المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: مراتب القدر - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

‌المبحث الثالث: مراتب القدر

المبحث الرابع: مراتب القدر

لقد دلت سورة "الزمر" على مراتب القدر الأربع التي من لم يؤمن بها لم يتحقق له الإيمان بالقضاء والقدر، وتلك المراتب هي: علم ـ الرب سبحانه ـ بالأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل كونها، ومشيئته لها، وخلقه ـ سبحانه ـ الأعمال وتكوينه وإيجاده لها، كما تحدثت عن الهداية والضلال اللذين هما لب القدر وسنبين تلك المراتب كلاً منها على حدة، كما سنتحدث عن بيان الهداية والضلال وبذلك نختم الكلام على القدر.

1 ـ مرتبة العلم:

لقد دلت سورة "الزمر" على إثبات علم الرب ـ سبحانه ـ بالأشياء قبل كونها وأنه علم ما الخلق عاملون به بعلمه القديم الموصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال كل ذلك سبق به علم الله ـ جل وعلا ـ قال تعالى:{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} .

وقال تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} .

وقال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} .

وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .

هذه الآيات الأربع من السورة دلت على أن الله ـ تعالى ـ عالم بما يعمله العباد بعلمه القديم الذي اتصف به أزلاً وأبداً فلا يخفى عليه من أعمالهم شيء، وأنه قد علم منهم الشقي والسعيد، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو من أهل النار،

ص: 504

فالآيتان الأوليان من هذه الآيات الأربع قد تقدم الكلام عليهما عند الحديث على إثبات صفة العلم بما أغنى عن إعادته هنا.

وأما الآية الثالثة فهي قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} .

فقد قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى حول هذه الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من سبق في علم الله أنه من أهل النار. وقيل: كلمة العذاب قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} 1 وقيل: كلمة العذاب قوله: "هؤلاء في النار ولا أبالي"2. {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} أي لا تقدر عليه قال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده" اهـ3.

وقال ابن جرير رحمه الله تعالى ـ: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أفأنت تنقذ يا محمد من هو في النار من حق عليه كلمة العذاب، فأنت تنقذه فاستغنى بقوله {تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} عن هذا

إلى أن قال: وإنما معنى الكلمة أفأنت تهدي يا محمد من قد سبق له في علم الله أنه من أهل النار إلى الإيمان فتنقذه من النار بالإيمان لست على ذلك بقادر اهـ4.

وقال العلامة ابن كثير: " {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} يقول تعالى: أفمن كتب الله عليه أنه شقي تقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي لا يهديه أحد من بعد الله لأنه من يضلل الله فلا هادي له ومن يهده فلا مضل له" اهـ5.

وأما الآية الرابعة: وهي قوله ـ تعالى ـ: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .

فقد أوضحت أن كلمة العذاب وجبت على الكافرين، وكلمة العذاب هي

1- سورة هود آية: 119.

2-

رواه أحمد في مسنده من حديث معاذ رضي الله عنه 5/239.

3-

تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 6/59 ـ 60.

4-

جامع البيان 23/207 ـ 208.

5-

تفسير ابن كثير 6/85.

ص: 505

قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 1 فقد وجبت كلمته ـ تعالى ـ أن عذابه لأهل الكفر به بسبب كفرهم وعدم قبولهم هدى الله الذي جاءهم عن طريق الرسل، قال قتادة:{وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} بأعمالهم2 وقال ابن كثير حول الآية: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق من الشقوة التي كنا نستحقها حيث عدلنا عن الحق إلى الباطل" اهـ3.

وقال العلامة ابن القيم: "وكلمته ـ سبحانه ـ إنما حقت عليهم بالعذاب بسبب كفرهم فحقت عليهم حجته، وكلمة عدله بعقوبته".

وحاصل هذا كله: أن الله ـ سبحانه ـ أمر العباد أن يكونوا مع مراده الديني منهم لا مع مراد أنفسهم فأهل طاعته آثروا الله ومراده على مرادهم فاستحقوا كرامته وأهل معصيته آثروا مرادهم على مراده.

وعلم ـ سبحانه ـ منهم أنهم لا يؤثرون مراده ألبتة، وإنما يؤثرون أهواءهم ومرادهم فأمرهم، ونهاهم فظهر بأمره ونهيه من القدر الذي عليهم من إيثارهم هوى أنفسهم، ومرادهم على مرضاة ربهم ومراده، فقامت عليهم بالمعصية حجة عدله فعاقبهم بظلمهم" اهـ4.

فالآيات الأربع السابقة من السورة دلت دلالة واضحة على المرتبة الأولى من مراتب القدر وهي مرتبة العلم، فيجب على الإنسان أن يؤمن بأن الله تعالى علم الأشياء كلها قبل كونها، وهذه المرتبة إتفق عليها الصحابة ومن تبعهم من الأمة، وخالفهم مجوس الأمة، وكتابته ـ تعالى ـ السابقة تدل على علمه بها قبل كونها5.

وقد كفر السلف من الصحابة ومن بعدهم من أنكر علم الله وتقدم قول ابن عمر

1- سورة هود آية: 119.

2-

جامع البيان 24/34.

3-

تفسير ابن كثير 6/112.

4-

مدارج السالكين 1/219.

