الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق
لقد دلت السورة على أن القرآن منزل من الله غير مخلوق، وأنه صفة من صفاته تعالى، وصفاته ـ تعالى ـ كما هو معلوم ليست مخلوقة في عدة آيات:
وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} . وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
هذه سبع آيات من السورة، الخمس الآيات الأولى منها دلت على أن القرآن منزل من الله ـ تعالى ـ غير مخلوق كما تضمنت الرد على القائلين بخلق القرآن، وهم المعتزلة وترد قول القائلين أن المراد من النزول نزول الملك الذي بلّغه إلى الرسول، وليس المراد به القرآن الذي هو صفة من صفات الله ـ تعالى ـ كما قال ذلك الرازي1.
1- التفسير الكبير 26/238.
ووجه الرد عليهم بالآيات الخمس الأولى: أنها صرحت بتنزيل وإنزال الكتاب الذي هو القرآن بواسطة الرسول الملكي فهو منزل من الله وهو كلامه حقيقة.
وأما الآية السادسة: وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
بين الله ـ تعالى ـ فيها أنه مثّل للمشركين من كل مثل من أمثال الأمم الخالية في هذا القرآن تخويفاً منه، وتحذيراً ليتعظوا ويتذكروا علّهم ينزجرون عما هم عليه من التكذيب بالرسول والكفر بالله تعالى.
وأما الآية السابعة: وهي قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
قال السيوطي1 حول هذه الآية: "فيها الرد على من قال بخلق القرآن"2.
وروى اللالكائي والآجري3 بسند صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} قال غير مخلوق4.
فتلك الآيات من السورة دلت على أن القرآن منزل غير مخلوق وكما هو معلوم أن الإيمان بالكتب ركن من أركان الإيمان الستة، ومن الإيمان بالكتب الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدا وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة، بل إذا قرأه الناس، أو كتبوه بذلك في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله ـ تعالى ـ حقيقة فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا
1- هو: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين إمام حافظ مؤرخ أديب. له مؤلفات كثيرة في مختلف العلوم والفنون. ولد سنة تسع وأربعين وثمانمائة وتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة هجرية. انظر ترجمته في: "الكواكب السائرة 1/226، شذرات الذهب 8/51، الضوء اللامع 4/65، حسن المحاضرة 1/334.
2-
الإكليل في إستنباط التنزيل ص224.
3-
هو: محمد بن الحسين بن عبد الله أبو بكر الآجري. فقيه، شافعي، محدث. توفي سنة ستين وثلاثمائة هجرية. انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 2/243.
4-
السنة للالكائي 2/217، كتاب الشريعة للآجري ص77، الأسماء والصفات للبيهقي ص311.
إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وهو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف"1.
وهذا ما يجب اعتقاده في القرآن ولا يجوز العدول عنه بحال.
قال الصابوني: "ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله، وكتابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر عندهم، والقرآن الذي هو كلام الله ووحيه هو الذي ينزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم:{قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً} 2. وكما قال ـ عز من قائل ـ {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3.
وهو الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته
…
إلى أن قال: سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول سمعت أبا الوليد حسان بن محمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم لا تقبل شهادته ولا يعاد إن مرض ولا يصلى عليه إن مات ولا يدفن في مقابر المسلمين ويستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه4.
هذا الذي ذكره الصابوني ـ رحمه الله تعالى ـ معتقد أهل السنة والجماعة في كتاب الله ـ تعالى ـ وهو ما كان عليه السلف الصالح حيث كانوا على عقيدة واحدة في كتابه ـ تعالى ـ وهو القول بأنه كلام الله حقيقة منزل غير مخلوق.
قال العلامة ابن القيم: "وقد تنازع الصحابة رضي الله عنهم في كثير من مسائل الأحكام ـ وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيماناً ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة"5.
1- مجموع الفتاوى 3/144.
2-
سورة فصلت، آية: 3 ـ 4.
3-
سورة الشعراء، آية: 192 ـ 195.
4-
عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/107 ـ 108.
5-
إعلام الموقعين 1/49.
هذا هو واقع الصحابة فقد كان مجتمعهم مجتمعاً سليماً من الشوائب والانحرافات المشؤومة، ولم يحدث القول بخلق القرآن إلا الجهمية من المعتزلة، وهو من أعظم الفتن التي مرت بها الأمة الإسلامية في تاريحها، وكان أول من أحدث القول بخلق القرآن هو "الجعد بن درهم"1 سنة أربع وعشرين ومائة هجرية، ولما هلك أخذ الراية من بعده "الجهم بن صفوان" سنة ثمان وعشرين ومائة هجرية.
ولما بدأ القرن الثالث الهجري تولى نشر هذه البدعة بشر بن غياث المريسي سنة ثماني عشرة ومائتين هجرية، ثم تلقاها أحمد بن أبي دؤاد سنة أربعين ومائتين هجرية وزينها للمأمون حتى اعتنقها، وحمل الناس عليها وأكرههم على اعتقادها، وحذى حذوه من بعده أخوه المعتصم والواثق.
