الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل
قبل أن أذكر دلالة السورة على عبودية التوكل أذكر تعريفه في اللغة والاصطلاح كما هو الشأن في المباحث التي تقدمت ولكي يفهم الإنسان ـ التوكل ـ الذي فرضه الله على جميع عباده وأمرهم أن يخلصوه له وحده لا شريك له.
أما تعريفه في اللغة:
فقد جاء في الصحاح: "التوكل إظهار العجز والاعتماد على غيرك والاسم التكلان، واتكلت على فلان في أمري إذا اعتمدته1.
وفي اللسان: المتوكل على الله: الذي يعلم أن الله كافل رزقه وأمره فيركن إليه وحده ولا يتوكل على غيره وذكر فيه عن ابن سيدة أنه قال: "وكل بالله، وتوكل عليه، واتكل استسلم إليه، وتكرر في الحديث ذكر التوكل، يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به ووكلت أمري إلى فلان أي: ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلان فلاناً إذا استكفأه أمره ثقة بكفايته، أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه، ووكل إليه الأمر سلَّمه، ووكله إلى رأيه وكلاً ووكولاً تركه" اهـ2. وجاء في المصباح المنير: "وكلت الأمر إليه "وكلاً" ووكولاً فوضته إليه، واكتفيت به..... وتوكل على الله اعتمد عليه ووثق به"ا. هـ3.
وأما تعريفه اصطلاحاً:
فمن خلال معرفة التوكل في اللغة نعرف حقيقة التوكل اصطلاحاً فالتوكل على
1- 5/1845؛ وانظر القاموس 4/67.
2-
لسان العرب 11/734، وانظر "فتح الباري" 11/305، تيسير العزيز الحميد ص437.
3-
2/670.
الله: هو الثقة به، والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به في كل شأن، والإيقان بأن قضاءه نافذ والسعي فيما لا بد منه من المطعم والملبس والمسكن والاحتراس من العدو مطلوب كما هو منهج الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
قال العلامة ابن القيم معرفاً التوكل:
"هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه، وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء فقول العبد: توكلت على الله، مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله: "تبت إلى الله" وهو مصر على معصيته مرتكب لها" اهـ1.
ولقد دلت السورة على أن التوكل عبادة تعبد الله به عباده وأمرهم بأن يعتمدوا عليه وحده دون سواه في آيتين منها:
هاتان الآيتان: من السورة بينتا أن الله تعالى هو الكافي وهو الذي يتوكل عليه وحده لا شريك له.
فالآية الأولى وهي قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} الآية بين الله تعالى فيها بأنه سيكفي عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كل ما أهمه في أمر دينه ودنياه ويدفع عنه كل من أراده بسوء كائناً من كان وما دام الله هو الكافي لعبده فمن الضلال والغنيّ أن يخوفه المشركون بأصنامهم وأوثانهم أن تناله بسوء إذ أنها جمادات لا تقدر على جلب نفع أو دفع ضر بحال من الأحوال.
1- الفوائد ص86.
قال ابن جرير: "اختلف القراء في قراءة {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} فقرأ ذلك بعض قراء المدينة وقرأ عامة قرّاء الكوفة {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عِبادَهُ} على الجمع بمعنى أليس الله بكاف محمداً وأنبياءه من قبله ما خوفهم أممهم من أن تنالهم آلهتهم بسوء.... وبعض قراء الكوفة {بِكَافٍ عَبْدَهُ} على التوحيد بمعنى: أليس الله بكاف عبده محمداً
…
إلى أن قال: قال ابن زيد في قوله {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} قال: بلى، والله ليكفينه الله ويعزه وينصره كما وعده" أ. هـ1. وقال ابن كثير:{أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} وقرأ بعضهم {عِِبادَهُ} يعني: أنه ـ تعالى ـ يكفي من عبده وتوكل عليه"أ. هـ2. وقال أبو عبد الله القرطبي "وقراءة العامة {عَبْدَهُ} بالتوحيد يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم، وقرأ حمزة والكسائي:{عِِبادَهُ} وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم" أ. هـ3.
