المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

قبل أن نبدأ بعرض الآيات الواردة في السورة التي تبين أن الدعاء عبادة لا يستحقها إلا الله ـ جل وعلا ـ نذكر معنى الدعاء في اللغة والشرع ليتضح مفهومه أكثر.

أما الدعاء في اللغة:

فقد جاء في الصحاح للجوهري1: "ودعوت فلاناً أي: صحت به واستدعيته ودعوت الله له وعليه دعاءاً، والدعوة المرة الواحدة والدعاء واحد الأدعية" اهـ2.

وجاء في القاموس: الدعاء الرغبة إلى الله ـ تعالى ـ اهـ3.

وقال في المصباح: "دعوت الله أدعوه دعاءاً ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً ناديته وطلبت إقباله"4.

وأما الدعاء في الشرع:

فإنه يؤخذ من التعاريف اللغوية وهو: الإتجاه إلى الله ـ تعالى ـ بطلب نفع أو دفع ضر، أو رفع بلاء، أو النصر على عدو، أو نحو ذلك.

فهذا الاتجاه بالسؤال المنبعث من القلب لله ـ تعالى ـ هو روح العبادة ومخها كما ورد بذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"5.

1- هو: إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة هجرية.

2-

6/2337.

3-

4/329.

4-

1/194.

5-

رواه الترمذي 5/52 من حديث النعمان بن بشير رضي الله ـ تعالى ـ عنه.

ص: 195

فيتبين من تعريف الدعاء في اللغة والشرع أن الدعاء في الأصل هو الطلب ويطلق على العبادة، وقد دلت السورة على أن الدعاء عبادة وأنه لله ـ وحده ـ لا شريك له في آيتين منها: ـ

قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لله أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} .

وقال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} .

فالآيتان الأوليان من هذه الآيات الأربع بين الله تعالى فيهما أن العبد إذا نزل به البلاء وأحاطت به المحن جأر إلى الله وفزع إليه بالدعاء لما تقرر في فطرته أنه لا يكشف ما به من البلاء والمحن إلا الله ـ تعالى ـ الذي أوجده من قبل ولم يك شيئاً، ثم إنهما توضحان ما تنطوي عليه تلك الفطرة، وما يعتريها من التغيرات والتقلبات في حالتي الشدة والرخاء.

فالآية الأولى: وهي قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} الآية يخبر الله تعالى فيها عن كرمه وإحسانه وبره بعبده وقلة شكر عبده على ذلك وأنه حين يمسه الضر من المرض، أو الفقر، أو الوقوع في الكربات يعلم أنه لا ينجيه ولا ينقذه منها إلا الله فيدعوه ملحاً متضرعاً منيباً، ويستغيث به في كشف ما نزل به ويلح في ذلك فإذا ما أنعم الله عليه بكشف ما نزل به من الضر والكرب نسي ذلك الذي دعا الله من أجله ومر كأنه لم يصبه شيء فرجع إلى الشرك بأن جعل لله الأنداد وهم الشركاء والأمثال والأشباه فضل بنفسه وأضل غيره لأن إضلاله لغيره متولد وناتج عن ضلاله. ثم أمر الله نبيه بأن يقول لمن اشتهر بهذا العتو، وهو تبديل نعمة الله كفراً {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} فلا ينفعه ما يتمتع به في هذه الدنيا من الأموال وسائر النعم إذا كان المآل هو النار1.

1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23/199 ـ 200، تفسير القرآن العظيم 6/81، الجامع لأحكام القرآن 15/237 ـ 238، فتح القدير للشوكاني 4/452.

ص: 196

وأما الآية الثانية: وهي قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .

وهذه الآية أيضاً: كسابقتها تبين أن العبد حين يصاب بالشدة والبلاء تقوى صلته بربه في هذه الحال فيدعوه ويضرع إليه أن يزيل عنه ما حل به من الكوارث وينيب إليه إنابة صادقة ويتجلى أمام عينيه الصراط المستقيم ويعلم علم يقين أن كل ما سوى الله من الأنداد والأوثان والأصنام وغيرها من المخلوقات ليس لهم القدرة على كشف ما به، فعند ذلك يلجأ إلى الله ويفيق من ظلمات الجهل وركام الشرك وينقشع عنه كل ما يخالجه من الأوهام الباطلة فيتجه إلى الله بالدعاء الخالص واللجوء الصحيح ويكفر بكل ما سوى الله ـ تعالى ـ من الشركاء والشفعاء المزعومين.

أما إذا ذهب عنه الضر وحل به الرخاء وخوله الله بشتى النعم فإن حاله ينعكس غالباً وهنا يدنس فطرته التي كانت قد استيقظت في حالة الشدة فيلبسها لباس الشرك وينسى توحيده لربه وإنابته إليه وتطلعه إليه في إزالة ما به من الفقر والمرض وسائر أنواع الكرب فيبدأ بالكفر بنعم الله وينسبها إلى نفسه وأنها إنما جاءت إليه لذكائه ودقة حيلته ويكفر بربه الذي هو مصدر كل النعم.

{ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .

قال الحافظ ابن كثير: "يخبر تعالى أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله وينيب إليه، ويدعوه، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} لعلم الله بي بأنني أستحق ذلك ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا. قال قتادة: على علم عندي قال الله عز وجل: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ مع علم الله المتقدم بذلك فهي فتنة أي اختبار: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ولهذا يدعون ما يدعون ويقولون ما يقولون" اهـ1.

