المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

قبل أن نشرع في عرض الآيات المتعلقة بالهدى والضلال من سورة "الزمر: نذكر تعريف الهدى والضلال أولاً:

أما الهدى: فهو في الأصل مصدر كالسرى ومعناه: "الرشاد والدلالة ولو غير موصلة"1.

وجاء في النهاية لابن الأثير: "ومن أسمائه ـ تعالى ـ الهادي وهو الذي بصَّر عباده وعرَّفهم طرق معرفته حتى أقروا بربوبيته وهدي كل مخلوق إلى ما لا بد منه في بقائه ودوام وجوده وفي الحديث "الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة"2 والمراد بالهدي هنا السيرة، والهيئة والطريقة، ومعنى الحديث: أن هذه الخلال من شمائل الأنبياء وخصالهم الحميدة وأنها معلوم من أجزاء أفعالهم لا أن المعنى أن النبوة تتجزأ. ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزءاً من النبوة، فإن النبوة غير مكتسبة ولا مجتلبة بالأسباب وإنما هي كرامة من الله تعالى" أ. هـ3.

وأما تعريف الضلال: "فقد جاء في القاموس: الضلال والضلالة

ضد الهدى"4.

وفي اللسان: قال أبو منصور: "والإضلال في كلام العرب ضد الهداية والإرشاد يقال: أضللت فلاناً إذا وجهته للضلال عن الطريق وإياه أراد لبيد:

1- لوامع الأنوار البهية 1/50.

2-

رواه أبو داود في سننه 2/548 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

3-

النهاية 5/253، لوامع الأنوار 1/50.

4-

القاموس 4/5.

ص: 529

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

قال لبيد هذا في جاهليته فوافق قوله التنزيل العزيز {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} " أ. هـ1.

وبعد تعريف الهدى والضلال نقول: إن الهدى والضلال هما لب أبواب القدر، وما يتعلق به من المسائل، فإن أعظم نعمه يقدرها الله تعالى للعبد هي نعمة الهداية وأعظم مصيبة يصاب بها الإنسان هي مصيبة الضلال وكل ما بالإنسان من نعمة هي دون نعمة الهداية، وكل مصيبة مهما كبرت وعظمت فهي دون مصيبة الضلال وقد أجمع الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى خاتمهم والكتب المنزلة عليهم ـ أن الباري سبحانه ـ يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن من هداه الله فلا مضل له ومن أضله الله فلا هادي له، فالهداية والإضلال بيده ـ سبحانه ـ وأن العبد لا يملك من ذلك شيئاً2 ونصوص الكتاب والسنة تقرر أن العبد هو الضال أو المهتدي، وقد دلت سورة "الزمر" في عدد من آياتها على أن الهداية والإضلال فعل الله والإهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.

قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} .

وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .

وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .

وقال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} .

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} .

وقال تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .

1- اللسان 11/391، والآية رقم 8 من سورة فاطر.

2-

انظر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر لابن القيم ص65 بتصرف.

ص: 530

هذه سبع آيات من السورة دلت على أن الهداية والإضلال بيد الله، وأن الله تعالى هو الهادي والعبد هو المهتدي.

فالآية الأولى: وهي قوله: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ففيها الإخبار من الله ـ جل وعلا ـ بأنه لا يوفق للهداية إلى صراطه المستقيم من صفته الكذب والكفر بحيث تصل إليه المواعظ والآيات البينات ولا يزول عنه ما اتصف به من الصفات التي تحول بينه وبين الهداية حيث يرى الآيات فيجحدها ويكفر بها ويكذب فمثل هذا أنى له الهدى وقد أغلق على نفسه الباب فعاقبه الله بالطبع على قلبه فصار ليس أهلاً للهداية.

قال ابن جرير رحمه الله تعالى ـ "يقول تعالى ذكره {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي} إلى الحق ودينه الإسلام والإقرار بوحدانيته فيوفقه له {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ} مفتر على الله يتقول عليه الباطل، ويضيف إليه ما ليس من صفته يزعم أن له ولداً افتراءاً عليه كفار لنعمه جحود لربوبيته" أ. هـ1.

وقال الرازي: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروماً عن الهداية" أ. هـ2.

