المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

إن الإنابة نوع من أنواع العبادة لا تصح إلا لله ـ سبحانه ـ ولا يجوز صرفها إلا له وحده لا شريك له، وقبل أن نذكر الآيات الواردة في السورة التي دلت على أن الله ـ تعالى ـ تعبد بها عباده نذكر تعريفها في اللغة والشرع حتى يعرف الإنسان حقيقتها ويوجهها إلى ربه ـ جل وعلا ـ.

أما تعريفها في اللغة:

فقد جاء في الصحاح للجوهري: "وأناب إلى الله ـ تعالى ـ أقبل وتاب"1 وجاء في القاموس: "وناب زيد إلى الله ـ تاب ـ" اهـ2.

وجاء في المصباح المنير: "وأناب زيد إلى الله ـ تعالى ـ إنابة رجع"اهـ3. وجاء في اللسان: "وناب فلان إلى الله ـ تعالى ـ وأناب إليه إنابة فهو منيب: أقبل وتاب، ورجع إلى الطاعة، وقيل: ناب لزم الطاعة وأناب تاب ورجع.. إلى أن قال: الإنابة الرجوع إلى الله بالتوبة، وفي التنزيل العزيز:{مُنِيبِينَ إِلَيْه} 4 أي: راجعين إلى ما أمر به، غير خارجين عن شيء من أمره"5 اهـ. ومن هذه التعاريف اللغوية يتبين لنا أن الإنابة هي الإقبال على الله عز وجل والتوبة إليه.

1- 1/229.

2-

1/140.

3-

2/629.

4-

الآية رقم 33 من سورة الروم.

5-

1/775.

ص: 263

وأما تعريفها في الشرع:

فقد ذكر لها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى تعريفين:

فقال: الإنابة هي: عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال، والتعظيم وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له، والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله ـ وحده ـ عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الحنفاء {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 1 فكان حظ قومه العكوف على التماثيل وكان ـ حظه ـ العكوف على الرب الجليل2.

وقال رحمه الله معرفاً لها بتعريف آخر:

"والإنابة الرجوع إلى الله وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه وهي: تتضمن المحبة، والخشية فإن المنيب محب لمن أناب إليه خاضع له خاشع ذليل"3 اهـ. ولقد دلت سورة "الزمر" على أن الإنابة عبادة لله عز وجل في ثلاث آيات منها:

قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} .

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} .

وقال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} .

فهذه الآيات الثلاث دلت على أن الإنابة نوع من أنواع العبادة التي يجب إخلاصها ـ للباري جل وعلا ـ

1- سورة الأنبياء آية: 52.

2-

الفوائد ص190.

3-

طريق الهجرتين ص 173.

ص: 264

فالآية الأولى: هي قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} الآية: فقد أوضح الله ـ تعالى ـ فيها أن الإنسان الكافر بربه ـ سبحانه ـ عندما ينزل به البلاء والشدة، وتلحقه المضرة إما في نفسه أو ماله، أو ولده فإنه يلجأ إلى الله عز وجل منيباً إليه ومستغيثاً به ـ وحده ـ ليكشف عنه ما نزل به وأصابه فإذا ما تفضل الله عليه بالنعم، والعطاء والرخاء نسي ـ ربه ـ الذي أناب إليه وقت الشدة ونسي حالته التي كان عليها في حال الشدة فجعل لله الشركاء والأنداد فيعبدهم مع الله عز وجل أو يخصهم دونه بالعبادة ليضل نفسه وغيره عن دين الحق والتوحيد الذي هو الطريق الموصل إلى الله ـ سبحانه ـ.

قال العلامة ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ} بلاء في جسده من مرض، أو عاهة، أو شدة في معيشته وجهد وضيق {دَعَا رَبَّهُ} يقول استغاث بربه الذي خلقه من شدة ذلك ورغب إليه في كشف ما نزل به من شدة ذلك، وقوله: {مُنِيباً إِلَيْهِ} يقول: تائباً إليه مما كان من قبل ذلك عليه من الكفر به، وإشراك الآلهة والأوثان في عبادته، راجعاً إلى طاعته" اهـ1.

وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} .

فهذه الآية إخبار من الله ـ جل وعلا ـ أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة الذين أنابوا إلى الله بعبادته وإخلاص الدين له فانصرفت دواعيهم عن عبادة الأصنام إلى عبادة الملك العلام، ومن الشرك والمعاصي إلى التوحيد والطاعات والبشرى التي ذكرها الله ـ تعالى ـ لأهل الإنابة لا يعلم وصفها إلا هو سبحانه وتعالى وهي شاملة للبشرى في حياتهم الدنيا بالثناء الحسن، وتكلؤهم عناية الله التي يحسون من خلالها أنهم إذا قدموا على ربهم فلهم عنده الكرامة في الدار الآخرة بحيث يحل عليهم رضوانه وبره وإحسانه وأمانه في الجنة، وما أعظمها من كرامة التي لا تساويها أي كرامة.

قال العلامة عماد الدين ابن كثير: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهم، والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة

1- جامع البيان 23/199.

ص: 265

الأوثان وأناب إلى عبادة الرحمن فهؤلاء الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" اهـ1.

وأما الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} .

فهذه الآية تضمنت الأمر من الله ـ تعالى ـ لجميع عباده بالإنابة إليه وحده دون سواه وأن يسلموا له أنفسهم وقلوبهم وينقادوا له انقياداً تاماً ظاهراً وباطناً عن طواعية ورضا قبل أن ينزل بهم العذاب فلا يجدون من ينصرهم من دونه ويدفع عنهم عقابه لأنه لا طاقة لأحد في مواجهة عذاب الله الذي يحل بالمتمردين على أوامر الله ونواهيه.

قال العلامة ابن جرير حول قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} "يقول تعالى ذكره: وأقبلوا أيها الناس إلى ربكم بالتوبة وارجعوا إليه بالطاعة واستجيبوا له إلى ما دعاكم إليه من توحيده، وإفراد الألوهية له، وإخلاص العبادة له

إلى أن قال: قال ابن زيد: الإنابة: الرجوع إلى الطاعة والنزوع عما كانوا عليه {وَأَسْلِمُوا لَهُ} يقول: واخضعوا له بالطاعة" اهـ2.

فتبين من الآيات الثلاث الواردة في السورة في شأن الإنابة، أن الإنابة نوع من أنواع العبادة يجب على العبد أن يحققها ويجعلها من خالص حقه ـ تعالى ـ فلا ينيب إلا إلى ربه، ولا يتوب إلا إليه لأن مغفرة الذنوب من حقه ـ تعالى ـ وليس لأحد سواه من ذلك شيء.

الإنابة نوعان:

النوع الأول: إنابة لرُبوبيته ـ تعالى ـ وهي إنابة كل المخلوقات وهذا النوع مشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} 3 فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع وهذه الإنابة ليس من مستلزماتها الإسلام، بل تجتمع مع الشرك والكفر كما جاء في تمام هذه الآية {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} 4 فهذه حالهم بعد الإنابة.

1- تفسير القرآن العظيم 6/84، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/244.

2-

جامع البيان 24/17.

3-

سورة الروم آية: 33.

4-

سورة الروم آية: 34.

ص: 266

النوع الثاني: إنابة أولياء الله الموحدين المخلصين المنقادين وهي إنابة لإلهيته، إنابة عبودية، ومحبة وهذه تتضمن أربعة أمور:

الأمر الأول: محبة الله ـ تعالى ـ.

الأمر الثاني: الخضوع له ـ سبحانه ـ.

الأمر الثالث: الإقبال عليه دون سواه.

الأمر الرابع: الإعراض عما سواه ـ تعالى ـ.