فيجب على الإنسان أن يعلم أن كل ما به من نعمة فهي من الله ـ تعالى ـ وأنه ليس له حول ولا قوة في جر النفع إلى نفسه أو دفع الضر عنها والإنسان عندما ينسب النعم التي حباه

1- تفسير القرآن العظيم 6/99.

ص: 197

الله بها إلى نفسه وأنها إنما جاءت إليه بحيلته وذكائه وخبرته الفائقة بوجوه المكاسب لا شك أن ذلك جحد لنعم الله وهو يؤدي إلى الكفر بالمنعم الذي هو الله ـ تعالى ـ مصدر كل النعم، فيجب على العبد أن يعرف المنعم بذلك حتى يكون شاكراً لربه الرازق العليم.

وأما الآيتان الأخيرتان من الآيات المتقدمة وهما قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} .

فهاتان الآيتان تضمنتا التهديد والوعيد لمن ينسب نعم الله إلى نفسه وأن من زعم ذلك فإنما هو مقتدٍ بقارون الذي اغتر بكثرة ماله، وما أعطاه الله من أصناف النعم فكانت عاقبته النهائية أن خسف الله به وبداره الأرض فلم يجد معيناً ولا نصيراً يمنعه من بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقوله تعالى {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية. أوضحت بأنه قد سبق من الأمم من زعم أنما آتاه الله المال لما يعلم الله تعالى من استحقاقه له ولولا أنه خصيص عند الله لما خوله الله تلك النعم فهذه المقالة المبغوضة عند الله ـ تعالى ـ بينت السورة أنها متداولة لدى الجبابرة من سائر الأمم يتوارثها الجاحدون لنعم الله ـ تعالى ـ كما أوضحت أن كسبهم لا يغني عنهم شيئاً من عقاب الله وأن وبال ذلك راجع عليهم كما أوضحت أن الظلمة من المخاطبين سيصيبهم ما أصاب الظالمين من الأمم قبلهم {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} قال تعالى مخبراً عن قارون أنه قال له قومه:{لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} 1.

وكون العبد ينسب نعم الله إلى نفسه وأنها وافته بفضل ما عنده من الحرص والذكاء وشدة الحيلة والعلم بوجوه المكاسب هذا من علامة الخذلان والعياذ بالله، والكفر بالله إذ الكفر بالنعمة كفر بالمنعم.

1- سورة القصص آية: 76 ـ 78.

ص: 198

قال العلامة ابن القيم: " وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه كما قال تعالى:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أي على علم علمه الله عندي استحق به ذلك وأستوجبه واستأهله، قال الفراء: أي على فضل عندي أني كنت أهله ومستحقاً له إذ أعطيته، وقال مقاتل: يقول على خير علمه الله عندي. وذكر عبد الله بن الحارث بن نوفل سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام فيما أوتي من الملك ثم قرأ قوله ـ تعالى ـ {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} 1.

ولم يقل هذا من كرامتي، ثم ذكر قارون وقوله:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 2 يعني: أن سليمان رأى ما أوتيه من فضل الله عليه ومنته وأنه ابتلي به فشكره، وقارون رأى ذلك من نفسه واستحقاقه. وكذلك قوله ـ سبحانه ـ {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} 3 أي أنا أهله وحقيق به فاختصاصي به كاختصاص المالك بملكه.

والمؤمن يري ذلك ملكاً لربه وفضلاً منه من به على عبده من غير استحقاق منه بل صدقة تصدق بها على عبده، وله أن لا يتصدق بها. فلو منعه إياها لم يكن قد منعه شيئاً هو له يستحقه عليه، فإذا لم يشهد ذلك رأي فيه أهلاً ومستحقاً فأعجبته نفسه وطغت بالنعمة وعلت بها واستطالت على غيرها فكان حظها منها الفرح والفخر كما قال تعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} 4. فذمه باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء واستبدل بحمد الله وشكره والثناء عليه إذ كشف عنه البلاء قوله: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} ، ولو أنه قال: أذهب الله السيئات عني برحمته ومنه لما ذم على ذلك، بل كان محموداً عليه ولكنه غفل عن المنعم بكشفها ونسب الذهاب إليها وفرح وافتخر فإذا علم الله ـ سبحانه ـ هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه

1- سورة النمل آية: 40.

2-

سورة القصص آية: 78.

3-

سورة فصلت آية: 50.

4-

سورة هود آية: 9 ـ10.

ص: 199

وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة كما قال تعالى:1.

فأخبر ـ سبحانه ـ أن محلهم غير ق {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ابل لنعمته ومع عدم القبول ففيهم مانع آخر يمنع وصولها إليهم وهو توليهم وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها"اهـ2.

ومما ينبغي أن يعلم أن توسيع الرزق على بعض العباد ليس ذلك دليلاً على أنهم محبوبون عند الله ـ تعالى ـ كما أن تضييقه على بعضهم لا يدل على بغضهم فإن الدنيا يؤتيها الله من يحب ومن لا يحب فتوسيع الرزق إنما هو ابتلاء وامتحان منه ـ سبحانه ـ وتعالى لعبيده لينظر أيشكرونه أم يكفرونه؟ وفي ذلك عبرة للمعتبرين وحجة على المعاندين.