وأما الآية الثانية: وهي قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} هذه الآية بينت بأن من فسح الله قلبه لمعرفته والإقرار بوحدانيته والإذعان لربوبيته، والخضوع لطاعته، فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين بتنوير الحق في قلبه، فهو لذلك لأمر الله متبع، وعما نهاه عنه منته فيما يرضيه، ومن كان كذلك لا يستوي هو ومن أقسى الله قلبه وأخلاه من ذكره وضيقه عن استماع الحق، واتباع الهدى، والعمل بالصواب فبين هذا والذي قبله فرق عظيم، وتفاوت كبير إذ الذين قست قلوبهم عن ذكر الله في ضلال واضح بين عن الحق. قال مجاهد:"ليس المنشرح صدره مثل القاسي قلبه"3.

وأما الآية الثالثة: وهي قوله: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} الآية. فهذه

1- جامع البيان 23/192.

2-

التفسير الكبير 26/192.

3-

جامع البيان 23/209.

ص: 531

الآية بين الله ـ تعالى ـ فيها أن التأثير الحاصل لعباده المؤمنين عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم ولين قلوبهم إنما هو هدى من يهدي به من يشاء من عباده وهو من جملة فضل الله وإحسانه عليهم.

فالقرآن طريق موصل إلى الله ـ تعالى ـ يهدي به من يشاء من عباده وهم الذين صلحت أعمالهم وحسنت مقاصدهم كما قال عز وجل {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} 1، فلا سبيل إلى الله إلَاّ بتوفيقه، والتوفيق للإقبال على كتابه فإذا لم يحصل للعباد ذلك فلا وصول إلى الهدى، وما هو إلا الضلال المبين والشقاء الأليم.

قال ابن جرير رحمه الله تعالى ـ {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} يقول تعالى ذكره "هذا الذي يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم، ثم لينها ولين قلوبهم إلى ذكر الله من بعد ذلك وهدى الله يعني: توفيق الله إياهم ووفقهم له {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} يقول: يهدي تبارك وتعالى بالقرآن من يشاء من عباده، إلى أن قال وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يقول تعالى ذكره: ومن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق بما فيه، فيضله عنه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يقول: فما له من موفق له ومسدد يسدده في اتباعه" أ. هـ2.

وأما الآية الرابعة: وهي قوله تعالى: {..... وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ففيها توضيح أن من أضله الله لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته ورده من الكفر إلى الإيمان.

قال القرطبي: " {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي من خذله الله فلا مرشد له وهو يرد على القدرية"3.

وأما الآية الخامسة: وهي قوله: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ

} الآية. بين الله ـ تعالى ـ فيها أن من هداه ووفقه للرشاد فليس لأحد طريق إلى إضلاله.

قال الطبري: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ

} يقول: "ومن يوفقه الله

1- سورة المائدة آية:16.

2-

جامع البيان 23/211.

3-

الجامع لأحكام القرآن 15/250.

ص: 532

للإيمان به والعمل بكتابه {فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} يقول: فما له من مزيغ يزيغه عن الحق الذي هو عليه إلى الإرتداد إلى الكفر" أ. هـ1.

وقال الشوكاني: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ

} "يخرجه من الهداية ويوقعه في الضلال" أ. هـ2.

وأما الآية السادسة: وهي قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا

} الآية. هذه الآية فيها إخبار من الله تعالى بأن من اهتدى بالقرآن وعمل بما فيه واتبعه فإن نفع ذلك عائد إلى نفسه ومن ضل بعد أن اتضح له الهدى فإن ضرر ذلك عائد عليه ولا يضر الله شيئاً.

وأما الآية السابعة: وهي قوله: حكاية عن الكافر الذي يتأسف على نفسه يوم القيامة حيث جانب طريق الهدى بعدم أخذه بأسباب الهداية والإيمان بالرسل. {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ففي هذه الآية مشهد لحال النفس التي فرطت في جنب الله أي في جانب حقه فلم تمتثل أمر الله، ولم تكن أطاعته حق الطاعة أنها تتمنى لو أن الله هداها ووفقها للرشاد فتكون مع عباد الله المتقين فتسلم من العقاب، وتظفر بالثواب، ولكن هيهات لعدم نفع هذا التمني الكاذب حيث أضاعت الفرصة في المكان الذي كان لها القدرة في الأخذ بأسباب الهدى فتكون من المهتدين، ومع عباد الله المتقين ولكن هذا التمني والتأسف وقع بعد فوات الأوان.

وكما نرى أن هذه الآيات السبع المتقدمة كلها وردت في هداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل. كما أوضحت أن الهداية والإضلال فعل الله والإهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.