وأما قوله تعالى في الآية الثانية: {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} أمر الله نبيه بأن يقول: للمشركين بعد أن تبين بالدليل القاطع على أنه وحده المعبود وأنه الخالق لجميع المخلوقات النافع الضار وحده وأن غيره عاجز من جميع الوجوه عن الخلق والنفع والضر مستجلباً كفايته ومستدفعاً مكر المشركين وكيدهم {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي: عليه يعتمد المعتمدون في جلب المصالح ودفع المضار فالله هو الذي بيده وحده الكفاية هو حسبي سيكفيني كل ما أهمني وما لا أهتم به.
قال ابن جرير: "فقل حسبي الله مما سواه من الأشياء كلها إياه أعبد وإليه أفزع في أموري دون كل شيء سواه فإنه الكافي وبيده الضر والنفع لا إلى الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع. {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} يقول: على الله يتوكل من هو متوكل وبه فليتق لا بغيره" أ. هـ4.
وقال الرازي: حول الآية: "وإذا ثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وإذا كان الأمر كذلك كانت عبادة لله كافية، وكان الاعتماد عليه كافياً وهو المراد من قوله:
1- جامع البيان 24/5 ـ 6.
2-
تفسير القرآن العظيم 6/94.
3-
الجامع لأحكام القرآن 5/257.
4-
جامع البيان 24/7.
{قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} فإذا ثبت هذا الأصل لم يلتفت العاقل إلى تخويف المشركين فكان المقصود من هذه الآية هو التنبيه على الجواب فما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله ـ تعالى ـ {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أ. هـ1.
ومما تقدم يتبين لنا أن المشركين لو حكموا عقولهم في شأن أصنامهم لعرفوا أن تخويفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بها لا قيمة له ولا معنى، إذ هم يعلمون أنها لا تقدر على جلب النفع ولا تدفع الضر بحال ولذلك جاء الوحي الإلهي بأنه لا كافي إلا الله، ولا قادر على كل شيء سواه، ولا عالم بكل شيء غيره، وبذلك كان التوكل على غير الله باطلاً وشركاً فالسورة بينت بأن الكفاية لله وحده والاعتماد عليه دون سواه لأنه القادر على كل شيء، والمحيط بكل شيء علماً.
ولقد فرض الله التوكل على عباده وأوجب عليهم أن يخلصوه له وحده لا شريك له لأنه من أفضل العبادات ومن أجل مقامات الدين ولا يوفق للقيام به على وجه الكمال إلا أولياء الله وحزبه المؤمنون ومما يدل على فرضيته أن الله ـ تعالى ـ أمر به في مواضع كثيرة من كتابه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم. قال ـ تعالى ـ {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2.
قال ابن القيم: فجعل التوكل على الله شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه. أ. هـ3.
قال صاحب قرة عيون الموحدين4 حول شرحه للآية السابقة "وأراد المصنف بهذه الترجمة بالآية بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله لأنه من أجمع أنواع العبادة الباطنة فإن تقديم المعمول يفيد الحصر فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله كما في هذه الآية" أ. هـ5.
ومما دل على فرضية التوكل أن المولى ـ سبحانه ـ جعله من شروط صحة الإسلام والإيمان، والمفهوم من ذلك انتفاء الإسلام، والإيمان عند عدم التوكل قال الله تعالى فيما
1- التفسير الكبير 26/282.
2-
سورة المائدة آية: 23.
3-
طريق الهجرتين ص255.
4-
هو عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
5-
قرة عيون الموحدين ص204.
حكاه عن نبيه موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 1.
وقال تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. فهاتان الآيتان دلتا على أن صحة الإسلام والإيمان متوقفة على صحة التوكل.
وقال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} 3. وهذه الآية فيها الأمر بالتوكل على الله، وأردف هذا الأمر بما هو الموجب للتوكل والمصحح له وذلك ما تضمنه قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} فإن العبد إذا اتبع الحق وسار عليه كان مقتضى ذلك تحقيق مقام التوكل على الله عز وجل والاكتفاء به، والإيواء إليه دون سواه فإنه ـ تعالى ـ هو الحق وهو ولي الحق وناصره وكافي من قام به، فعلى صاحب الحق أن يقوي توكله على الله، ولا يخاف لأنه على الحق، ويقتدي بالرسل الكرام الذين قال الله عنهم {وَمَا لَنَا أَلَاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} 4 فتعجبوا من تركهم التوكل على رب العالمين وقد منَّ عليهم بالهداية، وأخبروا بأن ذلك لا يكون أبداً وهذا من أبرز الأدلة على أن الهداية والتوكل متلازمان.