وفي زمن هؤلاء الثلاثة الخلفاء العباسيين نزلت المحنة والبلاء بعلماء أهل السنة والجماعة الذين ثبتوا في اعتقادهم على منهج السلف وردوا كيد المعتزلة في نحورهم ببيان الحق في كلام الله ـ تعالى ـ حتى أن الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ ضرب في هذه المحنة كي يحصلوا منه على أدنى كلمة توافق مذهب الإعتزال فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، فثبت ـ رحمه الله تعالى ـ على التمسك بعقيدة السلف الصالح حتى كان سبباً في حفظ العقيدة السلفية الصحيحة التي حماها الله من التلوث ببراثن الجهمية المعتزلة، وبيّن رحمه الله بموقفه ذلك بطلان ما دبره الجهمية والمعتزلة من الكيد للإسلام، فبلّغ الأمة فساد قولهم بأن القرآن مخلوق، ولم ترتفع تلك الفتنة وهي فتنة القول بخلق القرآن إلا في زمن المتوكل سنة أربع وثلاثين ومائتين2، وبسبب تلك المحنة التي امتحن فيها أئمة الإسلام، وثبت فيها إمام أهل السنة أحمد بن حنبل تنازع الناس في القرآن نزاعاً كبيراً،
1- هو: الجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة أصله من خراسان. سكن دمشق فلما أظهر القول بخلق القرآن أخذ الأمويين في البحث عنه فهرب إلى الكوفة فلقي الجهم بن صفوان ولقنه مذهبه ذلك فقبض عليه أمير الكوفة "خالد بن عبد الله القسري" وضحى به حيث قال وهو على المنبر "أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه". البداية 9/350، الميزان 1/399، خلق أفعال عباد ص7، الرد على الجهمية للدارمي ص113.
2-
تاريخ الأمم والملوك للطبري 8/631-646، البداية والنهاية 10/308 ـ 311، 319، 358، مطبعة السعادة وانظر تاريخ الجهمية والمعتزلة ص60-70.
فانقسموا إلى طوائف مختلفة في صفة الكلام حتى قيل إن علم الكلام إنما سمي بهذا الاسم أخذاً من الكلام في هذه المسألة وسأذكر هنا الأقوال المذكورة عن الفرق في صفة الكلام بطريقة مختصرة:
مذهب السلف:
قالوا: إن الكلام صفة لله كسائر الصفات الأخرى، وهي صفة ذات وفعل، يتكلم متى شاء وكيف شاء، وهو حروف وأصوات يسمعها من يشاء من مخلوقاته، وإن كلامه وصوته ليس كصوت المخلوقين وكلامهم فهو قديم النوع حادث الأفراد.
كما أنهم أجمعوا على أن موسى عليه السلام سمع كلام الله من الله تعالى لا من الشجر أو الحجر، أو من غير ذلك كما زعمت الجهمية والمعتزلة لأنه لو سمع من غير الله ـ تعالى ـ لكان بنو إسرائيل أفضل ذلك منه، فإنهم سمعوا من أفضل ممن سمع منه موسى لكونهم سمعوا من موسى عليه السلام وهو على زعمهم إنما سمع من الشجرة، وهو غير معقول.
وكذلك لم يجز أن يكون الكلام الذي سمعه إلا صوتاً وحرفاً، وليس معنى في النفس، فإنه لو كان معنى في النفس كما زعمت الكلابية والأشاعرة والماتريدية لم يكن ذلك تكليماً لموسى عليه السلام ولا هو شيءٌ يسمع1.
فالقرآن عند أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً كلام الله ـ تعالى ـ ووحيه، وتنزيله فيه معاني توحيده، ومعرفة آياته، وأنه غير مخلوق بحروفه ومعانيه فهو كلام الله ـ تعالى ـ حقيقة ويضاف الكلام إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً، ومؤدياً، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة عنه، كما يزعم ذلك الكلابية، والأشاعرة.
مذهب الفلاسفة:
قالوا: "إن كلام الله هو عبارة عما يفيض من العقل الفعَّال أو من غيره على النفوس الفاضلة الزكية، بحسب استعدادها، فأوجب لها ذلك الفيض تصورات، وتصديقات
1- انظر مجموع الفتاوى 12/39 ـ 40، مختصر الصواعق المرسلة 2/296 ـ 298، شرح العقيدة الطحاوية ص189، لوامع الأنوار البهية 1/140.
بحسب ما قبلته منه، ولهذه النفوس عندهم ثلاث قوى، قوة التصور، وقوة التخيل، وقوة التعبير، فتدرك بقوة تصورها من المعاني ما يعجز عنه غيرها، وتدرك بقوة تخيلها شكل المعقول في صورة المحسوس، فتتصور المعقول صوراً نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الآذان، وهو عندهم كلام الله ولا حقيقة له في الخارج وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية"1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فيقولون هذا القرآن كلام الله وهذا الذي جاءت به الرسل كلام الله، ولكن المعنى أنه فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من العقل الفعَّال، وربما قالوا: إن العقل هو جبريل الذي ليس على الغيب بضنين أي: بخيل لأنه فيَّاض. ويقولون إن الله كلم موسى من سماء عقله، وأن أهل الرياضة والصفا يصلون إلى أن يسمعوا ما سمعه موسى كما سمعه موسى2.
