الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة
لقد دلت السورة على وجوب الإيمان بالعرش، وهو من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها، وهو أعظم المخلوقات، خلقه ـ الرب جل وعلا ـ قبل أن يخلق السموات والأرض، واختصه بالعلو والارتفاع، ثم استوى عليه.
وقد جاء ذكر العرش في آخر آية من سورة "الزمر" وذلك في قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
فهذه الآية من السورة أوضحت لنا مشهداً رائعاً لعباد الله المكرمين وهم محدقون حول هذا المخلوق العظيم ـ العرش ـ يسبحون بحمد ربهم، ويعظمونه وينزهونه عن النقائص ويثنون عليه الثناء الطيب الذي يليق بجلاله وعظيم سلطانه، فإذا ما تم القضاء بين الخلائق بالعدل، والقول الفصل على أتم وجه وأكمله، نطق كله بالثناء والتحميد لله الحكم العدل الذي لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى {وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
قال العلامة ابن القيم: "فحذف فاعل القول، لأنه غير معين بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم به، فيحمده أهل السموات، وأهل الأرض، الأبرار والفجار، والإنس والجن، حتى أهل النار".
قال الحسن وغيره: "لقد دخلوا النار، وإن حمده لفي قلوبهم، وما وجدوا لهم عليه سبيلاً، وهذا ـ والله أعلم ـ هو السر الذي حذف لأجله الفاعل في قوله: {قِيلَ ادْخُلُوا
أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} . وفي قوله: {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} 1كأن الكون كله نطق بذلك، وقال لهم ذلك والله أعلم بالصواب"2.
وقال البغوي رحمه الله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} أي: "محدقين محيطين بحافته وجوانبه" أ. هـ3.
وقال ابن كثير حول قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} الآية: "لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار، وأنه نزل كلاً من المحل الذي يليق به ويصلح له، وهو العادل في ذلك الذي لا يجور، أخبر عن ملائكته أنهم محدقون حول العرش المجيد يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه، ويعظمونه ويقدسونه، وينزهونه عن النقائص والجور، وقد فصل القضية، وقضي الأمر وحكم بالعدل {وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: نطق الكون أجمعه ناطقه وبهيمه لله ـ رب العالمين ـ بالحمد في حكمه وعدله ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه، فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد.
قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 4. واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 5.
وبعد بيان معنى الآية نقول: إنها دلت على وجوب الإيمان بالعرش وهو مقصودنا الذي نريد التوصل إليه، وذكرناه هنا عقب ذكر الجنة لأمرين:
1 ـ الأمر الأول: أن هذه الآية التي نصت على وجوب الإيمان بالعرش جاءت عقب الآيات الدالة على الإيمان بالجنة.
2 ـ الأمر الثاني: ثبت في السنة الصحيحة أن العرش سقف الجنة. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في
1- سورة التحريم آية: 10.
2-
روضة المحبين ص 65.
3-
تفسير البغوي على حاشية الخازن 6/72.
4-
سورة الأنعام آية: 1.
5-
تفسير القرآن العظيم 6/118.
الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة"1.
ولا بد لنا هنا من بيان معنى العرش في اللغة، ومفهومه عند العرب الذين بلغتهم نزل القرآن وخاطبنا الله بها فنقول: العرش في اللغة:
هو عبارة عن سرير الملك ومنه قوله تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} 2 وعرش البيت سقفه، ومنه قوله تعالى:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} 3 أي: على سقوفها، ويأتي لمعنى الملك يقال: ثل عرشه على ما لم يسم فاعله أي: زال ملكه وذهب عزه.
قال زهير:
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها
…
وذبيان إذ زلت بأحلامها النعل4
والمراد بالعرش في الآيات والأحاديث النبوية هو المعنى الأول وهو: السرير وهذا المعنى معروف عند العرب.
جاء في تهذيب اللغة: "العرش في كلام العرب، سرير الملك يدلك على ذلك سرير ملكة سبأ سماه الله ـ جل وعز ـ عرشاً فقال:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} 5.
وما جاء في كلام بعض أهل اللغة من أن المراد بالعرش الملك لا يعني أن الملك يكون بدون عرش، فالملك تبع للعرش فإذا ذهب العرش ذهب الملك.
وقال في القاموس: "العرش عرش الله ولا يحد"6، لعل قصد صاحب القاموس بقوله:"لا يحد" أي: لا يوصف بغير ما وصفه الله به في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
1- 2/136.