وقال تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 5 "في هذه الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة، وعلى أنه فرض، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك"أ. هـ6.
ولقد جمع الله في كتابه العزيز بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والهداية، وما ذلك إلا لتأكيد عبودية التوكل على كل إنسان، وليعلم أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.
1- سورة يونس آية: 84.
2-
سورة المائدة آية: 23.
3-
سورة النمل آية: 79.
4-
سورة إبراهيم آية: 12.
5-
سورة إبراهيم آية: 11.
6-
تيسير العزيز الحميد ص439.
أما الجمع بين التوكل والعبادة فقد ورد في كتاب الله ـ تعالى ـ في مواضع سبعة.
أحدها: في أم القرآن قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1.
ثانيها: ما حكاه الله من نبيه شعيب عليه السلام {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ} 2.
ثالثها: ما حكاه الله عن أوليائه وعباده المؤمنين حيث قالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 3.
رابعها: قول الباري ـ سبحانه ـ مخاطباً خاتم الأنبياء والمرسلين {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 4.
خامسها: قوله تعالى: {وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 5.
سادسها: قوله سبحانه وتعالى {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 6.
سابعها: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 7.
فهذه سبعة مواضع جمع الله فيها بين الوسيلة والغاية فالوسيلة هي التوكل والغاية هي الإنابة، فإن الإنسان لا بد له من غاية يطلبها، ووسيلة توصله إلى تلك الغاية، وأشرف غاية للإنسان وأجها في هذه الحياة هي أن يعبد ربه وينيب إليه، ومن أعظم الوسائل التي لا وسيلة سواها البتة أن يتوكل العبد على الله ويستعين به، ولا سبيل له إلى تحقيق عبودية الله والإنابة إليه إلا بهذه الوسيلة.
1- سورة الفاتحة آية: 5.
2-
سورة هود آية: 88.
3-
سورة الممتحنة آية: 4.
4-
سورة المزمل آية: 8 ـ 9.
5-
سورة هود آية: 123.
6-
سورة الحج آية: 78.
7-
سورة الرعد آية: 30.
وأما الجمع بين التوكل والإيمان فكقوله سبحانه وتعالى {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1.
وقوله: {اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "فذكر اسم الإيمان هنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد" أ. هـ3.
وأما الجمع بين التوكل والإسلام: فمثل قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 4.
ومثال الجمع بين التوكل والتقوى: ففي قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 5.
وأما اقتران التوكل بالهداية ففي قول رسل الله عليهم الصلاة والسلام لأممهم {وَمَا لَنَا أَلَاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} 6.
فالعبد إذا سلك طريق الحق والهدى يكون قوياً في توكله على ربه ـ تبارك تعالى ـ ومن اعتمد على ربه كفاه كلما أهمه وما لم يهمه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 7 "أي: الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد".
وقيل: المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون، وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية
1- سورة الملك آية: 29.
2-
سورة التغابن آية: 13.
3-
طريق الهجرتين ص255.
4-
سورة يونس آية: 84.
5-
سورة الطلاق آية: 2 ـ 3.
6-
سورة إبراهيم آية: 12.
7-
سورة الأنفال آية: 64.
عليه فإن الحسب والكفاية لله ـ وحده ـ كالتوكل والتقوى والعبادة قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 1.
ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفروده بالحسب فقال تعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 2.
ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب ـ تعالى ـ لهم بذلك فكيف يقوله لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟ وأتباعه قد أفردوه بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل، ونظير هذا قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} 3.
وتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} 4 وجعل الحسب وحده فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله بل جعله خالص حقه كما قال تعالى: {إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} 5 ولم يقل وإلى رسوله بل جعل الرغبة إليه ـ وحده ـ كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 6 فالرغبة، والتوكل والإنابة، والحسب لله ـ وحده ـ كما أن العبادة والتقوى والسجود لله ـ وحده ـ والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى"أ. هـ7.
