الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه
لقد ورد في هذه السورة المدح والثناء الحسن لمن اجتنب عبادة الطاغوت وتوجه بالعبادة الخالصة لربه ـ جل وعلا ـ فأفرده بها وحده لا شريك له. قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} .
هاتان الآيتان من السورة فيهما الثناء الحسن للذين اجتنبوا عبادة الأصنام وتفانوا في عبادة الملك العلام، وكفروا بعبادة الطاغوت الذي عبده الجاهلون بالباطل زوراً وبهتاناً، والمقصود بالطاغوت هنا هو عبادة غير الله ـ تعالى ـ فمدحهم الله وأثنى عليهم باجتنابهم عبادة الطاغوت وإقبالهم بكليتهم على عبادة الله وحده وإخلاص الدين له دون غيره، وأقلعوا عن الشرك والمعاصي إلى إخلاص التوحيد والطاعات لربهم وخالقهم سبحانه وتعالى.
وقيل المقصود بالطاغوت الشيطان ذكره ابن جرير عن السدي ومجاهد وابن زيد1 والذي يظهر أن المراد بالطاغوت في الآية كل معبود من دون الله والنصيب الأكبر من ذلك للشيطان لأنه رأس كل ضلالة كما قال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2.
وقد ذكر الله الجزاء الذي ينتظر عباد الله الموحدين وهو أن لهم البشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن ويكلؤهم الله بعنايته ويوفقهم للأعمال الصالحة التي يشاهدون من
1- جامع البيان 23/206.
2-
سورة يس آية: 60.
خلالها أنه ـ تعالى ـ يريد إكرامهم، كما أن لهم البشرى في الآخرة عند الموت وفي القبر، وفي القيامة وخاتمة البشارات البشارة العظمى وهي ما يحصل لهم من إحلال الله ـ تعالى ـ رضوانه عليهم، والنظر إلى وجهه الذي هو أعظم نعيم أهل الجنة وقد أمر الله نبيه أن يبشر عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ـ: "والمراد بالقول القرآن كما فسره بذلك سلف الأمة وأئمتها" اهـ1
فقد وصف الله عباده المبشرين بأنهم يستمعون القول فيفهمونه ويعقلونه ويتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام الباري ـ سبحانه ـ وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة ابن كثير: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي: يفهمونه، ويعملون بما فيه كقوله ـ تعالى ـ لموسى عليه السلام حين آتاه التوراة {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ بِأَحْسَنِهَا} 2 {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ} أي: المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} أي: ذوو العقول الصحيحة والفطر المستقيمة"3 اهـ.
وقد ذكر في أسباب النزول أن الآيتين نزلتا في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضي الله ـ تعالى ـ عنهم كانوا في الجاهلية يقولون: "لا إله إلا الله" واجتنبوا عبادة الطاغوت4 والأصح أن الآيتين تشمل النفر الثلاثة المذكورين وغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان وأناب إلى عبادة الرحمن وهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة5.
وبعد هذه اللمحة لبيان معنى الآيتين نأتي لتعريف الطاغوت الذي فرض الله علينا اجتنابه.
1- مجموع الفتاوى 16/5، دقائق التفسير 4/252.
2-
سورة الأعراف آية: 145.
3-
تفسير القرآن العظيم 6/84.
4-
جامع البيان 23/207.
5-
تفسير ابن كثير 6/84.
معنى الطاغوت في اللغة:
جاء في القاموس: "الطاغوت اللات، والعزى، والكاهن، والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام، وكل ما عبد من دون الله ومردة أهل الكتاب للواحد والجمع "فعلوت" من طغوت، والجمع طواغيت طواغ، أو الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشراف وأطغاه جعله طاغياً والطغوة المكان المرتفع". أهـ1.
وقال في المصباح المنير: "والطاغوت يذكَّر ويؤنَّث والإسم "الطغيان" وهو مجاوزة الحد وكل شيء جاوز المقدار والحد في العصيان فهو "طاغ" و"أطغيته" جعلته "طاغياً" "وطغى" السيل ارتفع حتى جاوز الحد في الكثرة "والطاغوت" الشيطان وهو في تقدير فعلوت بفتح العين لكن قدمت اللام موضع العين، واللام واو محركة مفتوح ما قبلها فقلبت ألفاً فبقي في تقدير فعلوت وهو من الطغيان"2 اهـ.
وجاء في فتح المجيد: "الطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد"3 اهـ.