2-
سورة النمل آية: 23.
3-
سورة البقرة آية: 259.
4-
الصحاح 3/1010، لسان العرب 6/313، القاموس 2/288.
5-
تهذيب اللغة 1/414، والآية رقم 23 من سورة النمل.
6-
القاموس 2/288.
وأما عرش الله تعالى:
فهو سرير ذو قوائم خلقه الله واستوى عليه وأمر الملائكة بحمله وهو كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات ومنه قول: أمية بن أبي الصلت:
مجدوا الله فهو للمجد أهل
…
ربنا في السماء أمسى كبيراً
بالبناء العالي الذي سبق النا
…
س وسوى فوق السماء سريراً
مرجعاً لا يناله بصر العين
…
ترى دونه الملائكة صوراً1
وثبوت العرش من أوضح الأمور عند جميع الأمم، وفي جميع الأديان.
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي: "باب الإيمان بالعرش وهو أحد ما أنكرته المعطلة ثم قال: "وما ظننا أن نضطر إلى الإحتجاح على أحد ممن يدعي الإسلام في إثبات العرش والإيمان به حتى ابتلينا بهذه العصابة الملحدة في آيات الله فشغلونا بالاحتجاج لما لم تختلف فيه الأمم قبلنا"2.
قال أحمد بن الحسين البيهقي في كتابه "الأسماء والصفات" بعد أن ذكر آيات العرش: "اتفقت أقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله وفي أكثر هذه الآيات دلالة على صحة ما ذهبوا إليه وفي الأخبار والآثار الواردة في معناه دليل على صحة ذلك"3 أ. هـ.
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة الدالة على إثبات العرش كثيرة جداً فقد أخبر ـ الباري جل وعلا ـ عن نفسه بأنه استوى على عرشه في مواضع سبعة من كتابه وقد تقدم ذكرها.
وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 4.
وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} 5.
1- الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة ص 240 ضمن عقائد السلف.
2-
الرد على الجهمية ص12.
3-
ص497.
4-
سورة البروج آية: 15 ـ 16.
5-
سورة غافر آية: 15.
وقال تعالى: {الَهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 1.
وةقال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} 3.
وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 4.
وأما الأحاديث والآثار التي دلت على ثبوت العرش ووجوب الإيمان به فكثيرة جداً ومنها ما يلي:
1 ـ فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب لا إله إلا الله العليم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض ورب العرش الكريم"5.
2 ـ ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض ـ أو القبض ـ يرفع ويخفض"6.
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى ـ "فالقرآن مشحون بذكر العرش، وكذلك الآثار بما يمنع أن يكون المراد به الملك، فدع المكابرة والمراء فإن المراء في القرآن كفر، وما أنا قلت: بل المصطفى صلى الله عليه وسلم قاله"7.
1- سورة النمل آية: 26.
2-
سورة غافر آية: 7.
3-
سورة الحاقة آية: 17.
4-
سورة التوبة آية: 129.
5-
صحيح البخاري 4/282، صحيح مسلم 4/2092 ـ 2093.
6-
صحيح البخاري 4/281.
7-
كتاب العلو للذهبي ص58.
أما الجهمية وأفراخهم المعتزلة، وطائفة من الخوارج وبعض الأشاعرة فقد أنكروا العرش بطريقة التأويل الفاسد، فقد زعموا: أن المراد بالعرش في الآيات والأحاديث هو عبارة عن سعة الملك والسلطان، وليس العرش الذي هو سقف المخلوقات وزعم بعضهم أن عرشه سماواته وأرضه، وجميع خلقه وهذا هو عين التحريف لنصوص الكتاب والسنة"1.
وقد بين محمد بن عثمان2 بن أبي شيبة مذهب الجهمية في العرش فقال: "ذكروا أن الجهمية يقولون: أن ليس بين الله عز وجل وبين خلقه حجاب وأنكروا العرش، وأن يكون هو فوقه وفوق السموات وقالوا: إن الله في كل مكان وأنه لا يتخلص من خلقه شيء ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم أجمع فلا يبقى من خلقه شيء تبارك وتعالى عما يقولون علواً كبيراً" اهـ3.