5-

شفاء العليل ص29 بتصرف.

ص: 506

رضي الله عنهما، والذي يحلف به عبد الله بن عمر "لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره"1.

قال النووي: "هذا الذي قاله ابن عمر رضي الله عنهما ظاهر في تكفيره القدرية. قال القاضي عياض رحمه الله: هذا في القدرية الأول الذين نفوا تقدم علم الله بالكائنات قال: والقائل بهذا: كافر بلا خلاف، وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة" اهـ2.

فالله تعالى علم أرزاق عباده وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، وشقاوتهم وسعادتهم، من قبل أن يخلقهم وهذا هو مقتضى اسمه العليم الخبير عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، كما قال عز وجل {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} 3. وقوله ـ تعالى ـ:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 4 وقوله ـ عز شأنه ـ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} 5 وقال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 6.

والآيات في إثبات علم الله ـ تعالى ـ كثيرة جداً، وأما الأحاديث فمنها ما رواه البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"7.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتج البهيمة هل تجدون فيها من جدعاء

1- صحيح مسلم 1/37.

2-

شرح النووي على صحيح مسلم 1/156.

3-

سورة الحشر آية:22.

4-

سورة الطلاق آية:12.

5-

سورة النجم آية:30.

6-

سورة النجم آية:32.

7-

صحيح البخاري مع الفتح 11/493.

ص: 507

حتى تكونوا أنتم تجدعونها". قالوا: يا رسول الله فرأيت من يموت وهو صغير قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"1.

قال نووي: "وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" بيان لمذهب أهل الحق، أن الله علم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون" اهـ2.

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: "نعم" قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: "كل يعمل لما خلق له، أو لما ييسر له"3.

وروى مسلم في صحيحه من حديث علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: "ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة" قال؛ فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: "من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عما أهل الشقاوة، فقال: اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} "4.

وعند البخاري "فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: لا. إعملوا فكل ميسر ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} الآية"5.

فهذه الأحاديث فيها النهي عن ترك العمل والتوكل على القدر السابق بل يجب على الإنسان أن يعمل ويأخذ بالأسباب ويحرص على ما ينفعه.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى ـ: "فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن

1- صحيح مسلم بشرح النووي 16/211.

2-

شرح النووي على صحيح مسلم 16/211.

3-

رواه البخاري انظر الفتح 11/491.

4-

انظر صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 197.

5-

انظر فتح الباري 11/494.

ص: 508

القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الإتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال: ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن، وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم، وصحة علومهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه ومكن منه وهيئ له فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل وزمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه

فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهاداً في فعلها من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه وقد فقه هذا كل الفقه من قال: ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن

فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ومقتض لها لا أنه مناف لها وصاد عنها وهذا موضع مزلة قدم من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم، ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سببا السعادة:

1ـ الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد.

2ـ والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجزه عن شره وذلك نظام الشرع فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر" اهـ1.

والآيات والأحاديث الدالة على إتيان القدر واتصاف الله ـ تعالى ـ بصفة العلم أزلاً وأبداً كثيرة جداً.

2ـ مرتبة الكتابة:

لقد دلت آيات الكتاب، وأحاديث السنة على أن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، الإيمان بأن كل كائن إلى يوم القيامة قد كتبه الله تعالى في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ وقد جاء في سورة "الزمر" في شأن هذه المرتبة قوله تعالى:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} وقوله {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .

قال ابن كثير: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} "أفمن كتب

1- شفاء العليل ص25 ـ 26.

ص: 509

الله عليه شقي تقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي لا يهديه أحد من بعد الله لأنه من يضلل الله فلا هادي له ومن يهده فلا مضل له" اهـ1.

والآيات التي دلت على مرتبة الكتابة كثيرة جداً.

قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} 2.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى ـ "فالزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء لا تختص بزبور داود والذكر أم الكتاب الذي عند الله والأرض الدنيا وعباده الصالحون أمة محمد صلى الله عليه وسلم هذا أصح الأقوال في هذه الآية وهي علم من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أخبر بذلك بمكة وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم وشتتوهم في أطراف الأرض فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى أنه كتب في الذكر الأول إنهم يرثون الأرض من الكفار ثم كتب ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله والكتاب قد أطلق عليه الذكر في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء"3 فهذا هو الذكر الذي كتب أن الدنيا تصير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم"اهـ4.

وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 5.

فهذه الآية جمع الله فيها بين الكتابين الكتاب السابق لأعمال العباد قبل أن يوجدوا، والكتاب المقارن لأعمالهم، فأخبر ـ تعالى ـ أنه يحييهم بعد موتهم للبعث، ويجازيهم على أعمالهم، ونبههم بكتابته لها على ذلك والمقصود من الآية قوله {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب وهو الذكر الذي كتب الله فيه كل شيء

1- تفسير القرآن العظيم 6/85.

2-

سورة الأنبياء آية:105 ـ 106.

3-

فتح الباري 13/403.

4-

شفاء العليل ص39.

5-

سورة يس آية:12.

ص: 510

بما في ذلك أعمال العباد قبل أن يعملوها، وإحصاؤه ـ تعالى ـ لها يتضمن علمه بها وحفظه لها وإحاطته بعددها وإثباتها في اللوح المحفوظ1.

وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2.

وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 3.

وقال تعالى عن موسى حين قال له فرعون: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4.

وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} 5.

قال ابن كثير: يخبر ـ تعالى ـ عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} أي في الآفاق وفي نفوسكم {إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة.

وقال بعضهم: من قبل أن نبرأها عائد على النفوس.

وقيل: عائد على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها اهـ6.

قال ابن جرير حول هذه الآية حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت جالساً مع الحسن فقال رجل سله عن قوله ـ تعالى ـ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ

} الآية فسألته عنها فقال: ـ سبحان الله ـ ومن يشك في هذا؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة.

1- شفاء العليل ص40.

2-

سورة هود آية:6.

3-

سورة الأنعام آية:38.

4-

سورة طه آية:51، 52.

5-

سورة الحديد آية:22.

6-

تفسير ابن كثير 6/564.

ص: 511

وقال قتادة {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} قال: هي السنون يعني الجدب {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} يقول: الأوجاع والأمراض.

قال: "وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ولا خلجان عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر" اهـ1.

قال ابن كثير: وهذه الآية الكريمة العظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة ـ العلم السابق ـ قبحهم الله اهـ2.

وأما قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} 3 فهو إخبار منه ـ تعالى ـ بأن علمه بكل الأشياء قبل أن تكون وكتابته لها على وفق وجودها في حينها سهل عليه ـ جل وعلا ـ لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.

وقد دلت السنة على مرتبة الكتابة في أحاديث كثيرة.

روى مسلم صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وعرشه على الماء"4.

وروى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين قال: إني عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم" قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال:"اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قبلنا جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذه الأمر ما كان؟ قال: كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء" ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها، وأيم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم5.

1- جامع البيان 27/434.

2-

تفسير القرآن العظيم 6/565.

3-

سورة الحديد آية: 22.

4-

صحيح مسلم 4/2044.

5-

فتح الباري 13/403.

ص: 512

فهذا الحديث دل على أن ـ الباري سبحانه ـ قد كتب ما يقوله وما يفعله وما يكون بقوله وفعله وكتب مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها1 كما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي"2.

وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال رب وما أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"، يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من مات على غير هذا فليس مني"3 وفي لفظ لأحمد: "يا بني إن مت على غير هذا دخلت النار"4.

وقال أبو هريرة رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "جف القلم بما أنت لاق"5.

قال الحافظ ابن حجر: "جف القلم" أي فرغت الكتابة إشارة أن الذي كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة لأن الصحيفة حال كتابتها تكون رطبة أو بعضها وكذلك القلم فإذا انتهت الكتابة جفت الكتابة والقلم" اهـ6.

ومن الأحاديث التي دلت على مرتبة الكتابة حديث علي المتقدم "ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة أو النار"7.

ومما تقدم يتبين أن مرتبة الكتابة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة قال ابن القيم: وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب وقد دل القرآن على أن الرب ـ تعالى ـ كتب في أم الكتاب ما يفعله

1- شفاء العليل ص43.

2-

فتح الباري 13/404، صحيح مسلم 4/2107.

3-

رواه أبو داود في سننه 2/528.

4-

المسند 5/183 من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

5-

صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/491.

6-

المصدر السابق.

7-

صحيح مسلم بشرح النووي 16/197.

ص: 513

وما يقوله فكتب في اللوح أفعاله وكلامه، فتبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب" اهـ1.

3ـ مرتبة المشيئة:

لقد دلت سورة "الزمر" على إثبات مرتبة المشيئة في ثلاث آيات من آياتها. قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ

} .

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} .

وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَاّ مَنْ شَاءَ اللهُ

} .

هذه الآيات الثلاث من السورة بين الله تعالى فيها أن له مشيئة مطلقة لا يخرج عنها شيء في هذا الوجود.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً مرتبة المشيئة "وهي الإيمان بأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما في السموات وما في الأرض من حركة، ولا سكون إلا بمشيئة الله ـ سبحانه ـ ولا يكون في ملكه إلا ما يريد" اهـ2.

وقال العلامة ابن القيم: "وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول والعيان، وليس في الوجود موجب ومقتض إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن هذا عمود التوحيد الذي لا يقوم إلا به والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع وإن كان منهم في موضع آخر فجوزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يكون، وخالف الرسل كلهم وأتباعهم من نفي مشيئة الله، ولم يثبت له ـ سبحانه ـ مشيئة واختياراً أوجد بها الخلق كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم" اهـ3.

1- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر ص 41.

2-

العقيدة الواسطية مع شرحها "لمحمد خليل هراس" ص133 ـ 134.

3-

شفاء العليل ص43.

ص: 514

وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في بيان معنى المشيئة هو طبق ما جاء في الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة وذلك أن لله مشيئة لا يخرج عنها حادث صغير ولا كبير ولا عين ولا فعل، ولا وصف إلا بمشيئته ـ تعالى ـ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد أكثر القرآن في هذا الشأن. قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 1.

وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 2.

وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} 3.

وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} 4.

وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} 5.

وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} 6.

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إثبات المشيئة، كما تدل على تكذيب نفاتها.

