الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة
لقد ذكر الله في سورة "الزمر" الكثير من دلائل توحيد الربوبية فقد بين أنه تعالى الخالق للسموات والأرض وما بينهما، وأنه ـ سبحانه ـ هو الذي جعل الليل والنهار يتعاقبان بحيث إذا ذهب هذا خلفه الآخر، وهو الذي سخر الشمس والقمر لتهيئة مصالح العباد ومنافعهم، وهو الذي خلق بني آدم من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام، وهو الذي خلق لهم الأزواج الثمانية من الأنعام التي تعتبر أكثر الحيوانات نفعاً لبني الإنسان، وهو الذي يرعاهم بلطفه وعنايته وهم في الأرحام في ظلمات ثلاث وهو الذي ينزل المطر من السماء وينبت النبات، وهو ـ سبحانه ـ المتصرف في شؤون خلقه بالإحياء والإماتة واليقظة والنوم، وبسطه ـ تعالى ـ الرزق لمن يشاء وتضييقه على من يشاء، ثم بينت السورة في ختام تلك الدلائل أن مقاليد السموات والأرض بيده ـ سبحانه ـ تلك هي دلائل توحيد الربوبية في السورة وسأتحدث عن كل واحد منها بحديث خاص حتى يتبين وجه دلالتها على ربوبية الخالق وأنه ـ سبحانه ـ المستحق للعبادة وحده لا شريك له. وإلى بيان تلك الأدلة مرتبة:
1 ـ خلق السموات والأرض:
لقد دلت السورة على أن خلق السموات والأرض من أعظم الآيات الدالة على ربوبيته ـ تعالى ـ والتعرف عليه ـ سبحانه ـ في آيتين منها: قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِ
…
} الآية. وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون} .
إن خلق السموات والأرض وإبداعهما على هذه الصورة من أعظم الآيات الدالة على ربوبية الله، والتعرف عليه ـ سبحانه ـ فقد أوضح الحق ـ سبحانه ـ بقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ بِالْحَقِ} أنه خالقهما بالحق المتجرد عن اللهو والعبث، وبث فيهما من الحكم العظيمة التي يتجلى بعضها لعباده المتفكرين المتدبرين في خلقهما.
وأما قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون} فهذه الآية فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم: بأن يدعو الله وحده لا شريك له الذي خلق السموات والأرض وفطرها على غير مثال سابق قال ابن جرير الطبري عند قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِ} يقول تعالى ذكره معرفاً خلقه حجته عليهم في توحيده، وأنه لا تصلح الألوهية إلا له:"خلق ربكم أيها الناس السموات والأرض بالعدل ـ وهو الحق ـ منفرداً بخلقها لم يشركه في إنشائها وإحداثها شريك ولم يعنه عليها معين"1. فالإله الحق الذي يستحق أن يعبد هو من يخلق وينشئ السموات والأرض، وليس ذلك في مقدور أحد سوى رب العالمين الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده دون سواه، فالسموات جعلها الله سقفاً محفوظاً تتألف من سبع طبقات وفيها من مخلوقات الله العجيبة ما الله بها عليم يحكمها نظام متقن تسير على وفقه، وذلك النظام هو النظام الإلهي الرباني الذي يحافظ على سيرها العام دون أن يحصل فيها خلل أو فطور قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 2 وقد تحدث العلامة ابن القيم في كتابه "مفتاح دار السعادة" عن آيات الله الدالة على وجوده وقدرته وحكمته في خلقه السموات وإبداع صنعها وما هي عليه من حيث السعة والعظم، وحسن خلقها وبنائها كما أوضح بأنها أشمل للعجائب التي دلت على وجود الخالق ـ سبحانه ـ وأن دلالتها على وجود الله ـ تعالى ـ أوضح من دلالة المخلوقات الأخرى، ثم قرر أنه لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السموات.
قال رحمه الله تعالى: "فالأرض والبحار والهواء وكل ما تحت السموات بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر ولهذا قل أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها إما إخباراً عن عظمها وسعتها، وإما إقساماً بها، وإما دعاء إلى النظر فيها، وإما إرشاداً للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالاً منه ـ سبحانه ـ بخلقها على ما أخبر به
1- جامع البيان 14/78.
2-
سورة الملك آية: 4.
من المعاد والقيامة، وإما استدلالاً منه بربوبيته لها على وحدانيته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وإما استدلالاً منه بحسنها واستوائها والتئام أجزائها وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته، وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها فكم من قسم في القرآن بها؟ كقوله:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ، و {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} ، {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} ، وهي الكواكب التي تكون خنساً عند طلوعها جوار في مجراها وسيرها عند غروبها فأقسم بها في أحوالها الثلاثة، ولم يقسم في كتابه بشيء من مخلوقاته أكثر من السماء والنجوم والشمس والقمر وهو ـ سبحانه ـ يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لتضمنه الآيات والعجائب الدالة عليه وكلما كان أعظم آية وأبلغ في الدلالة كان إقسامه به أكثر من غيره ولهذا يعظم هذا القسم كقوله:{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} " اهـ1. وقال في موضع آخر: " فتأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة كيف تراها؟ من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علواً كالنار ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة ولا عمد تحتها ولا علاقة فوقها بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا ثم تأمل استواءها واعتدالها فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق ولا أمت ولا عوج ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان وأشدها موافقة للبصر وتقوية له"اهـ2.
فلقد أوضح ابن القيم دلالة خلق السموات على أن للعالم خالقاً حكيماً عليماً قدره أحسن تقدير ونظمه أحسن نظام ولقد حث القرآن الكريم في غير ما آية على التفكر في خلق السموات والأرض وبين أن الذي أقامها وأمسكها إنما هو الخالق القادر على كل شيء المستحق للعبادة وحده دون سواه. قال تعالى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 3 وقال {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} 4
وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} 5 أفلا ينظرون من رفع السماء بلا عمد يرونها وهي بعيدة المدى لا علاقة من فوقها ولا عمد
1- مفتاح دار السعادة 1/196 ـ 197 والآيتان رقم 75 ـ 76 من سورة الواقعة.
2-
مفتاح دار السعادة 1/207.
3-
سورة الرعد آية: 2.
4-
سورة لقمان آية: 10.
5-
سورة الغاشية آية: 17 ـ 18.
تحتها تسندها ولا يدخل في حساب الخلق نجومها؟ وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 1. فهو سبحانه قيوم السموات والأرضيين فلا قيام لهما ولا استقرار إلا به سبحانه وتعالى.
وأما خلق الأرض وما فيها من الجبال والهضاب والسهل والوعر والرمل والبحار والأنهار وما في باطنها من المعادن وغيرها من المنافع الظاهرة والباطنة التي تساعد الإنسان على بناء حياته لأدلة واضحة على إبداع الخلاق الحكيم سبحانه وتعالى وقد نبه الله عباده في غير ما آية إلى النظر والتفكر في الأرض. قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} 2.
فالأرض مليئة بالعبر والعظات لأهل اليقين. قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 3 أفلا ينظرون؟ من بسط الأرض ودحاها وجعلها بساطاً ممتداً في الطول والعرض {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} 4 تثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان ويتمتع بخيراتها الإنسان؟ إنه الله
…
فلا شيء يخلق نفسه.
وقد أثنى الله ـ تعالى ـ على عباده الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، وبين الثمرة التي تحصل لهم نتيجة تفكرهم وتدبرهم في خلق السموات والأرض فقال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ ِلأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 5.
فتأمل أولي الألباب في خلق ربهم للسموات والأرض وما احتويا عليه من الآيات الدالة على قدرة الباري سبحانه وتعالى أكسبهم الثمرة المطلوبة وتلك الثمرة هي أنهم
1- سورة فاطر آية: 41.
2-
سورة الذاريات آية: 20.