وقد عبر عبد الجبار بن أحمد عن مذهب إخوانه المعتزلة في العرش فقال بعد أن ذكر آيات الاستواء على العرش: "إن العرش ههنا بمعنى الملك وذلك ظاهر في اللغة يقال:
ثل عرش بني فلان أي إذا زال ملكهم، ثم استدل على هذا بقول الشاعر:
إذا ما بنوا مروان ثُلَّتْ عروشهم
…
وأودت كما أودت إياد وحمير4
وأما الأشاعرة وأفراخ المعتزلة فقد عبر عن مذهبهم في العرش أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي حيث قال: "والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 على معنى الملك كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد
1- انظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء ص95، التوحيد للمعتزلي ص599، الاختلاف في اللفظ ص242، الرد على الجهمية للدارمي ص13، العلو للعلي الغفار ص58، مختصر الصواعق المرسلة 2/140، شرح الطحاوية ص312.
2-
هو محمد بن عثمان بن محمد بن أبي شيبة العبسي من عبس غطفان أبو جعفر الكوفي مؤرخ لرجال الحديث من الحفاظ، توفي سنة سبع ومائتين هجرية. انظر ترجمته في: الميزان 3/642، تاريخ بغداد 3/42، الأعلام 7/142.
3-
كتاب العرش 51 ق "مخطوط".
4-
شرح الأصول الخمسة ص227.
5-
سورة طه آية: 5.
غيره، وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب "ثل عرش بني فلان" إذا ذهب ملكهم، وقال متمم بن نويرة في هذا المعنى:
عروش تفانوا بعد عز وأمة
هَوَوْ بعد ما نالوا السلامة والبقاء
وأراد بالعروش ملوكاً انقرضوا، وقال سعيد بن زائدة الخزاعي في النعمان بن المنذر:
قد نال عرشاً لم ينله خائل
جن ولا إنس ولا ديار
وأراد بالعرش الملك والسلطان. وقال النابغة:
بعد ابن جفنة وابن هاتك عرشه
والحارثين يؤملون فلاحا
"وأراد بهاتك عرش ابن جفنة سالب ملكه فصح بهذا التأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه والله الموفق للصواب"1.
وهذه التأويلات الفاسدة التي انتحلها الجهمية والمعتزلة والأشاعرة للعرش الذي استوى عليه الرب جل جلاله استواءً يليق بجلاله يقصدون منها التوصل إلى نفي صفة العلو والفوقية ولكنهم باءوا بالفشل في مسعاهم ذلك لأن الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة تكذبهم فيما قالوا وتثبت لله ـ تعالى ـ صفة العلو والفوقية، وأن المراد من العرش المخلوق العظيم الذي هو سقف المخلوقات وأنه ذو قوائم ويحمله ثمانية من الملائكة الكرام البررة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "فمن أنكر عرشه، وأنكر استواءه أو أنكر تدبيره فقد قدح في ملكه" اهـ2.
وقال شارح الطحاوية: رداً على المعطلة "وأما من حرف كلام الله وجعل العرش عبارة عن الملك كيف يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} 3 وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 4 أيقول: "ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟ وكان ملكه على
1- أصول الدين ص 113 ـ 114.
2-
مختصر الصواعق المرسلة 2/140.
3-
سورة الحاقة آية: 17.
4-
سورة هود آية 7:.
الماء ويكون موسى عليه السلام آخذاً بقائمة من قوائم الملك؟ هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟ " 1 اهـ.
والذي نخلص إليه مما تقدم من الآيات والأحاديث النبوية السابقة أن العرش من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها كما أخبر الله ورسوله بذلك، وأن العرش أعظم مخلوقات الله خلقه قبل خلقه للسموات والأرض، واختصه ـ سبحانه ـ بالعلو والارتفاع على سائر المخلوقات، ثم استوى عليه استواء يليق بجلاله ـ سبحانه ـ وتعالى وهذا ما يجب على الإنسان أن يعتقده في العرش، كما يجب عليه أن ينآى بنفسه من الاعتقادات المنحرفة المخالفة للكتاب والسنة في عرش الرحمن، وقد تقدم ذكر بعضها 2.
1 - شرح الطحاوية ص312.
2-
"وهناك طائفة من الفلاسفة والمتكلمين ذهبوا إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة وهو عندهم الفلك التاسع.
