الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها
لقد دلت السورة على أبدية النار ودوام عذابها في قوله ـ تعالى ـ {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} .
وقال تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
هذه الآيات من السورة فيها دلالة واضحة على أن عذاب جهنم دائم ومستمر لا انقطاع له، وأن أهلها خالدون مخلدون فيها.
فالآية الأولى: من هذه الآيات وهي قوله ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فيها أمر من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يهدد المشركين ويتوعدهم بالعذاب إن هم استمروا على شركهم وكفرهم بالله تعالى.
ويخبرهم بأنه ثابت ومستمر على طريقته وملته ودينه وأنه لن يحيد عن التوحيد والإيمان بالله ـ تعالى ـ وأن المستقبل سيكشف لهم عمن ينزل به عذاب الله في الدنيا فيخزيه، ثم في الآخرة يحل به العذاب الدائم الذي لا انقطاع له وهو عذاب جهنم.
قال ابن جرير عند قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} .
وقوله: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ} يقول تعالى ذكره: من يأتيه عذاب يخزيه، ما أتاه من ذلك العذاب، يعني يذله ويهينه {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} يقول: ينزل عليه عذاب دائم لا يفارقه" ا. هـ1.
1- جامع البيان 24/8.
قال العلامة ابن كثير: " {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: في الدنيا {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: دائم مستمر لا محيد له عنه وذلك يوم القيامة" اهـ1.
وجاء في تفسير روح المعاني: "قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} فإن الأول إشارة إلى العذاب الدنيوي وقد نالهم يوم بدر والثاني إشارة إلى العذاب الأخروي فإن العذاب المقيم عذاب النار" اهـ2.
وجاء في فتح القدير: " {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: يهينه ويذله في الدنيا فيظهر عند ذلك أنه المبطل وخصمه المحق، والمراد بهذا العذاب عذاب الدنيا وما حل بهم من القتل والأسر والقهر والذلة.
ثم ذكر عذاب الآخرة فقال: " {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: دائم مستمر في الدار الآخرة وهو عذاب النار" اهـ3.
وأما قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
فقد قال ابن جرير حول هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: "فتقول خزنة جهنم للذين كفروا حينئذ: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} السبعة على قدر منازلكم فيها {خَالِدِينَ فِيهَا} يقول: ماكثين فيها لا ينقلون إلى غيرها {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} يقول: فبئس مسكن المتكبرين على الله في الدنيا، أن يوحدوه ويفردوا له الألوهة جهنم يوم القيامة" اهـ4.
وقال ابن كثير: "وقوله تبارك وتعالى ههنا: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} : أي: كل من رآهم وعلم حالهم يشهد عليهم بأنهم مستحقون للعذاب ولهذا لم يسند هذا القول إلى قائل معين بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه بما حكم العدل الخبير عليهم به ولهذا قال ـ جل وعلا ـ: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها لا خروج لكم منها ولا زوا لكم عنها {فَبِئْسَ مَثْوَى
1- تفسير القرآن العظيم 6/95.
2-
24/7.
3-
4/465.
4-
جامع البيان 24/34.
الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: فبئس المصير وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم في الدنيا وإبائكم عن اتباع الحق فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه فبئس الحال وبئس المآل" اهـ1.
ومن أقوال العلماء التي سقناها حول الآيات الثلاث المتقدمة من السورة يتبين وجه دلالة السورة على أبدية النار ودوامها وعدم فنائها وخلود أهلها فيها وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تدل على أبدية النار ودوام عذاب الكفار فيها.
وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} 3.
وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} 4 قال عبد الله بن عمرو: أهل النار يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ثم يقول: إنكم ماكثون، ثم يدعون ربهم فيقولون: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فلا يجيبهم مثل الدنيا ثم يقول: إخسأوا فيها ولا تكلمون ثم ييأس القوم فما هو إلا الزفير والشهيق تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير"5.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 6.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 7.
فهذه الآيات القرآنية دلت على أن عذاب جهنم لا انقطاع له، وأن أهلها من الكفار
1- تفسير القرآن العظيم 6/112.
2-
سورة النساء آية: 168 ـ 169.
3-
سورة الأحزاب آية: 64 ـ 65.
4-
سورة الزخرف آية: 77.
5-
انظر مجمع الزوائد 10/396، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
6-
سورة الأعراف آية: 36.
7-
سورة الجن آية: 23.
والمشركين والجاحدين خالدون مخلدون فيها "أي: لا يخرجون منها ولا هي تفنى بهم، فيزولوا بزوالها، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها"1.
