المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

لقد ورد التحذير عن الشرك، وأنه يحبط العمل في آية واحدة، من هذه السورة قال ـ تعالى ـ {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} .

هذه الآية من السورة بين الله ـ تعالى ـ فيها أنه قد أوحي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى كل إخوانه من الأنبياء ممن سبقوه بأنه لو صدر من أحدهم إشراك بالله وحاشا أن يصدر منهم ذلك لأن الله عصمهم من الوقوع في الإشراك به جل وعلا ـ ولكن هذا من باب فرض المستحيل غير الواقع ـ ولو حصل ذلك لكان سبباً في إحباط العمل وضياع الثواب ويصير صاحبه في ضمن الأشقياء الذين حرموا الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض.

وإذا كان هذا الخطاب موجهاً إلى أكرم الخلق وأحبهم إلى الله ـ تعالى ـ وهم الرسل الكرام وفي طليعتهم سيد الأولين والآخرين عليهم الصلاة والسلام فما البال بصدوره من غيرهم من بني الإنسان.

قال البغوي رحمه الله تعالى ـ حول قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} يعني الذي عملته قبل الشرك وهذا خطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره، وقيل هذا أدب من الله عز وجل لنبيه وتهديد لغيره لأن الله ـ تعالى ـ عصمه من الشرك اهـ1.

وقال ابن جرير رحمة الله عليه، حول الآية نفسها:

1- تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل أنظر حاشية تفسير الخازن 6/70.

ص: 422

يقول ـ تعالى ـ ذكره " {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ} يا محمد ربك، {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} من الرسل {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} يقول لئن أشركت بالله شيئاً يا محمد ليبطلن عملك، ولا تنال به ثواباً ولا تدرك جزاء إلا جزاء من أشرك بالله وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، ومعنى الكلام:

ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين وإلى الذين من قبلك، بمعنى وإلى الذين من قبلك من الرسل من ذلك، مثل الذي أوحي إليك منه فاحذر أن تشرك بالله شيئاً فتهلك، ومعنى قوله {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} ولتكونن من الهالكين بالإشراك بالله إن أشركت به شيئاً اهـ1.

ومثل هذه الآية في السورة {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} الآية.

قوله ـ تعالى ـ {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.

وهذا تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته3.

ولقد حذر الله من الشرك وبين عاقبته السيئة في مواضع كثيرة من كتابه.

قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4.

قال ابن كثير: "أخبر ـ تعالى ـ أنه لا يغفر أن يشرك به، أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده" اهـ5 "فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب لأن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه لا يغفره أي إلا بالتوبة منه، وما عداه فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة، وإن شاء عذب به وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من "هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله"6 وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 7.

1- جامع البيان 24/24.

2-

سورة الأنعام آية: 88.

3-

تفسير ابن كثير 3/63.

4-

سورة النساء آية: 48.

5-

تفسير القرآن العظيم 2/308.

6-

تيسير العزيز الحميد ص90 ـ 91.

7-

سورة المائدة آية: 72.

ص: 423

وفي مسند الإمام أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك قال الله عز وجل {مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} ، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً القصاص لا محالة"1.

قال العلامة ابن القيم: "ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرم الجنة على أهله فلا تدخل الجنة نفس مشركة وإنما يدخلها أهل التوحيد فإن التوحيد هو مفتاح بابها فمن لم يكن معه مفتاح لم يفتح له بابها، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يكن الفتح، وأسنان هذا المفتاح هي الصلاة والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وبر الوالدين" اهـ2.

وقال تعالى آمراً عباده باجتناب عبادة غيره من الأوثان والأصنام: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 3.