وهذا المذهب: من أبعد المذاهب عن الحق والصواب إذ مضمونه أن كلام الله ـ تعالى ـ من الوهم والخيال ليس له وجود في الخارج إذ أنهم يزعمون: أن موسى سمع كلام الله من سماء عقله أي: بكلام لم يسمعه من خارج. وهذا مناقض للكتاب والسنة وإنكار لربوبية الخالق سبحانه وتعالى، والكتاب والسنة دلا بوضوح على أن الله ـ تعالى ـ أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، والوحي كان إما بتكليم الله لهم بلا واسطة، أو يوحي إليهم بواسطة الملك الذي يأمره الله بتبليغ الوحي إلى النبي الذي اصطفاه الله لتبليغ رسالته إلى عباده من الجن والإنس.
فهذه الآية دلت على أن الوحي إلى الرسل كان حقيقة ولم يكن تخييلاً يتخيله الرسول كما زعم ذلك الفلاسفة المارقون ومن جرى في ركابهم من المتكلمين فدعواهم ذلك من أبطل الباطل.
1- رسائل إخوان الصفا 4/209، نقض المنطق ص32، مجموعة الرسائل والمسائل 3/428، منهاج السنة النبوية 1/221، مختصر الصواعق 2/288، إغاثة اللهفان 2/262، شرح الطحاوية ص179.
2-
مجموع الفتاوى 12/23.
3-
سورة الشورى، آية:51.
"والأصل الذي قادهم إلى هذا عدم الإقرار بالرب الذي عرَّفت به الرسل ودعت إليه وهو القائم بنفسه المباين لخلقه العالي فوق سمواته، فوق عرشه الفعَّال لما يريد بقدرته ومشيئته العالم بجميع المعلومات القادر على كل شيء فهم أنكروا ذلك كله"1.
مذهب الجهمية:
أما مذهب الجهمية في صفة الكلام فإنهم قالوا: إن كلامه ـ سبحانه ـ مخلوق، ومن بعض مخلوقاته ليس قائماً بذاته ـ سبحانه ـ فالكلام بدأ من هذه المخلوقات وليس من الله ولا يقوم بالله كلام ولا إرادة وأنه ـ سبحانه ـ كلّم موسى بكلام خلقه في الشجرة، وكلّم جبريل بكلام خلقه في الهواء2.
قال أبو الحسن الأشعري: "وزعمت الجهمية كما زعمت النصارى لأن النصارى زعمت أن كلمة الله حواها بطن مريم، وزادت الجهمية عليهم فزعمت أن كلام الله مخلوق حل في شجرة وكانت الشجرة حاوية له فلزمهم أن تكون الشجرة بذلك الكلام متكلمة، ووجب عليهم أن مخلوقاً من المخلوقين كلم موسى، وأن الشجرة قالت:{إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} 3.
وقال البغدادي وهو يذكر بعض الأمور التي اتفقت عليها الجهمية فقال: "وقال: أي ـ جهم ـ بحدوث كلام الله ـ تعالى ـ كما قالت القدرية ولم يسم الله ـ تعالى ـ متكلماً به" أ. هـ4.
وقال البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ: "وقال بعض أهل العلم: إن الجهمية هم المشبهة لأنهم شبهوا ربهم بالصنم والأصم، والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يخلق، وقالت الجهمية: هو كذلك لا يتكلم ولا يبصر نفسه"5.
1- مختصر الصواعق المرسلة 2/288.
2-
الملل والنحل 21/89، أصول الدين للبزدوي ص53، مختصر الصواعق 2/288.
3-
الإبانة ص20، والآية رقم: 14 من سورة "طه".
4-
الفرق بين الفرق ص212.
5-
خلق أفعال العباد ص15.
ولقد ذكر ابن قتيبة ـ رحمه الله تعالى ـ: مذهب الجهمية في صفة الكلام فقال: "وقالوا: في كلام الله إنه مخلوق"1.
وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي "باب الاحتجاج للقرآن" أنه غير مخلوق ثم ذكر حشداً كبيراً من الأدلة على عدم خلق القرآن ثم قال: "ففي هذا بيان بين أن القرآن خرج من الخالق لا من المخلوقين، وأنه كلام الخالق لا كلام المخلوقين" أ. هـ2.
فهذا هو مذهب الجهمية الزنادقة في كلام الله ـ تعالى ـ حيث يزعمون أن القرآن كلام الله على سبيل المجاز وهو مخلوق، وقولهم هذا ظاهر البطلان لمخالفته الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
مذهب المعتزلة:
أما المعتزلة أفراخ الجهمية فقد قالوا: "إن كلام الله ـ تعالى ـ مخلوق، خلقه الله منفصلاً عنه، وهو حرف وصوت وأن موسى سمع كلاماً أحدثه الله في الشجرة، ولم يسمع كلام الله حقيقة"3.
