المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

لقد جاء في السورة أن الأمر الوحيد الذي أوقع المشركين في الإشراك بالله ـ تعالى ـ إنما كان نتيجة تعلقهم بأن معبوداتهم التي يوجهون لها العبادة من دون الله تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى، كما أوضحت أن الشفاعة نوعان شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة، وقبل إيراد الآيات التي وردت في السورة لبيان ذلك نبين حقيقة الشفاعة في اللغة، والاصطلاح.

أما الشفاعة في اللغة:

فقد جاء في الصحاح للجوهري: "الشفع خلاف الوتر وهو خلاف الوتر تقول: كان وتراً فشفعته شفعاً.... واستشفعته إلى فلان، أي سألته أن يشفع لي إليه، وتشفَّعت إليه في فلان فشفعني فيه تشفيعاً"1.

وفي القاموس: "الشفع خلاف الوتر وهو الزوج وقد شفعه كمنعه

إلى أن قال: وعين شافعة تنظر نظرين، وشفعت لي الأشباح بالضم أي أرى الشخص شخصين لضعف بصري وانتشاره" أ. هـ2.

وجاء في اللسان: "الشفع خلاف الوتر وهو الزوج تقول: كان وتراً فشفعته شفعاً وشفع الوتر من العدد شفعاً صيَّره زوجاً"3.

1- 3/1238.

2-

3/47.

3-

8/183، وانظر المعجم الوسيط 1/487، الجامع لأحكام القرآن 1/378.

ص: 291

وجاء في النهاية لابن الأثير: "ومنه الشُّفعة ـ بالضم ـ وهي مشتقة من الزيادة لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به كأنه كان واحداً وتراً فصار زوجاً شفعاً"1.

وقال الراغب: "ويطلق لفظ الشفيع والشافع على من طلب شيئاً لغيره لينفعه به أو يضره قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} 2 أي: من انضم إلى غيره وعاونه صار شفعاً له، أو شفيعاً في فعل الخير والشر فعاونه وقواه وشاركه في نفعه وضره"3.

ومن هذه التعاريف اللغوية السابقة يتبين أن المعنى اللغوي للشفاعة يدخل فيه كل ما دلت عليه مادة ـ الشفع ـ وهو: الازدواج والانضمام إلى الغير في الحصول على أمر ما.

قال في اللسان: "والشافع: الطالب لغيره يتشفع به إلى المطلوب يقال: تشفعت بفلان إلى فلان فشفعني فيه واسم الطالب شفيع"4.

وقال الراغب: "الشفع: ضم الشيء إلى مثله والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى ومنه الشفاعة في القيامة"5.

وقال الحافظ: "الاستشفاع طلب الشفاعة، وهي: انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرونه"6.

وأما تعريف الشفاعة في الاصطلاح:

فإنه لا يكاد يخرج عن المعنى اللغوي، إذ المعنى الاصطلاحي للشفاعة هو: ضم الشافع طلبه إلى طلب المشفوع له، فيصبح بذلك شفعاً وهو ضد الوتر.

وعرَّفها بعضهم بأنها: "سؤال الخير للغير"7.

1- 2/485.

2-

سورة النساء آية: 85.

3-

المفردات في غريب القرآن ص263 وانظر "الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص61.

4-

اللسان 8/184، وانظر تاج العروس 5/400.

5-

المفردات في غريب القرآن ص263.

6-

الفتح 11/433.

7-

لوامع الأنوار البهية 2/ 204.

ص: 292

وقيل: "هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم"1.

وبهذا نعلم موافقة المعنى الشرعي للشفاعة لمعانيها اللغوية.

وبعد تعريف الشفاعة لغة وشرعاً نقول: إن "سورة الزمر" قد تناولت نوعي الشفاعة المنفية، والمثبتة، كما أوضحت أن المشركين ما أوقعهم في الشرك بالله ـ العظيم ـ إلا تعلقهم بأن الآلهة التي يعبدونها من دون الله تشفع لهم عنده وتقربهم إلى الله زلفى.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} .

وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هذه ثلاث آيات من السورة الآية الأولى: منها أوضحت أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، والأوثان لكي تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى. قال قتادة:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} أي "قالوا ما نعبد هؤلاء إلا ليقربونا، إلا ليشفعوا لنا عند الله".