وبعد هذه اللمحة لبيان معنى الآيات الأربع المتقدمة التي جاء في بعضها التنبيه على عبودية الدعاء، نقول: إن الدعاء من أجل العبادات، بل هو أكرمها على الله عز وجل وقد حث الله في كتابه العزيز على إخلاص الدعاء له وحده لا شريك له وبذلك جاءت السنة التي أوحاها الله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

الدعاء نوعان:

1 ـ دعاء عبادة.

2ـ دعاء مسألة.

ولفظ الدعاء في القرآن الكريم يراد به هذا تارة، وهذا تارة ويراد به مجموعهما وهما متلازمان كما سنوضح ذلك.

فأما دعاء العبادة: فهو التقرب إلى الله ـ تعالى ـ بأنواع العبادات من الصلاة، والذبح، والنذر، والصيام، والحج وغيرها خوفاً من عقاب الله وطمعاً في رحمته وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب، فالعابد الذي يرغب في حصول مطلوبه ويخاف على فواته هو سائل لما يطلبه بامتثال أمر الله ـ تعالى ـ.

1- سورة الأنفال آية: 22 ـ 23.

2-

الفوائد ص:200 ـ 201.

ص: 200

وأما دعاء المسألة: فهو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه ومن يملك الضر والنفع هو المعبود حقاً، والمعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر1.

ولقد أنكر ـ الباري ـ سبحانه ـ على الذين يعبدون غيره ممن لا يملكون لعابديهم ضراً ولا نفعاً، وكثر أسلوب الإنكار في القرآن الكريم من أجل هذا.

قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} 2.

فهذه الآية تضمنت الإنكار الشديد على عباد الأصنام والأنداد والأوثان وبداية الآية كما هو مشاهد أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لعموم العابدين لغير الله ـ تعالى ـ من سائر بني آدم بما فيهم النصارى: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} أي: لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم، أما الله ـ جل وعلا ـ فإنه يسمع أقوالكم ويعلم أحوالكم فلم تعدلون عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئاً ولا يملك ضراً ولا نفعاً لغيره ولا لنفسه؟ 3.

وقال تعالى زيادة في الإنكار على الذين يعبدون ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} 4 وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 5 وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 6 وغيرها من الآيات كثير كلها تنفي عن المعبودين من دون الله النفع والضر القاصر والمتعدي فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم ضراً ولا نفعاً فالمعبود يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى على طريق الخوف، والرجاء دعاء العبادة ومن هذا يعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة يتضمن دعاء العبادة. ومن هذا قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 7.

1- مجموع الفتاوى 15/10، بدائع الفوائد لابن القيم 3/2، تيسير العزيز الحميد ص180 ـ 192.

2-

سورة المائدة آية: 76.

3-

انظر تفسير ابن كثير: 2/617.

4-

سورة يونس آية: 18.

5-

سورة يونس آية: 106.

6-

سورة الفرقان آية: 3.

7-

سورة البقرة آية: 186.

ص: 201

فهذه الآية اشتملت على نوعي الدعاء وفسرت بهما معاً.

فقيل: أعطيه إذا سألني.

وقيل: أثيبه إذا عبدني1.

وكلا التفسيرين متلازمان "وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعاً فتأمله فإنه موضع عظيم النفع قل من يفطن له وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعداً هي من هذا القبيل"2.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} 3.

وهذه الآية فيها قولان للمفسرين:

الأول: قيل لولا دعاؤكم إياه.

الثاني: قيل لولا دعاؤه إياكم إلى عبادته4.

فعلى القول الأول: يكون المصدر مضافاً إلى الفاعل، وعلى القول الثاني: يكون المصدر مضافاً إلى المفعول. ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى ـ الأول5 وعلى هذا فالمراد بلفظ الدعاء في الآية نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر والمعنى أي: ما يعبأ بكم لولا أنكم تعبدونه عبادة تستلزم طلبه وسؤاله.

وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 6.

وهذه الآية أيضاً تضمنت نوعي الدعاء معاً إلا أنها في دعاء العبادة أظهر ولذلك جاء

1- مجموع الفتاوى 15/11، بدائع الفوائد: 3/3.

2-

بدائع الفوائد 3/3.

3-

سورة الفرقان آية: 77.

4-

البحر المحيط لأبي حيان 6/517، انظر إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن 2/166.

5-

مجموع الفتاوى 15/12، بدائع الفوائد 3/3.

6-

سورة غافر آية: 60.

ص: 202

التعقيب بعد الأمر بالدعاء فيها بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .

وقد روى الترمذي بإسناده إلى النعمان بن بشير رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح1.

فهذه الآيات التي قدمنا ذكرها دلت دلالة صريحة على أن نوعي الدعاء بينهما تلازم كما قدمنا ذلك قريباً، فينبغي للإنسان أن يكون على معرفة بهذا وأن يحققه جيداً حتى يستطيع الرد على القبوريين الذين يدعون أهل القبور من دون الله ـ تعالى ـ ويحتجون على من أنكر عليهم فعلهم ذلك بأن الدعاء الذي أمر الله بأن يكون خالصاً له وحده لا شريك له إنما هو دعاء العبادة وليس المسألة ويزعمون أن قوله ـ تعالى ـ {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلا تَدْعُو مَعَ الله أَحَداً} 2. أي لا تعبدوا مع الله غيره، والرد عليهم سهل ويسير فيقال لهم: سلمنا لكم جدلاً أن المراد به دعاء العبادة لكن لا يمنع ذلك من أن يدخل فيه دعاء المسألة لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة ويقال لهم أيضاً: إن الله ـ تعالى ـ أمر عباده بأن يدعوه دعاء مسألة في مواضع كثيرة من كتابه. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3 فهذه الآية واضحة في دعاء المسألة، ويؤيد ذلك سبب نزولها وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه فيقول مرة:"يا الله"، ومرة "يا رحمن" فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عبد الله عباس رضي الله عنهما:"سمع المشركون النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في سجوده "يا رحمن يا رحيم" فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعوه مثنى مثنى"، فأنزل الله هذه الآية:{قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} 4 ومعنى هذه الآية الكريمة: الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين الذين أنكروا صفة الرحمة لله عز وجل المانعين من تسميته

1- سنن الترمذي 5/52.