قال عبد الجبار بن أحمد مبيناً مذهبه ومذهب إخوانه من أهل الاعتزال في القرآن:
"وأما مذهبنا في ذلك فهو أن القرآن كلام الله ـ تعالى ـ ووحيه، وهو مخلوق محدث أنزله الله على نبيه ليكون علماً ودالاً على نبوته، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام" أ. هـ4.
وقال في كتابه "المغني"" اختلف الناس في ذلك "الكلام" والذي يذهب إليه شيوخنا أن كلام الله عز وجل من جنس الكلام المعقول في الشاهد، وهو حروف منظومة، وأصوات مقطعة، وهو عرض يخلقه الله ـ سبحانه ـ في الأجسام علو وجه يسمع ويفهم معناه ويؤدي الملك ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام بحسب ما يأمر به عز وجل ويعلمه صلاحاً ويشتمل على الأمر والنهي وسائر الأقسام ككلام العباد".
1- الاختلاف في اللفظ ص233 ضمن عقائد السلف.
2-
الرد على الجهمية ص98 ـ 99.
3-
انظر المقالات لأبي الحسن الأشعري 1/627، وما بعدها، وأصول الدين البزدوي ص53، الملل والنحل 1/45.
4-
شرح الأصول الخمسة ص528.
وقال أيضاَ: "ولا خلاف بين أهل العدل في أن القرآن مخلوق محدث مفعول لم يكن، ثم كان وأنه غير الله عز وجل وأنه أحدثه بحسب مصالح العباد، وهو قادر على أمثاله وأنه يوصف بأنه مخبر به، وقائل، وآمر، وناه من حيث فعله وكلهم أنه عز وجل متكلم به" أ. هـ1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً وجه تقارب مذهب المعتزلة والجهمية ووجه افتراقهما: "فمذهبهم ـ أي المعتزلة ـ ومذهب الجهمية في المعنى سواء، لكن هؤلاء يقولون: هو متكلم حقيقة وأولئك ينفون أن يكون متكلما حقيقة، وحقيقة قول الطائفتين أنه غير متكلم، فإنه لا يعقل متكلم إلا من قام به الكلام ولا مريد إلا من قامت به الإرادة، ولكن معنى كونه ـ سبحانه ـ متكلماً عندهم، أنه خلق الكلام في غيره" أ. هـ2.
والقرآن والسنة يقرران بطلان مذهب المعتزلة من أساسه قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3.
ووجه الدلالة من الآية: أن الله ـ تعالى ـ خلق كل شيء بقوله "كن" ولو كانت "كن" مخلوقة لأدى ذلك إلى أن مخلوقاً خلق مخلوقاً آخر وهذا من القول المستحيل الذي لا يقول به أحد قط.
وجه الدلالة من هذه الآية: أن الله فرَّق بين خلقه وأمره فالمراد بالخلق في الآية هو المخلوقات، والمراد بالأمر في الآية القرآن فالآية دلت على إبطال قول المعتزلة بأن القرآن مخلوق إذ الأمر ما يكون به الخلق.
1- 7/3، وانظر الفرق بين الفرق ص114.
2-
مجموع الفتاوى 12/311-312.
3-
سورة يس، آية:82.
4-
سورة الأعراف، آية:54.
ووجه الدلالة من الآية:
أن الله ـ تعالى ـ بين أن القول منه وما كان منه فليس مخلوقاً.
وروى اللالكائي بإسناده إلى وكيع بن الجراح أنه قال: "من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئاً من الله مخلوق فقيل له: يا أبا سفيان من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} ولا يكون من الله شيء مخلوق"2.
وجه الدلالة من هذه الآية:
أن المخلوقات كلها نافدة وفانية، أما كلمات الله ـ تعالى ـ فلا تنفد ولا تفنى ولذلك يقول الباري ـ سبحانه ـ عندما تفنى الخلائق كلها لمن الملك اليوم؟ فيجيب {لله الْوَاحِدِ الْقَهَّار} 4.
وروى ابن جرير الطبري بإسناده إلى الحسن البصري في الآية: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ} قال: لو جعل شجر الأرض أقلاماً، وجعل البحور مداداً وقال: إن من أمري كذا ومن أمري كذا لنفد ماء البحور وتكسرت الأقلام"5.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك فأين ملوك الأرض
…
" 6 الحديث.
1- سورة السجدة، آية:13.
2-
شرح أصول السنة لللالكائي 2/219.
3-
سورة لقمان، آية:27.
4-
سورة غافر، آية:16.
5-
تفسير ابن جرير 21/81.
6-
متفق عليه من حديث أبي هريرة. صحيح البخاري مع الفتح 11/373، صحيح مسلم 4/2148.