3-
سورة الغاشية آية: 17 ـ 20.
4-
سورة نوح آية: 20.
5-
سورة آل عمران آية: 190 ـ 191.
يذكرونه ـ سبحانه ـ في جميع حالاتهم قياماً، وقعوداً وعلى جنوبهم، ثم أيقنوا وآمنوا بأن الرب سبحانه وتعالى لم يخلق هذه المخلوقات عبثاً ولذلك نزهوه عن العبث فقالوا:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} .
فتفكرهم في هذا الكون الفسيح علويه وسفليه نقلهم إلى الإيمان بما وراء هذا الكون وهو الدار الآخرة ولذلك تضرعوا إلى الله أن يقيهم عذاب النار الذي يوجب لصاحبه الخزي والعار فقالوا: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .
وقد ذم الله المعرضين عن التفكر فيما خلق الله من المخلوقات في السموات والأرض فقال ـ سبحانه ـ: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} 1.
قال ابن كثير: "أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليلة، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها" أ. هـ2.
وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} 3.
يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله، ودلائل توحيده بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات وحيوان ونبات، وثمرات متشابهة ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات، ـ فسبحان الواحد الأحد ـ خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء والصفات وغير ذلك"4.
1- سورة الأنبياء آية: 32.
2-
تفسير القرآن العظيم 4/561.
3-
سورة يوسف آية: 105.
4-
تفسير ابن كثير 4/55.
فالسموات والأرض مليئة بالآيات البينات والحجج الواضحات التي تهدي الإنسان وتدله على أن وراء هذا الكون خالقاً حكيماً مدبراً، هو المستحق أن يعبد وحده دون سواه.
2 ـ تعاقب الليل والنهار:
إن تعاقب الليل والنهار المشار إليه في السورة بقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} بإدخال أحدهما على الآخر وتداخلهما من أعجب آيات الله، وبدائع صنعه، ولذلك يعيد الباري ـ سبحانه ـ ذكرهما في القرآن ويبديه.
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} 1 وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} 2 وقوله سبحانه {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} 3.
"فالله تعالى هو الذي يحول ضياء النهار إلى ظلام الليل ليتمكن الإنسان من الحصول على الهدوء والسكينة حتى يرتاح من إرهاق العمل ومشقة السعي، وحتى يستجمع قواه ويجدد نشاطه ليواصل سعيه من جديد إذا ما جاء النهار وولي الظلام"4.
وفي ذلك عبر ودلالات واضحة على ربوبية الله ـ تعالى ـ وتصرفه في الكون كيف يشاء.
وعند التأمل في مقادير الليل والنهار نجدها على غاية المصلحة والحكمة وأن مقدار الليل والنهار على لو زاد على ما قدر له أو نقص لفاتت المصلحة واختلفت الحكمة بذلك بل جعل الله لهما مقداراً معيناً وهو أربعة وعشرون ساعة ويتقارضان الزيادة بينهما فما يزيد في أحدهما من الآخر يعود الآخر فيسترده منه وفي ذلك قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} 5 وفي الآية قولان:
أحدهما: أن المعنى يدخل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك وضياء هذا في مكان
1- سورة فصلت آية: 37.
2-
سورة الفرقان آية: 62.
3-
سورة الفرقان آية: 47.
4-
انظر مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/203 بتصرف.
5-
سورة الحديد آية: 6.
ظلمة الآخر فيدخل كل واحد منهما في موضع الآخر وعلى هذا القول تكون الآية عامة في كل ليل ونهار.
الثاني: أنه يزيد في أحدهما ما ينقصه من الآخر فما ينقص منه يلج في الآخر لا يذهب جملة وعلى هذا القول فالآية تكون خاصة ببعض ساعات كل من الليل والنهار في غير زمن الاعتدال فهي خاصة في الزمان وفي مقدار ما يلج في أحدهما من الآخر1. ولا تنافي بين القولين فكلاهما حق.
وعلى كل فاختلاف الليل والنهار وزيادة أحدهما ونقصان الآخر من أظهر الأدلة على تصرفه سبحانه في هذا الكون وذلك وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة وذاك هذا أخرى، وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره، وهو الله سبحانه وتعالى2.
3 ـ تسخير الشمس والقمر لتهيئة مصالح العباد ومنافعهم:
إذا تأمل الإنسان بفكر عميق وعقل متدبر في بعض جزئيات هذا الكون المسخر لمصالحه والتي عليها استقرار حياته كفاه ذلك دليلاً واضحاً وحجة بينة على أن هذا الكون مخلوق لخالق حكيم قدير ومن جزئيات هذا العالم تسخير الشمس والقمر المشار إليه في السورة بقوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} .
إن الشمس والقمر عليهما يترتب قوام حياة البشرية وحياة جميع المخلوقات من حيوان ونبات.
قال الرازي: والثابت اعتبار أحوال الكواكب لا سيما الشمس والقمر فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما وقوله: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً} الأجل المسمى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ونظيره قوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَر} 3 والمراد من هذا التسخير
1- مفتاح دار السعادة 1/209 ـ 210.
2-
تفسير الرازي 26/244.
3-
سورة القيامة آية: 9.
أن هذه الأفلاك تدور كدورات المنجنون1 على حد واحد إلى يوم القيامة وعنده تطوى السماء كطي السجل للكتب. أ. هـ2.
وقال العلامة ابن القيم: ثم تأمل هذا الفلك الدوّار بشمسه وقمره ونجومه وبروجه وكيف يدور على هذا العالم هذا الدوران الدائم إلى آخر الأجل على هذا الترتيب والنظام وما في طي ذلك من اختلاف الليل والنهار والفصول والحر والبرد وما في ضمن ذلك من مصالح ما على الأرض من أصناف الحيوان والنبات وهل يخفى على ذي بصيرة أن هذا إبداع المبدع الحكيم وتقدير العزيز العليم ولهذا خاطب الرسل أممهم مخاطبة من لا شك عنده في الله وإنما دعوهم إلى عبادته وحده لا إلى الإقرار به. أ. هـ3.
فتعاقب الليل والنهار ناتج عن طلوع الشمس وغروبها فلولا تسخيره سبحانه الشمس والقمر والليل والنهار بصورة منظمة محكمة بلغت النهاية في التنظيم والإبداع لتعطل أمر العالم بأسره فلقد ذلل الله الشمس والقمر وسيرهما في أفلاكهما سيراً سريعاً متوازناً بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتطام أو اصطدام بينهما، وقد عد الله ذلك من آياته قال تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 4.
فالليل والنهار يتعاقبان على حد معلوم وقدر مقسوم كل منهما يتعقب الآخر مسرعاً في طلبه ويتغلب على المكان الذي كان فيه والشمس والقمر يدوران والنجوم الثابتة والسيارة كل في فلك يسبحون بسير مقدر ونور مقرر، وانتظام دقيق، وحركة محسوبة وترابط عجيب تبعاً لسنن إلهية مقررة، فلو قدر للشمس أن لا تغيب لحميت الأرض بدوام شروقها ولهلك كل من عليها من حيوان ونبات فكان طلوعها بمنزلة السراج يرفع لأهل البيت ليقضوا حوائجهم ثم تغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدءوا. وصار ضياء النهار مع ظلام الليل وحر هذا مع برد هذا مع تضادهما متعاونين متظاهرين بهما تمام مصالح العالم. وقد
1- المنجنون: الدولاب التي يستقي عليها. انظر مختار الصحاح ص635.
2-
التفسير الكبير 26/244.
3-
مفتاح دار السعادة 1/212.
4-
سورة يس آية: 37 ـ 40.
أشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1.
فخص سبحانه النهار بذكر البصر لأنه محله وفيه سلطانه وتصرفه وخص الليل بذكر السمع لأن سلطان السمع يكون بالليل وتسمع فيه الحيوانات ما لا تسمع في النهار لأنه وقت هدوء الأصوات وخمود الحركات2.