2-

سورة الجن آية: 18.

3-

سورة الإسراء آية: 110.

4-

مجموع الفتاوى 15/14، بدائع الفوائد 3/5، تفسير ابن كثير 4/359.

ص: 203

"بالرحمن"{ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} أي لا فرق بين دعائكم له باسم "الله" أو باسم "الرحمن" فإنه ذو الأسماء الحسنى.

وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1.

وهذه الآية تضمنت إرشاداً من الله لعباده بأن يدعوه تضرعاً وتذللاً لأن الدعاء فيه صلاح دنياهم وأخراهم، كما أنها تتناول نوعي الدعاء لكنها ظاهرة الدلالة في دعاء المسألة المتضمن دعاء العبادة ولهذا أمر ـ سبحانه ـ بإخفائه وإسراره2. وقوله تعالى في هذه الآية {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فسر الاعتداء بتفسيرين:

1 ـ قيل: المراد إنه لا يحب المعتدين في الدعاء كالسائل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك. وقد جاء في سنن أبي داود رحمه الله تعالى عن عبد الله بن معقل أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء"3.

وعلى هذا فالاعتداء في الدعاء تارة يكون بسؤال الله ما لا يجوز له سؤله كسؤاله العون على المعصية، وتارة يسأل الله سؤالاً لا يفعله كطلب الخلود إلى يوم القيامة أو يدفع عنه لوازم البشرية بأن يرفع عنه الحاجة إلى الطعام والشراب أو يطلعه على الغيب أو يجعله في المعصومين، أو يطلب من الله الولد من غير زوجة وغير ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله.

التفسير الثاني للآية: قيل الاعتداء برفع الصوت في الدعاء4.

وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الآية تكون أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء في الدعاء هو المقصود بها فهو من جملة المراد: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 5 في كل شيء دعاء

1- سورة الأعراف آية: 55.

2-

مجموع الفتاوى 15/15، بدائع الفوائد لابن القيم 3/6.

3-

1/22.

4-

مجموع الفتاوى 15/22، تفسير ابن كثير 3/180.

5-

سورة الأعراف آية: 55.

ص: 204

كان أو غيره كما قال تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1 وعلى القول بعموم الآية فإن من أعظم الاعتداء أن يدعي غير الله تعالى من المخلوقين سواء أكان الدعاء يوجه إليه مباشرة أو يدعون الله بهم كل ذلك اعتداء لا يحبه الله تعالى، لأنه وضع للعبادة في غير موضعها ومن الاعتداء أن يدعو الإنسان ربه تبارك وتعالى وهو غير مظهر للتضرع والتذلل فيكون دعاء هذا كدعاء المستغني المدل على ربه وهذا من الاعتداء الذي لا يحبه الله لمنافاته دعاء العبد المتذلل فمن لم يسأل ربه مسألة مسكين متضرع خائف فهو من المعتدين. كذلك من الاعتداء عبادة الله بما لم يشرعه ولا أذن فيه أو يثني على الله بما لم يثن به على نفسه. فذلك من الاعتداء في دعاء الثناء والعبادة وهو شبيه الاعتداء في دعاء المسألة والطلب قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين:

أحدهما: محبوب للرب ـ سبحانه ـ وهو الدعاء تضرعاً وخفية.

الثاني: مكروه له مسخوط وهو الاعتداء، فأمر بما يحبه وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير وهو لا يحب فاعله ومن لا يحبه الله فأي خير يناله

إلى أن قال فقسمت الآية الناس إلى قسمين داع لله تضرعاً وخفية، ومعتد بترك ذلك. اهـ2.

وقال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 3.

والآيات كثيرة جداً في إثبات دعاء المسألة المتضمن دعاء العبادة ويكفينا منها هذا القدر الذي قدمنا ذكره وكلها فيها الرد الواضح على من ينكر عبودية دعاء المسألة ويكابر مناصرة لدعاء الموتى من أهل القبور، بزعمه أن الدعاء الوارد في القرآن إنما المراد به دعاء العبادة، ليسوغوا لأنفسهم سؤال غير الله ـ تعالى ـ ودعاء أهل القبور، وقد اعتبر القرآن دعاء غير الله ـ تعالى ـ من أبلغ الضلال. قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً

1- مجموع الفتاوى 15/23 والآية رقم 190 من سورة البقرة.

2-

مجموع الفتاوى 15/23 ـ 24.

3-

سورة الأعراف آية: 56.

ص: 205

وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1. فالآية الأولى بينت أنه لا أضل ممن يدعو أحداً من دونه كائناً من كان وأن المدعو ليس لديه استجابة لما طلب منه من ميت أو غائب أو صنم أو وثن فالداعي لغير الله حظه من ذلك الخسران والخيبة، وأما الآية الثانية فقد بينت أنه إذا كان يوم القيامة فإن المعبود من دون الله يتبرأ ممن عبده ومن عبادته بل ينقلب له عدواً.

