المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

لقد سلك القرآن الكريم في استدلاله على إمكان البعث بعد الموت وتحقق وقوعه مسلكاً قويماً جمع بين ما فطرت عليه النفوس من الإيمان بما تشاهد وتحس، وبين ما تقرره العقول السليمة، ولا يتنافى مع الفطر المستقيمة، وتلك طريقة تفرد بها القرآن الكريم.

وكان منهج القرآن الكريم في استدلاله على البعث كما يلي:

أولاً: الاستدلال على البعث بمن أماتهم الله ثم أحياهم. كما أخبر تعالى عن ذلك ومنهم:

1 ـ قوم موسى. قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1.

وقيل: إن الذين أخذتهم الصاعقة هم السبعون الذين اختارهم موسى ذلك أنهم لما أسمعهم كلام الله ـ تعالى ـ قالوا له بعد ذلك {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم. فأرسل الله إليهم ناراً من السماء فأحرقتهم ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} 2.

2 ـ المضروب بعضو من أعضاء البقرة كما قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3. قيل: أن المقتول ضرب بعضو من أعضاء تلك البقرة التي أمرهم الله

1- سورة البقرة آية: 55 ـ 56.

2-

الجامع لأحكام القرآن 1/403.

3-

سورة البقرة آية: 72 ـ 73.

ص: 577

أن يذبحوها كما قال موسى لهم {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1 فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتاً كما كان"2.

3 ـ الذين أخبر الله عنهم بقوله ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} 3 وهؤلاء قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء ففروا هاربين. قال ابن عباس: "كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون وقالوا نأتي أرضاً ليس بها موت فأماتهم الله ـ تعالى ـ فمر بهم نبي فدعا الله فأحياهم"4.

4 ـ {الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5.

والذي مر على القرية هو "عزير" عليه السلام. قال ابن كثير في تفسيره: "وهذا هو القول المشهور والقرية المشهورة هي بيت المقدس مر عليها عزيز بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها"6.

5 ـ سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية إحياء الموتى قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 7.

وقد ذكر المفسرون لسؤال إبراهيم عليه السلام هذا أسباباً منها: أنه لما قال لنمرود {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك إلى عين اليقين، وأن يرى

1- سورة البقرة آية: 67.

2-

تفسير القرطبي 1/457.

3-

سورة البقرة آية: 243.

4-

تفسير القرطبي 3/230.

5-

سورة البقرة آية: 259.

6-

تفسير ابن كثير 1/558.

7-

سورة البقرة آية: 260.

ص: 578

ذلك مشاهدة"1 ولم يكن إبراهيم عليه السلام بسؤاله ذلك شاكاً في قدرة الله ـ تعالى ـ قطعاً.

6 ـ ما أخبر الله به عن عيسى عليه السلام من أنه كان يحيي الموتى بإذن الله كما قال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ} 2.

7 ـ ما أخبر الله به من قصة أهل الكهف من أنهم لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً ثم بعثهم الله بعد هذه المدة الطويلة.

وهذه الأدلة التي قدمناها أدلة مادية حسية وقعت كلها لتدل على إحياء الموتى بعد مماتهم، وهذا برهان قطعي على القدرة الإلهية، وقد أخبر الله ورسله عن وقوع البعث والحشر فوجب القطع بذلك لأنه أخبر به من ثبت صدقه عمن ثبتت قدرته فالآيات المتقدمة فيها دلالات واضحات على قدرة الله ـ تعالى ـ في إحياء الموتى.

ثانياً: الإستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الثانية:

1 ـ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 3.

هذه الآيات الثلاث تضمنت دليلين على إمكان البعث:

أحدهما: دليل في الأنفس وهو ما اشتمل عليه صدر الآية وهو متعلق بالنشأة الأولى.

1- تفسير ابن كثير 1/559.

2-

سورة آل عمران آية: 49.

3-

سورة الحج آية: 5 ـ 7.

ص: 579

الثاني: دليل آفاقي وهو ما اشتمل عليه قوله تعالى {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} وهو الإستدلال بخلق النبات على إمكان البعث وسيأتي.

