ تعالى ـ: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} 3.
الوجه الرابع: أن يذكروا في عموم العباد فيندر جوامع أهل طاعته في الذكر كقوله ـ تعالى ـ: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
الوجه الخامس: أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله تعالى ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} .
هذه الآية من السورة قد يقال فيها:
إنما سماهم الله "عباده" إذ لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه بالطاعة واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم، فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة والسر في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة لأن أصل معنى اللفظة "الذل والخضوع" يقال "طريق معبَّد" إذا كان مذللاً بوطء الأقدام و"فلان عبَّده الحب" إذ ذلَّلَه لكن أولياء الله خضعوا له وذلوا طوعاً واختياراً، وانقياداً لأمره ونهيه، وأما أعداؤه فخضوعهم له إنما كان قهراً ورغماً4.
1- سورة مريم آية: 93.
2-
سورة غافر آية: 32.
3-
سورة الفرقان آية: 17.
4-
مدارج السالكين 1/105 ـ 106، العبودية لشيخ الإسلام ص47، 51.
وتحقيق العبودية هو الكمال ولقد كان للأنبياء عليهم الصلاة والسلام النصيب الأوفر من ذلك وكلما كان الإنسان أكثر تحقيقاً للعبودية لله تعالى كلما كان أكثر رقياً في سلم الكمال الإنساني، وكلما ابتعد عن تحقيق العبودية كلما هبط وانحدر. والرسل حازوا قصب السبق في هذا الميدان فقد كانت حياتهم انطلاقة جادة في تحقيق هذه العبودية. وهذا خاتم الرسل وسيد الأولين والآخرين يثني عليه ربه في أشرف المقامات بالعبودية فيصفه بها في مقام الوحي.
قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 1 وأثنى عليه بها في مقام إنزال الكتاب {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 2.
وأثنى عليه بها في مقام الإسراء قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} 3.
وبهذه العبودية التامة استحق عليه الصلاة والسلام التقديم على الناس في الدنيا والآخرة ولذلك يقول عيسى عليه السلام للناس إذا طلبوا منه الشفاعة بعد طلبها من الرسل من قبله يقول: "ائتوا محمداً عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" 4 فالسعادة كل السعادة في أن يتحلى الإنسان بتحقيق العبودية الخاصة فيدين لله بالطاعة، والمحبة وامتثال الأوامر والاجتناب عن النواهي.
1- سورة النجم آية: 10.
2-
سورة الفرقان آية: 1.
3-
سورة الإسراء آية: 1.
4-
رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه 4/279.