قال العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "فدلت أيضاً: أي الآية على أن دعاء غير الله عبادة له وأن الداعي له في غاية الضلال، وقد وقع من هذا الشرك في هذه الأمة ما طم وعم حتى أظهر الله من يبينه بعد أن كان مجهولاً عند الخاصة والعامة إلا من شاء الله ـ تعالى ـ وهو في الكتاب والسنة في غاية البيان لكن القلوب انصرفت إلى ما زين لها الشيطان" اهـ2.

وهو كما قال رحمه الله تعالى ـ فإن الشيطان زين لبعض المسلمين دعاء أهل القبور واللجوء إليهم عند الشدائد والإستغاثة بهم في الملمات، والناظر بعين البصيرة لما عليه القبوريون في أغلب الأقطار الإسلامية يقطع يقيناً بأنهم بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم فبدلاً من إتيانهم القبور للدعاء لأهلها بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية لهم تجدهم يدعونهم ويسألونهم مطالب لا يقدر عليها إلا الله ـ تعالى ـ أو يدعون الله ـ تعالى ـ بهم بقصد القربى وأنهم يشفعون لهم عند الله ـ تعالى ـ ونسوا أن المقصود من زيارة القبور أمران:

الأمر الأول: تذكُّر الآخرة والإعتبار والإتعاظ وقد أشار إلى ذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها فإنها تذكر الآخرة" 3 وهذا من إحسان الحي إلى نفسه.

الأمر الثاني: الإحسان إلى الميت بالدعاء له بالرحمة والمغفرة كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا زار أهل البقيع يقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد"4.

1- سورة الأحقاف آية: 5 ـ 6.

2-

قرة عيون الموحدين: ص104.

3-

سنن الترمذي: 2/259.

4-

رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: 2/669.

ص: 206

هذه هي الزيارة المشروعة التي يؤديها أهل التوحيد، وأما زيارة الذين أشربت قلوبهم بعبادة غير الله فإنهم يزعمون أن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومنزلة عند الله ـ تعالى ـ لا يزال تأتيه الألطاف من قبل الله ـ تعالى ـ وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به، وقربها منه يحصل لها الفيض من روح ذلك المزور ويكتسب من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس شعاع لمرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل، وقالوا لا تتم الزيارة إلا إذا توجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت وعكف بهمته إليه ووجه قصده وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكلما كان جمع همته وقلبه عليه أعظم، كان أقرب إلى انتفاعه به، والذي قرر هذه الزيارة الشركية على هذا النحو ابن سيناء والفارابي وغيرهما1 وهذا ما كان عليه عباد الكواكب وعباد الأصنام، ومن ثم تسلسل هذا الاعتقاد الباطل إلى عباد القبور فاتخذوها أعياداً، وعلقوا عليها الستور، فأوقدوا السرج عليها، وبنوا عليها المساجد والقباب وهذا ما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحو أثره كلية وسد كل ذريعة تفضي إليه ولما عرف المشركون قصده وقفوا في طريقه وناقضوه في قصده وكان صلى الله عليه وسلم في شق وهم في شق ولذلك كان القرآن ينزل بتكفيرهم ولعنهم وإباحة دمائهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره مملوء بالرد عليهم وإبطال كل معتقد لهم في ذلك.

قال الشيخ سليمان بن عبد الله2 بعد أن بين دعاء العبادة ودعاء المسألة:

"إذا تبين ذلك فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام، إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله، فمن أتى بالشهادتين، وعبد غير الله فما أتى بهما حقيقة، وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون لا إله إلا الله وهم مشركون ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعاً"3.

1- إغاثة اللهفان 1/219.

2-

هو: الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أحد السلسلة الذهبية التي قيضها الباري ـ سبحانه ـ للدعوة إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك والبدع والخرافات في الجزيرة العربية. كان رحمه اله بارعاً في التفسير والحديث والفقه توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف هجرية. انظر ترجمته في كتاب "عنوان المجد في تاريخ نجد" 1/212، هدية العارفين 1/408، معجم المؤلفين 4/268.

3-

تيسير العزيز الحميد ص: 192.

ص: 207

وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن الدعاء عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ـ تعالى ـ.

منها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول: من يدعوني فاستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له

" الحديث1.

وروى الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"2.

وإذا كان الدعاء من أجل العبادات وأكرمها على الله عز وجل فهلاً ـ يعقل أولئك القبوريون الذين ينادون أهل القبور ويستغيثون بهم ويطلبون منهم المطالب التي لا يملكها إلا الله من جلب النفع ودفع الضر؟ وهلا ينتهي أولئك الضلال الذين يدعون أنهم أولياء فيقفون في طريق العوام يزينون لهم دعاء الأموات والإستغاثة بهم فيضلونهم ويصدونهم عن سبيل الله بل وصل الحد بمن يدعي الولاية أنه يضمن لتابعيه دخول الجنة والنجاة من النار وقد قال تعالى مخاطباً سيد الأولين والآخرين: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} فأين هؤلاء الجهلة من هذه الآية؟ فإذا كان سيد الأولين والآخرين لا يقدر على إنقاذ من حقت عليه كلمة العذاب فكيف يدعي أولئك العصاة أنهم يملكون ذلك فالواجب على كل مكلف أن يعرف ما لربه من الواجب عليه وأن يخلص له الدين حتى يكون من عباده الموحدين وليعلم أن ربه أوحى إلى نبيه بأن يأمر أمته أن يسألوا الله من فضله الذي عطاؤه لا ينفد وخزائنه ملآى لا تنضب كما في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح3. فلا يسأل إلا الله ولا يدعى إلا هو وحده لا شريك له لأن غير الله لا يقدر على الإعطاء والمنع

1- صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/29، صحيح مسلم 1/521.