وقد وردت آيات كثيرة في معنى الآيات السابقة في سور أخرى من القرآن، قال تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 3.

دلت هذه الآية على أنه لا سبيل إلى وجود الهداية للعبد إلا بعد هداية الله له فإذا وفقه

1- جامع البيان 24/6.

2-

فتح القدير 4/265.

3-

سورة الأعراف آية:78.

ص: 533

الله للهدى كان من المهتدين. قال العلامة ابن القيم: "ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} 1 وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه ولا إلى أحد غير الله وأن الله ـ سبحانه ـ إذا أضل عبداً لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته" أ. هـ2. وقال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. وقال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} 4. وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} 5 وقال تعالى عن أهل الجنة {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} 6 ولم يقصدوا أن بعض الهدى من الله وبعضه منهم بل نسبوا الهدى كله لله ولولا أنه هداهم لما اهتدوا. وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلَاّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} 7 ففي هذه الآية التصريح بأن مشيئة الله تعالى في الهداية والضلال مطلقة لا يسأل عما يفعل ولكنه تعالى عدل فحاشاه أن يضل من يستحق الهداية، وحاشاه أن يهدي من يستحق الضلال فقد نزه نفسه عن ذلك فقال:{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} 8 وقال ـ جل ثناؤه ـ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ} 9 بقي أن نعرف من هم الذين يشاء الله هدايتهم؟ ومن هم الذين يشاء الله ضلالهم؟ الذين يشاء الله هدايتهم هم الذين فتحوا قلوبهم للهدى وعقولهم للحق وأقبلوا على كتابه صادقين وانقادوا لأوامره طائعين فهؤلاء لهم العون من الله على الهداية ويوفقهم لطلبها والإقبال عليها، ويزيدهم إيماناً وهدى، وعن هذه الفئة قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 10 وقال تعالى

1- سورة النحل آية:37.

2-

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر ص81.

3-

سورة الأنعام آية:39.

4-

سورة الأعراف آية:186.

5-

سورة فاطر آية:8.

6-

سورة الأعراف آية:43.

7-

سورة المدثر آية:31.

8-

سورة النساء آية:40.

9-

سورة فصلت آية:46.

10-

سورة محمد آية:17.

ص: 534

في شأن أهل الكهف {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 1 وأما الذين يشاء الله ضلالهم فهم الذين حادوا عن الحق وأعرضوا عن الهدى وسدوا عن أنفسهم جميع المنافذ التي توصلهم إلى الإيمان بالله والتزام دين الإسلام فلم يكن عندهم أي استعداد لأن يتقبلوا هدى الله الذي أنزله على رسله فهم كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 2 وقد أخبر تعالى بأن من جحده أو كفر بدينه فإنه لا يهديه. قال تعالى: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 3. وأخبر بأن من فسق في حياته وخرج عن طاعة ربه فإنه لا يهديه قال تعالى: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 4 وأخبر بأنه لا يهدي القوم الظالمين قال تعالى: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 5 وقال تعالى عن الفريقين معاً فريق الهداية، وفريق الضلالة {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الْفَاسِقِينَ} 6.

ومما يجب أن يعلم أن الله تعالى إنما يضل من يضل من خلقه إنما يكون ذلك بعد العذر إليهم بتبيين طرق الهدى ويمنحهم القدرة الكفاية التي تمكنهم من السير عليها فإذا قدم العبد ـ بعد العلم ـ الضلال على الهدى ولاه الله ما تولى وكان ذلك بمحض عدله سبحانه لا ظلم فيه قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} 7 والذي يؤثر طلب الهداية والرغبة فيها ويأخذ بالأسباب التي توصله إليها فإنه سيجد من الله عوناً على تحصيلها وتحقيقها وذلك من رحمة الله لعباده وفضله عليهم، ومن يؤثر الضلالة ويرغب فيها ويسعى جاهداً في طلبها ويعمل بالأسباب التي توصله إليها تمت له فلم يجد من الله تعالى صارفاً عنها وهذا من عدل الله في عباده وحسن تدبيره لهم.

وإذا عرفنا ذلك فليس لعبد من عباد الله أن يعترض على الله ويقول إذا كان الله يضل ويهدي فليس للعبد حرية الإختيار. فالواقع أن الهداية والإضلال نتائج لمقدمات ومسببات

1- سورة الكهف آية:13.