والذي نستفيده من هذه التعاريف اللغوية أن الطاغوت كل ما تجاوز حده فصار معبوداً من دون الله سواء كان إنساناً أو صنماً أو وثناً أو كان ما كان من أي شيء وسواء عبد بطاعة من عابديه أو بقهره لهم حتى عبدوه فهو طاغوت.
معنى الطاغوت اصطلاحاً:
روى ابن جرير وابن كثير بإسنادهما إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان"4.
قال ابن كثير: "ومعنى قوله "إنه الشيطان" قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والإستنصار بها"اهـ5.
وذكر ابن كثير: بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سئل عن الطواغيت فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين.
1- 4/359، مختار الصحاح 393.
2-
1/373 ـ 374.
3-
ص19.
4-
جامع البيان 5/131، تفسير ابن كثير 3/315.
5-
تفسير القرآن العظيم 1/553.
وقال مجاهد: الطاغوت الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم.
وقال الإمام مالك رحمه الله: "هو كل ما يعبد من دون الله عز وجل"1. وتعريف الإمام مالك يقيد بمن عبد من دون الله وهو راض ليخرج بهذا القيد من عبد وهو غير راض مثل المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام، والملائكة فإنهم عبدوا من دون الله وهم غير راضين بذلك بل إنهم براء ممن عبدهم ومن عبادتهم.
وقال الواحدي2: عند قوله ـ تعالى ـ {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ والطَّاغُوْتِ} 3 "كل معبود من دون الله فهو فهو جبت وطاغوت"4. وقال عبد الله بن عباس: "الجبت الأصنام والطاغوت الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس".
قال ابن جرير: وزعم رجال: أن الجبت الكاهن والطاغوت رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف وكان سيد اليهود"5وقال بعض السلف: عند قوله ـ تعالى ـ {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} 6 إنه كعب بن الأشرف، وقال بعضهم: حيي بن أخطب، وإنما استحقا هذا الاسم لكونهما من رؤوس الضلال ولإفراطهما في الطغيان وإغوائهما الناس ولطاعة اليهود لهما في معصية الله فكل من كان بهذه الصفة فهو طاغوت" اهـ7.
وهذه التعريفات المتقدمة عن السلف الصالح من باب توضيح الشيء ببعض أفراده
1- المصدر السابق 2/316، فتح المجيد ص19 ـ 20.
2-
هو: علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متوية، أبو الحسن الواحدي مفسر عالم بالأدب وصفه الذهبي بإمام علماء التأويل توفي سنة ثمان وستين وأربعمائة هجرية. انظر ترجمته في "النجوم الزاهرة" 5/104، الوفيات 1/333، الأعلام 5/59.
3-
سورة النساء آية: 51.
4-
انظر مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص407.
5-
جامع البيان 5/131.
6-
سورة النساء آية: 60.
7-
مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص407، والكلام للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله تعالى ـ.
وإلا فالحد الجامع المانع لمعنى الطاغوت هو ما عرفه به ابن القيم رحمه الله تعالى ـ فقد قال:"الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله ـ تعالى ـ إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته"اهـ1.
فلو تأملنا زمننا هذا واستعرضنا حالة أكثر المسلمين لوجدناها طبقاً لما قال هذا الإمام رحمة الله عليه إلا من رحم الله، وبعد أن عرفنا معنى الطاغوت في اللغة والاصطلاح نقول: إن الله فرض على جميع خلقه أن يكفروا بالطاغوت ويعتقدوا اعتقاداً جازماً أن عبادته باطلة وأن من عبده كافر بالله العظيم.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2 فهذه الآية فيها الإخبار بأنه ـ تعالى ـ أمر جميع خلقه باجتناب عبادة الطاغوت مطلقاً سواءاً كان إنساً أو جناً، أو شجراً، أو حجراً، أو هوى، أو شهوة، أو مالاً، أو جاهاً، أو وظيفة، وأن يعبدوه ـ سبحانه ـ وحده دون سواه.
وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 3.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب4: "واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت والدليل هذه الآية" اهـ5.
1- تيسير العزيز الحميد ص33، فتح المجيد ص20، إعلام الموقعين 1/50.
2-
سورة النحل آية: 36.
3-
سورة البقرة آية: 256.
4-
هو: إمام الدعوة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي زعيم النهضة الدينية الإصلاحية الحديثة في الجزيرة العربية وقد نهج رحمه الله منهج السلف داعياً إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك والبدع والخرافات، وتحطيم ما علق بالإسلام من أوهام. ولد رحمه الله سنة خمس عشرة ومائة وألف، وتوفي سنة ست ومائتين وألف هجرية. انظر ترجمته في "كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد 1/6 وما بعدها، هدية العارفين 2/250 الأعلام 7/137، معجم المؤلفين10/269".