قال العلامة ابن القيم: شارحاً قوله ـ تعالى ـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} الآية1.

"يقول ـ سبحانه ـ إن كنتم في ريب من البعث فلستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت، والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى فهما نظيران في الإمكان والوقوع فإعادتكم بعد الموت خلقاً جديداً كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها" اهـ2.

2 ـ قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 3.

قال شيخ الإسلام: فإن قول الله تعالى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} قياس حذفت إحدى مقدمتيه لظهورها، والأخرى سالبة كلية قرن معها دليلها وهو المثل المضروب الذي ذكره بقوله {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} وهذا استفهام إنكار متضمن للنفي أي لا أحد يحيي العظام وهى رميم، فإن كونها رميماً يضع عنده إحياءها لمصيرها إلى حال اليبس والبرودة المنافية للحياة التي مبناها على الحرارة والرطوبة، ولتفرق أجزائها واختلاطها بغيرها ولنحو ذلك من الشبهات، والتقدير هذه العظام رميم ولا أحد يحيي العظام وهى رميم فلا أحد يحييها، ولكن هذه السالبة كاذبة ومضمونها امتناع الإحياء، فبين ـ سبحانه ـ إمكانه من وجوه ببيان إمكان ما هو أبعد من ذلك وقدرته عليه فقال {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقد أنشأها من التراب ثم قال:{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} . ليبين علمه بما تفرق من الأجزاء أو استحال اهـ4.

3 ـ قال تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا

1- سورة الحج آية: 5.

2-

أعلام الموقعين 1/142.

3-

سورة يس آية: 78 ـ 79.

4-

درء تعارض العقل والنقل 1/33.

ص: 580

حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} 1.

هذه الآيات تقرر بأن شبهات المنكرين للبعث تكاد تكون متجانسة لأنها تدور حول استبعاد جمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة الحياة إليها بعد فنائها وهذه الشبهة لا تكون إلا بالقدح في كمال علم الله ـ جل وعلا ـ المحيط بكل شيء، وكمال قدرته على كل شيء، وقد قام البرهان على كمال العلم والقدرة لله ـ تعالى ـ فلا وجه للإستبعاد والإستغراب بعد ذلك وفي قوله تعالى:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} يعني به أنكم مهما تفرقتم وعلى أية حالة كنتم فالله قادر على بعثكم وإعادتكم حتى لو تحولتم إلى حجارة أو حديد فالله قادر على إعادة الحياة إليكم مرة أخرى مع أن المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمة وبين القبول الحياة وذلك أن العظم قد كان جزءاً من بدن الحي أما الحجارة والحديد فما كانا ألبتة موصوفين بالحياة.

قال شارح الطحاوية: " فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل فإنهم قالوا أولاً {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} 2. فقيل لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم فهلا كنتم خلقاً لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟ فإن قلتم: كنا خلقاً على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقاً جديداً؟ وللحجة تقدير آخر وهو: لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكيد منهما فإنه قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم، وينقلها من حال إلى حال ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون آخر بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 3 فلما أخذتهم الحجة، ولزمهم حكمها، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع، وهو قولهم: {مَتَى هُوَ} ؟ فأجيبوا بقوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} 4.

1- سورة الإسراء آية: 49 ـ 51.

2-

سورة الإسراء آية: 49.

3-

سورة الإسراء آية: 51.

4-

شرح الطحاوية ص 459 ـ 460.

ص: 581

ثالثاً: الإستدلال على إمكان البعث بخلق ما هو أعظم منه مثل السموات والأرض والجبال والأنهار والبحار فإن خلقها أعظم من خلق الإنسان ومن الآيات الدالة على ذلك ما يلي:

1 ـ قال تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ} 1.

2 ـ وقال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} 2.

3 ـ وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.

فهذه الآيات جميعها أكبر برهان على قدرة الله المطلقة التي لا تقيد بقيود، ولا تنتهي عند حدود فإن تلك الآيات الكونية مما هو معروف ببداهة العقول أن خلقها أعظم من إعادة خلق الإنسان.

قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} 4.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ـ "فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم والقدرة عليه أبلغ وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك" اهـ5.