2-

2/362.

3-

سنن الترمذي 4/76.

ص: 208

ورفع الضرر وجلب النفع لأن ذلك من خصائص الرب سبحانه وتعالى وقد حصر الرسول صلى الله عليه وسلم العبادة في الدعاء فقال عليه الصلاة والسلام: "الدعاء هو العبادة"1.

جاء في عون المعبود أي: "هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة لدلالته على الإقبال على الله والإعراض عما سواه بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه قائماً بوجوب العبودية معترفاً بحق الربوبية عالماً بنعمة الإيجاد"2. فهذه الأحاديث التي قدمنا ذكرها تدل على أن دعاء غير الله من ميت وغائب وحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله من جلب النفع ودفع الضر أو تحويله هو الشرك بعينه بل ذلك من الشرك الأكبر إذ أن الداعي إنما يدعو الله إذ انقطع أمله مما سوى الله وذلك هو خلاصة التوحيد فمن دعا غير الله ـ تعالى ـ أو ناداه فقد سوى بينه وبين الله ـ تعالى ـ وذلك عين الشرك.

والناظر لحال بعض المسلمين اليوم من الذين ينادون أهل القبور ويستغيثون بهم ويطوفون بقبورهم، ويذبحون لهم وينذرون لهم فإنه يرثي حالهم ويعلم تدهور العقيدة الصحيحة في قلوبهم، والموجب لهم ذلك أنهم عن كتاب ربهم معرضون وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم غافلون، وبسبب ذلك فعلوا فعل المشركين الذين كانوا يدَّعون أنهم ما يعبدون الآلهة إلا لكي تشفع لهم عند الله، وهذا ما وقع فيه جهلة المسلمين من الخضوع والتذلل عند القبور، ويطلبون من أصحابها مطالب لا يقدر عليها إلا الله تعالى. .

وعندما يشاهد الإنسان الذي عرف العقيدة الصحيحة بعض المفتونين من القبوريين الذين ينادون أهلها الذين لا يملكون لغيرهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة، ولا نشوراً يتساءل عن الذي جعلهم يعضون على فعلهم ذلك المنكر الشنيع الذي يجعل فاعله هو وعبدة الأصنام على حد سواء في دعوتهم غير الله ـ تعالى ـ والسبب الذي دفعهم إلى ذلك يتمثل في الأمور الآتية:

1 ـ جهلهم أولاً: بحقيقة ما أرسل الله به رسوله عليه الصلاة والسلام، بل جهلهم بما دعا إليه جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من تحقيق التوحيد، وقطع كل صلة تؤدي إلى

1- المصدر السابق 5/25، وانظر سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 4/352.

2-

4/352.

ص: 209

الشرك بالله العظيم فكان حظهم من ذلك قليلاً، فدعاهم الشيطان إلى تلك الفتنة لأنه لا يوجد عندهم من العلم ما يدحضون به دعوته فاستجابوا لدعوته بقدر ما عندهم من الجهل وعصموا بحسب ما عندهم من العلم.

2 ـ ومن الأسباب التي جعلتهم يدعون أهل القبور الأحاديث المكذوبة المختلفة التي وضعها على الرسول صلى الله عليه وسلم أمثال عباد الأصنام من القبوريين لمناقضة دين الإسلام وزعزعة العقيدة المحمدية من النفوس مثل حديث: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه" وأمثال هذه الأكاذيب التي تناقض قواعد الدين، وضعها المشركون، وراجت عند الجهلة من بعض المسلمين، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا لقتل من حسن ظنه بالأحجار وتجنيب الأمة فتنة القبور.

3 ـ ومن الأسباب التي جعلت القبوريين يصرفون عبودية الدعاء لغير الله ـ تعالى ـ الحكايات المكذوبة لأصحاب تلك القبور مثل: أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة نزلت به، فخلص منها، وفلاناً دعاه، أو دعا به في حاجة فقضيت له وفلاناً نزل به ضر فرجا صاحب القبر الفلاني فكشف ضره، وعند سدنة القبور من الأكاذيب والأساطير الباطلة الشيء الكثير، وهم من أكذب الناس على الأحياء والأموات ونفوس بني آدم مفطورة بحب من يقضي حوائجها ويزيل ضروراتها، فعندما يسمعون أن القبر الفلاني ترياق مجرّب والشيطان يتلطف في دعوة المضطر المحترق القلب، فقد يجيب الله دعوتهم ابتلاء أو امتحاناً، فالجاهل عندما تحصل له إجابة الدعوة يظن أن لذلك القبر تأثيراً في إجابة الدعاء، والله ـ سبحانه ـ يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ولو كان كافراً ومصداق ذلك قوله تعالى:{كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} 1.

"فليس كل من أجاب الله دعوته يكون راضياً عنه، ولا محباً له ولا راضياً بفعله، فإنه ـ سبحانه ـ يجيب دعوة البر والفاجر والمؤمن والكافر"2.