قال ابن زيد: قالوا هم شفعاؤنا عند الله، وهم الذين يقربوننا إلى الله زلفى يوم القيامة"2 فهذه حال من يتخذ الأولياء والشفعاء من دون الله يزعم أن ذلك يقربه إلى الله زلفى، والحال أن عمله هذا مشاهد عليه بالكفر والكذب محروم من هداية الله تعالى، وأما الآيتان الأخيرتان وهما قوله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هاتان الآيتان من السورة بينتا بأن الشفاعة تنقسم إلى قسمين:

أـ شفاعة منفية وهي التي ادعاها المشركون وأثبتوها لآلهتهم.

ب ـ شفاعة مثبتة، وهي التي أثبتها الله لأهل الإخلاص فيأذن هو ـ سبحانه ـ لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له، وأمره وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهي

1-النهاية لابن الأثير 2/485، لسان العرب 8/184.

2-

قول قتادة وابن زيد في جامع البيان للطبري 23/191، 192.

ص: 293

التي أبطلها الله في أماكن كثيرة من كتابه سنذكر طرفاً منها فيما يأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ بعد بيان دلالة الآيتين من السورة التي تقدم ذكرها.

فالآية الأولى منهما: وهي قوله ـ تعالى ـ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} . فهذه الآية تضمنت الإنكار لاتخاذ المشركين الشفعاء من دون الله ـ سبحانه ـ حيث زعموا أنها تشفع لهم عند الله من دون أن يأذن أو يأمرهم بذلك والحال أنه لا يمكن أن يشفع أحد عنده ـ تعالى ـ إلا بإذنه وأن يرضى عن المشفوع له فهذان الشرطان الثقيلان لا بد منهما في الشفاعة المقبولة عنده ـ جل وعلا ـ وهذان الشرطان مفقودان فيمن زعمهم المشركون أنهم شفعاؤهم عند الله ـ تعالى ـ وهو ـ سبحانه ـ لم يجعل اتخاذ الشفعاء ودعاءهم من دونه سبباً لإذنه ورضاه بل ذلك من أعظم الأسباب المانعة لرضاه، ومن أعظم الأسباب الجالبة لغضبه ثم أنكر عليهم ثانياً في نفس الآية:{قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} أي: يشفعون لكم ولو كانوا على هذه الصفة كما ترونهم جمادات ليس لها قدرة ولا علم بحالكم، أو أموات كذلك لا يملكون الشفاعة وليسوا أهلاً لها.

وأما الآية الثانية: وهي قوله ـ تعالى ـ: {قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

فهذه الآية أمر من الله ـ جل وعلا ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: بأن يعلن لجميع العالمين بأن الشفاعة كلها لله فهو المالك لها وليس لمن زعمهم المشركون منها شيء. قال العلامة ابن جرير حول الآيتين السابقتين: "يقول ـ تعالى ذكره ـ: أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم وقوله: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهم: أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون ولو كانوا لا يملكون لكم نفعاً ولا ضراً، ولا يعقلون شيئاً، قل لهم: إن تكونوا تعبدونها لذلك وتشفع لكم عند الله فأخلصوا عبادتكم لله وأفردوه بالألوهية فإن الشفاعة جميعاً له، لا يشفع عنده إلا من أذن له ورضي له قولاً وأنتم متى أخلصتم له العبادة فدعوتموه وشفعكم {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يقول: له سلطان السموات والأرض وملكها، وما تعبدون أيها المشركون من دونه ملك له. يقول: فاعبدوا

ص: 294

الملك لا المملوك الذي لا يملك شيئاً {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يقول: ثم إلى الله مصيركم وهو معاقبكم على إشراككم به إن متم على شرككم"أ. هـ1.

وقال البيضاوي: عند قوله تعالى: {قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الآية، لعلَّه رد لما عسى يجيبون به، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون وهي تماثيلهم، والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ولا يستقل بها2 وقوله:{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه بأنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه فيدخل في ذلك ملك الشفاعة فإذا كان هو مالكها بطل اتخاذ الشفعاء من دونه كائناً من كان وسيعلمون حقيقة ذلك إذ وقفوا بين يدي الله يتبين لهم أنهم لا يشفعون ويخيب سعيهم في عبادتهم. قال العلامة ابن القيم حول الآية السابقة:

"فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده وأن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه فإنه ليس بشريك بل مملوك محض بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض. أ. هـ3.