2-

سورة البقرة آية:171.

3-

سورة البقرة آية:264.

4-

سورة المائدة آية:108.

5-

سورة آل عمران آية:86.

6-

سورة البقرة آية:26.

7-

سورة التوبة آية:115.

ص: 535

لأسباب كما تقدم ذلك في الآيات التي قدمنا ذكرها حيث تبين لنا أن الهداية إنما هي ثمرة العمل الصالح والإقبال على منهج الله تعالى، والضلال إنما هو نتائج العمل القبيح السيئ وإذا رجعنا إلى الآيات القرآنية نجد هذا المعنى بيناً واضحاً لا التباس فيه ولا إشكال.

قال تعالى: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} 1 وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 2 فالهداية الحاصلة للمؤمنين إنما هي ثمرة مجاهدتهم لأنفسهم وإنابتهم إلى الله واستمساكهم بإرشاده ووحيه. قال تعالى في شأن الإضلال {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 3 وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 4 وقال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَاّ قَلِيلاً} 5.

فالذي نشاهده من خلال هذه الآيات أن سبب الإضلال هو الزيغ والخروج عن طاعة الله والكبر، والجبروت، والكفر، واقتراف الآثام، فالذي يؤثر العمى على الهدى ويستحب الظلام على النور يعاقب من الله بعمى البصيرة بمقتضى السنة الجارية وهي ارتباط الأسباب بمسبباتها. والمقدمات بنتائجها.

مراتب الهداية:

إن للهداية التي هي أعظم نعمة ينالها العبد أربع مراتب:

المرتبة الأولى: الهداية العامة المشتركة بين الخلق أجمعين وقد ذكرها الله تعالى في قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 6 أي: أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كل عضو شكله وهيأته، وأعطى كل موجود خلقه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال، وهذه الهداية تعم هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره وهداية الجماد المسخر لما خلقه الله، فله هداية تليق به. كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به، وإن اختلفت أنواعها وضروبها، وكذلك لكل

1- سورة الرعد آية:27.

2-

سورة العنكبوت آية:69.

3-

سورة غافر آية:35.

4-

سورة الصف آية:5.

5-

سورة النساء آية:155.

6-

سورة طه آية:50.

ص: 536

عضو هداية تليق به، فالرجلان للمشي، واليدان للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيات، وكل عضو لما خلق له، وهدى الزوجين من كل حيوان للإزدواج والتناسل، وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه، وجزئيات هذه الهداية لمخلوقات الله تعالى لا يحصيها إلا هو ـ سبحانه ـ.

المرتبة الثانية: هداية البيان والدلالة والتعريف لنجديْ الخير والشر وطريقي الهلاك والنجاة وهذه لا تستلزم الهدى التام فإنها سبب وشرط، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب بل قد يتخلف عنه المقتضي، إما لعدم كمال السبب، أو لوجود مانع، قال تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 1 قال قتادة: في قوله عز وجل " {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي: بينا لهم طريق الهدى وطريق الضلالة فاستحبوا أي: آثروا الضلالة على الهدى"2. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} 3 فهداهم هدي الدلالة والبيان فلم يهتدوا فأضلهم عقوبة لهم على ترك الإهتداء أولاً بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه فأعماهم عنه بعد أن أراهموه وهذا شأنه ـ سبحانه ـ في كل من أنعم عليه بنعمة، فكفرها فإنه يسلبه إياها بعد أن كانت نصيبه وحظه كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 4 وقال تعالى عن قوم فرعون {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} 5 أي: جحدوا بآياتنا بعد أن تيقنوا صحتها. وقال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 6.

وهذه الهداية هي التي أثبتها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 7 ونفى عنه ملك الهداية الموجبة وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله

1- سورة فصلت آية:50.

2-

جامع البيان 24/104، زاد المسير 7/248 ـ 249، لسان العرب 15/354.

3-

سورة التوبة آية:115.

4-

سورة الأنفال آية:53.

5-

سورة النمل آية:14.

6-

سورة آل عمران آية:86.

7-

سورة الشورى آية:52.