جاء في رسائل إخوان الصفا "وأما الفلك التاسع المحيط بهذه الأفلاك الثمانية فهو العرش العظيم الذي يحمله فوقهم يومئذ ثمانية كما قال عز وجل. انظر: رسائل إخوان الصفا 2/26، تفسير روح المعاني 11/53، شرح الطحاوية ص310، "وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قولهم هذا ورد عليه وبين بأنه قول لم يثبت بدليل عقلي ولا شرعي". انظر الرسالة العرشية ضمن مجموعة الرسائل الكبرى 1/261 ـ 264.
"الخاتمة"
وأوجز في هذه الخاتمة النتائج التي اشتمل عليها هذا البحث المتعلق بمباحث العقيدة في "سورة الزمر" وذلك فيما يلي:
1 ـ الإيمان بالله يتضمن: الاعتقاد الجازم بأنه تعالى رب كل شيء ومليكه وأنه الخالق الرازق المحيي المميت، وأنه ـ وحده ـ الذي يستحق أن يفرده العباد بالعبودية والطاعة، والذل والخضوع وغير ذلك من أنواع العبادة، وأنه ـ تعالى ـ المتصف بصفات الكمال المنزه من كل عيب ونقصان، وهذا ما يجب على كل إنسان أن يعتقده في الله عز وجل حتى يحقق عبوديته للخالق سبحانه وتعالى.
2 ـ الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ عالٍ على جميع المخلوقات مستو على عرشه بائن من خلقه، وأنه لا يحل بشيء ولا يتحد به.
3 ـ القرآن كلام الله منزل غير مخلوق في جميع أحواله سواء كان مقروءاً، أو مسموعاً، أو مكتوباً فهو كلامه ـ تعالى ـ على كل حال لأن الكلام ينسب إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً، ومن ثم لا يكون مخلوقاً.
4 ـ ثبوت صفة العزة ـ للباري جل وعلا ـ بنص الكتاب والسنة فلا عزة لأحد إلا والله مالكها، ومن يريد العزة فليطلبها منه ـ جل وعلا ـ ولا سبيل إلى نيلها إلا بطاعته والخضوع له ـ وحده لا شريك له.
5 ـ إن صفة الحكمة من الصفات التي أثبتها لنفسه ـ سبحانه ـ فله حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها، ويفعل لأجلها فهو ـ تعالى ـ يفعل ما يفعل لحكمة يعلمها، والنافون للحكمة والتعليل مخالفون للكتاب والسنة والإجماع والعقل الصحيح والفطرة المستقيمة التي فطر الله الناس عليها.
6 ـ بطلان زعم اليهود والنصارى ومشركي العرب مما ادعوه من نسبتهم الولد إلى
الله ـ تعالى ـ فقد نفى ـ سبحانه ـ عن نفسه الولادة، ونفى اتخاذ الولد جميعاً فهو المنزه ـ جل وعلا ـ من كل نقص وعيب ـ تعالى الله ـ عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
7 ـ اتصاف الباري سبحانه وتعالى بصفتي الرحمة والمغفرة حقيقة لا مجازاً، وأن صفة الرحمة تنقسم إلى قسمين رحمة عامة يشترك فيها المؤمنون والكافرون كما قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 1 ورحمة خاصة بالأنبياء والرسل وعباده المؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 2 فهما صفتان حقيقيتان ثابتتان لله عز وجل حقيقة على ما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
8 ـ صفة الغنى من صفات الكمال التي أثبتها الباري ـ سبحانه ـ لنفسه فلا يحتاج إلى شيء، والخلائق جميعهم محتاجون إليه وفقراء إليه في كل أمر من أمورهم فلا قوام لهم إلا به تعالى ـ في كل حركاتهم وسكناتهم وفي كل لحظة من لحظاتهم، وفي كل نفس من أنفاسهم فلا غنى لهم عنه طرفة عين.
9 ـ إن صفة الرضا من الصفات الفعلية التي أثبتها ـ الباري سبحانه ـ لنفسه على ما يليق بجلاله يفعلها متى شاء وكيف شاء وأن الإرادة نوعان إرادة قدرية كونية، وإرادة شرعية دينية، والشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا والقدرية الكونية هي الشاملة لجميع الموجودات فما شاءه ـ سبحانه ـ كان وما لم يشأه لم يكن، والأمر الشرعي إنما تلازمه الإرادة الشرعية الدينية، ولا تلازم بينه وبين الإرادة الكونية القدرية، فالكافر أمره الله بالإيمان، وأراده منه شرعاً وديناً ولم يرده منه كوناً وقدراً، ولو أراده كوناً لحصل لأن الإرادة الكونية القدرية لا يتخلف عنها المراد بخلاف الإرادة الشرعية قد يتخلف المراد بها.