وهناك فوائد أخرى مترتبة على حركة الشمس والقمر أشار إليها سبحانه بقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 3.
"فالخلق بأسرهم بحاجة ماسة إلى معرفة الحساب الذي لا غناء لهم في مصالحهم عنه فعليه تتوقف معرفة أعمارهم والآجال المضروبة للديون والإجارات والمعاملات والعدد وغير ذلك فلولا حلوك الشمس والقمر في المنازل وتنقلهما فيها منزلة بعد منزلة لم يعلم شيء من ذلك"4.
فالحركة الدائبة للشمس والقمر قائمة على النظام والإتقان والتقدير الإلهي الذي شمل كل مخلوقات الله تعالى ذلك الكون منظم منسق وانتظامه مرتبط بإرادة الله وقدرته كما أن استمراره على هذه الحالة منوط باختيار الله تعالى ومشيئته قال تعالى: {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} 5 وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 6 وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 7.
فليس هناك فوضى أو عبث وإنما هو إتقان وتقدير إلهي والنظام المتمثل في هذا
1- سورة القصص آية: 71 ـ 72.
2-
مفتاح دار السعادة 1/207 ـ 208، التفسير القيم ص402.
3-
سورة يونس آية: 5.
4-
مفتاح دار السعادة 1/209.
5-
سورة النمل آية: 88.
6-
سورة الفرقان آية: 2.
7-
سورة القمر آية: 49.
الكون يدركه عقل الإنسان بسهولة ويسر لأنه لا يحتاج إلى كد ذهن أو إعمال فكر لأنه خطاب موجه من العليم بنفوس البشر جميعاً فاقتضت الحكمة الإلهية مخاطبة الناس كافة بآيات هذا الكون الفسيح وما فيه من عجائب المخلوقات ولقد أحسن من قال:
تأمل سطور الكائنات فإنها
…
من الملأ الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها
…
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها
…
فصامتها يهدي ومن هو قائل1
فدلائل ربوبية الخالق ماثلة في كل ما يحيط ببني الإنسان على مختلف حواسهم، نشرها الباري بينهم لكي يقرؤوها فيعبدوه ويوحدوه دون سواه.
4 ـ خلقه تعالى بني آدم من نفس واحدة:
قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} هذه الآية من السورة بين الله تعالى فيها أنه خلق بني آدم الذين لا يحصي عددهم إلا هو ـ سبحانه ـ من أب واحد وهو آدم عليه السلام حيث كان خلقه في المرحلة الأولى منفرداً، ثم خلق له الباري ـ سبحانه ـ زوجة من نفسه وجسمه وهي حواء في سورة نادرة ليس لها مثيل بين المخلوقات2، فخلقه تعالى البشرية على هذا النحو من أعظم الأدلة الدالة على إبداع المبدع الحكيم والمدبر العليم، وخلقه ـ تعالى ـ بني آدم من نفس واحدة فيه لفت أنظارهم إلى مبدأ خلقهم وأن البشرية على اختلاف تنوعها بين الذكورة والأنوثة، وعلى اختلافها في العرق والعنصر وتباينها في اللغة واللون، فإن مرجعها إلى مصدر واحد وإلى منشأ واحد كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} 3.
قال ابن جرير حول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} "يعني بقوله تعالى ذكره: احذروا أيها الناس ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم، وفيما نهاكم فيحل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به
1- مدارج السالكين 3/356.
2-
انظر جامع البيان 23/193، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/80، التفسير الكبير للرازي 26/244 ـ 245، تفسير النسفي 4/50.
3-
سورة النساء آية: 1.
ثم وصف تعالى ذكره نفسه: بأنه المتوحد بخلق جميع الأنام من شخص واحد وعرف عباده كيف كان مبدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة ومنبههم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة وأن بعضهم من بعض" أ. هـ1.
فإنشاء جميع البشر على كثرتهم الهائلة من نفس واحدة آية بينة على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته وذلك من نعم الله على عباده فيجب عليهم أن يشكروا تلك النعمة وهي خروجهم من العدم إلى الوجود ويفردوه ـ سبحانه ـ بالعبادة وحده لا شريك له.
5 ـ تذكير العباد بمرحلة التكوين في الأرحام:
لقد جاء التذكير في السورة لبني آدم بأطوار خلقهم التي يمرون بها وتمر بها الحيوانات عند خلقها مع التفاوت في تلك الأطوار وقد أحيطت بظلمات متعددة في البطون، والأرحام، والمشايم، والسلي تحت العناية الربانية كما أبانت بأن الذي يفعل بهم ذلك إنما هو الله الذي له السلطان المطلق على جميع خلقه، والذي له الملك الحقيقي ظاهراً وباطناً فلا معبود بحق إلا هو سبحانه وتعالى فلا ينبغي لأي إنسان أن ينصرف عن عبادته وعن إخلاص العبودية له ـ وحده لا شريك له ـ إذ هو الذي خلقهم من العدم وحباهم بأصناف النعم الظاهرة والباطنة وليس في مقدور أي أحد أن يفعل لهم من ذلك شيئاً مهما كانت منزلته وعلت مكانته.
قال تعالى مذكراً عباده بمرحلة تكوينهم في بطون أمهاتهم في الظلمات الثلاث: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} . قال قتادة والسدي: " {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً"2.
وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: يبتدئ خلقكم أيها الناس في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق وذلك أنه يحدث فيها نطفة، ثم يجعلها علقة، ثم مضغة ثم عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم ينشئه خلقاً آخر فتبارك الله وتعالى فذلك خلقه إياكم خلقاً من بعد خلق"3.
1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 4/223 ـ 224.
2-
الجامع لأحكام القرآن 15/236، وانظر مجموع الفتاوى 16/262.
3-
جامع البيان 23/195.
وقال ابن كثير: "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق أي: قدركم في بطون أمهاتكم يكون أحدكم أولاً نطفة ثم يكون علقة ثم يكون مضغة ثم يخلق فيكون لحماً وعظماً وعصباً وعروقاً وينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين"1.
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "إن الإنسان إذا فكر في خلقه من أي شيء ابتدأ وكيف دار في أطوار الخلقة طوراً بعد طور حتى وصل إلى كمال الخلقة وعرف يقيناً أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته، وينقله من درجة إلى درجة وينقيه من نقص إلى كمال علم بالضرورة أن له صانعاً قادراً عالماً مريداً إذ لا يتصور حدوث الأفعال المحكمة من طبع، لظهر آثار الاختيار في الفطرة وتبين آثار الأحكام والإتقان في الخلقة فله تعالى صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها" أ. هـ2.
وقد أكد شيخ الإسلام ابن تيمية "أن أحسن ما يستدل به على ربوبية الخالق هو الاستدلال بخلق الإنسان نفسه كما كرر ذلك كتاب الله إذ هو الدليل وهو المستدل {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} 3. ثم بما يحدثه في هذا الوجود من آثار" أ. هـ4.
والحال كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذ أن خلق الإنسان من أعظم الآيات الدالة على وجدود ـ الخالق سبحانه ـ ومن أعظم الآيات الدالة على عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته وإحسانه ورحمته، ولما كان خلق الإنسان من أوضح الأدلة على وجود ـ الباري جل وعلا ـ ومن أقرب الأدلة وضوحاً للإنسان نفسه أن نجد أن الله ـ تعالى ـ دعا جميع عباده إلى أن يتفكروا وينظروا بعين البصيرة في مبدأ خلقهم، وفي أطوار هذا الخلق والمراحل التي مروا بها حتى صاروا بشراً ينتشرون على هذه الأرض. قال تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} 5 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا
1- تفسير القرآن الكريم 6/80.