أقسام التوكل على الله ـ تعالى ـ:
التوكل على الله ـ تعالى ـ نوعان:
أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية. وهذا النوع وإن لم تكن غايته المطلوبة عبادة لأنها محض حق العبد إلا أن التوكل على الله في حصولها عبادة لأن العبد أنشأها لمصلحة دينه ودنياه.
1- سورة الأنفال آية: 62.
2-
سورة آل عمران آية: 173.
3-
سورة التوبة آية: 59.
4-
سورة الحشر آية: 7.
5-
سورة التوبة آية: 59.
6-
سورة الانشراح آية: 7 ـ 8.
7-
زاد المعاد 1/16 ـ 17.
الثاني: "التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه. فغاية هذا النوع عبادة، وهو في نفيه عبادة فإن العبد استعان بالله على ما يرضيه فصاحبه متحقق بإياك نعبد وإياك نستعين فمن تركه فقد ترك شطر دينه، وبين هذين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله ـ تعالى ـ فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية. ومتى توكل عليه من النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه، فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل، فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم"1.
وأما التوكل على غير الله ـ تعالى ـ فهو أيضاً نوعان:
أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله كالذين يتوكلون على الأموات والغائبين في رجاء تحقيق المطالب من الرزق والنصر والحفظ والشفاعة فهذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفر إلا بالتوبة النصوح.
الثاني: التوكل على الأحياء الحاضرين من ولاة الأمور ونحوهم فيما لهم قدرة عليه من رزق أو دفع أذى ونحو ذلك فهذا شرك حتمي في الأسباب العادية الظاهرة، وهو أيضاً نوع شرك أصغر. والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان أخاه في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه ولكن ليس الإعتماد عليه في حصول ما وكل فيه بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها ولا يعتمد عليه بل يعتمد على المسبِّب الذي أوجد السبب والمسبب"2.
وللتوكل على الله ـ تعالى ـ فضل عظيم وثواب جزيل في الدنيا والآخرة وقد جاء في الكتاب والسنة الكثير من ذلك.
فمن فضائله أن صاحبه موسوم بمحبة الباري سبحانه وتعالى وأكرم بمقام موسوم
1- الفوائد ص85 ـ 86، طريق الهجرتين ص262.
2-
تيسير العزيز الحميد 439، وانظر قرة عيون الموحدين ص205، وانظر فتح المجيد ص290. ط: السلفية.
صاحبه بمحبة الله عز وجل قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 1، ومن أحبه الله ـ تعالى ـ ناله كل خير، ومن أبغضه فأي خير يناله؟
ومن فضائله أن الله ـ تعالى ـ ضمن الكفاية لمن توكل عليه.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2 ومن كان الله حسبه وكافيه ومراعيه فقد ظفر بفوز عظيم، فالله وحده هو الذي تطلب منه الكفاية ـ وحده ـ ومن طلبها من غيره له الخيبة والخسران.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"والتوكل عليه هو الإستعانة به فمن يتق الله مثال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن يتوكل عليه مثال {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 3 وقال: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} 4
…
إلى أن قال: وأما التوكل فبين أن الله حسبه أي كافيه وفي هذا بيان التوكل على الله من حيث أن الله يكفي المتوكل عليه كما قال: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} خلافاً لمن قال: ليس في التوكل إلا التفويض والرضا" أ. هـ5.
وعلى هذا نقول: فمن كفاه الله ـ تعالى ـ ووقاه فلا يكون هناك سبيل لعدوه في أن يطمع في الإضرار به، أو التنكيل به لأنه جعل الله ملجأه ومعاذه فهو الذي يكفيه كل مهمة ويصرف عنه كل بلية.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأخبر: أن كفايته لهم مقرونة بتوكلهم عليه وأنه كاف من توكل عليه وحسبه وجعل لكل عمل من أعمال البر ومقام من مقاماته جزاءاً معلوماً، وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته فقال {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} 6. {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} 7 {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ
1- سورة آل عمران آية: 159.
2-
سورة الطلاق آية: 2، 3.
3-
سورة هود آية: 3 12.
4-
سورة الممتحنة آية: 4.
5-
مجموع الفتاوى 16/55 ـ 56.
6-
سورة الطلاق آية: 2.
7-
سورة الطلاق آية: 5.