وقد تعلق القبوريون ببعض الأحاديث، وظنوا: أنها دليل يجيز لهم ما يفعلونه عند القبور، ومن تلك الأحاديث ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه

1- سورة الإسراء آية: 20.

2-

انظر إغاثة اللهفان: 1/214 ـ 215.

ص: 210

بإسنادهما إلى عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني قال: " إن شئت أخرت ذاك فهو خير" وفي رواية "وإن شئت صبرت فهو خير لك" فقال: ادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم فشفعه فيَّ وشفعني فيه

" الحديث.

قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي1.

هذا الحديث ضعفه بعض العلماء بحجة أن في إسناده أبا جعفر.

قال الترمذي: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وليس الخطمي"2 فظنوا أنه أبو جعفر الرازي، ودرجة الرازي صدوق ولكنه سيء الحفظ"3.

والصواب أنه: "أنه أبو جعفر الخطمي حيث أن الإمام أحمد نسبه في إحدى روايات الحديث بأنه الخطمي، ونسبه في أخرى فقال: المدني"4.

فالحديث صحيح، وإنما الكلام في الزيادة التي تنسب إلى عثمان بن حنيف مع الرجل في زمن خلافة عثمان وسيأتي الكلام عليها قريباً.

فلقد تعلق القبوريون بقوله: "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي".

وقالوا: لو أن دعاء غير الله شرك لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء الذي فيه المناداة لغير الله.

والجواب: أن يقال إن شبهتكم هذه باطلة من وجوه:

الوجه الأول: أن الضرير كان مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأجل أن يدعو له بدليل قوله في الحديث: "ادع الله أن يعافيني" فيجب أن تفهم هذه الفقرة أولاً، وقبل كل شيء حتى يعرف الفرق بين طلب الضرير من النبي صلى الله عليه وسلم، وتوجهه بدعائه مع حضوره، وبين دعاء الجهلة للأموات، والسجود لهم ولأضرحتهم، والتوكل عليهم واللجوء إليهم في الشدائد

1- المسند 4/138، والمستدرك 1/19، الترمذي 5/229، ابن ماجة 1/418.

2-

سنن الترمذي 5/229.

3-

انظر التقريب 2/406.

4-

المسند 4/138.

ص: 211

وخطابهم بالحوائج من الأمكنة القريبة والبعيدة، فالضرير طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ويشفع له، وهذا نوع من التوسل المشروع، وهو التوسل بدعاء أهل الصلاح والتقى فأين هذا من دعاء غير الله والإستغاثة به.

الوجه الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ذلك الضرير أن يدعو الله بنفسه ويسأله قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من أوضح الأدلة على أن دعاء غير الله شرك بالله العظيم، فالمخلوق لا يدعى من دون الله سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، أو رجلاً صالحاً لأنهم لا يقدرون على النفع والضر إذ ذلك خاص برب العالمين بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر على شفائه إلا بعد دعاء الله له.

الوجه الثالث: أن قوله في الحديث "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي" لا يدل على جواز سؤال الغائب، ولا على جواز سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا فاطر السموات والأرض، لا من طريق العبارة ولا من طريق الإشارة، ومن ادعى ذلك فقد افترى على الله كذباً لأنه لا يخلو الأمر من حالين: إما أن يكون ذلك الضرير سأل النبي نفسه، وهذا سؤال للمخاطب فيما يقدر عليه، وهو أن يدعو له وهذا لم ينكره أحد لأنه أمر جائز لا محذور فيه.

وإما أن يكون توجه بالنبي صلى الله عليه وسلم دون سؤاله أن يدعو له فهو لم يسأل منه، وإنما سأل من الله سواء كان متوجهاً بدعائه كما هو لفظ الحديث، أو كان متوجهاً بذاته عليه الصلاة والسلام، وهو القول الضعيف، لأن التوجه بذوات المخلوقين، والإقسام بهم على الله من البدع المنكرة التي لم تؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة الكرام، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة الدين عليهم رحمة الله أجمعين"1.

ومن حججهم التي احتجوا بها على جواز التوجه إلى القبور ودعاء أهلها ما أخرجه الطبراني من قصة الرجل مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة سهل بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في زمن خلافته، فكان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال عثمان: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم

1- انظر تيسير العزيز الحميد ص208 ـ 209.

ص: 212

إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل فيقضي لي حاجتي

الخ1.

قال الذين تعلقت قلوبهم بدعاء غير الله من الأموات أهل القبور: هذا دليل على جواز دعاء غير الله من غائب وميت وصالح لأن عثمان بن حنيف علم الرجل أن يدعو الرسول بعد موته وناداه فقضيت حاجته.

وهذه القصة باطلة متناً وسنداً.

"أما من ناحية المتن فهي تدل بتركيبها، وترتيبها على أن هناك من وضعها واختلقها، وأن الصحابي الجليل عثمان بن حنيف برئ منها لأنه يعلم أن التوسل المشروع إنما يكون بدعاء الشخص المتوسل به لا بذاته كما هو المعهود عند من يجهل حقيقة التوسل المشروع.

ثم إن المعروف من حياة عثمان قبل الخلافة وبعدها أنه كان ليناً رقيقاً عطوفاً كثير الاهتمام بمصالح المسلمين العامة والخاصة، ولم يثبت أنه أهمل أحداً من قضاء حاجته بل إنه كان يتتبع احتياجات المسلمين دون أن يعلموا ذلك فضلاً عن أن شخص يدخل على عثمان ويتردد عليه مراراً، ولم يسأله عن حاجته فهذا بعيد جداً، فلا يليق بمكانة الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولا بمكانة من دونه من الصحابة"2.