هذه الآية توجيه للبشرية جمعاء بالابتعاد عن ملابسة كل طاغوت يعبد من دون الله ـ تعالى ـ وفيها تصوير للأوثان بأنها رجس لوخامة ما ينتج عنه من الاعتقاد والفساد وقد قرن الله الأوثان بقول الزور لأنه الشرك من باب الزور فإن المشرك يزعم أن الوثن تحق له العبادة وهذا أعظم أبواب الزور والافتراء. ولنستمع إلى ابن القيم وهو يصور لنا الإهتزازات التي تعتري الذين ارتكسوا في أوحال الوثنية وعبدوا غير الله ـ تعالى ـ ممن هم عبيد أمثالهم فقال رحمة الله في كلامه لبيان هذا المشهد في هذه الآية. فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في التشبيه أمران:

أحدهما: أن تجعله تشبيهاً مركباً ويكون قد شبه من أشرك بالله يرجى معه نجاة

1- المسند 6/240.

2-

الوابل الصيب ص18.

3-

سورة الحج آية: 30 ـ 31.

ص: 424

فصور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير في الهواء فتمزق مزقاً في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه، ومقابله من المشبه به.

الثاني: أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل والممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها هبط إلى الأرض، وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير التي تخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه وتؤزه أزاً وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه، فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء. اهـ1.

فكل ما تقدم من الآيات القرآنية وأقوال العلماء من التحذير من الشرك يوجب للإنسان أن يخاف على نفسه فإنه أعظم ذنب عصي الله ـ تعالى ـ به.

وقد ذكر الله عن خليله إبراهيم أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام أنه خاف على نفسه وبنيه من عبادة الأصنام مع أنه عليه الصلاة والسلام قد أكرمه الله بالعصمة من الشرك وغيره.

وقال تعالى مخبراً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 2.

قال في تيسير العزيز الحميد {وَاجْنُبْنِي} أي اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام وباعد بيني وبينها قيل: وأراد بذلك بنيه وبناته من صلبه ولم يذكر البنات لدخولهم تبعاً في البنين، وقد استجاب الله دعاءه وجعل بنيه أنبياء وجنبهم عبادة الأصنام وإنما دعا إبراهيم عليه السلام بذلك لأن كثيراً من الناس افتتنوا بها كما قال {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً

1- أعلام الموقعين 1/180.

2-

سورة إبراهيم آية: 35 ـ 36.

ص: 425

مِنَ النَّاسِ} فخاف من ذلك ودعا الله أن يعافيه وبنيه من عبادتها، فإذا كان إبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام فما ظنك بغيره؟ اهـ1.

فإبراهيم عليه السلام هو الذي امتثل أمر ربه حين أمره بذبح ولده وهو الذي أخذ الفأس وحطم به الأصنام، وهو الذي اشتد نكيره على عبدة الأصنام والأوثان ومع ذلك يخاف على نفسه وبنيه الوقوع في الشرك الذي هو عبادة الأصنام لأنه يعلم أنه لا يصرف عن ذلك إلا بهداية الله ـ جل وعلا ـ وتوفيقه.

جاء في قرة عيون الموحدين: "فالذي خافه الخليل عليه السلام على نفسه وبنيه وقع فيه أكثر الأمة بعد القرون المفضلة فبنيت المساجد والمشاهد على القبور وصرفت لها العبادات بأنواعها. واتخذ ذلك ديناً وهي أوثان وأصنام كأصنام قوم نوح واللات والعزى ومناة أصنام العرب وغيرهم، فما أشبه ما وقع في آخر هذه الأمة بحال أهل الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم بل وقع ما هو أعظم من الشرك في الربوبية بما يطول عده"2.

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك وبين العاقبة السيئة التي تلحق المشرك إذا رجع إلى الله ـ تعالى ـ.

قال صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار"3.

وقال عليه الصلاة والسلام: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"4.

فقد بين صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين: أن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا تناله رحمة الله ويكون من الخالدين في النار.

كما بين أن من مات على التوحيد دخل الجنة قال النووي: "أما دخول المشرك إلى النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق بين الكتابي واليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة من المرتدين والمعطلين، ولا فرق عند أهل الحق بين

1- ص92 ـ 93.

2-

ص40.

3-

رواه البخاري أنظر الفتح 8/76 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

4-

رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه 1/94.