يُسْراً} 1
…
ثم قال في التوكل {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2 فانظر إلى هذا الجزاء الذي حصل للمتوكل ولم يجعله لغيره، وهذا يدل على أن التوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه وليس كونه وكل الأمور إلى نفسه لأن العبد إذا علم ذلك وتحققه معرفة: صارت حالة التوكل قطعاً على من هذا شأنه لعلمه بأن الأمور كلها موكولة إليه، وأن العبد لا يملك شيئاً منها" اهـ3.
ومن فضائله أنه من صفات أولياء الله وخاصته وهم المؤمنون به حقاً: وفي مقدمتهم أنبياء الله ورسله قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 4 فهذه الآية فيها دليل على انحصار المؤمنين الكمل فيمن تلبس بهذه الصفة. قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: "المنافقون لا يدخل في قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} .
يقول: تصديقاً. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يقول: لا يرجون غيره. أ. هـ5.
وقوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يبين بأن المؤمنين لا يعتمدون بقلوبهم إلا على ربهم ويفوضون إليه جميع أمورهم، فلا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يرغبون إلا إليه مع يقينهم بأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه صاحب التصرف في الملك وحده والمستحق للعبادة دون سواه.
وقال في فتح المجيد: "وفي الآية وصف المؤمنين حقاً بثلاث مقامات من مقامات الإحسان وهي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده وهذه المقامات تقتضي كمال الإيمان، وحصول أعماله الباطنة والظاهرة" اهـ6.
1- سورة الطلاق آية: 4.
2-
سورة الطلاق آية: 3.
3-
مدارج السالكين 2/128.
4-
سورة الأنفال آية: 2.
5-
جامع البيان 9/178 ـ 179.
6-
ص363.
وقال تعالى في وصفه رسله وأنبياءه بالتوكل عليه:
{وَمَا لَنَا أَلَاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} 1 دلت هذه الآية على أن الجمع بين التوكل والهداية من تحقق الإيمان، ومصيبة الإنسان إما من عدم الهداية وإما من عدم توكله على الله، كما دلت أيضاً على أن الرسل عليهم الصلاة والسلام كان حالهم التوكل على الله وحده، والقرآن مملؤ بذكر التوكل إما أمراً به، وإما إخباراً عن خاصة الله وأوليائه وهم المؤمنون بأنهم حققوا عبودية التوكل، وقد أمر الله نبيه وخاتم رسله بالتوكل عليه في مواضع كثيرة من كتابه وسماه المتوكل كما روى ذلك البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن هذه الآية التي في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} 2 قال في التوراة: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ3 ولا سخاب4 بالأسواق
…
" الحديث5.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب بأن لهم النصيب الأوفر في تحقيق مقام التوكل.
روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب. هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون"6.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى حول هذا الحديث: "إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوصف الذي يستحق به هؤلاء هو دخول الجنة بغير حساب هو تحقيق التوحيد وتجريده فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يتطيَّرون وعلى ربهم يتوكلون، والطِّيرة نوع من الشرك، ويتوكلون
1- سورة إبراهيم آية: 12.
2-
سورة الأحزاب آية: 45.
3-
الفظ: سيء الخلق، وفلان أفظ من فلان أي أصعب خلقاً ـ والمراد هنا: أنه صلى الله عليه وسلم رفيقاً بأمته في التبليغ غير فظ ولا غليظ. النهاية 3/459.
4-
السَّخب والصخب: بمعنى الصياح. النهاية 2/349.
5-
صحيح البخاري 3/189 ـ 190، المسند 2/174.
6-
صحيح البخاري مع الفتح 11/305.
على الله وحده لا على غيره وتركهم الإسترقاء والتطير هو من تمام التوكل على الله" اهـ1.