قال ابن القيم بعد أن ساق الكثير من الآيات الدالة على إثبات مشيئة الرب ـ جل وعلا ـ: "وهذه الآيات ونحوها تتضمن الرد على طائفتي الضلال نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم وهو ـ سبحانه ـ تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء ما عصي وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته وهذا حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه رب العالمين وكونه القيوم القائم بتدبير عباده فلا خلق ولا رزق ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط ولا موت ولا حياة ولا إضلال، ولا هدى، ولا سعادة، ولا شقاوة إلا بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه إذ لا مالك غيره ولا

1- سورة البقرة آية: 253.

2-

سورة السجدة آية: 13.

3-

سورة هود آية: 118.

4-

سورة الأنعام آية: 35.

5-

سورة فاطر آية: 16.

6-

سورة النساء آية: 133.

ص: 515

مدبر سواه، ولا رب غيره. قال تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} 1 وقال: {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} 2 وقال: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 3 وقال: {للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} 4 وقال: {يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} اهـ5.

وقد دلت السنة على إثبات مشيئة الرب ـ سبحانه ـ في أحاديث كثيرة فمن ذلك ما رواه البخاري بإسناده من حديث أبي موسى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه وربما قال جاءه السائل أو صاحب الحاجة قال: "اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء"6.

وفيه من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: "ألا تصلون؟ قال علي: فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا

الحديث7

وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء"8.

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء، ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء"9.

1- سورة القصص آية: 68.

2-

سورة الحج آية: 5.

3-

سورة الانفطار آية: 8.

4-

سورة الشورى آية: 49 ـ 50.

5-

شفاء العليل صفحة 44 والآية رقم 24 من سورة النور.

6-

فتح الباري 13/448.

7-

المصدر السابق ص446.

8-

صحيح مسلم 4/2045.

9-

فتح الباري 13/446.

ص: 516

وفيه أيضاً من حديث أبي قتادة رضي الله عنه حين ناموا عن الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء

" الحديث1.

وفيه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي لأمتي يوم القيامة"2.

فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية السابقة دلت على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وقبل أن نختم الكلام على مرتبة المشيئة هناك أمر يجب أن يتنبه له وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تعرض لمن قصر علمه به وهو أن الله ـ جل وعلا ـ له الخلق والأمر، وأمره ـ سبحانه ـ نوعان:

أـ أمر كوني قدري.

ب ـ وأمر ديني شرعي.

فمشيئة الرب ـ سبحانه ـ متعلقة بخلقه وأمره الكوني، وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه كله داخل تحت مشيئته كما خلق إبليس وهو يبغضه، وخلق الشياطين والكفار والأعيان، والأفعال المسخوطة وهو يبغضها فمشيئته ـ سبحانه ـ شاملة لذلك كله، وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله فما وجد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعاً فهو محبوب للرب واقع بمشيئته كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين، وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني ولم تتعلق به مشيئته وما وجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني، وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته فلفظ المشيئة كوني ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية فتكون بمعنى المشيئة، وإرادة دينية فتكون بمعنى المحبة، إذا عرف هذا فقوله ـ تعالى ـ {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وقوله:{وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} 3 وقوله: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 لا يناقض نصوص القدر والمشيئة

1- المصدر السابق صفحة 447.

2-

المصدر السابق ص447.

3-

سورة البقرة آية: 205.

4-

سورة البقرة آية: 185.

ص: 517

العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته وقضائه وقدره فإن المحبة غير المشيئة والأمر غير الخلق ونظير هذا لفظ الأمر فإنه نوعان: أمر تكوين، وأمر تشريع والثاني قد يعصى وبخلاف أمر التكوين فقوله ـ تعالى ـ {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} 1 لا يناقض قوله:{إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} 2 وليس هناك حاجة إلى تكلف تقدير أمرنا مترفيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها بل الأمر هنا أمر تكوين وتقدير لا أمر تشريع" أ. هـ3.

والحاصل مما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة إثبات مشيئة الرب ـ جل وعلا ـ وأنها الموجبة لكل موجود في هذا الكون كما أن عدم مشيئته ـ سبحانه ـ يوجب عدم الشيء فهما الموجبتان، فما شاء الله تحتم وجوده وما لم يشأ تحتم عدمه وامتناعه وهذا أمر شامل لكل مقدور من أعيان وأفعال، وحركات وسكنات ـ فسبحانه ـ أن يكون في ملكه ما لا يشاء، أو أن يشاء شيئاً فلا يكون، وإن كان في الأشياء ما لا يرضاه ولا يحبه، وإن كان يحب الشيء فلا يحصل لعدم مشيئته ـ سبحانه ـ له ولو شاء ذلك لوجد. له الحكم النافذ، والمشيئة المطلقة، والقدرة التامة على كل شيء.

4 ـ مرتبة خلق الله ـ سبحانه ـ الأعمال وتكوينه وإيجاده لها:

لقد دلت سورة "الزمر" على أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء ومن ذلك أعمال العباد، فهو المكون لها والموجد لها ـ وحده لا شريك له ـ قال تعالى:{اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} .