فهذا الحديث والآيات قبله فيها الرد الواضح الصريح على المعتزلة القائلين بأن كلام الله مخلوق لأن كلام الله صفة من صفاته، وصفاته كذاته ليس شيء من ذلك مخلوق والذي حمل المعتزلة على القول بأن القرآن مخلوق منفصل عن الله ـ تعالى ـ خلقه في غيره.
قالوا: "إنما قلنا ذلك لأنا إنما استدللنا على حدوث العالم بحدوث الأجسام، وإنما استدللنا على حدوثها بقيام الحوادث بها وأن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فلو قلنا إنه تقوم به الصفات والكلام لزم قيام الحوادث به لأن هذه الأعراض حادثة".
وهذا الكلام المحدث المبتدع جعلوه أصلاً لهم في نفي صفات الله ـ تعالى ـ وظنوا أنهم ينصرون به الإسلام، ويضرون به أعداءه، ولكن لا الإسلام نصروا ولا أعداءه كسروا وإنما النتيجة التي حصلت لهم من وراء هذا الأصل الباطل أن سلطوا على أنفسهم علماء الشرع والعقل، فعلماء الشرع قالوا لهم: إنكم خالفتم بقولكم هذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلماء الفلسفة قالوا لهم: إنكم خالفتم بقولكم هذا المعقول رغم أن المعتزلة أعرف من الفلاسفة بعلوم الدين وأولئك أجهل منهم بالشرع والعقل في الإلهيات، ففتحوا على أنفسهم مدخلاً دخلوا عليهم منه، ونقموا عليهم بسبب مخالفتهم للعقل1.
وأما استدلال المعتزلة على خلق القرآن بقوله تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2.
ويقولون: "إن القرآن داخل في عموم "كل" لأنه شيء فيكون مخلوقاً فهذا مما يعجب له العقلاء، إذ أنهم يزعمون أن أفعال العباد غير مخلوقة لله ـ جل وعلا ـ وإنما يخلقها العباد جميعها لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم "كل"، وأدخلوا كلام الله في عمومها مع أنه صفة من صفات الله ـ تعالى ـ به تكون الأشياء المخلوقة إذ المخلوقات تكون بأمره ـ سبحانه ـ كما تقدم ذلك، ومن قال: بأن صفات الله ـ تعالى ـ مخلوقة كالعلم والقدرة وغيرهما فهذا من الكفر الصريح لأن علمه ـ تعالى ـ شيء وحياته شيء وقدرته شيء،
1- منهاج السنة 2/80 بتصرف يسير.
2-
سورة الرعد، آية:16.
فيدخل في العموم الذي تتضمنه "كل" فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن ـ تعالى الله ـ عما يقولون علواً كبيراً"1.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "احتج المعتزلة على مخلوقية القرآن بقوله ـ تعالى ـ {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} " ونحو ذلك من الآيات، فأجاب الأكثرون بأنه عام مخصوص، يخص محل النزاع كسائر الصفات من العلم ونحوه.
قال ابن عقيل2 في الإرشاد: ووقع لي أن القرآن لا يتناوله هذا الإخبار ولا يصلح لتناوله قال: لأن به حصل عقد الإعلام بكونه خالقاً لكل شيء وما حصل به عقد الإعلام والإخبار لم يكن داخلاً تحت الخبر قال: ولو أن شخصاً قال: لا أتكلم اليوم كلاماً إلا كان كذباً لم يدخل إخباره بذلك تحت ما أخبر به قلت: ثم تدبرت هذا فوجدته مذكوراً في قوله تعالى في قصة مريم {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} 3.
وإنما أمرت بذلك لئلا تسأل عن ولدها فقولها "فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً" به حصل إخبار بأنها لا تكلم الإنس، ولم يكن ما أخبرت به داخلاً تحت الخبر وإلا كان قولها هذا مخالفاً لنذرها" أ. هـ4.
"فقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} التي استدل بها المعتزلة على خلق القرآن آية عامة في جميع الخلق لا يخرج عنها شيء من هذا الوجود أعيانه وأفعاله، وحركاته وسكناته، ولا يخصص بذات الله ـ تعالى ـ وصفاته إذ الباري ـ سبحانه ـ خالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له ـ تعالى ـ ونفس اللفظ في الآية قد فرّق بين الخالق ـ سبحانه ـ وبين المخلوق، وصفاته ـ تعالى ـ داخلة في مسمى اسمه ـ تعالى ـ فإن لفظ الجلالة "الله" اسم للإله
1- انظر شفاء العليل ص53، شرح الطحاوية ص183.
2-
علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغداد الظفري، أبو الوفاء، ويعرف بابن عقيل. عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته. كان قوي الحجة ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وتوفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 4/35، ميزان الإعتدال 3/146 جلاء العينين ص160.
3-
سورة مريم، آية:26.
4-
بدائع الفوائد 4/218.