والشفاعة التي أثبتها المشركون لأصنامهم صرح القرآن ببطلانها ونفيها في مواضع كثيرة.

قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} 4.

قال في تيسير العزيز الحميد: في هذه الآية رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام المصورة على صور الصالحين وغيرهم وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه فأنكر ذلك عليهم" أ. هـ5

1- جامع البيان: 24/9 ـ 10.

2-

أنوار التنزيل 2/324.

3-

إغاثة اللهفان 1/222.

4-

سورة البقرة آية: 255.

5-

ص240.

ص: 295

وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 1.

فأخبر أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله ـ سبحانه ـ رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى:{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 2 فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ولا الشافع شفيع من دونه، بل شفيع بإذنه والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور فالشفاعة التي أبطلها الله شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتي أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وخلَّصوه من تعلقات الشرك وشوائبه وهم الذين ارتضى الله ـ سبحانه ـ قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} 3.

وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 4 وهنا أخبر سبحانه أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه ولا يرضى قوله فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه ـ سبحانه ـ علقها بأمرين رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة5.

"والسر في ذلك أن الأمر كله لله تعالى وليس لأحد معه من الأمر شيء وأكرم خلقه سبحانه وأفضلهم عنده ملائكته المقربون ورسله الكرام وهم مع ذلك عبيد محض لا يسبقونه بقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه، وأمره لهم، ولا سيما يوم القيامة، فالملائكة والأنبياء مملوكون مربوبون أفعالهم مقيدة بأمر الله وإذنه فمن عبدهم واتخذهم شفعاء، وأولياء ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله فهو من أجهل الناس بحق الرب ـ سبحانه ـ وما يجب له ويمتنع عليه.

1- سورة الأنعام آية: 51.

2-

سورة يونس آية: 3.

3-

سورة الأنبياء آية: 28.

4-

سورة طه آية: 109.

5-

إغاثة اللهفان 1/221.

ص: 296

والذي أوقع عباد الأصنام، وعباد القبور في طلب الشفاعة من غير الله ـ تعالى ـ هو قياسهم الخالق على المخلوق حيث قاسوه ـ تعالى ـ على الملوك والعظماء في هذه الدنيا حيث يتخذ الشخص من المقربين لديهم من يشفع له عندهم في قضاء الحوائج فهذا هو القياس الفاسد الذي بنى عليه المشركون عبادتهم للأصنام، واتخذوا من دونه الشفعاء والأولياء وهذا من جهلهم بالفارق بين الخالق والمخلوق"1.

الذي يجب على كل مسلم معرفته. فهناك فرق بين الشفاعة عند المخلوقين والشفاعة عنده ـ تعالى ـ ذلك أن الوسائط التي تكون بين الملوك وبين الناس تكون على أحد الوجوه التالية:

الوجه الأول:

أن العظماء من أهل الدنيا بحاجة إلى من يخبرهم بأحوال الناس ما لا يعرفونه، ومن زعم أن الله لا يعلم أحوال الناس حتى يخبره بذلك بعض الأنبياء، أو غيرهم من الملائكة والأولياء والصالحين فهو كافر به ـ سبحانه ـ لأنه ـ جل وعلا ـ يعلم السر وأخفى ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

الوجه الثاني:

إن العظماء من أهل الدنيا عاجزون عن تدبير رعيتهم ودفع أعدائهم إلا بأعوان يعاونونهم، وأنصار يكونون مستنداً لهم عند الذلة والعجز، أما الله ـ جل وعلا ـ ليس له ظهير، ولا ولي من الذل، وكل ما في الوجود من الأسباب فهو ـ سبحانه ـ ربه وخالقه وهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم والله ـ سبحانه ـ لا شريك له في الملك، بل لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، ولهذا لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، فإن من شفع عنده بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب أثَّر فيه بشفاعته حتى يفعل ما يطلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه.

1- انظر إغاثة اللهفان 1/221 بتصرف.