هذه الآية الكريمة من السورة تدل على أن جميع الأشياء مخلوقة فقد أخبر ـ تعالى ـ أنه خالق لجميع العالم علويه، وسفليه، ومن ضمن ذلك أفعال عباده فإنها شيء من الأشياء، ففيها رد على القدرية القائلين بأن العبد هو الخالق لأفعاله، كما أن فيها رداً على الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وهي أيضاً: ترد على القائلين بقدم الأرواح، وهذه الأقوال صادرة عن أهل الباطل، وهي تتضمن تعطيل ـ الباري سبحانه ـ عن خلقه.

1- سورة الإسراء آية: 16.

2-

سورة الأعراف آية: 28.

3-

شفاء العليل ص47 ـ 48.

ص: 518

قال العلامة ابن القيم: حول قوله تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية "وهذا عام محفوظ لا يخرج عنه شيء من العالم أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته، وليس مخصوصاً بذاته، وصفاته، فإنه الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق، وصفاته ـ سبحانه ـ داخلة في مسمى اسمه فإن الله ـ سبحانه ـ اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال المنزه عن كل صفة نقص ومثال، والعالم قسمان: أعيان وأفعال وهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك، فلا يخرج شيء منه عن علمه، ولا عن قدرته، ولا عن خلقه ومشيئته" أ. هـ1.

وقال شارح الطحاوية: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: الله خالق كل شيء مخلوق فدخلت أفعال العباد في عموم "كل" وما أفسد قولهم ـ يعني المعتزلة ـ في إدخال كلام الله تعالى في عموم "كل" الذي هو صفة من صفاته يستحيل عليه أن يكون مخلوقاً، وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم كل!! وهل يدخل في عموم كل إلا ما هو مخلوق؟ فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم، ودخل سائر المخلوقات في عمومها" أ. هـ2.

وقال البغوي: " {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: مما هو كائن، أو يكون في الدنيا والآخرة" أ. هـ3.

وقال ابن كثير: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها وربها ومليكها والمتصرف فيها، وكل تحت تدبيره وقهره وكلاءته" أ. هـ4.

ومن هذه التفاسير للآية من مفسري أهل السنة يتبين أن أفعال العباد جميعها مخلوقة ومقدرة للمولى ـ جل وعلا ـ إذ هو ـ سبحانه ـ الخالق وما سواه كله مخلوق.

وأما قول القدرية: في الآية {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مما لا يقدر عليه غيره وأما أفعال العباد التي يقدر عليها العباد فإضافتها إليهم ينفي أضافتها إليه، وإلا لزم وقوع مفعولين بين فاعلين وهو محال" أ. هـ5.

1- شفاء العليل ص53.

2-

شرح الطحاوية ص496.

3-

تفسير البغوي على حاشية الخازن 6/96.

4-

تفسير القرآن العظيم 6/105.

5-

شفاء العليل ص54.

ص: 519

فهذا زعم باطل لأن إضافة أفعال العباد إليهم فعلاً وكسباً لا ينفي إضافتها إليه ـ سبحانه ـ خلقاً ومشيئة فهو ـ سبحانه ـ الذي شاءها وخلقها حقيقة وهم الذين فعلوها وكسبوها حقيقة فلو لم تكن مضافة إلى مشيئته وقدرته وخلقه لاستحال وقوعها منهم إذ العباد أعجز وأضعف من أن يفعلوا ما لم يشأه الله ولم يقدر عليه ولا خلقه" أ. هـ1.

وهناك آيات كثيرة وردت في كتاب الله ـ تعالى ـ وهي تدل على ما دلت عليه هذه الآية من السورة مثل قوله ـ تعالى ـ {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 2 فيدخل في هذا العموم الأعيان والأفعال من الخير والشر.

وقوله ـ تعالى ـ: {أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 3.

قال البيهقي: عقب هذه الآية: "فنفى أن يكون خالق غيره، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق، فلو كانت الأفعال غير مخلوقة لكان الله ـ سبحانه ـ خالق بعض الأشياء دون جميعها وهذا خلاف الآية، ومعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان، فلو كان الله خالق الأعيان والناس خالقي الأفعال لكان خلق الناس أكثر من خلقه ولكانوا أتم قوة منه وأولى بصفة المدح من ربهم ـ سبحانه ـ ولأن الله ـ تعالى ـ قال:{وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 4 فأخبر أن أعمالهم مخلوقة لله عز وجل أ. هـ5.

ولا يقال إن "ما" مصدرية ـ أي خلقكم وعملكم ـ لأن سياق الآية يأباه لأن الخليل عليه الصلاة والسلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت لا النحت والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله ـ تعالى ـ، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله ـ تعالى ـ ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله ـ تعالى ـ لم يكن المنحوت مخلوقاً له، بل الخشب أو الحجر لا غير"6.

1- المصدر السابق.

2-

سورة غافر آية: 62.

3-

سورة الرعد آية: 16.

4-

سورة الصافات آية: 96.

5-

الاعتقاد ص59 ـ 60.

6-

شرح الطحاوية ص496، وانظر مجموع الفتاوى 8/79.

ص: 520

ومما يدل على أن العباد فاعلون حقيقة قوله ـ تعالى ـ {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} 1 وقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ} 3 وقوله: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 4.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ـ: "والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد القدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وقدرتهم وإرادتهم كما قال ـ تعالى ـ {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 5 وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها" أ. هـ6.