وجاء في قرة عيون الموحدين عقب قوله صلى الله عليه وسلم: "هم الذين لا سيسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" أي: لا يطلبون الرقية من أحد ولا يكتوون إذا كان فيهم ما يشتفي بالكي منه، ولا يتطيرون، والطيرة شرك فتركوا الشرك رأساً ولم يُنزلوا حوائجهم بأحد فيسألوه الرقية فما فوقها وتركوا الكي، وإن كان يراد للشفاء، والحامل لهم على ذلك قوة توكلهم على الله وتفويضهم أمورهم إليه، وأن لا تتعلق قلوبهم بشيء سواه في ضمن ما دبَّره وقضاه، فلا يرغبون إلا إلى ربهم، ولا يرهبون سواه، ويعتقدون أن ما أصابهم بقدره واختياره لهم فلا يفزعون إلا إليه وحده في كشف ضرهم قال تعالى عن يعقوب عليه السلام:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} 2 فالحديث بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن السبعين الألف حققوا مقام التوحيد الذي بعث الله الرسل من أجله وهو: أن يفرد ـ سبحانه ـ بالعبادة وحده لا شريك له، ومن أبرز صفاتهم الإيمانية التي اتصفوا بها أنهم لا يسألون غيرهم أن يرقيهم، ولا يكويهم، ولا يتشاءمون بالطيور كما كان يفعله أهل الجاهلية، وأنهم يتوكلون على ربهم ويعتمدون عليه في جميع أمورهم.
وجاء في تيسير العزيز الحميد عند قوله: "وعلى ربهم يتوكلون" ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله، وصدق الإلتجاء إليه والإعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضى به رباً وإلهاً والرضى بقضائه بل ربما أوصل العبد إلى التلذذ بالبلاء. اهـ3.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على إفراد الله ـ تعالى ـ بعبودية التوكل وأنه لا يعتمد العبد إلا على الله ـ وحده ـ لا شريك له.
روى الشيخان بإسنادهما إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم
1- حادي الأرواح ص89.
2-
قرة عيون الموحدين ص36 والآية رقم 86 من سورة يوسف.
3-
ص86.
إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون"1.
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنها قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 2.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:
قوله: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم
…
الخ" وذلك بعد ما كان من أمر أُحُد ما كان بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من الصحابة حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال، ثم ألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، فرجع إلى مكة ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نريد المدينة قال: فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمرَّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقال: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 3.
"وروى الترمذي في جامعه عن عمر مرفوعاً: لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً"4.
ومعنى هذا أنه لا بد من الحركة والسعي في طلب الرزق فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الطير تصبح جائعة ضامرة البطون ليس في حواصلها شيء من الطعام وترجع آخر النهار وقد امتلأت بطونها من رزق الله ـ تعالى ـ فالذي يجلس في بيته، أو في مسجده ويظن أن رزقه سيأتيه وهو متلبس بالعجز والكسل هذا إنسان جهل ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن التوكل.
1- صحيح البخاري مع الفتح 13/368 ـ 369، صحيح مسلم 4/2086، المسند 1/302.
2-
صحيح البخاري 3/114.
3-
تيسير العزيز الحميد ص444 والآية رقم 173 من سورة آل عمران.
4-
سنن الترمذي 4/4.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ بسم الله توكلت على الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: هديت ووقيت وكفيت ـ فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي
…
؟ " 1.
وبالجملة فإنه ورد الكثير من النصوص في الكتاب والسنة في بيان فضل التوكل على الله وإخلاصه لله ـ وحده لا شريك له ـ فما على العبد إلا أن يسعى جاهداً في تحقيق عبودية التوكل ويفوض أمره إلى الله ويعتمد عليه وحده ويحسن ظنه بربه، وعلى قدر حسن ظن العبد بربه ورجائه له يكون توكله عليه، وذلك لأن حسن الظن بالله يدعو العبد إلى التوكل عليه، ولا يمكن حصول التوكل على من ساء ظنه به، ولا يمكن التوكل على من لا يرجوه.
ولا يتحقق التوكل إلا بأمرين:
أحدهما: علم القلب ومعناه: أن يكون موقناً بكفاية الله الذي توكل عليه وكمال قيامه بما وكله إليه، وأن غير الله لا يقوم مقامه في ذلك بحال فلا بد من معرفة الرب ـ تعالى ـ ومعرفة صفاته من القدرة والكفاية والقيومية وانتهاء جميع الأمور إلى علمه ـ تعالى ـ وصدورها عن مشيئته وقدرته، فهذه المعرفة هي أول خطوة يحقق بها العبد عبودية التوكل، فلا يتصور التوكل ممن أنكر صفات الله ـ تعالى ـ كما لا يمكن أن يكون ممن يعتقد بأنه يقع في ملك الله ما لا يشاء إذن فلا يحصل التوكل إلا ممن أثبت لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون تكييف أو تعطيل، فالذي يقول إن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه، أو يقول أن الله ليس فاعلاً باختياره، وليس له إرادة ومشيئة ولا تقوم به صفة من أين يصح توكله؟ إذن لا بد للعبد أن يكون على علم ومعرفة بالرب سبحانه وتعالى وما يليق به من صفات جلاله وعظيم سلطانه حتى يصح توكله، ويكون قوياً.