فالآيات المتقدمة فيها التنبيه على إمكان البعث بأمر مشاهد أمام الأنظار وهو خلق السموات والأرض ألم ير أولئك المكذبون أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير فالذي يصنع الأمر العظيم

1- سورة الإسراء آية: 98 ـ 99.

2-

سورة يس آية: 81.

3-

سورة الأحقاف آية: 33.

4-

سورة غافر آية: 57.

5-

درء تعارض العقل والنقل 1/32.

ص: 582

لا يعسر عليه أن يصنع الأمر اليسير، وما نسبة خلق الإنسان مرة أخرى بالنسبة لخلق السموات والأرض، فالله ـ تعالى ـ له القدرة المطلقة على كل شيء، وإذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون.

رابعاً: الإستدلال على إمكان البعث بخلق النباتات المختلفة وتحول الأرض من هيأة إلى هيئة ومن الآيات الدالة على ذلك ما يلي:

1 ـ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1.

2 ـ وقال تعالى: {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} 2.

3 ـ وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.

ففي هذه الآيات السابقة استدلال واضح بتبدل أحوال النباتات من حياة إلى موت، فحياة وسلب خاصّيّة النشوء والنماء في بعض النباتات فتمهد وتتفتت، ثم تسقى بالماء فتعود إليها تلك الخاصية فلو كان مستحيلاً إعادة الحياة إلى الإنسان مرة أخرى لما عادت الحياة إلى النباتات المختلفة بعد موتها لأن المشابهة واضحة في القدرة الإلهية في إعادة الحياتين سيرتهما الأولى، ولهذا لفت القرآن الكريم أنظار المنكرين للبعث إلى التبصر في الموجودات الحسية واستنتاج العظات والعبر منها ليعود للنفس إيمانها فتسعد بالطمأنينة والإستقرار.

وإحياء الأرض بعد موتها بالنبات من الأمور الحسية المشاهدة أرض أصابها الجدب فإذا بأشجارها تيبس بعد نضارتها وإذا بتلك الأرض هامدة خاشعة مستكينة قد مات منها كل شيء فيريد الله إحياءها فتنزل عليها الأمطار فإذا بها تظهر بمظهر آخر مخضرة بالزهور على

1- سورة الأعراف آية: 57.

2-

سورة فاطر آية: 9.

3-

سورة فصلت آية: 39.

ص: 583

أشكال شتى أفيعجز من أعاد الحياة إلى هذه الأرض الميتة والأشجار اليابسة أن يعيد إلى الإنسان حياته مرة أخرى لمجازاته على ما عمل في هذه الحياة الدنيا؟ بلى إنه على كل شيء قدير.

قال ابن كثير عند قوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} 1 "هذا دليل آخر على قدرته ـ تعالى ـ على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء

{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت أي: تحركت بالنبات وحييت بعد موتها وربت أي: ارتفعت ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون ومن ثمار وزروع وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها ورائحتها وأشكالها ومنافعها ولهذا قال تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: حسن المنظر طيب الريح" اهـ2.

خامساً: الإستدلال على البعث والإعادة بإخراج النار من الشجر الأخضر، والآيات الدالة على ذلك ما يلي:

1 ـ قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} 3.

2 ـ قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} 4.

إن الذي قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من الماء قادر على إعادة الحياة إلى ما كان غضَّاً طريَّاً ثم تحول إلى يابس"5. تلك هي بعض الدلائل الواضحة، والبراهين الساطعة التي استعملها القرآن لإثبات الإيمان باليوم الآخر والمسالك التي استعملها القرآن لإثبات ذلك اليوم كثيرة جداً، ويكفينا منها في مقامنا هذا تلك الإستدلالات الخمسة المتقدمة.

1- سورة الحج آية: 5.

2-

تفسير ابن كثير 4/617.

3-

سورة يس آية: 80.

4-

سورة الواقعة آية: 71 ـ 72.

5-

هذه الطرق التي استعملها القرآن لإثبات البعث بعد الموت أشار إليها بإيجاز شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر "مجموع الفتاوى" 9/224 ـ 225. وانظر النهاية لابن كثير 1/165 ـ 168.

ص: 584