وقال العلامة ابن القيم: "ومن الدليل على خلق أعمال العباد قوله تعالى {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} 7 فأخبر أنه هو الذي جعل السرابيل وهي الدروع والثياب المصنوعة ومادتها لا تسمى سرابيل إلا بعد أن تحيلها صنعة الآدميين وعملهم، فإذا كانت مجعولة لله فهي مخلوقة له بجملتها صورتها ومادتها وهيئاتها، ونظير هذا قوله {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} 8 فأخبر ـ سبحانه ـ أن البيوت المصنوعة المستقرة والمتنقلة مجعولة له، وهي إنما صارت بيوتاً بالصنعة الآدمية"9.

1- سورة البقرة آية: 197.

2-

سورة الحج آية: 77.

3-

سورة الأنعام آية: 137.

4-

سورة هود آية: 36.

5-

سورة التكوير آية: 28 ـ 29.

6-

العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص135 ـ 137.

7-

سورة النحل آية: 81.

8-

سورة النحل آية: 80.

9-

شفاء العليل ص54 ـ 55.

ص: 521

ومن الآيات الدالة على خلق أفعال العباد قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} 1.

قال البيهقي: "فأخبر أن قولهم وسرهم وجهرهم خلقه وهو بجميع ذلك عليم" أ. هـ2.

فهذه الآيات التي قدمنا ذكرها دلت على أن الله خالق كل شيء فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته وكل ساكن وسكونه، وما من ذرة في السموات ولا في الأرض إلا والله سبحانه وتعالى خالقها وخالق حركتها وسكونها ـ سبحانه ـ لا خالق غيره ولا رب سواه.

كما دلت على أن للعباد قدرة على أعمالهم، ولهم مشيئة والله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم، وأقوالهم وأعمالهم وهو الذي منحهم إياها وأقدرهم عليها وجعلها قائمة بهم مضافة إليهم حقيقة، وبحسبها كلفوا وعليها يثابون ويعاقبون، كما قال تعالى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 3 وقال تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4 ولم يكلفهم الله تعالى إلا وسعهم ولم يحملهم إلا طاقتهم كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 5.

وروى البخاري في صحيحه بإسناده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل معنا التراب وهو يقول:

والله لولا الله ما اهتدينا

ولا صمنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إذ لا قينا

والمشركون قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا6

1- سورة الملك آية: 13.

2-

الاعتقاد ص60.

3-

سورة الزخرف آية: 72.

4-

سورة السجدة آية: 14.

5-

سورة البقرة آية: 286.

6-

صحيح البخاري مع الفتح 11/515 ـ 516.

ص: 522

وقال صلى الله عليه وسلم في شأن الحمر: "ما أنزل الله علي فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة"{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 1.

وكما أن العباد لم يوجدوا أنفسهم فكذلك لم يوجدوا أفعالهم، فقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم وأفعالهم، تبع لقدرة الله ـ سبحانه ـ وإرادته ومشيئته وأفعاله، إذ هو ـ تعالى ـ خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأفعالهم وليست مشيئتهم وإرادتهم وقدرتهم وأفعالهم هي عين مشيئة الله ـ تعالى ـ وإرادته، وقدرته، وفعله، كما ليسوا هم إياه ـ تعالى ـ عن ذلك علواً كبيراً بل إن أفعالهم المخلوقة قائمة بهم لائقة بهم مضافة إليهم حقيقة، وهي من آثار أفعاله ـ تعالى ـ القائمة به اللائقة المضافة إليه حقيقة.

فالله ـ تعالى ـ هاد حقيقة، والعبد مهتد حقيقة ولهذا أضاف ـ تعالى ـ كلاً من الفعلين إلى من قام به. فقال عز وجل {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَد} 2 فإضافة الهداية إلى الله ـ تعالى ـ حقيقة، وإضافة الاهتداء إلى العبد حقيقة، وكما أن الهادي ـ تعالى ـ ليس هو عين المهتدي فكذلك ليست الهداية هي عين الإهتداء، وكذلك يضلل الله ـ تعالى ـ من يشاء حقيقة، وذلك العبد يكون ضالاً حقيقة وهو ـ سبحانه ـ وتعالى خالق المؤمن وإيمانه والكافر وكفره كما قال ـ جل وعلا ـ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 3. فالله ـ تعالى ـ هو الخالق لعباده على هذه الصفة وأراد منهم ذلك كوناً لا شرعاً، فلا بد من وجود المؤمن والكافر، وهو ـ سبحانه ـ البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال وهو شهيد على أعمالهم وسيجزيهم عليها جزاءاً وفاقاً ولذلك قال تعالى: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 4 فأضاف ـ سبحانه ـ الخلق الذي هو فعله القائم به إليه حقيقة وأضاف الإيمان والكفر الذي هو عملهم القائم بهم إليهم حقيقة والله تبارك وتعالى هو الذي جعلهم كذلك، وهم فعلوه فاختيارهم وقدرتهم ومشيئتهم التي منحهم الله إياها وخلقها فيهم وأمرهم ونهاهم بحسبها.

1- متفق عليه من حديث أبي هريرة، صحيح البخاري 3/220، مسلم 2/682.

2-

سورة الأعراف آية: 178.

