المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

إن نسبة الولد إلى الله ـ تعالى ـ "فرية مكذوبة اشترك في القول بها اليهود والنصارى ومشركو العرب، وكذلك قول الفلاسفة الصابئة في العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم الذين جعلوا له بنين وبنات بغير علم" 1 فاليهود عليهم لعائن الله: زعموا أن عزيراً ابن الله. والنصارى الضالون قالوا: المسيح ابن الله.

والجهلة من مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله تعالى الله عن قول هؤلاء جميعاً علواً كبيراً.

ولقد حكى القرآن الكريم زعم اليهود والنصارى من مشركي العرب ورد عليهم رداً مفحماً وبين بطلان هذا الزعم حتى أسكتهم ولنبدأ بما ورد في السورة من إبطال تلك الفرية.

قال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .

هذه الآية من السورة تبين أنه ـ سبحانه ـ لا ولد له كما تفوه بذلك الجهلة من المشركين ونطق بذلك المعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى فالله ـ تعالى ـ نزه نفسه عن أن يكون له ولد لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد ـ سبحانه ـ الغني عن كل ما سواه قهر الأشياء كلها فدانت له وذلت وخضعت: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .

1- درء تعارض العقل والنقل 1/36.

ص: 91

وعلى الفرض الجدلي الذي يقبله العقل ـ الضعيف ـ أن الرب جل وعلا ـ لو أراد أن يتخذ ولداً لاصطفاه ـ سبحانه ـ من بين خلقه لأن إرادته مطلقة والأمر ليس بحاجة إلى إقرار أو اقتراح من البشر ولكن مشيئته ـ تعالى ـ لم تتجه إلى هذا الاصطفاء لأنه الواحد القهار فهو الذي أبدع هذا الكون من العدم فما حاجته إلى الولد؟ والولد إنما هو امتداد لمن كتب الله عليه الفناء، والمحتاج إلى المعين والنصير، وقد اقتضت حكمة القادر العليم أن التكاثر في النوع الإنساني وغيره من المخلوقات لا بد له من صاحبة من جنسه، فكيف يكون لله ولد ولم تكن له صاحبة، فقد تفرد ـ سبحانه ـ بالألوهية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.

قال: العلامة ابن جرير رحمه الله تعالى ـ: {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} يقول تعالى ذكره: لو شاء الله اتخاذ ولد ولا ينبغي له ذلك، لاصطفى مما يخلق ما يشاء، يقول: لاختار من خلقه ما يشاء وقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يقول: تنزيهاً لله عن أن يكون له ولد، وعما أضاف إليه المشركون به من شركهم {هُوَ اللهُ} يقول: هو الذي يعبده كل شيء ولو كان له ولد لم يكن له عبداً يقول: فالأشياء كلها له ملك فأنَّى يكون له ولد، وهو الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه، والقهار لخلقه بقدرته فكل شيء متذلل، ومن سطوته خاشع. أ. هـ2.

وقال ابن كثير: {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي لكان الأمر على خلاف ما يزعمون وهذا شرط لا يلزم وقوعه بل هو محال وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه كما قال عز وجل: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} 3 {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} 4 كل هذا من باب الشرط ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لمقصد المتكلم أ. هـ5.

وهكذا نرى أن الآية الواردة في السورة تنفي مزاعم القائلين بأن لله ولداً، ولو أراد ـ سبحانه ـ تسمية أحد من خلقه بذلك ما جعله عز وجل إلى أحد من خلقه ـ تعالى الله ـ

1- سورة الشورى، آية:11.

2-

جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23/192.

3-

سورة الأنبياء، آية:17.

4-

سورة الزخرف، آية:81.

5-

تفسير القرآن العظيم: 6/79.

ص: 92

عن ذلك علواً كبيراً لأنه صاحب الكمال المطلق المستغني عن الصاحبة والولد ومن هذا شأنه من حقه أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له.

فقد نزه نفسه وبرأها عن قول السفهاء من الخلق كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية أثناء حديثه عن تنزيه الله عز وجل عن الشركاء "وكذلك ما استعمله ـ سبحانه ـ في تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة سواء سموها حسية، أو عقلية كما تزعمه النصارى من تولد الكلمة التي جعلوها جوهراً لابن منه، وكما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة، والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها هل هي جواهر أو أعراض؟ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوس بمنزلة الإناث ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة وعلمهم بالنفوس أظهر لوجود الحركة الدورية الدالة على الحركة الإرادية الدالة على النفس المحركة لكن أكثرهم يجعلون النفوس الفلكية عرضاً لا جوهراً قائماً بنفسه وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم الذين جعلوا له بنين وبنات.

قال تعالى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 1 وكانوا يقولون الملائكة بنات الله كما يزعم هؤلاء أن العقول أو العقول والنفوس هي الملائكة وهي متولدة عن الله قال تعالى {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} " أ. هـ2.