الأمر الثاني: الذي يتحقق به التوكل.
عمل القلب، ومعناه: أن يسكن إلى وكيله ويطمئن إليه ويفوضه ويسلم الأمر إليه ويرضى بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه فبالأصلين المذكورين يتحقق التوكل، وهما لبه، وإن كان التوكل داخلاً في عمل القلب من ناحية علمه بالله ـ تعالى ـ قال الإمام
1- سنن أبي داود 2/619. ورواه الترمذي 5/154.
أحمد: "التوكل عمل القلب1 ولكن لا يتحقق إلا بالعلم: إذ العلم إما شرط فيه وإما جزء من ماهيته، والمقصود إن القلب متى كان على الحق تعظم طمأنينته ووثوقه بالله، وإذا كان منحرفاً مائلاً إلى الباطل علماً وعملاً، أو أصيب بأحدهما فإن ثقته واطمئنانه بالله معرَّضان للزوال فيكون لا ضمان له عند الله ولا عهد له عنده"2. نعوذ بالله من ذلك. التوكل والأسباب:
إن التوكل على الله تعالى لا ينافي اتخاذ الأسباب بل إن التوكل لا يتم إلا إذا اتخذ الإنسان لكل عملٍ يريده الأسباب التي توصله إلى تحقيقه فالله سبحانه وتعالى قد ربط المسببات بأسبابها.
بل إن الإنسان ينساق إلى الأخذ بالأسباب بمقتضى فطرته وبمقتضى التكليف الشرعي فإذا قال الإنسان أنا متوكل على الله في تحصيل رزقي ولم يتخذ الأسباب التي توصله إلى ذلك وتحقق له مطلبه فهو مخالف للفطرة ومخالف لشرع الله الذي جاء الأمر فيه باتخاذ الأسباب قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} 3. وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} 4.
وقال سبحانه وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 5.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} 6 وغيرها من الآيات كثير في الأمر بالأخذ بالأسباب مع التوكل على الله في إتمام الأمور التي يسعى العبد في تحصيلها لأن التوكل من أعظم الأسباب وأنفعها في دفع المضار وجلب المنافع، فلا بد من الأخذ بالأسباب التي توصل الإنسان إلى تحقيق حاجاته والحصول على مطالبه، ومن قال بنفي الأسباب فتوكله مشوب ومدخول.
1- طريق الهجرتين وباب السعادتين ص257.
2-
طريق الهجرتين ص257 وانظر مدارج السالكين م2/117 ـ 118، ص 120 ـ 121.
3-
سورة الملك آية: 15.
4-
سورة الأنفال آية: 60.
5-
سورة البقرة آية: 197.
6-
سورة النساء آية: 71.
قال ابن القيم: فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به" اهـ1.
وقد اقتضت حكمة أحكم الحاكمين ربط المسببات بأسبابها، فلا يجوز للإنسان تعطيلها مهما أمكنه القيام بها، فإذا فعلها عبودية يكون قد أتى بعبودية القلب بالتوكل وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة. وتحقيق التوكل موقوف على القيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطلها لم يصح توكله، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً، كما أن من عطلها يكون توكله عجزاً، وعجزه توكلاً لله2 فالتارك للأسباب المطلوبة منه شرعاً وعقلاً ويقول: إن كان قضي لي وسبق في الأزل حصول الولد فإنه آت لا محالة ولو لم أتزوج فهذا لا شك أنه يكون موقع إنكار الناس بل ربما يقال فيه إنه ليس من جملة العقلاء وأن البهائم أفهم منه فإن الواقع المشاهد من حال الحيوان أنه يسعى في تحصيل رزقه بالهداية العامة التي منحها الله جميع خلقه.
جاء في فتح المجيد: عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3 فجعل التوكل مع التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض وإن كان مشوباً بنوع من التوكل فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزاً ولا عجزه توكلاً بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. اهـ4.