2-
الملل والنحل للشهرستاني 1/94.
3-
سورة الذاريات آية: 21.
4-
مجموع الفتاوى 16/262.
5-
سورة الطارق آية: 5.
نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} 1.
فهاتان الآيتان فيهما شرح لكيفية خلق الإنسان فقد بين الله فيهما أن أصل خلق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام كان من طين. ثم بين ـ تعالى ـ أنه خلق نسل آدم من تلك النطفة، التي مرت بأطوار مختلفة ففي البداية كانت نطفة ثم صارت علقة، ثم صارت مضغة، ثم صارت عظاماً، فكسيت تلك العظام لحماً إلى أن صار بشراً سوياً، وذلك من أعظم الأدلة الدالة على قدرة الله المهيمنة على كل شيء، ومن رحمته تعالى أنه هيأ لتلك النطفة الأسباب التي أوصلتها إلى مستقرها وقرارها المكين الذي يناسبها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين، ضعيف لو مرت بها ساعة ـ أي لحظة ـ من الزمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها، واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها
…
وكيف قدر اجتماع ذينك المائين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قراراً مكيناً لا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه، ثم قلب تلك النطفة إلى علقة حمراء مباينة للنطفة، ثم جعلها مضغة لحم، مباينة للعلقة في شكلها ولونها وحقيقتها، ثم تحويل تلك المضغة عظاماً مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة كل المباينة في الشكل والهيئة والقدر والملمس، ثم كيف قسمت تلك النطفة الحمراء إلى تلك الأجزاء المتشابهة، وبالمقدار المناسب لكل عضو، ثم اتجاه كل جزء أو خلية إلى مكانها المناسب في وقتها وأوانها وعلى حسب الحاجة إليها فمنها ما يتجه إلى إنشاء العظام.
1- سورة الحج آية: 5.
2-
سورة المؤمنون آية: 12 ـ 14.
كل في محله، وعلى قدره الذي قدر أن يكون عليه فمنها الصغير، والكبير، والطويل، والقصير، والمنحني، والمستدير، والعريض، والمصمت، والمجوف، فهي مختلفة الأشكال والأحجام، وذلك حسب اختلاف المنافع المنوطة بها ثم شد تلك العظام وربط بعضها ببعض برباط قوي محكم بحيث لا يسقط عضو من آخر"1. {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} 2. "ثم أن هذا الخلق الذي يبتدئ بخلق النطفة إلى أن يصير بشراً سوياً يتم في ظلمات ثلاث كما أشارت إليه السورة في قوله تعالى:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} والمراد بالظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة"3. ففي تلك الظلمات الثلاث يتم ذلك الخلق العجيب فعلى الإنسان أن يتصور نفسه وهو في تلك الظلمات الثلاث: لا عين تراه، ولا يد تلمسه، ولا حيلة له في التماس الغذاء.
قال ابن القيم: "فأعد الآن النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية من الذي دبرك بألطف تدبير، وأنت جنين في بطن أمك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء ولا في دفع الضرر فمن الذي أجرى إليك من دم الأم ما يغذوك كما يغذوا الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبناً ولم يزل يغذيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسب والطلب حتى إذا كمل خلقك واستحكم وقوي أديمك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الضياء وصلبت عظامك على مباشرة الأيدي، والتغلب على الغبراء هاج الطلق من أمك فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء"4. فابن القيم رحمة الله عليه وضح لنا وجه الدلالة من التدرج في خلق الإنسان على أن هناك مدبراً حكيماً قادراً عليماً وراء هذا الكون وما فيه من المخلوقات دبره فأحسن تدبيره ـ فسبحانه ـ من إله حكيم أحكم خلقه وقدره تقديراً.
وبعض هذا العرض لمرحلة تكوين العباد في الأرحام تقول: إنا إذا اعتبرنا أن تلك المراحل إنما سيقت لتبين لنا كيف خلق الإنسان وكيف نما؟ وكيف تحول بحكم المراحل
1- مفتاح دار السعادة 1/187 ـ 189، وانظر "إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص44 ـ 45".
2-
سورة الإنسان آية: 28.
3-
الجامع لأحكام القرآن 15/236، تفسير ابن كثير 6/80.
4-
مفتاح دار السعادة 1/255 ـ 256.
المتعاقبة إلى كائن حيواني، ثم كيف انتقل إلى ذلك الإنسان العاقل المدرك الواعي عنده من المؤهلات والاستعدادات ما يجعله يتبوأ عمارة هذه الأرض ومسؤولية بنائها.
ولتبين: أن ذاك التعريف بخلق الإنسان إنما جاء دليلاً على قدرة الله وعلمه وحكمته وعندئذ يكون التعريف بتلك المراحل إنما هو تعريف بالله وبصفاته اعتماداً على التعريف بأحد مخلوقاته المعتبرة اعتباراً أولياً.
فليتأمل الإنسان خلقه، أليس مخلوقاً من قطرة ماء؟ من كونها لحوماً منضدة وعظاماً مركبة وأوصالاً متعددة مشدودة بالعروق والأعصاب مجمعة بجلد متين مشتمل على ثلاثمائة وستين مفصلاً ما بين كبير وصغير؟
من جعل فيها تسعة أبواب فبابان للسمع وبابان للبصر وبابان للشم وباب للكلام والطعام والشراب والتنفس وبابان لخروج الفضلات التي يؤذيه احتباسها؟
من جعل داخل بابي البصر ملحاً لئلا تذيب الحرارة الشحم الذي فيه؟
ومن جعل داخل باب الطعام والشراب حلواً ليسيغ ما يأكله ويشربه فلا يتنغص به لو كان مراً أو ملحاً؟
من جعل له مصباحين كالسراج المضيء في أعلى مكان في أشرف عضو طليعة له؟ 1.
فخلق الإنسان من الآيات العظيمة الدالة على ربوبية الله تعالى لهذا الكون وما فيه من ألوان المخلوقات وقد حث الله عباده على أن يتفكروا في أنفسهم ليستدلوا بذلك على معرفة الله وأنه المعبود بحق دون سواه.
وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 3
1- التبيان في أقسام القرآن ص304.
2-
سورة الطارق آية: 5 ـ 8.
3-
سورة الذاريات آية: 21.
قال قتادة: "من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة"1.
وقال ابن جرير الطبري: "وفي أنفسكم أيضاً: أيها الناس آيات وعبر تدلكم على وحدانية صانعكم، وأنه لا إله لكم سواه إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم"2.
6ـ الاستدلال بخلق الأزواج الثمانية من الأنعام على ربوبيته تعالى:
من الأدلة التي أشارت إليها السورة على ربوبية الخالق ـ سبحانه ـ خلقه تعالى الأزواج الثمانية من الأنعام وهي الإبل، والبقر، والضأن والمعز3 فهذه الأصناف تعتبر أكثر الحيوانات نفعاً لبني الإنسان فقد خلقها ـ تعالى ـ لهم فضلاً منه وكرماً، وقد جاءت الإشارة إليها في السورة بقوله تعالى:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وقد يقال هنا: كيف عبر عن الأنعام بالإنزال مع أنها مخلوقة على الأرض، فيجاب عليه بأن الإنزال في كل شيء بحسبه.
قال شارح الطحاوية: أثناء رده على القائلين بأن إنزال القرآن إنما هو نظير إنزال المطر أو إنزاله الحديد، وإنزال ثمانية أزواج من الأنعام. قال رحمه الله: "وإنزال الحديد والأنعام مطلق، فكيف يشبه هذا الإنزال بهذا الإنزال؟ فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال، وهي عالية على الأرض، وقد قيل إنه كلما كان معدنه أعلى كان حديده أجود، والأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث، ولهذا يقال: أنزل ولم يقل نزّل، ثم الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الأرض، ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء، وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى أسفل. وعلى هذا فيحتمل قوله {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} وجهين:
أحدهما: أن تكون "من" لبيان الجنس.