قول بعض مشركي العرب أن الملائكة بنات الله وإبطاله:

"مما ينبغي التنبيه عليه أن القائلين بأن الملائكة بنات الله هم بعض قبائل العرب كجهينة وخزاعة وبني مليح وبني سلمة وعبد الدار فقد زعموا أن الملائكة بنات الله كما ذكره القرطبي"3.

ونقل الواحدي4 عن المفسرين أنهم قالوا: أن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني

1- سورة الأنعام، آية:100.

2-

درء تعارض العقل والنقل: 1/35 ـ 36.

3-

الجامع لأحكام القرآن 15/133.

4-

هو: علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متويه، أبو الحسن الواحدي مفسر عالم بالأدب توفي سنة ثمان وستين وأربعمائة هجرية، انظر ترجمته في وفيات الأعيان 1/333، الأعلام 5/95.

ص: 93

سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا: "أن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا: الملائكة بنات الله"1.

ولقد قال هؤلاء المشركون في الملائكة الكرام ثلاثة أقوال كل واحد منها أشد كفراً وأعظم كذباً.

أولاً: جعلوهم بنات الله فجعلوا لله ولداً ـ تعالى الله ـ عن ذلك علواً كبيراً.

ثانياً: جعلوهم إناثاً فحطوا من مكانة الملائكة ونسبوا لله الولد الناقص ولأنفسهم الولد الأكمل.

ثالثاً: أنهم بعد كل هذه الافتراءات السخيفة عبدوا الملائكة من دون الله ولقد دحض القرآن هذه الدعوى الباطلة وبين أنها افتراء وناقشهم مناقشة ضيقت عليهم منافذ الباطل وحاجهم حتى عجزوا عن الدفاع عما قالوه من الباطل وحاجهم القرآن محاجة تبين معها كذبهم حيث صور دعواهم أن الملائكة بنات الله، واستجوبهم في ذلك على هذا النحو التالي:

أيكون لله البنات ولكم البنون؟

هل يتفق قولكم هذا مع منطق العقل والعدل والحق؟.

إن هذا القول باطل لأنكم معشر العرب تستنكفون من البنت والشيء الذي تستنكفون منه كيف تثبتونه للخالق وهذا ما عناه الله ـ تعالى ـ بقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 2.

ثم إن القرآن لم يكتف بمجادلة المشركين في موضع واحد منه بل حاجهم في مواضع عدة وألزمهم بالحجة وبين بطلان سخافاتهم الوثنية كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي

1- ذكره عنه الرازي في التفسير الكبير 26/167.

2-

سورة النحل، آية: 57 ـ 59.

ص: 94

الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} 1.

إن الناظر في هذه الآيات يلمس الوحدة الموضوعية بينها وبين الآيات السابقة قبلها إذ كل آية منها عالجت مفتريات المشركين في ملائكة الرحمن بالأدلة العقلية وناقشت أولئك المشركين بمنطق الحجة والبيان، فلم يستطيعوا المعارضة، وهم أرباب الفصاحة وقادة البلاغة والبيان، ثم إن الآيات تحمل في طياتها الوعيد الشديد والتهديد الأكيد لأولئك المشركين لشناعة قولهم، ومخالفته للحس والعقل والفطرة وهذه الآيات ناقشت المشركين في عدة نقاط هي:

1 ـ جعلهم لله من عباده جزءاً، أي: عدلاً، أو بعضاً لأن الولد بضعة من والده وجزءاً له، فإذا كانوا جميعاً عبيد الله فهل يصح أن يكون أحد منهم شريكاً لله أو بعضاً منه.

2 ـ مناقشتهم عن السر في اختيارهم البنين لأنفسهم، وجعلهم البنات لله ـ تعالى ـ علماً بأنه قد تقرر لدى هؤلاء المشركين تفضيلهم البنين على البنات، فلو كان مرجع القسمة إلى العقل لكان الله أولى بالبنين من البنات، ولو كان مرجع ذلك إلى العدل بصرف النظر عن استحالة ذلك، أو إمكانه لكان العدل يقتضي على أسوأ تقدير التسوية في القسمة، ولكنهم تجاوزُوا في الطغيان، والبلادة حدود ما يألفه الذوق والفطرة الإنسانية.

قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} 2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " أي: جائرة

فبين ـ سبحانه ـ أن الرب الخالق أولى بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم فكيف تجعلون له ما تكرهون أن يكون لكم، وتستحيون من إضافته إليكم مع أن ذلك واقع لا محالة، ولا تنزهونه عن ذلك وتنفونه عنه، وهو أحق بنفي المكروهات المنقصات منكم" أ. هـ3.

3 ـ بينت الآية الرابعة من الآيات السابقة وهي قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 4 أن الأنثى محل نقص في الظاهر والباطن في الصورة والمعنى

1- سورة الزخرف، آية: 15 ـ 19.

2-

سورة النجم، آية: 21 ـ 22.

3-

درء تعارض العقل والنقل 1/36 ـ 37.

4-

سورة الزخرف، آية:17.