ـ تعالى ـ الموصوف بكل صفة كمال المنزه عن كل صفة عيب ونقص ومثال، والخلق قسمان: أعيان وأفعال وهو ـ سبحانه ـ الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال"1.
ويقال للمعتزلة أيضاً: إن عموم "كل" في كل مقام بحسبه ويتبين ذلك بالقرائن، وبرهان ذلك قوله ـ تعالى ـ {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ} 2 ومساكن قوم عاد شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح وذلك لأن المراد تدمر كل شيء قابل للتدمير بواسطة الريح.
وقال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 3 والمراد من كل شيء تحتاجه الملوك، ومثل هذا يفهم من قرائن الكلام، فمراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها ولهذا نظائر كثيرة والمراد من قوله تعالى:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي كل شيء مخلوق وكل موجود سوى ـ الباري ـ فهو مخلوق فيدخل في هذا العموم أفعال العباد قطعاً ولم يدخل في هذا العموم الخالق ـ تعالى ـ وصفاته ـ تعالى ـ ليست غيره لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ـ تعالى ـ ملازمة لذاته المقدسة، ولا يتصور انفصال صفاته ـ تعالى ـ عنه بحال"4.
كما يقال لهم أيضاً: كيف يصح أن يتكلم الله بكلام قائم بغيره ولو جاز ذلك للزم أن يكون كل كلام أحدثه في الجمادات كلامه! وكذلك الكلام الذي خلقه في الحيوانات يكون كلامه، ولا يكون هناك فرق بين نطق وأنطق، وإنما قالت الجلود {أَنْطَقَنَا اللهُ} 5 ولم تقل: نطق الله بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره زوراً، أو كذباً، أو كفراً، أو هذياناً ـ تعالى الله ـ عما يقوله المعتزلة والجهمية علواً كبيراً، وهذا ما قاله الاتحادية فقد قال ابن عربي:
وكل كلام في الوجود كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه
1- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر ص53 بتصرف يسير.
2-
سورة الأحقاف، آية:25.
3-
سورة النمل، آية:23.
4-
شرح الطحاوية ص185، وما بعدها.
5-
سورة فصلت، آية:21.
ولو صح هذا لكان قول فرعون {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} 1 من كلام الله كما أن الكلام المخلوق في الشجرة على زعمهم كلام الله وهذا من باطل القول وزوره إذ الرسل عليهم الصلاة والسلام أخبروا الناس وأفهموهم أن الله نفسه هو الذي تكلم والكلام قائم به لا بغيره ولذلك عاب الله على من يعبد إلهاً لا يتكلم قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} 2، ولا يحمد شيء بأنه متكلم ويذم بأنه غير متكلم إلا إذا كان الكلام قائمان به" أ. هـ3.
وأما استدلالهم ـ المعتزلة ـ بقوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 4 على خلق القرآن فهو استدلال ظاهر الفساد فإن الفعل "جعل" إذا كان بمعنى "خلق" فإنه يتعدى إلى مفعول واحد كقوله ـ سبحانه ـ {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 5 وإذا كان يتعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى خلق قال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} 6.
ومثل هذا قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 7.
وللمعتزلة أدلة أخرى غير هذه الأدلة ولكن بحمد الله ـ تعالى ـ لقد بين علماء السلف عدم وجهة استدلالهم بها وأن تعلقهم بها لا يساعد على دعواهم في القول بخلق القرآن.
مذهب الكلابية:
لقد ذهب عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه إلى أن القرآن عبارة عن حكاية معنى قائم بنفسه لا يتعلق بقدرته ـ تعالى ـ ومشيئته وأنه لازم لذاته ـ جل وعلا ـ كلزوم الحياة
1- سورة النازعات، آية:24.
2-
سورة الأعراف، آية:148.
3-
منهاج السنة 1/222ـ223، شرح الطحاوية ص184.
4-
سورة الزخرف، آية:3.
5-
سورة الأنعام، آية:1.
6-
سورة النحل، آية:91.
7-
شرح الطحاوية ص186، وانظر الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة ص234ـ235 ضمن مجموعة عقائد السلف.
والقدرة والعلم وأنه لا يسمع على الحقيقة، وليس له حرف ولا صوت، وهو أربعة معاني في نفسه الأمر، والنهي، والخبر والاستخبار، فهي أنواع لذلك المعنى القديم الذي لا يسمع وذلك المعنى هو المتلو المقرؤ، وهو غير مخلوق والأصوات والحروف هي تلاوة العباد وهي مخلوقة، وأن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم بمشيئته وقدرته وأنه ليس فيما يقوم به شيء يكون بمشيئته وقدرته لامتناع قيام الأمور الاختيارية به عندهم لأنها حادثة، والله لا يقوم به حادث عندهم وقالوا: إذا لو قلنا أنه بقدرته ومشيئته لزم أن يكون حادثاً فيلزم أن يكون مخلوقاً، أو قائماً بذات ـ الرب ـ فيلزم قيام الحوادث به وذلك يستلزم تسلسل الحوادث، لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وتسلسل الحوادث ممتنع، إذ التفريع على هذا الأصل1.