الثاني: أن تكون "من" لابتداء الغاية". أ. هـ4
1- تفسير القرآن العظيم 6/419.
2-
جامع البيان 26/205.
3-
جامع البيان 23/194، الجامع لأحكام القرآن 15/235.
4-
شرح الطحاوية ص196.
وقال ابن كثير {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أي: وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الإبل اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} أ. هـ1.
أما القرطبي: فقد ذكر ثلاثة أقوال لمعنى إنزال الثمانية الأزواج:
أحدها: أنه أخبر عن الأنعام بالنزول لأنها تكونت بالنبات، والنبات بالماء المنزل وهذا يسمى التدريج.
الثاني: أنه جعل الخلق إنزالاً لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء والمعنى خلق لكم كذا بأمره النازل.
الثالث: أن "أنزل" بمعنى أنشأ ـ وجعل ـ وقال سعيد بن جبير2 "خلق" أ. هـ3.
وقد بين تعالى أن في خلقه الأنعام عبرة لأولي النهى من عباده.
والعبرة في الأصل: تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة ومنه قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 5. وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم. والظاهر أن العبرة هي قوله {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} الآية6 فخلق الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم والمعز آية من آيات الله الدالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه سبحانه وتعالى وعلى أنه المعبود بحق دون سواه.
1- تفسير ابن كثير 6/80.
2-
هو: سعيد بن جبير الأسدي، بالولاء الكوفي أبو عبد الله: تابعي، كان أعلمهم على الإطلاق وهو حبشي الأصل من موالي بني والبة بن الحارث من بني أسد أخذ العلم عن عبد الله بن عباس. انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 1/204 تهذيب التهذيب 4/11، حلية الأولياء 4/272".
3-
الجامع لأحكام القرآن 15/235.
4-
سورة النحل آية: 66.
5-
سورة الحشر آية: 2.
6-
فتح القدير ج3 ص174.
كما بين لنا تعالى أن خلقه الأنعام من نعمه التي توجب أنه المتفرد بالخلق والوحدانية ولا يشرك به غيره في العبادة.
قال العلامة ابن كثير: يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} قال قتادة: مطيقون أي جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم لا تمتنع منهم بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه ولو شاء لأقامه وساقه وذاك ذليل منقاد معه وكذا لو كان القطار مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير وقوله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} أي منها ما يركبون في الأسفار ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} إذا شاؤوا نحروا واجتزروا {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين {وَمَشَارِبُ} أي من ألبانها وأبوالها لمن يتداوى ونحو ذلك {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أي أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره. أ. هـ2.
وقال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} 3.
وفي هذه الآية يمتن الله على عباده بخلقه لهم الأنعام وما فيها من المنافع الكثيرة وذلك من حججه على الناس حيث خلقها لهم وسخرها لهم وجعل لهم من أصوافها وأوبارها وأشعارها ملابس يستدفئون بها من البرد ويشربون من ألبانها وجعل لهم ظهور بعضها مركباً وصنف منها يأكلون لحومها كالإبل والبقر والغنم وسائر ما يؤكل لحمه من غيرها4.
وقد أمر الله عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته ومن بين تلك المخلوقات التي أمر بالنظر إليها الإبل. قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 5.
1- سورة يس آية: 71 ـ 73.
2-
تفسير القرآن العظيم 5/630.
3-
سورة النحل آية: 5.
4-
جامع البيان في تأويل آي القرآن 24/78.
5-
سورة الغاشية آية: 17 ـ 20.
فأول ما أرشد تعالى في هذه الآيات إلى النظر في الإبل فإنها خلق عجيب وتركيب غريب، فإنها في غاية القوة والشدة وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف ويؤكل لحمها وينتفع بوبرها ويشرب لبنها ونبه الله خلقه إلى ذلك لأن العرب كان غالب دوابهم الإبل وكان القاضي شريح1 يقول: أخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت؟ وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت
…
؟ فنبه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه والسماء التي فوق رأسه والجبل الذي تجاهه والأرض التي تحته على قدرة خالق ذلك وصانعه وأنه الرب العظيم الخالق الملك المتصرف وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه2.
فلذلك كله يوجه الله عباده من خلال كتابه بأن يتدبروا ويعتبروا في خلقه للأنعام ويأخذوا العبرة منها التي ترشدهم إلى عجيب صنع الباري ويدل هذا الصنع على ألوهيته سبحانه وتعالى فاللبن الذي تدره لهم ضروع الأنعام الذي هو مستخلص من بين الفرث والدم والفرث هو ما يبقى في كرشها بعض الهضم وبعض أن تمتص الأمعاء العصارة المتحولة إلى دم، هذا الدم هو الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم فإذا ما وصل إلى غدد اللبن الموجودة في الضرع تحول إلى ذلك اللبن الخالص السائغ للشاربين ببديع صنع الله الذي أتقن كل شيء.
1- هو: شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي أبو أمية، من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام، أصله من اليمن ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية واستعفى في أيام الحجاج فأعفاه سنة سبع وسبعين هجرية، وكان ثقة في الحديث مأمون في القضاء، توفي سنة ثمان وسبعين هجرية. انظر ترجمته في تقريب التهذيب 1/349، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص27 رقم الترجمة 42 وانظر تذكرة الحفاظ 1/59 والأعلام للزركلي 3/236.
2-
تفسير القرآن العظيم 7/277.
3-
سورة النحل آية: 66.
7 ـ إنزال المطر وإنبات النبات:
من دلائل الربوبية التي وردت في السورة إنزال المطر من السماء وإنبات النبات قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} .
في هذه الآية من السورة أشار ـ سبحانه ـ إلى دليل حسي ملموس متكرر ومشاهد على قدرته ولطفه وعلى أنه الرب الذي يشمل إحسانه وإنعامه ورحمته جميع مخلوقاته حيث ينزل لهم المطر من السماء فيدخله جل وعلا في ينابيع1 في الأرض، ثم يخرج به من الأرض الزروع المختلفة في ألوانها من الخضرة والصفرة والحمرة والبياض، والمتنوعة في أجناسها من البر والشعير والتمر والعنب ثم لفت الأنظار إلى ما يصيب ذلك الزرع من الاصفرار بعد نضرته وبهجته حيث تتغير وتذهب بهجته وخضرته فيصيره حطاماً متفتتاً متكسراً
…
ثم بين بأن في هذه الأحوال المتقدمة العبرة والإتعاظ والتذكير لأهل العقول السليمة2 الذين يتذكرون بذلك فيوقنون بأن من فعل كل ذلك "لا يتعذر عليه إحداث ما شاء من الأشياء وإن شاء ما أراد من الأجسام والأعراض وإحياء من هلك من خلقه من بعد مماته وإعادته من بعد فنائه كهيئته التي كان عليها قبل فنائه كما فعل بالأرض الميتة التي أنزل عليها الماء فأنبتت الزرع المختلف الألوان بقدرته"3.
فإنزال المطر من السماء، ومشاهدة الأرض مخضرة بألوان من النباتات المختلفة لوناً وجنساً بين عشية وضحاها آية متكررة بين العباد تدل دلالة واضحة على أنه لا بد من صانع حكيم وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير لا عن إهمال وتعطيل ولا دخل للطبيعة والصدفة التي يلهج بها الجاحدون للصانع الحكيم الذي دلت جميع المخلوقات على وحدانيته وألوهيته الحقة.
وقال شيخ الإسلام حول الآية السابقة: فأخبر سبحانه أنه يسلك الماء النازل من السماء ينابيع والينابيع جمع ينبوع وهو منبع الماء كالعين والبئر فدل القرآن على أن ماء
1- الينابيع جمع ينبوع وهو عين الماء. "انظر الجامع لأحكام القرآن 15/246".