ص: 95

فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ليجبر ما فيها من نقص فإذا كانت الأنثى محل نقص فما وجه نسبتها إلى الله ولقد بين القرآن الكريم أنهم ليس لهم دليل على صحة دعواهم حيث أنه نفى عنهم طرق العلم الثلاث التي هي: الحس، أو الخبر، أو النظر أما طريق الحس: فهي المراد من قوله تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} 1.

الواقع يقرر أنهم لم يشهدوا كيفية خلق الله لملائكته بل المشركون أنفسهم لم يدعوا ذلك فبطلت معرفتهم عن طريق الحس.

وأما طريق الخبر: فإن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً وقطعاً كصدوره عن المعصوم الذي قام الدليل على صدقه، فأما الذين يخبرون بأن الملائكة بنات الله إنما هم أفاكون كذابون، ولم يدل على صدقهم دليل، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله:{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 2.

وأما طريق النظر: فقد بين بطلان قولهم من وجهين:

الوجه الأول: أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب لأن الله ـ تعالى ـ له الكمال المطلق لا يليق به اصطفاء الأخس وهو المراد من قوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 3 ومعنى ذلك أن إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب عند العقل من إسناد المفضول إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً.

الوجه الثاني: يترك الاستدلال على فساد مذهبهم ويطالبون هم بإثبات الدليل على صحة مذهبهم، فإذا لم يجدوا ذلك الدليل ظهر ضده وهو خلو الدعوى من أي دليل يدل على صحة مذهبهم وهذا هو المقصود من قوله تعالى:{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4 فثبت بما ذكرناه من الآيات القرآنية إبطال قول المشركين في دعواهم أن الملائكة بنات الله لأنه لا يوجد لديهم دليل يؤيد قولهم لا من طريق الحس، ولا

1- سورة الصافات، آية:150.

2-

سورة الصافات، آية: 151 ـ 152.

3-

سورة الصافات، آية: 153 ـ 154.

4-

سورة الصافات، آية: 156 ـ 157.

ص: 96

الخبر ولا العقل فكان المصير إليه باطلاً قطعاً"1 فبطل قول المشركين وسقطت شبهتهم وظهر أمر الله ممثلاً في عقيدة التوحيد النقية من أدران الشرك وأوحال الوثنية.

رد دعوى اليهود في أن عزيراً ابن الله:

قلنا فيما تقدم أن الفرق التي نسبت إلى الله الولد ثلاث فرق هم بعض مشركي العرب، واليهود، والنصارى وقد تقدم الرد على دعوى مشركي العرب بأن الملائكة بنات الله بقي أن نعرض لإبطال دعوى اليهود في أن عزيراً ابن الله، وإبطال قول النصارى في زعمهم أن المسيح ابن الله.

ولقد ذكر القرآن الكريم دعوى اليهود، ورد عليها وبين فسادها وبطلانها قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} 2 هذه الآية بينت دعوى اليهود الباطلة في "العزير" ويا ترى هل اليهود جميعهم يقولون هذه المقالة أم بعضهم؟

اختلفت الرواية عن أهل العلم في أصحاب هذه المقالة من اليهود فقيل: هو رجل من اليهود اسمه "فنحاص بن عازوراء" وهو على ما جاء في بعض الروايات القائل: {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} 3.

كما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج4 وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهم سلام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك يا محمد وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله فأنزل الله في ذلك:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله} 5.

قال الرازي: "وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود إلا أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد

1- انظر تفسير الفخر الرازي: 26/167 ـ 169 بتصرف.

2-

سورة التوبة، آية:30.

3-

سورة آل عمران، آية:181.

4-

انظر روح المعاني للألوسي: 10/81.

5-

جامع البيان: 10/110 ـ 111، وانظر التفسير الكبير للرازي 16/33 وانظر تفسير روح المعاني للألوسي 10/81.

ص: 97

يقال: فلان يركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحد منها، وفلان يجالس السلاطين ولعله لا يجالس إلا واحداً

ثم قال "والقول الثابت: لعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع فحكى الله ذلك عنهم، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك فإن حكاية الله عنهم أصدق" أ. هـ1.

وهناك آثار كثيرة وردت في صدور هذه المقالة عن اليهود ومنها الآتي:

قال الإمام الكلبي2: " لما قتل بختنصر علماء اليهود جميعاً وكان عزير إذ ذاك صغيراً فاستصغره ولم يقتله فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله ـ تعالى ـ عزيراً ليجدد لهم التوراة ويكون آية بعد ما أماته الله مائة عام يقال: إنه أتاه بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت في صدره فلما أتاهم فقال لهم: إني عزير كذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة ففعل فقالوا: إن الله ـ تعالى ـ لم يقذف التوراة في قلب رجل إلا لأنه ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً"3.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن اليهود أضاعوا التوراة، وعملوا بغير الحق فأنساهم الله ـ تعالى ـ التوراة، ونسخها من صدورهم فتضرع عزير إلى الله وابتهل فعاد حفظ التوراة إلى قلبه، فأنذر قومه بها فلما جربوه وجدوه صادقاً فيه فقالوا: ما تيسر هذا لعزير إلا أنه ابن الله"4.