فمذهب الكلابية أن القرآن العربي ليس عندهم كلام الله وإنما كلامه المعنى الذي قام بذاته، والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى، ثم إما أن يكون خلق في بعض الأجسام الهواء أو غيره، أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي، أو ألهمه ـ محمداً ـ فعبر عنه بالقرآن العربي وكما هو معلوم مذهب ظاهر البطلان.
مذهب الأشاعرة:
أما مذهب الأشاعرة فقد قالوا: الكلام عبارة عن معنى واحد قائم بنفسه وهو صفة أزلية قديمة، ليس بصوت ولا حرف، وهو عين الأمر، وعين النهي، وعين الخبر، وعين الاستخبار، الكل من أمر واحد ليس له أنواع ولا أجزاء فإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً وإن عبر عنه بالعربية فهو القرآن.
وقالوا: تسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً، وأن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله حقيقة بل سمع ما يدل عليه2.
قال البغدادي: "كلام الله عندنا أمر ونهي وخبر ووعد ومن فوائد وجوهه العموم،
1- مقالات الإسلاميين 2/257، وما بعدها، مجموع الفتاوى 12/121، 94، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل 3/378، ومنهاج السنة النبوية 1/221، مختصر الصواعق المرسلة 2/290ـ291، وانظر لوامع الأنوار البهية 1/164، وانظر شرح الأصول الخمسة ص527.
2-
انظر تحفة المريد على جوهرة التوحيد ص71، شرح العقائد النسفية ص94، شرح الفقه الأكبر ص40ـ41.
والخصوص، والمجمل، والمفسر، وفي أحكام ناسخ ومنسوخ، ولا ينسخ كلامه، لأنه لا يجوز عدمه ورفعه وقراءة كلامه بالعربية قرآن، وقراءته بالعبرانية توراة وبالسريانية إنجيل والقراءة غير المقروء لأن المقروء كلام الله وليست القراءة كلامه"1.
فالقرآن عند الأشاعرة كلام نفسي لأن الكلام ينقسم إلى قسمين:
كلام نفسي وهو كلام الله فذلك قديم، وكلام لفظي وهو حادث مخلوق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ـ في رده على مذهبهم هذا: فالكلام القديم النفساني الذي أثبتموه لم تثبتوا ما هو؟. بل ولا تصورتموه وإثبات الشيء فرع عن تصوره فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته ولهذا كان أبو سعيد بن كلاب رأس هذه الطائفة وإمامها في هذه المسألة لا يذكر في بيانها شيئاً يعقل بل يقول: هو معنى يناقض السكوت والخرس
…
" أ. هـ2.
وقال أيضاً ـ رحمه الله تعالى ـ:
"وأما قول الأشاعرة أن الكلام عبارة عن معنى واحد فهو باطل لأنه يقال لهم: "هل سمع موسى عليه السلام جميع المعنى، أو بعضه فإن قالوا: سمعه كله فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله، وفساد هذا ظاهر.
وإن قال: بعضه فقد قال: يتبعض وكذلك كل من كلمه الله، أو أنزل إليه شيئاً من كلامه، ولما قال الله تعالى للملائكة:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} 3. أو قال لهم: {اسْجُدُوا لآدَمَ} وأمثال ذلك فهل هذا جميع كلامه، أو بعضه؟ فإن قال: إنه جميعه فهذا مكابرة وإن قال: بعضه فقد اعترف بتعدده وكذلك أن معنى آية الكرسي ليس معنى {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} 4 ولا معنى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 5، ولا معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 6
1- أصول الدين ص107 ـ 108.
2-
مجموع الفتاوى 6/295-296.
3-
سورة البقرة، آية:30.
4-
سورة الصمد، آية:1.
5-
سورة الإسراء، آية:32.
6-
مجموع الرسائل والمسائل 3/154. ط. دار الكتب العلمية، وانظر شرح الطحاوية ص197.
وبهذا المذهب الأشعري قال الماتريدية في صفة الكلام1.
ثم إن مذهب الأشاعرة والماتريدية في صفة الكلام بعيد كل البعد عن مذهب السلف وقريب كل القرب من مذهب الجهمية والمعتزلة كما صرح الإيجي بذلك حيث قال: "قالت المعتزلة أصوات، وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل، أو النبي، وهو حادث، وهذا لا ننكره، لكنا نثبت أمراً وراء ذلك وهو المعنى القائم بالنفس"2 فلقد صدق العلماء في تسميتهم أفراخ المعتزلة".
مذهب الكرامية:
أما الكرامية فقد قالوا: إن كلام ـ الباري سبحانه ـ حروف وأصوات وأنه متعلق بالمشيئة والقدرة قائم بذات ـ الرب تعالى ـ تكلم به بعد أن لم يكن متكلماً وأنه لا مانع أن توجد الحوادث للصانع ـ جل وعلا ـ بعد أن تكلم، فوجود الكلام عندهم في الأزل ممتنع كوجود الأفعال، وكذلك إن الكلام ممتنع أن يكون مخلوقاً في غيره والله ـ تعالى ـ متكلم بمشيئته وقدرته فيكون كلامه حادثاً كان بعد أن لم يكن"3.