10 ـ صفة العلم من صفات الكمال التي أثبتها ـ الباري سبحانه ـ لنفسه فقد علم ـ جل وعلا ـ أزلاًً ما يكون من عبده المختار من سعادة وشقاوة، وما يحصل له من الغنى والفقر، ومن ناحية تحديد عمره وانقضاء أجله، ثم كتب ما يعمله في اللوح المحفوظ فهو ـ سبحانه ـ كتب لا ليجبر أحداً من عباده على حسب ما كتب في الأزل ما يكون من العبد بمحض اختياره، وإرادته فعلمه ـ تعالى صفة انكشاف للماضي والحاضر والمستقبل وهو
1- سورة الأعراف آية:156.
2-
سورة الأحزاب آية: 43.
معنى قول أهل العلم علم ما كان وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن إن لو كان كيف كان يكون.
11 ـ لله تعالى يدان حقيقيتان وهما من صفات الكمال التي اتصف بها ـ سبحانه ـ وأنهما كما يليق بجلاله، وما ورد في شأنهما من الإمساك والطي، والقبض والبسط والحثيات والخلق باليدين وكتب التورراة بيده وغرس جنة عدن بيده، وكون المقسطين عن يمينه وتخيير آدم بين ما في يديه، وأخذ الصدقة بيمينه يربيها لصاحبها، وأنه مسح ظهر آدم بيده إلى غير ذلك مما ورد في شأنها مما يدل دلالة واضحة على أنها يد حقيقة كما أخبر بذلك ـ جل وعلا ـ وأن تأويلها بالقدرة أو النعمة أو القوة تأويل ظاهر البطلان.
12 ـ لا يستحق العبادة بجميع أنواعها الاعتقادية والقولية والعملية إلا الله ـ جل وعلا ـ فأنواع العبادة مثل الدعاء والخوف والرجاء والإنابة، والتوكل والخشية وغيرها من أنواع العبادة لا يستحق أي أحد كائناً من كان أي شيء منها.
13 ـ الإخلاص روح العبادة وعمودها الذي تقوم عليه، وأي عبادة بدون إخلاص عبادة مردودة على صاحبها لأنها لم توجه إلى الله ـ وحده لا شريك له ـ ومتى شاب العبادة قصد غير الله ـ تعالى ـ اعتبرت لاغية لا قيمة لها ولا فائدة منها سوى التعب لصاحبها لأن الله ـ تعالى ـ لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، وقد تضافرت الأدلة من كتاب وسنة، وأقوال الأئمة في إشتراط الإخلاص للأعمال والأقوال الدينية، وأن الله لا يقبل منها إلا ما كان خالصاً له وابتغي به وجهه.
14 ـ العبودية: تنقسم إلى عامة، وخاصة، والعامة هي عبودية أهل السموات والأرض جميعهم عبيده ـ تعالى ـ برهم وفاجرهم، ومؤمنهم وكافرهم، وهذه العبودية هي عبودية القهر والملك، وأما العبودية الخاصة فهي عبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر والبعد عن النواهي فعلى العبد أن يتحلى بتحقيق العبودية الخاصة إذ السعادة في الدارين لا تنال إلا بها.
15 ـ الإسلام دين الأولين والآخرين من بني آدم، وأن أول المسلمين في جميع الشرائع الإلهية هم الرسل لأنهم أول من يعرف الشرائع فالخير كل الخير بالإلتزام بدين الإسلام الذي رضيه الله ديناً لعباده المؤمنين.
16 ـ الطاغوت اسم عام يشمل كل ما عبد من دون الله وكل رأس ضلال يدعو إلى الباطل ويزينه لمتبعيه، كما أنه يشمل كل من نصبه الناس للحكم بينهم فحكم بأحكام الجاهلية المنتنة المضادة لحكم رب العالمين وحكم رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، فالحاكم بغير ما أنزل الله طاغوت لأنه نصب نفسه منصب الإله المشرع. وهنا يظهر معنى مجاوزة الحد في معنى الطاغوت، فإن الحاكم ملزم بأن يتقيد بأحكام الرب ـ سبحانه ـ التي أنزلها لعبيده وأوضحها لهم، بل إن معنى الطاغوت يتناول كل ما صرف الناس عن عبادة ربهم كالأوثان والأشجار والقباب التي تعبد من دون الله لأنها تصرف من يعبدها عن عبادة الإله الحق ـ سبحانه تعالى ـ.