وقال السدي: "العمالقة قتلوهم فلم يبق منهم أحد يعرف التوراة"5.

وقال الإمام البيضاوي6 وإنما قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ الله} لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة

1- التفسير الكبير 16/33.

2-

هو: محمد بن السائب بن بشر بن عمر بن الحارث الكلبي أبو النضر: نسابة، راوية، عالم بالتفسير والأخبار وأيام العرب قال النسائي: حدث عنه ثقات من الناس، ورضوه في التفسير وأما في الحديث ففيه مناكير. الميزان 3/68، التهذيب 9/178، الأعلام 7/3.

3-

كتاب التسهيل لعلوم التنزيل 2/64، تفسير أبي السعود 4/95، تفسير الرازي 16/34.

4-

جامع البيان 10/111، وتفسير الرازي 16/33.

5-

تفسير الرازي 16/34.

6-

هو: عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي أبو سعيد ناصر الدين البيضاوي مفسر، علامة، ولد سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، توفي سنة خمس وثمانين وستمائة هجرية. انظر البداية والنهاية 13/309، بغية الوعاة 2/50، الأعلام 4/248.

ص: 98

"بختنصر" من يحفظ التوراة وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا: "ما هذا إلا لأنه ابن الله"1.

والذي يتبين من الآثار المتقدمة، وما جاء في معناها يوضح لنا أن منشأ الشبهة عند اليهود في "عزير" هو أنه اختص بحفظ التوراة في زمن من الأزمنة دون سائر اليهود بغض النظر عن صحة تفاصيل تلك الآثار التي أسلفناها نقلاً عن بعض المفسرين، ولذلك زعموا أنها ما حصلت له هذه الكرامة إلا أنه ابن الله ـ تعالى ـ عن ذلك علواً كبيراً.

وهنا سؤال لا بد منه أمام مزاعم اليهود الباطلة هو: هل يلزم في كل إنسان خصه الله ـ تعالى ـ بنعمة من اصطفاء بالنبوة والرسالة أو استجابة للدعوة، أو ظهور كرامة من كرامات الأولياء على يديه هل يلزم من هذا أن يكون ذلك الإنسان ابناً لله؟.

ولو كان الأمر كذلك فهذا موسى ابن عمران وأخوه هارون بن عمران عليهما السلام قد جاءا بالتوراة من عند الله ولهما من الفضل والكرامة ما ليس لعزير فلماذا لم يدعيا أنهما ابنان الله؟.

ولكن الحقيقة التي لا شك فيها هي أن اليهود أضاعوا التوراة وتركوا العمل بها فضلوا عن سبيل الله القويم وصراطه المستقيم، وذهبوا يحرفون الكلم عن مواضعه، وأصدق دليل على ذلك ما حكاه الله ـ تعالى ـ عنهم في كتابه قال تعالى:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 2، وقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِه ِ

} 3. وقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 4 فإذا كان اليهود لا يعتبرون مصدر ثقة فيما استحفظوا عليه من كتاب الله فمن المسلم به أنه لا يوثق بأقوالهم التي تخالف العقل والنقل وتخالف الفطر المستقيمة، وقد حكى الله عنهم كثيراً من مخازيهم كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ

1- تفسير البيضاوي 1/412.

2-

سورة النساء، آية:46.

3-

سورة المائدة، آية:13.

4-

سورة البقرة، آية:75.

ص: 99

مَغْلُولَةٌ} فرد الله عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 1.

إذاً فبعد ذلك لا يستبعد أن يفتروا على الله كذباًُ فينسبون له الأبناء بل قد ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} 2.

ولقد نقض القرآن هذا الزعم بقوله: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} ومعنى هذا أن الحبيب لا يهين كرامة حبيبه بالتعذيب فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالأسر والقتل والمسخ وقد اعترفتم بأنه سيعذبكم في الآخرة أياماً بعدد أيام عبادتكم العجل، ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع ثم بين القرآن أنهم كسائر البشر وأنهم محاسبون ومجزيون بالإحسان إحساناً، والإساءة عقاباً، وأنهم خاضعون لمشيئة الله النافذة {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 3.

وحسبنا أن اليهود عرفوا بنقض العهود والمواثيق وقتل الأنبياء بغير حق ولسنا بصدد تعداد مساوئهم فهي كثيرة ولكن الذي نقوله أنه ليس من المستغرب أن تصدر عنهم تلك الفرية الكبيرة وهي قولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} 4.

إبطال دعوى النصارى في أن عيسى ابن الله:

مما ينبغي أن يعلم أن قول النصارى {الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} يرجع إلى شبهة عرضت لهم فيه وهي خلقه ـ تعالى ـ إياه من أم دون أب وهو خلاف ما جرت عليه سنة الله ـ تعالى ـ في التوالد والتناسل فقالوا عنه ابن الله كما حكى الله ذلك عنهم بقوله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله} 5 ولهم شبهة أخرى في قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ

1- سورة المائدة، آية:64.