ص: 426

الكافر عناداً وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره يجحده وغير ذلك، وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصراً عليها دخل الجنة أولاً، وإن كان صاحب كبيرة مات مصراً عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفا عنه دخل الجنة أولاً وإلا عذب في النار ثم أخرج فيدخل الجنة" اهـ1.

ومن هذا يتبين لنا أن الشرك أشد الأعمال جرماً وأقبحها ظلماً كما قال تعالى حكاية عن لقمان وهو يوصي ابنه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2.

وقد بين تعالى في موضع آخر بأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يخلطوا عبادتهم بمعصية الشرك.

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 3.

وقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول الله وأينا ذلك؟ قال: "إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه إن الشرك لظلم عظيم"4 قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: لما شق عليهم أنزل الله ـ تعالى ـ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم المطلق هناك هو المراد به هذا المقيد وهو الشرك كما قال لقمان لابنه فالصحابة رضي الله عنهم حملوا الظلام على عمومه والمتبادر إلى الأفهام منه وهو وضع الشيء في غير موضعه وهو مخالفة الشرع فشق عليهم إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمراد بهذا الظلم اهـ5.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موضحاً لذلك "والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه وهو ظلم العبد نفسه وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه،

1- شرح النووي على مسلم 2/97.

2-

سورة لقمان آية: 13.

3-

سورة الأنعام آية: 82.

4-

صحيح البخاري 3/173 صحيح مسلم 1/114 ـ 115.

5-

شرح النووي على مسلم 3/143.

ص: 427

فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله فلا يحصل الأمن والإهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والإهتداء

فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه دون الشرك، كان له الأمن التام والإهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والإهتداء المطلق بمعنى:

أنه لا بد من أن يدخل الجنة كما وعد الله بذلك وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والإهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"إنما هو الشرك" أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والإهتداء التام فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام والإهتداء التام الذي يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من غير عذاب يحصل لهم، بل معهم أصل الإهتداء إلى الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم. ولا بد لهم من دخول الجنة، وقوله "إنما هو الشرك" إن أراد به الأكبر فمقصوده:

أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك يقال: ظلم العبد نفسه كبخله لحب المال ببعض الواجب، هو شرك أصغر، وحبه ما يغضب الله ـ تعالى ـ حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر ونحو ذلك فهذا فاته من الأمن والإهتداء بحسبه ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار"اهـ1.

ومن هذا يعلم أن الشرك بالله أظلم الظلم وأشد ذنب عصيي الله به ولذلك رتب الله عليه من العقوبات الدنيوية والأخروية ما لم يرتبه على ذنب سواه من إباحة دماء أهله، وأموالهم وسبي نسائهم "وأولدهم وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه"2.

قال في تيسير العزيز الحميد "وإنما كان كذلك لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم إذ مضمونه تنقيص رب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به كما قال تعالى

1- مجموع الفتاوى 7/80 ـ 81.

2-

تيسير العزيز الحميد ص89 بتصرف يسير.

ص: 428

{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1 ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر مناف له من كل وجه وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله"2.

ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق ـ تعالى ـ وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع، والعطاء، والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله، فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً فضلاً عن غيره شبيهاً بمن له الخلق كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله.

فأزمة الأمور كلها بيده ـ سبحانه ـ ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن اهـ3 كما يفهم من هذا أن المشرك لم يقدر الله حق قدره، ولم يأت بالأمر الذي خلق من أجله فهو ظالم من جهة أنه صرف الحق الذي لا يستحقه إلا الله ـ تعالى ـ للمخلوق الذي لا يستحق من ذلك شيئاً لأنه ليس أهلاً لذلك.

كما أن المشرك ظالم لنفسه حيث يشقيها بإشراكه بالله ـ تعالى ـ ويحرمها رحمة الله ويجعلها تتذلل لمخلوق من مخلوقات الله فقير إلى الله الذي له الغنى المطلق من جميع الوجوه والإعتبارات.

أعاذنا الله من الشرك كبيره وصغيره جليه وخفيه وبالله التوفيق.

1- سورة الأنعام آية: 1.

2-

رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه 1/131.

3-

ص:91.

ص: 429