17 ـ المطلوب من الإنسان أن يجمع في حياته بين الخوف والرجاء ولا ينبغي له أن يغلب أحدهما على الآخر، فإنه لو غلب جانب الرجاء وإنهمك في العصيان لربه تبارك وتعالى فإن ذلك قد يؤدي إلى أن يمكر الله به، وإذا غلب جانب الخوف ربما جرّه ذلك إلى اليأس فالغرض من الرجاء أن الإنسان لو وقع في تقصير فعليه أن يحسن الظن بالله ـ تعالى ـ ويرجو منه أن يغفر له ذنبه، وكذلك إذا وفقه الله ـ تعالى ـ للإتيان بالطاعة يرجو من الله أن يقبلها منه، ويخاف أن لا تقبل.
18 ـ التوكل على الله لا ينافي اتخاذ الأسباب، بل إن التوكل لا يتم إلا إذا اتخذ الإنسان لكل عمل يريده الأسباب التي توصله إلى تحقيقه ـ فلله تعالى ـ ربط الأسباب بمسبباتها، والتوكل من أعظم الأسباب وأنفعها في دفع المضار، وجلب المنافع، فلا بد من الأخذ بالأسباب التي توصل الإنسان إلى تحقيق حاجاته والحصول على مطالبه، ومن قال بنفي الأسباب فتوكله مشوب ومدخول.
19 ـ أرسل الله الرسل من أجل توحيد العبادة، وهو التوحيد المطلوب الذي أمر الله عباده أن يفردوه به دون سواه ولذلك كان أساس دعوة الرسل جميعاً وهو المطلوب في فاتحة دعوة كل نبي من الأنبياء من لدن نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
20 ـ الشفاعة نوعان منفية، ومثبتة، فالمنفية هي التي إدعاها المشركون لإلهتهم والمثبتة هي التي أثبتها الله ورسوله بشرطيها الإذن، والرضا، والشفاعة لأهل الكبائر ثابتة بنص الكتاب والسنة خلافاً لأهل البدع النافين لها، والممنوع منها إنما هو الشفاعة لأهل الكفر والشرك
21 ـ الإقرار بالرب ـ جل وعلا ـ أمر فطري مركوز في كل نفس ولهذا كانت دعوة الرسل إنما كانت إلى عبادة الله ـ وحده لا شريك له ـ وللتذكير بالربوبية لأن عامة الخلق مقرون به ـ سبحانه ـ حتى الكفار يقرون بأنه ـ تعالى ـ الخالق الرازق النافع الضار المحيي المميت، ولكن هذا الإقرار لم يجد شيئاً، ولم ينقذهم من النار.
22 ـ تظهر أهمية الإقرار بتوحيد الربوبية في أنه مقدمة لنتيجة، فإذا أقر العبد بأن الله ـ تعالى ـ هو الرب المتفرد بالربوبية وخصائصها استلزم ذلك حتماً أن ينتج عن إقراره هذا إقرار بتفرد الرب ـ جل وعلا ـ بالعبادة فيفرده بها وحده لا شريك له ولا يصرف منها شيئاً لغير الله ـ تعالى ـ إذ أنه لا يصلح أن يعبد إلا من كان رباً سيداً خالقاً بارئاً مصوراً، مالكاً رازقاً، معطياً نافعاً، محيياً مميتاً مدبراً لأمر الكون كله وذلك كله لا يثبت إلا لله ـ وحده ـ لا شريك له فوجب أن يكون هو المعبود وحده دون سواه.
23 ـ أصل الشرك في بني الإنسان والدافع إليه عند جميع فرق المشركين قديماً وحديثاً إنما هو تعلقهم بأذيال الشفاعة الباطلة وزعمهم اتخاذ الأولياء والشفعاء إنما هو لأجل يقربوهم إليه زلفى، وإلا فهم يعتقدون أنها لا تخلق ولا ترزق، ولا تملك من الأمر شيئاً، وهذا من أقبح الأعذار لإقدامهم على أشد الذنوب وأقبحها حرمة عند الله تعالى.
