الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها
لقد دلت السورة على أبدية الجنة وخلود أهلها فيها ودوام نعيمها في قوله ـ تعالى ـ: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} .
فقوله ـ تعالى ـ في هذه الآية {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فيه دلالة واضحة على أن أهل الجنة خالدون فيها بلا انقطاع.
قال ابن كثير: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي: ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً. اهـ1.
وقد أكد ـ تعالى ـ خلود أهل الجنة وأبديتها ودوام نعيمها في مواضع أخرى كثيرة في القرآن الكريم.
قال ابن كثير بعد هذه الآية: "هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها، ومحالها وأرجائها حيث شاؤوا، وأين أرادوا وهم خالدون فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولاً" اهـ3.
1- تفسير القرآن العظيم 6/116.
2-
سورة النساء آية: 57.
3-
تفسير القرآن العظيم 2/319.
أخبر ـ تعالى ـ في هاتين الآيتين بأنه أعد لعباده السعداء وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات الفردوس نزلاً ـ "والنزل: هو ما يهيأ من الإكرام للضيف أو القادم ومعنى قوله ـ تعالى ـ: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} أي: خالدين في جنات الفردوس لا يبتغون عنها حولاً أي: تحولاً إلى منزل آخر، لأنها لا يوجد منزل أحسن منها يرغب في التحول إليه عنها بل هم خالدون فيها دائماً من غير تحول ولا انتقال"2.
قال ابن كثير: "وفي قوله: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه، أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً"اهـ3.
هذه الآية بين الله فيها أن الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا له بالوحدانية ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وأدوا مع ذلك فرائض الله التي فرضها عليهم، فإن جزاءهم أن يدخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى الله جنات يعني: بساتين تجري من تحتها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} أي: باقين في هذه الجنات التي هذا وصفها أبداً دائماً"5.
1- سورة الكهف آية: 108.
2-
أضواء البيان 4/197.
3-
تفسير القرآن العظيم 4/431.
4-
سورة النساء آية: 122.
5-
جامع البيان 5/287.
6-
سورة المائدة آية: 119.
بشّر الله ـ تعالى ـ "عباده المؤمنين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيله برحمة منه لهم، وأنه قد رحمهم من أن يعذبهم، وبرضوان منه لهم، بأنه قد رضي عنهم بطاعتهم إياه، وأدائهم ما كلفهم، وجنات يعني: بساتين لهم فيها نعيم مقيم لا يزول ولا يبيد، ثابت دائم أبداً لهم لا نهاية لذلك ولا حد"2.
بين الله ـ تعالى ـ في هاتين الآيتين أنه يُخرج ما في صدور المتقين من عداوة وبغضاء وحقد من بعضهم لبعض، ويجعلهم إخواناً على سرر متقابلين، وأنه لا يمسهم في الجنة تعب، ولا يخرجون من الجنة ونعيمها وما أعطاهم الله فيها من النعيم بل ذلك دائم أبداً.
هذه الآيات نوه الله ـ تعالى ـ فيها بأصحاب اليمين، وأن شأنهم عظيم وحالهم جسيم، كما نوّه بما يؤولون إليه من النعيم من فواكه لذيذة، وظل ظليل، وكثير من العيون والأنهار السارحة والمياه المتدفقة، ثم بين ـ تعالى ـ أن فاكهة الآخرة ليست كفاكهة الدنيا تنقطع في وقت من الأوقات وتكون ممتنعة متعسرة على مبتغيها بل هي على الدوام موجودة وجناها قريب يتناوله العبد على أي حال كان.
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ
1- سورة التوبة آية: 20 ـ 22.
2-
جامع البيان 10/97.
3-
سورة الحجر آية: 47 ـ 48.
4-
سورة الواقعة آية: 27 ـ 34.
وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} 1.
وهذه الآيات بين الله ـ تعالى ـ فيها أن المتقين في الجنة خالدون، لا يذوقون فيها الموت أبداً، ولا يخرجون من الجنة أبداً.
ويكفينا من الآيات ما تقدم في الإستدلال على أبدية الجنة ودوامها، وأما الأدلة من السنة على ذلك فكثيرة جداً.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس2 لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه"3.
ومنها حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبداً فذلك قوله عز وجل {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} "4.
ومنها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح" 5 فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم. هذا الموت قال ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم. هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح قال ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 6
وفيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل
1- سورة الدخان آية: 51 ـ 56.
2-
البأس: هو شدة الحال والبأس، والبؤس، والبأساء، والبؤساء بمعنى واحد شرح النووي 17/174.
3-
رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 4/2181 ـ 2182.
4-
صحيح مسلم 4/2182، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة معاً والآية رقم 43 من سورة الأعراف.
5-
الأملح: من الكباش الذي يكون فيه بياض وسواد والبياض أكثر، التذكرة ص438.
6-
صحيح البخاري 3/157، صحيح مسلم 4/2188، واللفظ له والآية رقم 39 من سورة مريم.
الله أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه" 1.
والأحاديث الواردة في أبدية الجنة ودوام نعيمها كثيرة جداً، وكلها دلت على أن نعيم الجنة لا يفنى ولا ينقطع، وأنه نعيم أبدي سرمدي، وهذا هو اعتقاد أهل السنة وعامة المسلمين.
قال النووي: "مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، يتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعماً دائماً لا آخر له ولا انقطاع أبداً، وأن تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة والنفاسة التي لا يشارك نعيم الدنيا إلا في التسمية وأصل الهيئة، وإلا في أنهم لا يبولون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبصقون، وقد دلت دلائل القرآن والسنة
…
أن نعيم الجنة دائم لا انقطاع له أبداً" أهـ2.
والذي نخلص إليه مما تقدم من الآيات والأحاديث التي سقناها للاستدلال على أبدية الجنة ودوام نعيمها أنه يجب على كل إنسان أن يصدق التصديق الجازم بوجود الجنة وأنها مخلوقة الآن وأنها باقية بإبقاء الله لها لا تفنى أبداً، ويدخل في ذلك كل ما اشتملت عليه من النعيم"3.
1- صحيح البخاري 4/136، صحيح مسلم 4/2189.
2-
شرح النووي على صحيح مسلم 17/173 ـ 174 وانظر: مراتب الإجماع لابن حزم ص 173".
3-
ولم يخالف في هذا الاعتقاد الحق إلا "الجهم بن صفوان" فإنه زعم "أن الجنة والنار تفنى وليس له سلف ألبتة في هذا الاعتقاد الباطل وتبعه على هذا الاعتقاد "أبو الهذيل العلاف" فإنه زعم: أن حركات أهل الجنة تفنى ويصيرون في سكون دائم". أنظر: مذهب الجهم في "حادي الأرواح" ص244 ـ 245، شرح الطحاوية ص 480 ـ 481، لوامع الأنوار البهية 2/234. وانظر "مقالات الإسلاميين" 1/243، وانظر الفرق بين الفرق ص211، 212، وانظر "الملل والنحل" 1/51، وانظر مذهب "محمد بن الهذيل العلاف" في "الملل والنحل" 1/51، التبصير في الدين ص108، ص 70، ولقد كفر السلف الصالح من قال بفناء الجنة لأن ذلك تكذيب للقرآن وكفر به. انظر كتاب "السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ص20".