ومما تقدم نجزم بأنه لا يجوز التخلي عن الأسباب بحال لأن ذلك ممنوع عقلاً وشرعاً وحسَّاً فالرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد المتوكلين وإمام المتقين عندما خرج من مكة استأجر دليلاً ليدله على الطريق وكان الدليل مشركاً على دين قومه5 وحضر غزوة أحد بين درعين،
1- مدارج السالكين 2/118.
2-
الفوائد ص86.
3-
سورة المائدة آية: 11.
4-
ص 365 ط: السلفية، تيسير العزيز الحميد 443.
5-
انظر صحيح البخاري 2/33 من حديث عائشة رضي الله عنها.
ولم يذكر أنه حضر الصف قط عرياناً1 وكفى به صلى الله عليه وسلم قدوةً في تحقيق عبودية التوكل وبيان كيفيته، وكان عليه الصلاة والسلام يدخر لأهله قوت سنة2 وكان إذا خرج مسافراً للجهاد أو للعمرة أو للحج حمل معه الزاد وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، وهم أولو التوكل حقاً، ومن جاء بعد الصحابة ووفقه الله بأن وصل إلى القمة في التوكل إنما اشتم رائحة توكلهم من مسافة بعيدة، أو عثر على أثر من غبارهم، فحال النبي صلى الله عليه وسلم، وحال أصحابه هي الميزان الذي يقوم به حال من بعدهم، وعلى ضوء ذلك تعرف الأحوال الصحيحة من السقيمة، ولا يفوتنا أيضاً أن نقول: إن التوكل الذي كان في قلوب الصحابة كان سبباً في تبصير القلوب، وأن يعبد الله في جميع البلاد، وأن يوحده جميع العباد، فملئوا بتوكلهم القلوب هدى وإيماناً، وكانت هِمَمُهم عالية فكان أحدهم لا يصرف قوة توكله واعتماده على الله في أمر يحصل عليه بأقل حيلة وسعي، وإنما كانوا يتوكلون في الأمور العظيمة مثل فتح البلدان، والنصر على الأعداء، وتوطيد عقيدة التوحيد في كل مكان فرضي الله عنهم وأرضاهم3، وعلى ضوء هذا نقول: إن من يطعن في متخذي الأسباب مع التوكل فإنما يطعن بالدرجة الأولى في نبي الهدى صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، ومن طعن في أولئك فليتهم نفسه بأنه على غير ملة الإسلام.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عند شرحه لحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً كما يظنه بعض الجهلة فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 4 أي كافيه وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سبباً لكن لكونه سبباً مكروهاً لا سيما المريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت، أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل فلا يكون تركه
1- ذكره الترمذي في سننه 3/119 من حديث الزبير بن العوام وابن ماجة 2/938.
2-
رواه البخاري في صحيحه 3/287 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
3-
انظر مدارج السالكين 2/134 ـ 135 بتصرف.
4-
سورة الطلاق آية: 3.
مشروعاً كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء" أ. هـ1
والذي نخلص إليه مما تقدم أن التوكل عبادة تعبد الله به عباده وأمرهم جميعاً بأن يخلصوه له وحده لا شريك له، وأن التوكل لا يتنافى مع الأسباب لأن الشرع أثبت الأسباب والمسببات وحكم على قول من أنكرها بالبطلان والفساد فالشرع جاء بالأمر بالتداوي2، ولا ينافي ذلك توكل الإنسان على ربه لأن التداوي من الأسباب المشروعة التي أباحها الله ـ تعالى ـ بل لا يكمل للعبد توحيده إلا بمباشرة الأسباب التي جعلها الله مقتضية لمسبباتها كوناً وشرعاً، وتعطيل الأسباب يقدح في التوكل، كما يقدح في أمر الله وحكمته البالغة، فالإنسان يتوكل على الله في كل أموره مع مباشرة الأسباب ولا يعتمد عليها بل يجعل قلبه متعلقاً بربه الذي له الفضل في إيجاد السبب والمسبب.
1- تيسير العزيز الحميد ص86/ والحديث في صحيح البخاري 4/8.
2-
انظر سنن ابن ماجة 2/1137، المسند 4/278.