ولا يستحق اسم "المنيب" إلا من اجتمعت فيه هذه الأمور الأربعة وتفسير السلف لهذه "اللفظة يدور على ذلك، وفي اللفظة معنى الإسراع، والرجوع والتقدم و"المنيب" إلى الله المسرع إلى مرضاته الراجع إليه كل وقت، المتقدم إلى محابه"1 اهـ. وعندما نتصفح كتاب الله الذي أنزله الله موعظة للناس وشفاء لما في الصدور وهدى، ورحمة لعباده المؤمنين نجد أن الإنابة أخص وصف أثنى الله به على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وجعلها ـ سبحانه ـ من أبرز صفات عباده الموحدين.

قال تعالى في معرض ثنائه على خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} 2. فلقد وصف الله إبراهيم بثلاث صفات في هذه الآية آخرها الإنابة.

وقال تعالى عن نبيه داود عليه الصلاة والسلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} 3.

وفي هذه الآية أيضاً: وصف الله نبيه داود عليه الصلاة والسلام بثلاث صفات آخرها الإنابة.

وقال تعالى حكاية عن نبيه شعيب عليه الصلاة والسلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 4، وأخبر ـ تعالى ـ أن آيته الدالة على ربوبيته وألوهيته إنما يتبصر بها ويتذكر أهلُ الإنابة قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا

1- مدارج السالكين: 1/334.

2-

سورة هود آية: 75.

3-

سورة ص آية: 24.

4-

سورة هود آية: 88.

ص: 267

مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 1.

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَنْ يُنِيبُ} 2.

وقال تعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام وأمته تبع له في ذلك: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 3.

فقوله {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} في إعرابها وجهان:

الوجه الأول: إما أن تكون منصوبة على الحال من الضمير المستتر في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} إذ الخطاب له ولأمته أي أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه ومثل هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} 4.

الوجه الثاني: أن تكون حالاً من المفعول في قوله تعالى: {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي فطرهم منيبين إليه فلو تركوا وفطرهم لما حادت عن الإنابة ولكنها تنحرف وتتغير كما فطرت نتيجة للمؤثرات الخارجية. قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه"5.

وقوله عليه الصلاة والسلام: "قال الله تعالى خلقت عبادي حنفاء كلهم وأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم"6. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً" 7.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فالنفس إذا تركت كانت مقرة لله

1- سورة ق آية: 6 ـ 8.

2-

سورة غافر آية: 13.

3-

سورة الروم آية: 30، 31.

4-

سورة الطلاق آية: 1.

5-

رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ج1/240، صحيح مسلم 4/2047.

6-

رواه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي: 4/2197.

7-

رواه أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: 3/353.

ص: 268

بالإلهية محبة له تعبده لا تشرك به شيئاً ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل" اهـ1.

ولقد أعلمنا ـ سبحانه ـ أن ثوابه العظيم وجنته التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إنما هي لأهل الخشية والإنابة قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} 2.

ومن علامة إسعاد الله ـ تعالى ـ عبده أن يرزقه الإنابة والرجوع إليه ـ سبحانه ـ، ومن علامة الشقاوة للعبد أن يغويه الشيطان فيكون معجباً بعمله ولا ينيب إلى ربه. روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة"3.

مراتب الناس في الإنابة:

إن الناس على مراتب في إنابتهم إلى الله ـ تعالى ـ وأنهم فيها على درجات متفاوتة، فهم متنوعين في رجوعهم إلى ربهم الذي خلقهم ورزقهم من حيث الدافع لهم وهم أقسام.

القسم الأول: من ينيب إلى الله ـ سبحانه ـ بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي، وهذه الإنابة منبعها مطالعة الوعيد الذي أعده الله للمخالفين العصاة. والباعث عليها العلم والخشية والحذر.

القسم الثاني: من الناس من ينيب إلى الله عز وجل بالدخول في أنواع العبادات، والكربات فهذا الصنف يسعى بجد واجتهاد لأن فعل الطاعات وأنواع القربات محبب إليه، وهذه الإنابة مصدرها الرجاء ومطالعة الوعد، والثواب ومحبة الكرامة من الرب ـ سبحانه ـ وهذا الصنف من الناس هم أبسط نفوساً وأشرح من القسم الأول لأن جانب الرجاء ومطالعة

1- مجموع الفتاوى: 14/296.