2-

سورة المائدة، آية:18.

3-

سورة المائدة، آية:18.

4-

سورة الكهف، آية:5.

5-

سورة التوبة، آية:30.

ص: 100

مِنْهُ} 1. فادعى بعض النصارى أن "من" للتبعيض فيكون عيسى بعضاً من الله تعالى وقد نقل عن محمد بن إسحاق قوله عن النصارى: "إنهم يحتجون في قولهم أنه ولد الله بأنههم يقولون: لم يكن له أب يعلم في المهد وهو شيء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله"2.

وأصحاب هذا القول هم النسطورية ينسبون إلى نسطور، وكان "بطريريكاً" بالقسطنطينية3 فقول النصارى في المسيح أنه ابن الله بهذا الإدعاء الشنيع ينسبون إلى الله الولد والتولد.

وهذا الزعم الباطل نتيجة الشبهة التي عرضت لهم وهو أن الله خلقه من أم بلا أب من البشر فلا بد أن يكون ولداً لله، وهذه الشبهة قامت الأدلة النقلية والعقلية على استحالة أن يكون لله ولد، أو صاحبة أو والد أو شريك، والله ـ تعالى ـ عظّم أمر هذه المقالة الشنيعة قال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} 4.

وقد أنذر الله ـ تعالى ـ جميع الطوائف التي تنسب إليه الولد بالوعيد الشديد والتهديد الأكيد قال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} 5. وقد أبطل الله عز وجل مزاعم اليهود والنصارى ومشركي العرب في نسبة الولد إليه بقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 6 فنفي التولد عنه لامتناع التولد من شيء واحد، وأن التولد إنما يكون بين اثنين وهو ـ جل وعلا ـ لا صاحبة له، وأيضاً: فإنه خلق كل شيء، وخلقه لكل شيء يناقض أن يتولد عنه شيء، وهو بكل شيء عليم، وعلمه بكل شيء يستلزم أن يكون فاعلاً بإرادته فإن الشعور

1- سورة النساء، آية:171.

2-

مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص369.

3-

انظر الفصل لابن حزم 1/49، الملل والنحل للشهرستاني 1/224.

4-

سورة مريم، آية: 88 ـ 95.

5-

سورة الكهف، آية: 4 ـ 5.

6-

سورة الأنعام، آية:101.

ص: 101

فارق بين الفاعل بالإرادة والفاعل بالطبع فيمتنع مع كونه عالماً أن يكون كالأمور الطبيعية التي تتولد عنها الأشياء بلا شعور كالحار والبارد فلا يجوز إضافة الولد إليه"1.

وفي قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} استدلال بخلق السموات والأرض ابتداء من غير مثال سابق وكل الطوائف التي نسبت الولد إلى الله ـ تعالى ـ مقرة بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض ابتداء، ولكن الاستدلال بقوله تعالى {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} على النصارى أليق من غيرهم لأنهم استغربوا وجود عيسى عليه السلام من غير أب على غير مثال سابق ولهذا قالوا أنه ابن الله ولكن الغرابة تزول إذا عرفوا خلق آدم عليه السلام من غير مثال سابق كما سنذكر ذلك قريباً وإذا عرفوا خلق السموات والأرض ابتداءاً من غير مادة، فالإبداع عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال، فكأن الآية تقول للنصارى: سلمنا لكم أن عيسى حدث من غير أب ولا نطفة، بل إنما حدث ودخل في الوجود لأن الله ـ تعالى ـ أخرجه من الوجود من غير سبق الأب ولكنكم تقولون: إنه ابن الله، وعلى هذه فلا يخلو الأمر إما أن تريدوا بكونه ولداً لله ـ تعالى ـ أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ووالد وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله ـ تعالى ـ كما هو المألوف المعهود من كون الإنسان ولداً لأبيه أما الاحتمال الأول: فإن النصارى والمشركين يسلمون بأن الله ـ تعالى ـ خلق السموات والأرض إبتداءاً ويلزم على تسليمهم ذلك أن يكون خلقه للسموات والأرض إبداعاً، فلو لزم من مجرد كونه مبدعاً لإحداث عيسى عليه السلام كونه ولداً له للزم من كونه مبدعاً للسموات والأرض كونه والداً لهما، ولما فيهما من المخلوقات ومعلوم أن ذلك باطل بالاتفاق فثبت أن مجرد كونه مبدعاً لعيسى عليه السلام لا يقتضي كونه والداً له فبطل بهذا الاحتمال الأول.

وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون مراد القوم من الولادة هو الأمر المعتاد المعروف من الولادة في الحيوانات فهذا أيضاً باطل، يدل على بطلانه الوجوه التالية:

الوجه الأول: أن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة وهذه الأحوال إنما تثبت في حق من يجوز عليه الأعراض المعروفة في التوالد والتناسل وكل ذلك على خالق العالم محال وهذا المراد من قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} .

1- الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص219.