5-
الدرر السنية 1/95.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن1 رحمه الله تعالى ـ عند شرحه للآية: "وهذا معنى "لا إله إلا الله" فإنها العروة الوثقى" أهـ2.
والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على أنه يجب الكفر بالطاغوت والإيمان بالله.
وضابط الكفر بالطاغوت: أن يعتقد الإنسان اعتقاداً جازماً بطلان عبادة غير الله وتركها والبغض لأهلها ومعاداتهم.
وضابط الإيمان بالله: الإعتقاد الجازم بأن الرب ـ سبحانه ـ هو الإله المعبود وحده دون سواه وإخلاص جميع أنواع العبادة كلها له وحده لا شريك له ونفيها عن كل معبود سواه.
وبعد أن عرفنا أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله ـ تعالى ـ إذن فالطواغيت لا تحصى لكثرتها وتنوعها إلا أن رؤوسها خمسة4 وهي:
الأول: إبليس الذي لا يزال جاهداً آناء الليل وآناء النهار في الدعوة إى عبادة غير الله ـ تعالى ـ.
قال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 5.
1- هو: عبد الرحمن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، فقيه، حنبلي من علماء نجد وهو حفيد العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة إلى التوحيد والتي عرفت بإسمه ويعرف هذا البيت بآل الشيخ، توفي الشيخ عبد الرحمن بن حسن سنة خمس وثمانين ومائتين وألف هجرية. انظر ترجمته في الأعلام 4/75.
2-
فتح المجيد ص20.
3-
سورة النساء آية: 60.
4-
انظر مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص260 ـ 261.
5-
سورة يس آية: 60 ـ 61.
الثاني: الحاكم الجائر المغيِّر لأحكام الله ـ تعالى ـ وقد ذم الله من تلبس بذلك قال ـ تعالى ـ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 1.
قال العلامة ابن كثير: بعد أن ذكر أنها نزلت فيمن طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى حاكم الجاهلية وغير ذلك قال: "والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت ههنا" اهـ2.
وقد أقسم الباري ـ سبحانه ـ بنفسه على عدم إيمان من لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم قال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3.
قال العلامة ابن القيم "أقسم ـ سبحانه ـ بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج، وهو ضيق الصدر وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والإعتراض فهنا قد يحكِّم الرجل غيره وعنده حرج من حكمه، ولا يلزم من انتفاء الحرج والرضا والتسليم والإنقياد إذ قد يحكمه وينتفي الحرج عنه في تحكيمه ولكن لا ينقاد قلبه ولا يرضى كل الرضى بحكمه، والتسليم أخص من انتفاء الحرج، فالحرج مانع، والتسليم أمر وجودي ولا يلزم من انتفاء الحرج حصوله بمجرد انتفائه إذ قد ينتفي الحرج ويبقى القلب فارغاً منه ومن الرضى به والتسليم له، فتأمله وعند هذا يعلم أن الرب ـ
1- سورة النساء آية: 60.
2-
تفسير ابن كثير 3/327.
3-
سورة النساء آية: 65.
تبارك وتعالى أقسم على انتفاء إيمان أكثر الخلق وعند الإمتحان تعلم هل هذه الأمور الثلاثة موجودة في قلب أكثر من يدعي الإسلام أم لا؟ اهـ1.
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله وهذا يخرج صاحبه من ملة الإسلام إلى الكفر قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 2.
هذا النوع من أخطر الأمور وأعظمها جرماً على من يحكم بغير ما أنزل الله ويقرر شريعة للناس من عند نفسه ويحرم ما لم يأذن به الله ـ تعالى ـ وهذا من نواقض كلمة التوحيد التي هي الشهادة بأن الله هو الإله الذي تألهه القلوب بالحب والتعظيم والطاعة والإنقياد، ومن أشدها أيضاً مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله فهو المطاع فيما أمر ونهى عنه وزجر، ولو فهم العباد هذا لما بقي لطاغية في الأرض وجود ولما استطاع مخلوق مهما كانت مكانته أن يضع تشريعاً مضمونه الكفر بالله ويكون سبباً في تنحية شرع الله الحكيم ويرفع من شأن القانون الأثيم.