2-
جامع البيان 23/208، تفسير القرطبي 15/246، تفسير ابن كثير 6/86 ـ 87، تفسير النسفي 4/54.
3-
جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23/208 ـ 209.
السماء تنبع منه الأرض والإعتبار يدل على ذلك فإنه إذا كثر ماء السماء كثرت الينابيع وإذا قل قلت.
وماء السماء ينزل من السحاب والله ينشئه من الهواء الذي في الجو وما يتصاعد من الأبخرة.
وليس في القرآن أن جميع ما ينبع يكون من ماء السماء ولا هذا أيضاً معلوماً بالاعتبار فإن الماء قد ينبع من بطون الجبال ويكون فيها أبخرة يخلق منها الماء، والأبخرة وغيرها من الأهوية قد تستحيل ماءاً كما إذا أخذ إناء فوضع فيه ثلج فإنه يبقى ما أحاط به ماء، وهو هواء استحال ماء، وليس ذلك من ماء السماء فعلم أنه ممكن أن يكون في الأرض ماء ليس من السماء فلا يجزم بأن جميع المياه من ماء السماء وإن كان غالبها من ماء السماء. أ. هـ1.
وعلى كل حال فالماء آية دالة على قدرة الله ولطفه سواءاً كان الماء النازل من السماء أو الماء النابع من الأرض فهو من الآيات الكونية التي نصبها الله للدلالة على الصانع الحكيم وقدرته التي تتسع لكل شيء.
وإن فيما أنزله الله من جهة السماء من ماء مبارك عمرت به الأرض بعد خرابها لدليل ساطع على قدرة الله ووحدانيته وفي إنزاله أيضاً من السماء حكم عظيمة مترتب عليه الكثير من مصالح العباد.
قال العلامة ابن القيم: "ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو ليعم بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وأكمامها ومنخفضها ومرتفعها ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلي وكثر وفي ذلك فساد فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها فينشئ سبحانه السحاب وهي روايا الأرض ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الأنثى ولهذا تجد البلاد القريبة من البحر كثيرة الأمطار وإذا بعدت من البحر قل مطرها وفي هذا المعنى يقول الشاعر يصف السحاب:
شربنا بماء البحر ثم ترفعت
…
متى لجج خضر لهن نشيج
1- مجموع الفتاوى 16/ 16 ـ 17.
وفي الموطأ مرفوعاً وهو أحد الأحاديث الأربعة المقطوعة "إذا نشأت سحابة بحرية فتلك عين غديقة"1. فالله سبحانه ينشئ الماء في السحاب إنشاء تارة بقلب الهواء ماء وتارة يحمله الهواء من البحر فيلقح به السحاب ثم ينزل منه على الأرض للحكم التي ذكرناها ولو أنه ساقه من البحر إلى الأرض جارياً على ظهرها لم يحصل عموم السقي إلا بتخريب كثير من الأرض ولم يحصل عموم السقي لأجزائها فصاعده ـ سبحانه ـ إلى الجو بلطفه وقدرته ثم أنزله على الأرض بغاية من اللطف والحكمة التي لا اقتراح لجميع عقول الحكماء فوقها فأنزله ومعه رحمته على الأرض" أ. هـ2.
وقد لفت القرآن أنظار العباد إلى النظر في إنزال المطر من السماء في مواضع كثيرة من كتابه قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 3.
ففي هذه الآية نبه الله عباده إلى أن يستعملوا عقولهم في التفكير في سوقه تعالى السحاب وجمعه بعد تفرقه بتأليف بعضه إلى بعض ثم ينزل المطر من خلاله ثم ينشئ الله على أثره نعماً كثيرة فيها الخير الكثير للإنسان والحيوان وكل ذلك يدل على وجود إله قادر بيده الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} 4.
وفي هذه الآية يخبر تعالى أنه يرسل الرياح لواقح ولقحها حمل الماء وإلقاحها السحاب والشجر عملها فيه.
قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يرسل الله الرياح فتحمل الماء فتجري السحاب فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر. وقال أيضاً رضي الله عنه: يبعث الله الريح فتلقح السحاب ثم تمر به فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر5.
1- الموطأ ص95.
2-
مفتاح دار السعادة 1/223 ـ 224.
3-
سورة النور آية: 43.
4-
سورة الحجر آية: 22.
5-
جامع البيان عن تأويل آي القرآن 24/20.
ومن حكمته ورحمته جل وعلا بعباده أنه ينزل المطر بقدر حاجة الأرض حتى إذا أخذت حاجتها منه وكانت تتابعه عليها يضر بها أمسكه عنها وأتبعه بالصحو فجعل تعالى الصحو والغيم متعاقبين لما فيهما من المصالح الكثيرة لهذا العالم.
قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} 1 قال أبو جعفر بن جرير يقول تعالى ذكره: "وما من شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر لكل أرض معلوم عندنا حده ومبلغه.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما من أرض أمطر من أرض ولكن الله يقدره في الأرض"2.
فلو قدر الله بأن توالت الأمطار لأهلكت كل ما على الأرض ولو زاد نزول المطر على قدر حاجتها لفسدت الحبوب والثمار وتعفنت الزروع والخضروات فترخي الأبدان ويحشر الهواء وتحصل ضروب من الأمراض وفسدت أكثر المآكل وتقطعت المسالك والسبل.
ولو قدَّر الله دوام الصحو لجفت الأبدان وغيض الماء وانقطع ماء العيون والآبار والأنهار والأودية وعظم الضرر واشتد الهواء فييبس ما على الأرض فيحدث عن ذلك ضروب من الأمراض عسرة الزوال ولكن حكمة اللطيف الخبير اقتضت بأن عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم فاعتدل الأمر وصح الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الآخر واستقام أمر العالم وصلح3.
والذي نخلص إليه مما تقدم أن إنزال الباري سبحانه وتعالى المطر من السماء ليعم بسقيه كل أجزاء الأرض ثم تنبت الأرض على أثره الزروع المختلفة لوناً وجنساً وطعماً ورائحة لدليل واضح على أن وراء هذا الكون إلهاً قادراً حكيماً يتصرف فيه كيف يشاء بيده الخلق والأمر سبحانه وتعالى.
8 ـ تصرفه ـ تعالى ـ في شؤون خلقه:
لقد دلت السورة أنه تعالى المتصرف في شؤون خلقه كلها من الحياة والموت،
1- سورة الحجر آية: 21.
2-
جامع البيان عن تأويل آي القرآن 24/18.
3-
مفتاح دار السعادة 1/224 بتصرف.
ومن بسطه الرزق لمن يشاء، وتضييقه عمن يشاء وأن بيده خزائن السموات والأرض يفتح منها على من يشاء ويمسكها عمن يشاء من خلقه فله ـ سبحانه ـ التصرف المطلق في كل شيء في هذا الوجود وأن سواه لا يملك شيئاً كائناً من كان.
هذه الآية من السورة أقام الله فيها الدليل القاطع على قدرته الكاملة، وعلى ربوبيته الشاملة لكل مخلوق، فأخبر أنه يتوفى الأنفس، ويمسك الأرواح ويحول بينها وبين أبدانها حيلولة نهائية عندما يجيئها أجلها الذي قدره لها، كما بين ـ تعالى ـ أنه يقبضها نوعاً آخر من أنواع القبض حتى يكون إتصالها بالبدن إتصالاً غير تام بحيث يذهب عنها تمييزها وينقطع تفكيرها وتعلقها وذلك في حالة نومها.
فأما النفس الأولى: التي قضى الله عليها الموت فإنها تقبض عن البدن قبضاً نهائياً.