"فإذا جاء مع لفظ خلود الكفار في النار وصف بتأييده كان ذلك تأكيداً للخلود الذي لا نهاية له ولا أمد لانقضائه"2.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل النار خالدون فيها أبداً.
فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وصار أهل النار إلى النار، أتي بالموت حتى يجعل بين الجنة، والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم"3.
"فهذا الحديث نص صريح في خلود أهل النار فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة، ولا راحة، ولا نجاة، بل كما قال تعالى في كتابه الكريم وأوضح فيه عن عذاب الكافرين:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} 4
…
فمن قال إن أهل النار يخرجون منها وأن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها، وأنها تفنى، وتزول فهو خارج عن مقتضى المعقول، ومخالف لما جاء به الرسول، وما أجمع عليه أهل السنة، والأئمة العدول.
قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 5، وإنما تخلى جهنم وهي الطبقة العليا التي فيها العصاة من أهل التوحيد"6.
والخلاصة مما تقدم أنه يجب على المسلم أن يؤمن بما دل عليه كتاب الله وسنة
1- انظر تفسير المنار 1/234.
2-
انظر كتاب "الإنسان في القرآن الكريم لعبد الكريم الخطيب ص470".
3-
4/2189.
4-
سورة فاطر آية: 36.
5-
سورة النساء آية: 115.
6-
انظر التذكرة للقرطبي ص436 ـ 437.
رسوله بأن أهل الكفر والشرك والإلحاد خالدون في النار خلوداً مؤبداً، دائماً بلا انقطاع، ولا فتور وعلى هذا أجمع علماء الإسلام، وأئمته العدول.
قال أبو الحسن الأشعري:
"قال أهل الإسلام جميعاً ليس للجنة والنار آخر، وأنهما لا تزالان باقيتين، وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون وأهل النار لا يزالون في النار يعذبون وليس لذلك آخر ولا لمعلوماته ومقدوراته غاية ولا نهاية"1.
وقال ابن حزم في معرض حكايته الأمور التي أجمع عليها المسلمون: "وأن النار حق وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى، ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية وأنها أعدت لكل كافر مخالف لدين الإسلام ولمن خالف الأنبياء السالفين قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم الصلاة والتسليم وبلوغ خبره إليه"2.
وقال العلامة السيوطي مصرحاً بعدم فنائها:
ثمانية حكم البقاء يعمها
…
من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش والكرسي ونار وجنة
…
وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم3
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب ودار الخبيثين، فالله ـ تعالى ـ يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء لتراكب بعضه على بعض ثم يجعله في جهنم مع أهله فليس إلا خبيث، ولما كان الناس على ثلاث طبقات، طيب لا يشوبه خبث، وخبيث لا طيب فيه وآخرون فيهم خبث وطيب كانت دورهم ثلاثة:
دار الطيب المحض.
دار الخبث المحض.
وهاتان الداران لا تفنيان.
1- انظر المقالات 1/244.
2-
مراتب الإجماع ص173.
3-
ذكره في توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم 1/96.
ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة، فإنه لا يبقي في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنهم إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة، ولا يبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبث المحض1.
وقال الطحاوي: "والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان ولا تبيدان2".
وقال السفاريني: بعد أن ساق كثيراً من الأدلة الدالة على أبدية الجنة والنار "فثبت بما ذكرنا من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة خلود أهل الدارين خلوداً مؤبداً كل بما هو فيه من نعيم وعذاب أليم وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة، فأجمعوا على أن عذاب الكفار لا ينقطع كما أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع ودليل ذلك الكتاب والسنة، وزعمت الجهمية أن الجنة والنار يفنيان، وقال هذا إمامهم جهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له في ذلك سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أهل أئمة الدين، ولا قال به أحد من أهل السنة3".
هذا ما يجب على المسلم أن يعتقده في الجنة والنار وهو أنهما مخلوقتان لا يتطرق إليهما الفناء ولا الإبادة وأن أهلهما كل خالد فيما هو فيه من نعيم، وعذاب، فأهل الجنة منعمون فيها، وأهل النار معذبون بلا فتور ولا إنقطاع وهذا هو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة4 جعلنا الله منهم.
1- الوابل الصيب ص18.
2-
العقيدة الطحاوية مع شرحها ص476.
3-
لوامع الأنوار البهية 2/234.
4-
وقد عد بعض العلماء الأقوال في أبدية النار إلى سبعة أقوال. انظر "حادي الأرواح" ص248 ـ 249، شرح الطحاوية ص483، فتح الباري 11/421 ـ 422، لوامع الأنوار البهية 2/234 ـ 235، يقظة أولي الاعتبار لصديق خان ص41، جلاء العينين ص420 ـ 421.