ص: 102

الوجه الثاني: أن تحصيل الولد بهذا الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادراً على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة فلما أراد الولد وعجز عن تكوينه دفعة واحدة عمد إلى تحصيله بالطريق المعتاد أما من كان خالقاً لكل الممكنات قادراً على كل المحدثات، فإذا أراد إحداث شيء قال له:{كُنْ فَيَكُونُ} ومن كان هذا الذي ذكرنا صفته ونعته امتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} .

الوجه الثالث: وهو أن هذا الولد إما أن يكون قديماً أو محدثاً، وليس من الجائز أن يكون قديماً لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته، وما كان واجب الوجود لذاته كان غنياً عن غيره، فامتنع كونه ولداً لغيره فبقي أنه لو كان ولداً لوجب كونه حادثاً فنقول: إنه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالاً، ونفعاً أو يعلم أنه ليس الأمر كذلك، فإن كان الأول فلا وقت يفرض أن الله ـ تعالى ـ خلق هذا الولد فيه إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلاً قبل ذلك ومتى كان الداعي إلى إيجاده حاصلاً قبله، وجب حصول الولد قبل ذلك، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزلياً وهو محال، وإن كان الثاني فقد ثبت أنه ـ تعالى ـ عالم بأنه ليس له في تحصيل الولد كمال حال ولا ازدياد مرتبة في الألوهية وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يحدث البتة في وقت من الأوقات وهذا هو المراد من قوله تعالى:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1.

ولا يفوتنا أن نقول: أنه ليس أعظم جرماً وأقبح إثماً ممن زعم أن الله متصف بصفات المحدثين من الجهلة المشركين واليهود المعاندين والنصارى الضالين، وأن مؤمني الجن لأحسن حالاً منهم وأكمل إيماناً إذ أنهم نفوا عن الله الصاحبة والولد كما قال تعالى حكاية عنهم:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} 2.

ومن الآيات التي ترد على شبهة النصارى أن عيسى وجد من أم بلا أب يقتضي أن يكون ابناً لله قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3، وهذه الآية نزلت عند حضور وفد نصارى نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر

1- تفسير الرازي 13/118 ـ 119 وآية: 101 من سورة الأنعام.

2-

سورة الجن، آية:3.

3-

سورة آل عمران، آية:59.

ص: 103

هذا ابن جرير1 وادعى الفخر الرازي الإجماع على ذلك2 ولقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الوفد بنقض شبهتهم بأنه لو لزم من وجود عيسى من أم بلا أب كونه ابناً لله للزم أن يكون آدم ابناً لله ـ تعالى ـ بطريق الأولى، فإنه وجد من غير أم ولا أب، وأنتم تعترفون بذلك، ثم إنه ذا جاز أن يخلق الله ـ تعالى ـ آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس، وهذا دليل ملزم لهم لأنهم لم يقولوا بأن آدم إله كما زعموا ذلك في عيسى عليه السلام، وفي قوله:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ} .

قال الزمخشري: "هو مثيله في أحد الطرفين فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ولأنه شبيه به في أنه وجد وجوداً خارجاً عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران، ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه" أ. هـ3.

وقوله تعالى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} ليس صفة لآدم ولا صلة له، وإنما هو خبر مستأنف على جهة التفسير لحال آدم كما ذكر ذلك الرازي ونقل عن الزجاج قوله:"هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور ثم تخبر بقصة زيد فتقول: فعل كذا وكذا"4.

وأما شبهتهم في قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} 5 حيث قالوا إن هذا الجزء من الآية دليل على أن عيسى جزء من الله ويقولون: "من" في قوله "من" تبعيضية فيكون عيسى جزءاً من الله ـ تعالى الله ـ عن ذلك علواً كبيراً، فالروح هنا، قيل: النفخة فيكون معنى قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: نفخة منه لأنه حدث عن نفخة جبريل عليه السلام في درع مريم بأمر الله إياه بذلك فنسب إلى أنه روح من الله لأنه بأمره كان، وإنما سمي النفخ "روحاً" لأنها ريح تخرج من الروح واستشهدوا على ذلك بقول ذي الرمة:

1- جامع البيان 3/295.

2-

التفسير الكبير 8/74.

3-

الكشاف 1/433.

4-

التفسير الكبير: 8/74.

5-

جزء من الآية رقم: 171 من سورة النساء.

ص: 104

وقلت له ارفعها إليك وأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدراً1

يعني بقوله: "أحيها بروحك" أي أحيها بنفخك.

وقيل معناها: "الرحمة" فيكون قوله: {رُوحٌ مِنْهُ} أي رحمة منه كما قال تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 2 فجعل الله عيسى عليه السلام رحمة منه على من آمن به وصدقه واتبعه من بني إسرائيل لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد كما ذكره ابن جرير الطبري، وقد أورد أقوالاً أخرى ثم قال تعقيباً عليها:"ولكل هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب"3.

والأظهر في ذلك ما روي عن أبيّ بن كعب أنه قال: "عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله عز وجل واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 4 بعثه الله إلى مريم فدخل فيها"5.