وأما من ناحية سند هذه القصة فهو ضعيف لأن فيها شبيب بن سعيد قال الذهبي في الميزان: "شبيب بن سعيد صدوق يغرب"3.

وقال ابن عدي4: "كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه، وأرجو أنه

1- القصة بتمامها في المعجم الصغير للطبراني 1/183 ـ 184، والمعجم الكبير 3/3/1ـ 2.

2-

انظر التوصل إلى حقيقة التوسل ص242 ـ 243 بتصرف.

3-

الميزان 2/262.

4-

هو: عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد بن مبارك بن القطان الجرجاني أبو أحمد علامة بالحديث ورجاله، ولد سنة سبع وسبعين ومائتين، وتوفي سنة خمس وستين وثلاثمائة هجرية. أنظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء 16/154 ـ 157، تذكرة الحفاظ 3/940 ـ 942".

ص: 213

لا يتعمد. فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس، فكأنه شبيب آخر يعني يجود" اهـ1.

وهذا الكلام لابن عدي يفيد أن شبيباً هذا لا بأس بحديثه إذا كان من رواية ابنه أحمد عنه، ويكون شبيب يروي عن يونس.

والسبب في ذلك ما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل "هو أنه كان لديه كتب يونس بن يزيد فهو إذا حدث منها أجاد، وإذا حدث من حفظه وقع في الوهم"2.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بعد أن ساق قصة ابن حنيف: "فهذه الزيادة فيها عدة علل: إنفراد هذا بها أي: شبيب ـ عن من هو أكبر منه وأحفظ، وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأن راويها عرف له عن روح هذا أحاديث منكرة، ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك فى كونها ثابتة فلا حجة فيها إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه بل على خلافه" اهـ3.

وبهذا نعرف أن هذه القصة لا تصح لانهيارها متناً وسنداً.

ومن حجج القبوريين التي يحتجون بها على دعائهم غير الله ما رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة بإسناده إلى ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا فإن لله عز وجل حاضراً سيحبسه" 4

هذا الحديث غير صحيح لأن في سنده ـ معروف ـ بن حسان أبو معاذ السمرقندي عن عمر بن ذر ـ قال ابن عدي: "منكر الحديث قد روى عن عمر بن ذر نسخة طويلة كلها غير محفوظة" اهـ5.

فهذه الأخبار الثلاثة موجودة في كتب مشهورة، وكما مر معنا بأن حديث الأعمى صحيح لا غبار عليه، ولكنه ليس في محل النزاع بل بعيد عنه.

1- الكامل في ضعفاء الرجال 4/1346 ـ 1347، والميزان 2/262.

2-

الجرح والتعديل 4/359.

3-

مجموع الفتاوى 1/278، وانظر "التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص85 ـ 87.

4-

ص190.

5-

الكامل 6/2326، والميزان 4/134.

ص: 214

وأما قصة عثمان بن حنيف، والحديث الذي عند ابن السني لم يحظيا بالصحة بل هما باطلان، وما جاء به القبوريون بعد ذلك فإنما هو من اختلاقهم أنفسهم مثل حديث "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور: وقد تقدم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، ولم يروه أحد من العلماء بذلك ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة"1.

فالأخبار التي يضعها القبوريون في جواز دعاء أهل القبور والإستغاثة بهم يعرف كذبها بمجرد مرورها على السامع لأن لفظها ليس عليه رونق، وجمال الألفاظ النبوية.

والذي نخلص إليه مما تقدم أن الدعاء من أوضح صور العبادة، فلا يجوز أن يصرف لغير الله ـ تعالى ـ لأنه حق من حقوقه على عباده فبالدعاء يظهر ذل العبودية ويعرف العبد عزة الربوبية، وهذا هو الغرض المقصود من جميع أنواع العبادات ذلك أن العبد حينما يقدم على الدعاء فإنه لا يقدم عليه إلا إذا عرف من نفسه أنه محتاج إلى ما يطلبه من ربه تبارك وتعالى ويعرف أنه عاجز عن تحصيل مقصده إلا بعون الله له على ذلك فإذا علم أن الله يسمع دعاءه، ويعلم حاجته، وأنه له القدرة على دفع تلك الحاجة فهو الإله الرحيم الذي تقتضي رحمته قضاء حاجات عباده ومن هنا كان المقصود من جميع التكاليف الشرعية معرفة ذل العبودية، وعزة الربوبية والدعاء انتظم تحته الأمران ولذلك كان الدعاء من أعظم أنواع العبادات فلا يجوز أن يدعى غيره من المخلوقين أياً من أنواع الدعاء، لا دعاء العبادة ولا دعاء المسألة، ومن فعل ذلك فهو مشرك بالله العظيم، كذلك لا يجوز الدعاء عند الأضرحة والقبور، فإن ذلك وسيلة إلى الشرك، وجعلها أنداداً من دون الله ـ تعالى ـ، ولا يجوز أن يدعى الله بأحد من خلقه، أو يقسم به عليه، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر ذلك كله أئمة الدين 2، عليهم رحمة الله أجمعين.

1- مجموع الفتاوى 1/356.

2-

انظر إغاثة اللهفان 1/216 ـ 217.

ص: 215