والناظر في حال المسلمين اليوم يجد أنهم اهتموا اهتماماً بالغاً بالقوانين البشرية وزهدوا في الأحكام السماوية إلا من رحم الله، ونتيجة لهذا الإنحراف نزل بهم الذل والهوان وتسليط الأعداء فسلبوا أراضيهم وقتلوا شيوخهم وأطفالهم وانتهكوا أعراضهم وذلك بسبب بعد المسلمين عن حكم الله ورسوله وتحكيم ما اخترعته العقول الضالة، أصحابها يعادون الإسلام والمسلمين بكل ما أوتوا من قوة ولنستمع إلى ما ذكره ابن كثير في شأن ما حل بالمسلمين أيام التتار وذلك عند قوله ـ تعالى ـ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 3.
قال رحمه الله: "ينكر الله ـ تعالى ـ على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والإصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم، وكما يحكم به التتار من سياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكزخان" الذي وضع لهم الياسق "وهو عبارة عن كتاب مجموع
1- التبيان في أقسام القرآن ص430 ـ 431.
2-
سورة المائدة آية: 44.
3-
سورة المائدة آية: 50.
من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية، والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير"1.
ولقد وضح لنا الشيخ محمد بن إبراهيم2 رحمه الله تعالى ـ الصور التي إن فعلها الحاكم أخرجته من الملة فقال:
الصورة الأولى: إذا جحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله وهو معنى ما روي عن ابن عباس واختاره ابن جرير3 وجحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن من الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً فإنه كافر كفراً ينقل عن الملة.
الصورة الثانية: إن لم يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أن حكم الله ورسوله حي ولكنه اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس وما استجد لهم من حوادث نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال فهذا لا ريب في كفره لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي زبالة الأذهان وحثالة الأفكار على حكم الحكيم الخبير، فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
الصورة الثالثة: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله ولكن اعتقد أنه مثله فهذا كالنوعين السابقين كافر كفراً ينقل عن الملة لما في ذلك من تسوية المخلوق بالخالق.
1- تفسير القرآن العظيم 2/590.
2-
هو: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية، ولد سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف هجرية، نشأ في بيت علم وفضل، حفظ القرآن وهو في الحادية عشرة من عمره، وكف بصره وهو في الرابعة عشرة من عمره فصبر واحتسب وتلقى العلوم على الشيخ سعد بن عتيق، وتوفي في رمضان سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف عن عمر يناهز الثمانين عاماً. انظر ترجمته في كتاب علماء نجد للبسام 1/88، ولشيخنا عبد المحسن العباد ترجمته لهذا العالم الجليل في مؤلف صغير بعنوان "عالم جهبذ وملك فذ".
3-
جامع البيان 6/257.
الصورة الرابعة: من اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله فهو كالذي قبله.
الصورة الخامسة: من أعظم ذلك وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله: إيجاد المحاكم الوضعية التي مراجعها القانون الوضعي كالقانون الفرنسي أو الأمريكي أو البريطاني أو غيرها من مذاهب الكفار، وأي كفر فوق هذا الكفر؟ وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة.
الصورة السادسة: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها "سلومهم" يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به رغبة وإعراضاً عن حكم الله.
أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة: والذي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كفر دون كفر وقوله أيضاً: "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه" فذلك مثل أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها الله كفراً" اهـ1.
ولخطورة هذا النوع من رؤوس الطواغيت أسهبنا في الكلام حوله إذ الحكم بغير ما أنزل الله قد عم وطم الكثير من الكرة الأرضية إلا من رحم الله ـ تعالى ـ مثل بعض البلدان التي أراد الله لها الخير فتمسكت بكتاب ربها وسنة نبيها فحماه الله من الاضطرابات وعمها الخير والرخاء.
النوع الرابع من رؤوس الطواغيت: من اصطاده الشيطان وأحكمه في شراكه فيدعي العلم بالغيب من دون الله ـ تعالى ـ وهذا مما اختص الله به دون غيره. قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2.
1- تحكيم القوانين ص9 ـ 11.
2-
سورة الأنعام آية: 59.
فالعراف والكاهن والرمال والمنجم كلهم محادون لله ورسوله إذ أنهم يدعون العلم بالمغيبات وذلك تكذيب للقرآن والسنة إذ التصريح فيهما بأن علم الغيب من خصائص الألوهية، ومن ادعى علم الغيب فقد أنزل نفسه منزلة الألوهية وكل من ادعى ذلك يعد من المردة أهل الفجور ولو ادعى الصلاح والتقى فإن ذلك كذب وبهتان، لأن التقي الصالح لا يدعي علم الغيب ولا ينازع الله في ربوبيته ولو ادعى هذا لخرج من الإسلام لأن مدعي ذلك كذّب على الله ورسوله فقد قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً له بأن يقول:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} 1.