وذكر البزدوي مذهب الكرامية فقال: "وعند الكرامية الله ـ تعالى ـ متكلم على الحقيقة بكلام حادث قائم به، وأنهم يجوزون حدوث الأشياء بالله ـ تعالى ـ"4.
وقول هؤلاء الكرامية مشتمل على حق وباطل فإثباتهم كلاماً وفعلاً حقيقة قائمين بذات المتكلم الفاعل هذا حق، وأما زعمهم أن ـ الباري جل وعلا ـ تكلم بعد أن لم يكن متكلماً فهذا عين الباطل، لأن الكلام من صفات الكمال، وهو ـ سبحانه ـ متصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً.
1- انظر التوحيد للماتريدي ص58 ـ 59، أصول الدين للبزدوي ص55، شرح العقائد النسفية ص89.
2-
المواقف ص294.
3-
مجموع الرسائل والمسائل 3/455، منهاج السنة النبوية 1/221، لوامع الأنوار البهية 1/137، شرح الطحاوية ص180، أصول الدين للبزدوي ص56.
4-
أصول الدين ص56.
مذهب السالمية:
أما السالمية فقد قالوا: إن صفة الكلام من الصفات القديمة القائمة بذات ـ الرب جل وعلا ـ لم يزل ولا يزال، لا يتعلق بقدرته ومشيئته، ومع ذلك يقولون: بأنه حروف وأصوات وسور وآيات، سمعه جبريل منه، وسمعه موسى بلا واسطة ويسمعه ـ سبحانه ـ من يشاء، وإسماعه نوعان بواسطة، وبغير واسطة ومع ذلك فحروفه وكلماته لا يسبق بعضها بعضاً بل هي مقترنة الباء مع السين مع الميم في آن واحد لم تكن معدومة، في وقت من الأوقات، ولا تعدم بل لم تزل قائمة بذاته ـ سبحانه ـ قيام صفة الحياة والسمع والبصر1.
ثم إنهم اختلفوا في الأصوات المسموعة هل هي من القارئ أم لا؟.
فذهب جمهورهم إلى أن تلك الأصوات المسموعة من القارئين.
وقال قوم: بأن الصوت يسمع من القارئ ثم قد يقولون تارة أن القديم نفس الصوت المسموع من القارئ.
وبعضهم يقولون: "إنه يسمع من القارئ صوت قديم، ومحدث" أ. هـ2.
مذهب الاتحادية والحلولية:
أما الاتحادية والحلولية فقد زعموا: بأن كل كلام في الوجود كلام الله نظمه، ونثره، حقه وباطله، سحره وكفره، خيره، وشره، فكل ذلك عين كلام الله ـ تعالى ـ القائم به، وهذا المذهب بنوه على أصلهم الذي أصلوه وهو اتحاد الخالق بالخلق وأن الله ـ سبحانه ـ هو عين الوجود، فصفاته هي صفات الله، وكلامه هو كلام الله، وأصل هذا المذهب، إنكار مباينة الله لخلقه وعلوه واستوائه على عرشه، ولما أصلوا لأنفسهم القول بأن الله في كل مكان وأنه ـ سبحانه ـ غير مباين لهذا العالم بل هو عين هذا العالم فله حينئذٍ كل اسم حسن وقبيح وكل صفة كمال ونقص، وكل كلام حق وباطل نعوذ بالله من ذلك.
1- مجموعة الرسائل والمسائل 3/33، مختصر الصواعق المرسلة 2/293، مجموع الفتاوى 12/166.
2-
مجموع الفتاوى 12/166 ـ 167.
وهذا قول ابن عربي، وابن الغارضي وابن سبعين والتلمساني ومن جرى في ركابهم1.
تلك هي أقوال الناس ومذاهبهم في صفة الكلام، وهي الأقوال التي قيلت في القرآن الكريم، ومما لا شك فيه أن القول الذي يجب على المسلم أن يدين الله به هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاماً لغيره، ولكن أنزله على رسوله
…
وأنه ـ تعالى ـ يتكلم بصوت كما وردت بذلك الأحاديث الصحاح وليس ذلك كأصوات العباد لا صوت القارئ، ولا وغيره وأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله فكما لا يشبه علمه وقدرته، وحياته، علم المخلوق وقدرته، وحياته فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق، ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه ولا صوت ـ الرب ـ يشبه صوت العبد"2.
فهذا المذهب هو المذهب الحق لموافقته الوحي الإلهي الذي هو الفيصل الحاسم عند التنازع والاختلاف.
1- مجموع الفتاوى 12/174، منهاج السنة 2/221، مختصر الصواعق المرسلة 2/286ـ288، شرح الطحاوية ص184.
2-
مجموع الفتاوى 12/243ـ244.