3-

سورة التغابن آية: 2.

4-

جزء من الآية رقم 2 من سورة التغابن.

ص: 523

والأدلة من الكتاب والسنة على هذا كثيرة جداً. قال ابن القيم: "وبالجملة فكل دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أفعال العباد ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد.

قال ابن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده" ا. هـ1.

أقوال الناس في أفعال العباد الإختيارية:

هذه المسألة فيها أراء ثلاثة:

القول الأول: للجبرية:

فقد زعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان السمرقندي: أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله ـ تعالى ـ، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار وإضافتها إلى الخلق مجاز وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله2.

القول الثاني ـ للمعتزلة:

ورأي المعتزلة مقابل لرأي الجبرية: فقد قالوا: إن جميع الأفعال الإختيارية من جميع الحيوانات بخلقها لا تعلق لها بخلق الله ـ تعالى ـ واختلفوا فيما بينهم هل الله ـ تعالى ـ يقدر على أفعال العباد أم لا" أ. هـ3.

القول الثالث ـ قول أهل الحق:

وهو أن أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله ـ تعالى ـ والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه" أ. هـ4.

1- شفاء العليل ص65.

2-

شرح الطحاوية ص493، الملل والنحل للشهرستاني 1/85، التبصير في الدين ص107.

3-

شرح الطحاوية ص493، مقالات الإسلاميين 1/298، الفرق بين الفرق ص114، الملل والنحل للشهرستاني 1/45.

4-

شرح الطحاوية ص493.

ص: 524

فالقول الأول وهو قول الجبرية من أفسد المذاهب إذ أنهم غلوا في إثبات القدر حتى نفوا فعل العبد بالكلية وجعلوه كريشة في مهب الريح تصفقها كيف تشاء.

وأما القدرية نفاة القدر فقد جعلوا العباد خالقين مع الله ـ تعالى ـ ولهذا كانوا "مجوس هذه الأمة"1 بل أخبث من المجوس حيث أن المجوس أثبتوا خالقين اثنين وهم أثبتوا خالقين كثيرين. وللجبرية والقدرية أدلة يستدلون بها على دعاويهم الباطلة ومذاهبهم الفاسدة وهي في الحقيقة حجج عليهم في بطلان ما يدَّعون. فما استدل به الجبرية: قوله ـ تعالى ـ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} 2 قالوا: إن الله نفى عن نبيه الرمي وأثبته لنفسه ـ سبحانه ـ فدل على أنه لا فعل للعبد. وقالوا أيضاً: إن الجزاء غير مرتب على الأعمال بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل أحداً الجنة عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة"3. ومما استدل به القدرية قوله ـ تعالى ـ {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 4 قالوا: والجزاء مرتب على الأعمال ترتب العوض كما قال ـ تعالى ـ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5 {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 6 وحجج الفريقين عليهم لا لهم.

فأما ما استدل به الجبرية من قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} 7 فهو دليل عليهم لا لهم لأنه ـ تعالى ـ أثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم رمياً بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} ومن هنا يعلم أن المثبت غير المنفي وذلك أن "الرمي" له ابتداء وانتهاء فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكلاهما يسمى رمياً فيكون المعنى حينئذ والعلم لله تعالى:"وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب" وإلا فيطرد على قولهم: "وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى! وما صمت إذ صمت وما سرقت إذ سرقت! وبطلان هذا بين واضح"8.

1- انظر سن أبي داود 2/525 من حديث ابن عمر.

2-

سورة الأنفال آية: 17.

3-

رواه البخاري من حديث عائشة الفتح 11/294، صحيح مسلم 4/2171.

4-

سورة المؤمنون آية: 14.

5-

سورة السجدة آية: 17.

6-

سورة الزخرف آية: 72.

7-

سورة الأنفال آية: 17.

8-

شرح الطحاوية ص495 وانظر مجموع الفتاوى 8/18، التبصير في الدين ص107.

ص: 525

ويشبه قول الجبرية في البطلان الكسب عند الأشاعرة فإنهم يقولون: إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله.

جاء في "غاية المرام""وذهب من عدا هؤلاء من أهل الحق إلى أن أفعال العباد مضافة إليهم بالإكتساب وإلى الله تعالى بالخلق والإختراع وأنه لا أثر للقدرة الحادثة فيها أصلاً"1. "وهذا المذهب مماثل لمذهب الجبرية إن لم يكن عينه، وليس أهله أهل الحق كما زعم إذ كيف يثبتون قدرة لا أثر لها، وهذا في الحقيقة نفي للقدرة كلياً ولهذا يقال: كسب الأشعري من محالات الكلام"2.

وأما ترتب الجزاء على الأعمال فقد ضلت فيه طائفتا الجبرية والقدرية وهدى الله أهل السنة والجماعة وذلك بفضله ومنته عليهم بسلوك الصراط السوي.

فهم يقولون: إن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات فالمنفي في قوله عليه الصلاة والسلام "لن يدخل أحد الجنة بعمله" 3 باء العوض وهو أن تكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة كما تزعم ذلك المعتزلة أن العامل مستحق دخول الجنة على ربه بعمله. بل ذلك برحمة الله وفضله والباء التي في قوله ـ تعالى ـ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4 وغيرها باء السبب أي بسبب عملكم والله ـ تعالى ـ هو خالق الأسباب والمسببات فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته"5.