وقال أبوروق: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: نفخة منه إذ هي من جبريل بأمره، وسمي روحاً لأنه حدث من نفخة جبريل عليه السلام6.

قال ابن كثير: "وكلمته ألقاها إلى مريم" أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل فكان عيسى بإذنه عز وجل وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم والجميع مخلوق لله عز وجل ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان، والروح التي أرسل بها جبريل

: "وروح منه" كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 7. أي: من خلقه ومن عنده وليست "من" للتبعيض كما تقوله النصارى ـ عليهم لعائن الله المتتابعة ـ بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى، وقد قال مجاهد

1- ديوان ذي الرُّمة ص24 ط: كيمبردج سنة 1919م.

2-

جزء من الآية: 22 من سورة المجادلة.

3-

جامع البيان 6/36.

4-

سورة الأعراف، آية:172.

5-

جامع البيان 6/36 وانظر تيسير العزيز الحميد ص63.

6-

تيسير العزيز الحميد ص 63.

7-

سورة الجاثية، آية:13.

ص: 105

في قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: "رسول منه"، وقال غيره ومحبة منه، والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله:{هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ} 1 وفي قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} 2 أضافها إليه إضافة تشريف، وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد" أ. هـ3.

وقد ذكر الألوسي في تفسيره "روح المعاني" قصة مضمونها أن طبيباً نصرانياً حاذقاً للرشيد ناظر عليَّ بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له: "إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه الصلاة والسلام جزء منه ـ تعالى ـ وتلا هذه الآية فقرأ الواقدي قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} . فقال: إذن يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءاً منه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً فانقطع النصراني، فأسلم وفرح الرشيد فرحاً شديداً، ووصل الواقدي بصلة4 فاخرة.

وجاء في قرة عيون الموحدين: قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: "من الأرواح التي استخرجها من صلب آدم عليه السلام، وأخذ عليها العهد على أنه ـ تعالى ـ ربهم وإلههم....، وروح عيسى من تلك الأرواح التي خلقها الله تعالى

فجبريل نفخ والله خلق بقوله "كن فكان" كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} 5 فسبحان من لا يخلق غيره ولا يعبد سواه" أ. هـ6.

ومن هذا نفهم أن النفخ سبب ظاهر لإيجاد الروح في كل مولود وقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح

"7. الحديث

1- سورة الأعراف، آية:73.

2-

سورة الحج، آية:26.

3-

تفسير القرآن العظيم: 2/459 ـ 460.

4-

تفسير الألوسي: 6/25.

5-

سورة ص، آية:72.

6-

قرة عيون الموحدين ص18، وانظر تيسير العزيز الحميد ص63، فتح المجيد ص47 ـ 48.

7-

2/211.

ص: 106

فالنفخ يحصل من الملك بعد أمر الله ـ تعالى ـ له.

ولقد نزه نفسه ـ سبحانه ـ من المقالة السيئة التي نسبها إليه اليهود والنصارى ومشركو العرب وغيرهم فقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 1.

قال الحافظ ـ رحمه الله تعالى ـ: "واتفقوا على أن الآية نزلت فيمن زعم أن لله ولداً من يهود خيبر، ونصارى نجران، ومن قال من مشركي العرب الملائكة بنات الله فرد الله تعالى عليهم"2 وجاء في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد ـ فسبحاني ـ أن أتخذ صاحبة أو ولداً".

قال الحافظ عقب هذا الحديث: "إنما سماه شتماً لما فيه من التنقيص لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله، ثم تضعه، ويستلزم ذلك سبق النكاح، والناكح يستدعي باعثاً له على ذلك والله ـ سبحانه ـ منزه عن جميع ذلك" أ. هـ3 ومما تقدم نعلم أن الله ـ تعالى ـ أبطل مزاعم اليهود والنصارى ومشركي العرب في نسبتهم الولد إلى الله ـ تعالى ـ فقد نفى عن نفسه الولادة ونفى اتخاذ الولد جميعا قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} 4.

وقال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} 5 ومما ينبغي أن يعلم أن كل النحل التي نسبت الولد إلى الله تعالى لم يرد العقلاء منهم أنها ولادة حسية من جنس ولادة الحيوان بانفصال جزء من ذكره في أنثاه يكون منه الولد وإنما يريد من الولادة العقلية الروحانية مثل قول النصارى إن الجوهر الذي هو الله من وجه، وهو الكلمة من وجه تدرعت بإنسان مخلوق من مريم فيقولون تدرع

1- سورة البقرة، آية:116.

2-

الفتح: 8/168.

3-

المصدر السابق. بنفس الصفحة.

4-

سورة الإسراء، آية:111.

5-

سورة الفرقان، آية:2.