ص: 537

تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1 فالرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله داعياً ومبلغاً ولا يملك من الهداية شيئاً سوى هداية الدلالة والبيان وخلق الله إبليس مزيناً ومغوياً، وليس له القدرة على إضلال أحد من البشر إذ الهدى والضلال بيده ـ سبحانه ـ وقال تعالى:{وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 فجمع ـ سبحانه ـ بين الهدايتين العامة والخاصة، فعم بالدعوة حجة مشيئة وعدلاً، وخص بالهداية نعمة مشيئة وفضلاً، وهذه المرتبة أخص من التي قبلها فإنها هداية تخص المكلفين وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحداً إلا بعد إقامتها عليه قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3 وقد يقول قائل: كيف تقوم حجة الله عليهم وقد منعهم من الهدى وحال بينهم وبينه؟ ويجاب على هذا أن حجة الله قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عياناً، ونصب لهم أسباب الهداية ظاهراً وباطناً، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل، أو صغر لا تمييز معه، أو كونه في ناحية من الأرض لم تبلغه دعوة الرسل فإنه ـ سبحانه ـ لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته فهو ـ سبحانه ـ لم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه، ولكنه ـ سبحانه ـ قطع عنهم توفيقه ولم يرد من نفسه إعانتهم، والإقبال بقلوبهم إليه فلم يحل بينهم، وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه فهذا غير مقدور لهم وهو الذي منعوه وحيل بينهم وبينه فليتنبه لهذا ليزول الإشكال.

المرتبة الثالثة من مراتب الهداية: هداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل وهذه المرتبة أخص من التي قبلها وهي التي ضل فيها جهال القدرية بالتأويل الفاسد فقد زعموا: أن المراد من الضلال والهدى هو تسمية الله العبد مهتدياً وضالاً فجعلوا هداه، وإضلاله مجرد تسمية العبد بذلك4 وسنبين بطلان هذا قريباً بعد ذكر الآيات الدالة على هذه المرتبة. وأما الجبرية: فقد ظلموا القدرية، ولم ينصفوهم بل ظلموا أنفسهم بإنكار

1- سورة القصص آية:56.

2-

سورة يونس آية:25.

3-

سورة الإسراء آية:15.

4-

انظر مقالات الإسلاميين 1/324 ـ 325، شفاء العليل ص82.

ص: 538

الأسباب والقوى وإنكارهم فعل العبد وقدرته، وأن يكون له تأثير في الفعل البتة فلم يهتدوا لقول القدرية، بل ازدادوا ضلالاً على ضلالهم وجموداً على ما هم عليه من الباطل1.

وهداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل تتضمن أمرين:

أحدها ـ فعل ـ الرب تعالى ـ وهو الهدى:

الثاني: فعل العبد وهو الاهتداء وهو أثر فعل الباري ـ سبحانه ـ فهو الهادي والعبد هو المهتدي.

قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 2 وقد أمر ـ سبحانه ـ عباده جميعهم بأن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم في كل يوم وليلة في الصلوات الخمس المفروضة، وذلك يتضمن الهداية إلى الصراط والهداية فيه، كما أن الضلال نوعان: ضلال عن الصراط فلا يهتدي إليه، وضلال فيه، فالأول ضلال عن معرفته، والثاني ضلال عن تفاصيله، أو بعضها3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:"والعبد مضطر دائماً إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية فمن فاته فهو إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدي الله، وهذه الآية4 مما يبين فساد مذهب القدرية"5.

وهذه المرتبة دل عليها الكثير من آيات القرآن كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 6 وقوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} 7 فالآيتان دلتا على أن هداية الإلهام والتوفيق وخلق الهداية في القلب ليس إليه صلى الله عليه وسلم ولا إلى أحد غيره، وإنما ذلك لله وحده.

1- الملل والنحل 1/85 ـ 86 شفاء العليل ص80، لوامع الأنوار 1/90 ـ 91.

2-

سورة الأعراف آية:178.

3-

شفاء العليل ص81.

4-

يشير إلى قوله تعالى في سورة الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .

5-

مجموع الفتاوى 14/37، وانظر دقائق التفسير 1/209، شفاء العليل ص81.

6-

سورة القصص آية:56.

7-

سورة النحل آية:37.