وأما النفس الثانية: التي توفيت الوفاة الصغرى بأن كانت نائمة فيطلقها ربها ويرسلها للعودة إلى جسدها إلى حين يأتيها أجلها عند انقضاء المدة التي بقيت لها من عمرها ثم يتوفاها إليه.
ثم أوضحت الآية أن ذلك القبض، والإرسال، والإمساك والإطلاق فيه العبر والآيات والدلائل الواضحة لمن تفكر وتدبر بهدف الوصول إلى الحقيقة التي يدرك من خلالها الإدراك الصحيح أن الإله القادر على هذه الأمور المذكورة هو الذي يجب أن توجه له العبادة وأنه يخلص له الدين كله.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى حول الآية: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} الآية يقول تعالى ذكره: ومن الدلالة على أن الألوهة لله الواحد القهار خالصة دون كل ما سواه أنه يميت ويحيى ويفعل ما يشاء ولا يقدر على ذلك شيء سواه فجعل ذلك خبراً نبههم به على عظيم قدرته" أ. هـ1.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى حول هذه الآية: "قال تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة
1- جامع البيان 24/9.
بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام كما تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 1. فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى ولهذا قال تبارك وتعالى {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى}
…
إلى أن قال: "وقال بعض السلف يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله ـ تعالى ـ أن تتعارف {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} التي قد ماتت {وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} قال السدي: إلى بقية أجلها، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: يمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء ولا يغلط"2.
وروي عن ابن عباس أيضاً في هذه الآية أنه قال: "بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها". وقال سعيد بن جبير "إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} 3 أي: يعيدها.
وقال السدي في قوله تعالى: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} قال: "يتوفاها في منامها فيلتقي روح الحي، وروح الميت فيتذاكران ويتعارفان قال: فترجع روح الحي إلى جسدها في الدنيا إلى بقية أجلها وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس"4.
وهذا البيان من هؤلاء الأئمة لمعنى الآية إنما هو أحد القولين في هذه الآية وهو: أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولاً، والمرسلة من توفيت وفاة النوم، فيكون المعنى
1- سورة الأنعام آية: 60 ـ 61.
2-
تفسير القرآن العظيم 6/95 ـ 96.
3-
جامع البيان 24/9، الروح لابن القيم ص30 ـ 31.
4-
جامع البيان 24/9، كتاب الروح لابن القيم ص31.
على هذا التفسير أنه يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها إلى جسدها قبل يوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جسدها إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الكبرى، وأما التفسير الثاني في هذه الآية: هو أن الممسكة والمرسلة في الآية كلاهما توفيتا وفاة نوم فمن استكملت أجلها الذي قدر لها أمسكها عنده فلا ترجع إلى جسدها، ومن لم تستكمل الأجل المحدود لها ردها إلى جسدها لتستكمله، وقد اختار هذا الوجه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال:"وعلى هذا يدل الكتاب والسنة فإن الله ذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها بالنوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا إرسال فتلك قسم ثالث" أ. هـ1.
أما تلميذه ابن القيم فقد جنح إلى ترجيح القول الأول وقال: لأنه ـ سبحانه ـ أخبر بوفاتين وفاة كبرى وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى وهي وفاة النوم، وقسم الأرواح قسمين:
قسماً: قضى عليها بالموت فأمسكها عنده وهي التي توفاها الموت.
وقسماً: لها بقية أجل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها، وجعل ـ سبحانه ـ الإمساك والإرسال حكمين للوفاتين المذكورتين أولاً فهذه ممسكة وهذه مرسلة، وأخبر أن التي لم تمت هي التي توفاها في منامها فلو كان قد قسم وفاة النوم إلى قسمين، وفاة موت، ووفاة نوم لم يقل "والتي لم تمت في منامها" فإنها من حين قبضت ماتت وهو ـ سبحانه ـ قد أخبر أنها لم تمت فكيف يقول بعد ذلك:"فيمسك التي قضى عليها الموت" بعد أن توفاها وفاة النوم فهو ـ سبحانه ـ توفاها أولاً وفاة نوم ثم قضى عليها الموت بعد ذلك.
والتحقيق أن الآية تتناول النوعين فإنه ـ سبحانه ـ ذكر وفاتين وفاة نوم ووفاة موت وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى ومعلوم أنه ـ سبحانه ـ يمسك كل نفس ميت سواءاً مات في النوم أم في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت فقوله:{يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام"2.
والذي يبدو أن القول الراجح هو ما قرره ابن القيم رحمه الله تعالى ولا ننسى أن نذكر
1- مجموع الفتاوى 5/452 ـ 454، شرح حديث النزول ص94.
2-
كتاب الروح لابن القيم ص31 ـ 32.
أن الآية المتقدمة وهي قوله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} دلت على أن الروح محدثة لأنها وصفت بالوفاة، والقبض والإمساك، والإرسال وهذه الصفات من شأن المخلوق المحدث المربوب والمراد بالأنفس في الآية هي الأرواح قطعاً لما رواه البخاري في صحيحه من حديث بلال:"إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء"1 فهذه الأرواح المقبوضة هي الأنفس التي يتوفاها الله حين موتها وفي منامها التي يتوفاها ملك الموت، وهي التي تتوفاها رسل الرب ـ سبحانه ـ بإذنه وقضائه وحكمه وأمره"2.
وفي الآية أيضاً: "تنبيه على عظيم قدرته وانفراده بالألوهية، وأنه يفعل ما يشاء ويحيي ويميت، لا يقدر على ذلك سواه"3.
9 ـ بسطه تعالى الرزق لمن يشاء وتضييقه على من يشاء:
أقام الله تعالى في هذه الآية دليلاً محسوساً وملموساً على ربوبيته يحسه العباد بحواسهم، ويلمسونه بين ظهرانيهم، ويشاهدون ذلك بأبصارهم فيوحدوه ـ سبحانه ـ ويفردوه بالعبادة، وهذا الدليل هو أنه ـ سبحانه ـ الفعال لما يشاء بتوسيعه الرزق على من يشاء من عباده سواء كان صالحاً أو غير صالح، ويضيقه على من يريد من عباده سواء كان صالحاً، أو طالحاً فرزقه ـ سبحانه ـ مشترك بين الخلق أجمعين، أما الإيمان والعمل الصالح فيحض به أصلح البرية وهذا أمر ملحوظ في الدنيا، كما أوضحت الآية أن فعله ـ تعالى ـ ذلك وتصرفه في العطاء، والسعة، والمنع والتضييق على من يشاء يحمل في طياته العبر، والعظات والحكم البالغات للمؤمنين المنتفعين بالمواعظ والعبر لأنهم يعلمون أن مرد ذلك راجع إلى حكمته ورحمته ـ تعالى ـ وأنه العليم بحال عباده فقد يضيق عليهم
1- صحيح البخاري 1/112، سنن النسائي 2/106، الموطأ مع شرحه تنوير الحوالك 1/35.
2-
الروح لابن القيم ص119 ـ 200.
3-
الجامع لأحكام القرآن 15/263.
الرزق لطفاً بهم لأن بسطه عليهم قد يحملهم ذلك على الفساد والبغي في الأرض ففعله ـ سبحانه ـ ذلك مراعاة لإصلاح دينهم الذي هو مصدر سعادتهم وفلاحهم.
قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى حول هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: أو لم يعلم يا محمد هؤلاء الذين كشفنا عنهم ضرهم فقالوا: إنما أوتيناه على علم منا أن الشدة والرخاء، والسعة، والضيق، والبلاء بيد الله دون كل ما سواه يبسط الرزق لمن يشاء فيوسعه عليه، ويقدر ذلك على من يشاء من عباده فيضيقه، وأن ذلك من حجج الله على عباده، ليعتبروا به، ويتذكروا، ويعلموا أن الرغبة إليه، والرهبة دون الآلهة، والأنداد {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ} يقول: إن في بسط الله الرزق لمن يشاء، وتقتيره على من أراد لآيات: يعنى دلالات، وعلامات {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يعني يصدقون بالحق فيقرون إذا تبينوه وعلموا حقيقته أن الذي يفعل ذلك هو الله دون كل ما سواه"1.