وأما استدلال المعتزلة بقوله ـ تعالى ـ {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 6 فمعنى هذه الآية: أحسن المصورين المقدرين و"الخلق" يذكر ويراد به التقدير وهو المراد هنا بدليل قوله ـ تعالى ـ {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 7.

والناظر في مذهب الجبرية والقدرية يجد أن كل طائفة منهما معها حق وباطل وأدلة

1- غاية المرام ص207، الاعتقاد للبيهقي ص60، المواقف في علم الكلام ص312 وما بعدها.

2-

شفاء العليل ص50.

3-

تقدم تخريجه قريباً وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها.

4-

سورة السجدة آية: 17.

5-

مجموع الفتاوى 8/70، وشرح الطحاوية 495.

6-

سورة المؤمنون آية: 14.

7-

سورة الرعد آية: 16.

ص: 526

كل منهما إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى لا على إبطال ما أصابوا فيه، فكل دليل صحيح للجبرية إنما يدل على إثبات قدرة الرب ـ تعالى ـ ومشيئته وأنه لا خالق غيره وأنه على كل شيء قدير لا يستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات وهذا حق، ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادراً مريداً فاعلاً بمشيئته وقدرته وأنه فاعل حقيقة وأفعاله قائمة به، وأنها فعل له، وأنها قائمة به.

وكل دليل صحيح يقيمه القدرية فإنما يدل على أن أفعال العباد فعل لهم قائمة بهم واقعة بقدرتهم، ومشيئتهم وإرادتهم وأنهم مختارون لها غير مضطرين ولا مجبورين، وليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله ـ سبحانه ـ قادراً على أفعالهم وهو الذي جعلهم فاعلين.

فأدلة الجبرية صحيحة متضافرة على من نفى قدرة الرب ـ سبحانه ـ على كل شيء من الأعيان والأفعال ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود، وأثبت في الوجود شيئاً بدون مشيئته وخلقه.

"وأدلة القدرية صحيحة متضافرة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره وقال إنه ليس بفاعل شيئاً والله يعاقبه على ما لم يفعله ولا له قدرة عليه بل هو مضطر إليه مجبور عليه"1.

"فإذا ضممنا ما عند كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى فإنما يدل ذلك على ما دل عليه كتاب الله، وسائر كتب الله المنزلة قبله من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في هذا الكون من الأعيان والأفعال وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم"2.

وعند التأمل للأدلة التي أسلفناها التي دلت على أن العباد فاعلون حقيقة، والله ـ تعالى ـ خالقهم وخالق أفعالهم وأنهم مختارون، لهم إرادة ومشيئة تابعة لإرادة الله ومشيئته. نعلم أن أهل الكلام الباطل، وأهل الأهواء والبدع من جميع الطوائف هم أبخس الناس حظاً، وأقلهم نصيباً، وأخسرهم عملاً. وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الحق في

1- شفاء العليل ص51.

2-

شرح الطحاوية ص494.

ص: 527

هذه المسألة وغيرها "فإنهم يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات من الأعيان والأفعال ومشيئته العامة، وينزهونه أن يكون في ملكه ما لا يقدر عليه ولا هو واقع تحت مشيئته، ويثبتون القدر السابق وأن العباد يعملون على ما قدره الله وقضاه وفرغ منه وأنهم لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، ولا يفعلون إلا من بعد مشيئته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا تخصيص عندهم في هاتين القضيتين بوجه من الوجوه، والقدر عندهم قدرة الله ـ تعالى ـ وعلمه، ومشيئته وخلقه فلا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه، وقدرته فهم المؤمنون "بلا حول ولا قوة إلا بالله" على الحقيقة إذا قالها غيرهم على المجاز إذ العالم علويه، وسفليه، وكل حي يفعل فعلاً فإن فعله بقوة فيه على الفعل وهو في حول من ترك إلى فعل ومن فعل إلى ترك، ومن فعل إلى فعل، وذلك كله بالله ـ تعالى ـ ويؤمنون بأن من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأنه هو الذي يجعل المسلم مسلماً والكافر كافراً والمصلي مصلياً والمتحرك متحركاً وهو الذي يسير عبده في البر والبحر وهو المسير والعبد السائر

ويثبتون مع ذلك قدرة العبد وإرادته، واختياره وفعله حقيقة لا مجازاً وهم متفقون على أن الفعل غير المفعول

فحركات العباد واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة وهي مفعولة لله ـ سبحانه ـ مخلوقة له حقيقة والذي قام بالرب عز وجل علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم فهم المسلمون المصلون القائمون القاعدون حقيقة، وهو ـ سبحانه ـ هو المقدر لهم على ذلك القادر عليه الذي شاءه منهم وخلقه لهم ومشيئتهم وفعلهم بعد مشيئته فما يشاؤون إلا أن يشاء الله، وما يفعلون إلا أن يشاء الله، وإذا قارن الإنسان بينه وبين المذاهب الأخرى وجد أنه المذهب الوسط السوي ووجد غيره من المذاهب خطوطاً عن يمينه وعن شماله فقريب منه، وبعيد"1.

1- شفاء العليل ص52.

ص: 528