ص: 539

وأما تأويل القدرية: بأن المراد من الهدى والضلال هو: "تسمية الله العبد مهتدياً وضالاً" فهذا تأويل فاسد أنكره عليهم سلف الأمة وأئمتها في كل مكان، وفي كل عصر، وبينوا أن قولهم هذا ليس له أساس، وإنما بنوه على تُرَّهاتهم الفاسدة وتأويلاتهم الباطلة. لا يصح حمل آيات الهدى والضلال على هذا المعنى وتأويلهم ذلك باطل من وجوه:

الوجه الأول: أننا إذا تأملنا آيات الهدى والضلال وجدناها لا تحتمل تأويلهم ذلك إذ أنه ليس في أي لغة من اللغات فضلاً عن اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن أن هداه بمعنى سماه مهتدياً وأضله سماه ضالاً، ولا يصح أن يقال: علَّمه إذا سماه عالماً، وفهمه إذا سماه فهماً، وكيف يصح هذا في مثل قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1؟ فهل فهم أحد غير القدرية المحرفة للقرآن من هذا "ليس عليك تسميتهم ولكن الله يسمي من يشاء مهتدياً"؟ وهل فهم أحد غيرهم {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إنك لا تهدي من أحببت لا تسميه مهتدياً ولكن الله يسميه بهذا الإسم ـ سبحانك ـ هذا بهتان عظيم وقوله على الشارع بغير علم.

الوجه الثاني: عليهم أن يبينوا صلاحية اللفظ للمعنى الذي ذكروه أولاً: واستعمال المتكلم له في ذلك المعنى، في أكثر المواضع حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حمل على ما عهد منه استعماله فيه.

الوجه الثالث: "عليهم أن يقيموا دليلاً سالماً عن المعارض على الموجب لصرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته وإلا كان ذلك منهم مجرد دعوى لا تقبل منهم"2.

وتأول بعضهم نصوص الهداية على أن المراد بها هداية البيان والتعريف لا خلق الهدى في القلب، فإنه ـ سبحانه ـ لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة الزائفة"3.

قال محمد بن أحمد السفاريني: "تنبيه المشهور عند المعتزلة ومن مذهبهم أن

1- سورة البقرة آية:272.

2-

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر ص82 ـ 83.

3-

المصدر السابق ص83.

ص: 540

الهداية هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب فإن لم تكن موصلة إلى المطلوب فليست بهداية عندهم"1.

ويرد عليهم في هذا التأويل: أن الله تعالى قد أخبر أنه قسم الهداية إلى قسمين:

قسم: لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى.

وقسم: مقدور للعبد قال تعالى في القسم المقدور لعبده {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 وقال تعالى في القسم غير المقدور للعبد {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3. وقال تعالى: {فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} 4 فحمل هذا على هداية الدعوة والبيان لا يصح وغير سائغ فإن هذا يهدي وإن أضله الله بالدعوة والبيان وكذا قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ} 5 فهل يجوز حمله على معنى فمن يدعوه إلى الهدى ويبين له ما تقوم به حجة الله عليه، وكيف يصنع هؤلاء القدرية بالنصوص التي فيها أنه ـ سبحانه ـ هو الذي أضلهم؟ أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضلال؟ لا شك أنهم يقولون ليس هذا معناه ولكنهم لما وجدوا أنفسهم لا يستقيم لهم دليل على دعواهم جنحوا إلى تحريفات أخرى.

فقالوا: إنما معناها ألفاهم، ووجدهم، كذلك، أو أعلم ملائكته ورسله بضلالهم، أو جعله على قلوبهم علامة يعرف الملائكة بها أنهم ضلال" ويرد على هذه التحريفات من وجوه:

الوجه الأول: أن اللغة لا تحتمل ذلك، وأن النصوص إذا تأملها المتأمل وجدها أبعد شيء من هذا المعنى.

الوجه الثاني: أما قولهم إنه علمهم بعلامة يعرفهم بها الملائكة فهذا من جنايتهم على كتاب الله تعالى ففي أي لغة وفي أي لسان يدل قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} على معنى إنك لا تعلمه بعلامة ولكن الله هو الذي يعلمه بها؟

1- لوامع الأنوار 1/335.

2-

سورة الشورى آية:52.

3-

سورة القصص آية:56.

4-

سورة النحل آية:37.

5-

سورة الجاثية آية:23.