وقال أبو عبد الله القرطبي حول قوله تعالى في الآية السابقة: " {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خص المؤمن بالذكر لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها ويعلم أن سعة الرزق قد يكون مكراً واستدراجاً، وتقتيره رفعة وإعظاماً" اهـ2.
وهذه الآية الآنفة الذكر من السورة لها نظائر في كتاب الله وردت بمعناها منها قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. فهذه الآية: بيَّن الله تعالى فيها أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها دون غيره ممن ادعى أهل الشرك أنهم آلهة واتخذوه رباً دونه يعبدونه، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن بسط الرزق وتضييقه عائد إلى فعل الرب ـ سبحانه ـ المتصرف في كل شيء قال أنس بن مالك رضي الله عنه: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله غلا السعر فأسعر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله الباسط القابض الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال"4 فبين صلى الله عليه وسلم بقوله هذا أن الغلاء
1- جامع البيان عن تأويل أي القرآن 24/13.
2-
الجامع لأحكام القرآن 15/267، فتح القدير للشوكاني 4/469.
3-
سورة البقرة آية: 245.
4-
رواه أبو داود في سننه 2/388 وابن ماجة 2/741 ـ 742، والترمذي في سننه وحسنه 2/388.
والرخص، والسعة والضيق بيد الله دون غيره، فما أنصع هذه الحجة وما أوضح هذا البرهان، ولو أن الذين يحاولون أن يستدلوا على وحدانية الله ـ تعالى ـ بالأدلة التي كتبها علماء الكلام لجئوا إلى القرآن الكريم واقتبسوا من أدلته وأفادوا من حججه لوضح لهم السبيل ووصلوا إلى الحق من أقرب طريق.
وقال تعالى: {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 1.
وفي هذه الآية بين الله ـ تعالى ـ أنه هو الذي يوسع الرزق، ويبسطه على من يشاء ويقدر، ويضيقه على من يشاء فله ـ سبحانه ـ التصرف المطلق كيف يشاء وعلى ما يريده ـ جل وعلا ـ في جميع شؤون خلقه.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 2. وهذه الآية أيضاً أبانت بأن سعة الرزق وتضييقه كله فعل الله ـ تعالى ـ ومرده إليه لا إلى غيره.
وقال تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. قال العلامة ابن جرير: يقول تعالى ذكره: "يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه، ويبسط له، ويكثر ماله ويغنيه، {وَيَقْدِرُ} يقول: ويقتر على من يشاء منهم فيضيقه، ويفقره {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يقول: إن الله تبارك وتعالى بكل ما يفعل من توسيعه على من يوسع، وتقتيره على من يقتر، ومن الذي يصلحه البسط عليه في الرزق، ويفسده من خلقه، والذي يصلحه التقتير عليه، ويفسده، وغير ذلك من الأمور، ذو علم لا يخفى عليه موضع البسط والتقتير وغيره، من صلاح تدبير خلقه"4.
فلو تدبر أولئك القبوريون الذين يلتمسون الرزق من أصحاب القبور هذه الآيات وأمثالها لألزموا أنفسهم بالحياء، وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له وعلموا أن الرزق بيده وحده، فابتغوه عنده مخلصين له الدين وأقلعوا عن الشرك الذي امتلأت به قلوبهم وذلَّت به أنفسهم
1- سورة الرعد آية: 26.
2-
سورة الروم آية: 37.
3-
سورة الشورى آية: 12.
4-
جامع البيان عن تأويل آي القرآن 25/14.
ولكن الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم وفعل بهم كما فعل بأشياعهم من قبل لا قوة إلا بالله.
10 ـ مقاليد السموات والأرض بيده ـ سبحانه ـ:
قال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
هذه الآية من السورة أوضحت أن من الدلائل على ربوبيته تعالى كون خزائن العالم كله علويه وسفليه بيده وحده دون غيره فمن خزائن السموات المطر، ومن خزائن الأرض النبات وما يخرج منها من المعادن، والمياه من آبار وعيون وغير ذلك من الأشياء مما اكتشف حالياً من مصادر الرزق والنعم التي لا تحصى كل ذلك بيد الله وتحت تصرفه، وقدرته الشاملة لكل شيء فهو ـ سبحانه ـ المسيطر على جميع الكائنات ملكاً وحفظاً وتصرفاً، ومن هذه صفته فهو الجدير وحده بالعبادة دون سواه، كما أوضحت الآية أن الكافرين بآيات الله التي تدل على الحق واليقين، وعلى طريقه المستقيم هم الذين خسروا ما فيه صلاح قلوبهم من التعبد لله، والإخلاص له، وما به تصلح ألسنتهم من ذكره، وما فيه صلاح الجوارح من الطاعة، واستبدلوا بذلك الكفر بالله الذي هو مفسد لقلوبهم، وأبدانهم كما خسروا جنات النعيم وتعوضوا عنها بالعذاب المقيم.
قال العلامة ابن جرير حول الآية: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية "يقول تعالى ذكره: له مفاتيح خزائن السموات والأرض، يفتح منها على من يشاء ويمسكها عمن أحب من خلقه. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: مقاليد السموات والأرض مفاتيحها. وبه قال قتادة، وقال السدي: "له مقاليد السموات والأرض" خزائن السموات والأرض"1
قال ابن كثير: "والمعنى على كلا القولين أن أزمة الأمور بيده تبارك وتعالى له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" اهـ2.
وقد وردت آية أخرى مماثلة لهذه الآية التي معنا في السورة وهي قوله تعالى: {لَهُ
1- جامع البيان 24/23، تفسير ابن كثير 6/105.
2-
تفسير ابن كثير 6/105 ـ 106.
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1.
فهذه الآية إرشاد من الله تعالى لعباده بأن يفزعوا إلى من له مقاليد السموات والأرض الذي هذه صفته، ويتوجهون إليه بالعبادة وإفراده بالطاعة فكأن الآية تقول: إلى الله أيها الناس فارغبوا وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين واتركوا الأوثان والأولياء والآلهة والأصنام التي اتخذتموها آلهة من قبل أنفسكم دون حجة ولا برهان ولا تملك لكم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
وما دلت عليه آية الزمر من أنه ـ تعالى ـ مالك خزائن السموات والأرض أفصحت عن هذا المعنى آيات أخر مثل قوله تعالى: {ولله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} 2. ومثل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} 3 قال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كل شيء لا يطلب إلا من خزائنه، ومن مفاتيح تلك الخزائن بيده، وإن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه، وقوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} 4 متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به، وإلا فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله، فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه فاجتمع ما يراد له كله في قوله {وأن إلى ربك المنتهى} فليس وراءه ـ سبحانه ـ غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى"5.
وكل ما قدمنا من الآيات التي أسلفناها من السورة وغيرها للإستدلال بها على توحيد الربوبية كلها على اختلاف أساليبها، واختلاف موضوعاتها تلفت الأنظار إلى أن هذا الكون
1- سورة الشورى آية: 12.
2-
سورة المنافقون آية: 7.
3-
سورة الحجر آية: 21.
4-
سورة النجم آية: 42.
5-
الفوائد ص196.
وما يحتويه لم يكن وليد المصادفة والإتفاق وإنما هو مخلوق عن علم عليم، وقدرة قادر وهو الله تبارك وتعالى وفي كل ذلك آية على وجود الخالق الحكيم.
قال الشاعر:
ولله في كل تحريكة
…
وتسكينة في الورى شاهد
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه الواحد1
1- البيتان لأبي العتاهية انظر ديوانه ص222.