ص: 107

اللاهوت بالناسوت ـ فظاهره ـ وهو الدرع والقميص بشر وباطنه ـ وهو المتدرِّع ـ لاهوت هو الابن الذي هو الكلمة لتولد هذا من الأب الذي هو جوهر الوجود ومن هذا نعلم أن النبوة المزعومة مركبة من أصلين:

أحدهما: أن الجوهر هو الكلمة تولد من الجوهر الذي هو الأب كتولد العلم والقول من العالم والقائل.

الثاني: أن هذا الجوهر اتحد بالمسيح وتدرع به، وذلك الجوهر هو الأب من وجه وهو الابن من وجه فلهذا حكى الله عنهم، تارة أنهم يقولون: المسيح ابن الله، وتارة أنهم يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم1.

ولم يكتف القرآن بالرد على من زعم أن لله ولداً بالنفي فحسب بل كفر من جعل له ولداً، أو والداً، أو شريكاً فقال تعالى في السورة التي تعدل ثلث القرآن كما جاء بذلك الحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً يقرأ:{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن" 2: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . قال شيخ الإسلام: "فنفى عن نفسه الأصول والفروع والنظراء، وهي جماع ما ينسب إليه من المخلوق من الآدميين والبهائم والملائكة، والجن، بل والنبات ونحو ذلك فإنه ما من شيء من المخلوقات إلا ولا بد أن يكون له شيء يناسبه إما أصل، وإما فرع، وإما نظير. أو اثنان من ذلك، أو ثلاثة وهذا في الآدميين والجن والبهائم ظاهر.

وأما الملائكة فإنهم وإن لم يتولدوا بالتناسل فلهم الأمثال والأشباه ولهذا قال ـ سبحانه ـ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 3. قال بعض السلف: "لعلكم تتذكرون فتعلمون أن خالق الأزواج واحد" أ. هـ4.

وبعد أن سقنا الأدلة النقلية على إبطال فرية المشركين واليهود والنصارى في نسبة

1- مجموع الفتاوى: 2/443 ـ 445.

2-

سنن أبي داود: 1/337، وابن ماجة: 1/1244، والنسائي: 2/171.

3-

سورة الذاريات، آية:49.

4-

مجموع الفتاوى: 2/438 ـ 439.

ص: 108

الولد إلى الله تعالى، هناك دليل عقلي يدل على بطلان ذلك الافتراء الباطل نذكره قبل أن نختم الكلام في هذا الموضوع، وذلك الدليل هو:

1 ـ أن يقال: يجب أن يكون الإله واجب الوجود لذاته، فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته، أو لا يكون فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر، ومن كان كذلك لم يكن له ولد البتة، لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة إلى أصله.

وإما أن يكون ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته، ومن كان كذلك فيكون عبداً لا ولداً له ومن عرف هذه الحقيقة لم يتردد في نفي الولد عن الله ـ تعالى ـ.

2 ـ إن الولد مشعر بكونه متولداً عن جزء من أجزاء الوالد وذلك إنما يعقل في من يمكن انفصال بعض أجزائه عن بعض وهو محال في حق الواجب لذاته1.

وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم عيسى عليه السلام بمزيد من التنبيه لأن عقائد أهل الكتاب كانت فيه بين الإفراط والتفريط فبيّن العقيدة الصحيحة التي يجب أن يلتزمها الناس فيه بصفة عامة، وأهل الكتاب جميعاً بصفة خاصة فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"2.

فالقارئ لهذا الحديث يرى أن وجه تخصيص عيسى بالذكر مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون سائر أولي العزم من الرسل إنما كان لتوضيح الحق فيه، وأنه عبد الله ورسوله.

وجاء في تيسير العزيز الحميد قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله" وفي رواية "وابن أمته" أي: خلافاً لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً

إلى أن قال: "فيشهد بأنه عبد الله" أي: عابد مملوك لله، لا مالك، فليس من الربوبية ولا من الإلهية شيء، ورسول صادق خلافاً لقول اليهود إنه ولد بغي، بل يقال فيه

1- انظر التفسير الكبير للرازي: 13/116 ـ 117.

2-

صحيح البخاري 2/254، صحيح مسلم 1/57. واللفظ للبخاري.

ص: 109

ما قال عن نفسه كما قال تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} 1

قوله: {وَكَلِمَتُه} إنما سمي كلمة الله لصدوره بكلمة "كن" بلا أب قاله قتادة وغيره من السلف2.

وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ: "الكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: "كن" فكان عيسى بكن وليس عيسى هو "كن" ولكن ب: "كن" كان، ف: "كن" من الله قول، وليس: كن مخلوقاً وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالت: عيسى روح الله وكلمته إلا أن الكلمة مخلوقة.

وقالت النصارى عيسى روح الله من ذات الله، وكلمته من ذات الله كما قال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب، وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة. أ. هـ3. وختاماً لهذا نقول: إن الله قد رفع من شأن عيسى وجعله من أولي العزم من الرسل المذكورين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} 4.

1- سورة مريم، آية:30.

2-

تيسير العزيز الحميد ص62.

3-

الرد على الجهمية والزنادقة ص124 ـ 125.

4-

سورة الأحزاب، آية:7.

ص: 110