ص: 541

وفي أي لغة يفهم من قول الداعي {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 1 علِّمنا بعلامة يعرف الملائكة بها أننا مهتدون؟ وفي أي لغة يكون معنى قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 2 علمناها بعلامة أو وجدناها كذلك؟

الوجه الثالث: يقال لهم في أي لسان وفي أي لغة؟ وجدتم هديت الرجل إذا وجدته مهتدياً وختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة وجده كذلك، فهل هذا إلا من الإفتراء المحض ومن الجناية على القرآن واللغة لم يجنها غيركم، ولما يدركوا أن تأويلاتهم الفاسدة لم تساعدهم على ما يريدون وتضمحل أمام مناقشة أهل الحق لها يجنحون إلى مراوغة أخرى فيقولون: نحن لم نقل هذا إلا في نحو أضله الله أي: وجده ضالاً كما يقال: أحمدت الرجل، وأبخلته وأجننته إذا وجدته كذلك، أو نسبته إليه.

ويرد على تحريفهم هذا بأنه لم يرد إلا في ألفاظ معدودة نادرة وإلا فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به ولا سيما إذا كانت الهمزة للتعدية من الثلاثي كقام وأقمته.... لم نجد فيها لفظاً واحداً معناه أنه وجده كذلك تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً

ثم إذا نظرنا لم نجد أحداً من الأولين والآخرين من أهل اللغة يقول: إن العرب وضعت أضله الله وهداه وختم على سمعه وقلبه، وأزاغ قلبه، وصرفه عن طاعته ونحو ذلك لمعنى وجده كذلك ولكن الله ـ سبحانه ـ لما أراد الإبانة عن هذا المعنى قال:{وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 3 ولم يقل وأضلك.

الوجه الرابع: يقال لهم أي مدح؟ وأي توحيد؟ وتعريف للخلق بأن الأمر كله لله وبيده، وأنه ليس لأحد من أمره شيء في مجرد التسمية والعلامة ومصادفة ـ الرب تعالى ـ عباده كذلك، ووجوده لهم على هذه الصفات من غير أن يكون له فيها صنع، أو خلق، أو مشيئة، إذ البشر كلهم لا يعجزون عن التسمية والمصادفة والوجود فيا عجباً لهذا الهراء الذي لا مدح فيه ولا ثناء لرب العالمين"4 ففي الحقيقة أن القدرية والجبرية لم يقدروا الله حق قدره بل هم هلكى فيما يجب لله من التعظيم والتنزيه، ولذلك أبغضهم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينوا ما هم عليه من المنكر الواضح ومن الاعتقاد الفاسد.

1- سورة الفاتحة آية: 6.

2-

سورة المائدة آية: 13.

3-

سورة الضحى آية: 7.

4-

شفاء العليل ص83 ـ 84 بتصرف.

ص: 542

روى أبو بكر محمد بن الحسين الآجري بإسناده إلى عبد الله بن الحارث قال: "خطب عمر بن الخطاب بالجابية1 فحمد الله وأثنى عليه وعنده جاثليق2 يترجم له ما يقول عمر فقال: من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، فنفض جبينه كالمنكر لما يقول: قال عمر ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحداً قال عمر: كذبت أي عدو الله بل الله خلقك، وقد أضلك، ثم يدخلك الله النار أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما هم عاملون فقال هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه قال فتفرق الناس وما يختلفون في القدر"3.

المرتبة الرابعة: من مراتب الهداية: غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} 4.

وقال تعالى عن أهل النار {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} 5.

والذي نخلص إليه مما تقدم أن الهدى والإضلال بيد الله تعالى وأن العباد لا يملكون من ذلك شيئاً، وأن الله تعالى يمنحها من طلبها بإخلاص، وأخذ بالأسباب التي توصله إليها، وأسباب الهداية في مقدور كل امرئ أن يأخذ بها حتى يكون من المهتدين، أما من أعرض عنها وأبى إلا أن ينحرف عن طريق الهدى فهذا يكون نصيبه الغواية والضلال وهذا من فعل العبد وكسبه، فالهداية والإضلال فعل الله، والإهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.

1- الجابية: مدينة بالشام انظر معجم البلدان 2/91، وانظر مختار الصحاح ص92.

2-

الجاثليق: جمعه جثالقة وهو متقدم الأساقفة انظر المنجد في اللغة والأعلام ص79.

3-

الشريعة للآجري ص200 ـ 201.

4-

سورة يونس آية: 9.

5-

انظر أنواع الهداية في "شفاء العليل" ص65 ـ 84، بدائع الفوائد 2/35 ـ 37، فتح الباري 11/515، لوامع الأنوار البهية /334 ـ 335، والآيتان رقم 22، 23 من سورة الصافات.

ص: 543