وأن يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} 2. إلى غير ذلك من الآيات التي تجرد علم الغيب لله وحده وتنفيه عن غيره من الأنبياء والمرسلين فضلاً عن غيرهم والذي يتأمل ما عليه القبوريون من الاعتقادات الباطلة في أن الأولياء يعلمون الغيب وأنهم النور الفائض من الله وأن فيهم من صفات الربوبية مثل العلم والقدرة والكرم ولذلك يفزعون إليهم في يسرهم وعسرهم ويحبونهم كما يحب المؤمنون ربهم ويدعونهم كدعاء المؤمنين إلههم لا قوة إلا بالله.
النوع الخامس: من رؤوس الطواغيت الذي يعبد من دون الله وهو راضٍ بالعبادة قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 3.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى ـ يقول ـ تعالى ـ ذكره: {وَمَنْ يَقُلْ} من الملائكة {إني إله من دون الله فذلك} الذي يقول ذلك منهم {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} يقول: نثيبه على قيله ذلك جهنم {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} يقول: كما نجزي من قال: من الملائكة إني إله من دون الله جهنم كذلك نجزي ذلك كل من ظلم نفسه، فكفر بالله وعبد غيره.
وقيل: عنى بهذه الآية إبليس، وقال قائلون ذلك: إنما قلنا ذلك لأنه لا أحد من
1- سورة الأعراف آية: 188.
2-
سورة الأنعام آية: 50.
3-
سورة الأنبياء آية: 29.
الملائكة قال: إني إله من دون الله سواه. وروي عن ابن جريج وقتادة "أن الآية خاصة بإبليس لأنه دعا إلى عبادة نفسه فنزلت الآية في إبليس"1.
والذي نخلص إليه مما قدمنا ذكره أن الطاغوت شامل لكل معبود دون الله وكل رأس ضلال يدعو إلى الباطل ويزينه لمتبعيه كما أنه يشمل كل من نصبه الناس للحكم بينهم فحكم بأحكام الجاهلية المنتنة المضادة لحكم رب العالمين وحكم رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، فالحاكم بغير ما أنزل الله طاغوت لأنه نصب نفسه منصب الإله المشرع، وهنا يظهر معنى مجاوزة الحد في معنى الطاغوت، فإن الحاكم ملزم بأن يتقيد بأحكام ـ الرب سبحانه ـ التي أنزلها لعبيده وأوضحها لهم فعليه أن يطبقها في غاية من الدقة والتحري سواءاً بسواء فإذا ما عدل عنها وحكم برأيه وهواه فإنه نزل نفسه منزلة الإله المشرع لخلقه وتجاوز حده المحدود له من كونه عبداً لله ينفذ أحكامه إلى إله مشرع يحكم بما يريد فتجاوز حد العبودية إلى منزلة الألوهية فصار بذلك طاغوتاً لتجاوزه حده الذي حد له، كما أنه يدخل في معنى الطاغوت الكاهن والساحر وسدنة الأوثان الداعين إلى عبادة المقبورين لأنهم ينسجون من الحكايات المضلة للجهال والموهمة بأن المقبور ونحوه يقضي الحاجات للذين يقصدونه ويتوجهون إليه وأنه فعل كذا وكذا مما هو كذب صريح، أو هو من فعل الشياطين.
وبمثل هذه الأكاذيب والأباطيل يوقعون الناس في الشرك الأكبر ولواحقه. "فكل ما صرف الناس عن عبادة ربهم وطاعته فهو طاغوت. فالأوثان والمشاهد والأشجار والقباب التي تعبد من دون الله إنما هي طواغيت لأنها صرفت الكثير من الناس عن عبادة ربهم بحيث صرفوا لها كثيراً من أنواع العبادات وألهوها. وأصل أنواع الطواغيت كلها وأعظمها إبليس فهو الطاغوت الأكبر والعدو الأعظم لأنه يصرف الناس عن عبادة خالقهم ويغويهم فيعبدون غير الله ويسفكون الدماء ويحلون الحرام ويحرمون الحلال نسأله ـ تعالى ـ أن لا يجعل للشيطان علينا سبيلاً"2.
1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 17/ 17.
2-
انظر الرسالة الثالثة "تعريف العبادات وتوحيدها والإخلاص
…
للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين" ضمن مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد لوهاب ولبعض أبنائه وأحفاده ص401.