2-

سورة ق آية: 31 ـ 34.

3-

المسند 3/332، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/270.

ص: 269

الرحمة والمنة أغلب عليهم وإلا فكل من الفريقين منيب إلى الله بالأمرين معاً ولكن خوف هؤلاء دخل في رجائهم، فأنابوا إلى الله بالعبادات وأنواع القربات والطاعات، ورجاء الفريق الأول اندرج تحت خوفهم فكانت إنابتهم إلى الله بترك المخالفات.

القسم الثالث: من الناس من ينيب إلى الله بالدعاء والتضرع والافتقار إليه والرغبة وسؤال الحاجات كلها منه. ومصدر هذه الإنابة أنهم شهدوا الفضل والمنة والغنى والقدرة والكرم فأنزلوا بالله حوائجهم وعلقوا به آمالهم فإنابتهم إلى الله من هذه الجهة مع قيامهم بالأمر والنهي، ولكن إنابتهم الخاصة إنما هي من هذه الجهة، وأما الأعمال التي يعملونها، فلم يرزقوا فيها الإنابة الخاصة وأملهم الإنابة إلى الله عند الشدائد والضراء فقط، فإنابتهم اضطرارية لا إنابة اختيار ورغبة وحالهم كحال الذين قال الله ـ تعالى ـ في شأنهم {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} 1 وقوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2 وهؤلاء كلهم قد تكون نفس أرواحهم منصرفة عن الخالق ـ سبحانه ـ معرضة عنه إلى مألوف طبيعي نفساني صار حائلاً بينها وبين إنابتها بذاتها إلى معبودها الحق وإلهها الحق فهي ملتفتة إلى غيره، ولها إليه إنابة مَّا بحسب ما عندها من الإيمان بالله ومعرفتها له، فأعلى أنواع الإنابات إنابة الروح بجملتها لشدة المحبة الخالصة المغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم، وحين أنابت إليه أرواحهم لم يتخلف منهم شيء عن الإنابة فإذا أناب العبد إلى ربه بروحه إنابة صادق المحبة فإن جميع قواه وجوارحه ستكون منيبة إلى الله نبعاً لروحه.

فينيب القلب: بالمحبة والتضرع والذل والإنكسار.

وينيب العقل: بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه وتسليمه لها وتحكيمه إياها دون غيرها، فلم يبق فيه منازعة شبهة معترضة دونها.

وتنيب النفس: بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق السيئة والإرادات الفاسدة، فتنقاد لأوامر الله، وتخضع له فلم يبق فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر.

1- سورة الإسراء آية: 67.

2-

سورة العنكبوت آية: 65.

ص: 270

وينيب الجسد: في الأعمال ويقوم بها فرائض وسنناً على أكمل الوجوه فلم يبق في العبد عضو ولا جارحة إلا وأناب إنابته الخاصة فعند ذلك لم يبق في العبد المنيب هذه الإنابة عرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذي كل محبة سوى محبته عذاب على صاحبها وإن كانت عذبة في مبادئها فإنها عذاب في عواقبها"1.

وخلاصة القول مما تقدم أن من المقطوع به يقيناً أنه لا يوجد في الخلق أجمعين من يعطي، أو يمنع، أو ينفع، أو يضر إلا بإذن الله ولا من يسعد أو يشقي إلا الله، فعلى هذا يكون من غير المعقول ولا المقبول أن ينيب العبد إلى غير الرب سبحانه وتعالى رغبة، أو رهبة، خوفاً أو طمعاً، ولو حصل ذلك كانت الإنابة إلى غير الله ـ سبحانه ـ وتعالى باطلاً وشركاً، وكان من أناب إلى ذلك الغير ابتغاء حصول خير منه، أو خائفاً من سخطه أو عقابه فقد أشرك مع الله غيره فيما هو من خالص حقه سبحانه وتعالى.

نسأل الله السلامة من ذلك.

1- انظر طريق الهجرتين وباب السعادتين ص173 ـ 174 بتصرف.

ص: 271