24 ـ الشرك بالله أظلم الظلم وهو أشد ذنب عصي الله به ولذلك رتب الله عليه من العقوبات الدنيوية والأخروية ما لم يرتبه على ذنب سواه من إباحة دماء أهله وأموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه، وإذا وقع فيه الإنسان أحبط عمله وصار من الخاسرين.
25 ـ الإيمان بالملائكة يتضمن التصديق والاعتقاد الجازم بأن لله ـ تعالى ـ ملائكه موجودون، مخلوقون من نور، وأنهم كما وصفهم الباري ـ سبحانه ـ عباد مكرمون يسبحون الله الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أسندها الله إليهم، ويجب الإيمان بمن ورد تعيينه باسمه الخاص به كهاروت وماروت، وجبريل وميكائيل على التفصيل، أما من لم يرد تعيينه باسمه الخاص، أو لم يشتهر بعمل معين، فيجب الإيمان بهم إجمالاً، ولا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وتعالى.
26 ـ الإيمان بالكتب يتضمن التصديق الجازم بأن للباري ـ سبحانه ـ كتباً أنزلها على أنبيائه، وهي كلامه حقيقة وأنها نور وهدى وأن ما تضمنته حق وصدق وعدل، ولا يعلم عددها إلا هو ـ سبحانه ـ، وأنه يجب الإيمان بها جملة إلا ما سمي منها وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وصحف إبراهيم وموسى فهذه يجب الإيمان بها تفصيلاً.
27 ـ الإيمان بالرسل يتضمن التصديق الجازم بأن ـ الرب جل وعلا ـ أرسل رسلاً وأنبياء ليرشدوا الخلق في معاشهم ومعادهم، وقد اقتضت حكمة اللطيف الخبير أن لا يترك خلقه سدى، ولا هملاً بل أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين، فيجب الإيمان بمن سمى الله منهم في كتابه على التفصيل، والإيمان إجمالاً بأن له ـ تعالى ـ رسلاً غيرهم وأنبياء لا يحصيهم إلا هو سبحانه وتعالى ويختص آخرهم وسيدهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم باعتقاد عموم رسالته وشمولها لكل أحد دون تطرق النقص إليها وبقائها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
28 ـ الإيمان بالقدر يتضمن التصديق الجازم بأن كل خير وشر فهو بقضاء الله تعالى وقدره، وأنه ـ جل وعلا ـ الفعال لما يريد لا يكون شيء في هذا الكون إلا بإرادته، ولا يخرج عن مشيئته وليس في العالم شيء يخرج عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن قدره، ولا يتجاوز الإنسان ما خط له في اللوح المحفوظ، وهو الذي خلق العباد وأفعالهم من طاعات ومعاصي، ومع ذلك أمرهم ونهاهم وجعلهم مختارين لجميع أفعالهم وليسوا مجبورين عليها، بل تقع بقدرتهم وإرادتهم يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون.
29 ـ الإيمان باليوم الآخر يتضمن التصديق الجازم بكل ما أخبر الله به عن هذا اليوم الذي توفى فيه كل نفس ما كسبت، وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به مما يكون بعد الموت من الحشر والنشر والصحف والميزان والحساب والجزاء والصراط والحوض والشفاعة، وفتنة القبر وعذابه ونعيمه، والجنة والنار، وما أعد الله لأهلهما فيهما.
30 ـ القول الراجح أن عدد النفخات ثلاث: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، كما صرح بذلك القرآن، فيجب الإيمان بالنفخ في الصور الذي جعله الله سبب الفزع، والصعق والقيام من القبور، كما يجب الاعتقاد الجازم بأن الذي يعيده الله عند البعث هو هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه، كما ينعم الروح التي
آمنت بعينها، ويعذب التي كفرت بعينها لا أنه ـ سبحانه ـ يخلق روحاً أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها كما قال من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل حيث زعم أن الله ـ سبحانه ـ يخلق بدناً غير هذا البدن من كل وجه عليه يقع النعيم والعذاب، والروح عنده عرض من أعراض البدن فيخلق روحاً غير هذه الروح وبدناً غير هذا البدن وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل، ودل عليه القرآن والسنة وسائر كتب الله تعالى" 1.
31 ـ الجنة والنار مخلوقتان أبديتان لا تفنيان ولا تبيدان ومن زعم أنهما يفنيان فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
تلك هي نتائج البحث والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1- الفوائد لابن القيم ص8.