ص: 297

الوجه الثالث:

إن العظماء من أهل الدنيا قد يكونون غير مريدين نفع رعيتهم والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركهم من الخارج، فإذا خاطبهم من ينصحهم ويعظهم أو من يدلهم ممن يرجونهم ويخافونهم تحركت إرادتهم وهمتهم في قضاء حوائج رعيتهم. فلحاجتهم إليهم يقبلون شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنتقض طاعتهم، ولذا يقبلون شفاعتهم على الكره والرضي.

أما الباري سبحانه وتعالى فهو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو ـ سبحانه ـ إذا أراد إجراء نفع العباد بعضهم على يد بعض جعل هذا يحسن إلى هذا وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة"1. ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه، والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه كما قدمنا ذلك بخلاف العظماء من أهل الدنيا فإنهم محتاجون والشافع عندهم يكون شريكاً لهم في الملك، وقد يكون مظاهراً لهم على ملكهم ولذا فإنهم يشفعون عند ملوكهم بغير إذنهم، والملوك يقبلون شفاعتهم تارة لحاجتهم إليهم وتارة لجزاء إحسانهم ومكافأتهم، حتى أنهم يقبلون شفاعة أولادهم وأزواجهم، بل إن أحدهم لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، بل يقبل حتى شفاعة مملوكه فإنه إذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه، ويقبل شفاعة أخيه مخافة أن يسعى في ضرره. فشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا القبيل فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو لرهبة، والله ـ جل وعلا ـ لا يرجو أحداً، ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد هو الغني ـ سبحانه ـ عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، والمشركون قديماً وحديثاً إنما يتخذون الشفعاء، والأولياء على غرار ما يعهدونه عند المخلوق"2 وفيما ذكرنا من الفروق كفاية بين الشفاعة الشركية، والشفاعة الشرعية لمن أراد الله تنوير بصيرته، فابتعد عما يدين به المشركون والقبوريون

1- الواسطة بين الحق والخلق لابن تيمية ص17 ـ 19 بتصرف، وانظر إغاثة اللهفان 1/223، وانظر الهدية السنية لابن سحمان ص51.

2-

إغاثة اللهفان 1/223.

ص: 298

في الشفعاء والأولياء، وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 1.

ولقد حكم الله في كتابه على اتخاذ المشركين الشفعاء والأولياء بالكفر وأنهم كاذبون فيما يزعمون من أن معبوداتهم تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى. قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} .

وهذه الآية من السورة بينت أن غاية المشركين من عبادتهم الأولياء أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، وذلك بتحصيل شفاعتهم وهذا من افتراء المشركين الباطل وقد تقدم الكلام على هذه الآية قريباً.

وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.

هذه الآية فيها الإخبار بذم المشركين الذين يعبدون الأصنام التي ليس لديها جلب نفع ولا دفع ضر وأبانت بأن مقصودهم من عبادتها هو الشفاعة عند الله كما أوضحت بأن ذلك شرك بالله العظيم نزه تعالى نفسه عنه.

قال الصنعاني3 رحمه الله تعالى: "فجعل الله تعالى اتخاذهم للشفعاء شركاً ونزه نفسه عنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها، ولا يغنون عنهم من الله شيئاً" اهـ4.

وقال تعالى مبطلاً للشفاعة الشركية وقاطعاً منافذ الشرك فيها بالكلية {قُلِ ادْعُوا

1- سورة الكهف آية: 17.

2-

سورة يونس آية: 18.

3-

هو: محمد بن إسماعيل بن صلاح بن الحسين الكحلاني ثم الصنعاني أبو إبراهيم عز الدين المعروف بالأمير، وهو مجتهد له مؤلفات كثيرة أصيب بمحن كثيرة من الجهلاء والعوام ولد سنة تسع وتسعين وألف وتوفي سنة اثنتين ومائة وألف هجرية. انظر ترجمته في "البدر الطالع للشوكاني 2/133 ـ 139".

4-

تطهير الإعتقاد ص11، وانظر "شذرات البلاتين" 1/281 ـ 283.

ص: 299

الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1.

هذه الآية قال فيها بعض العلماء: "إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها"2 يوضح ذلك ما قاله العلامة ابن القيم حولها:

قال رحمه الله تعالى: "فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدت بها عليهم الباب أبلغ سد وأحكمه؟ فإن العابد إنما تعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو كان لا يرجو منفعة منه فلا يتعلق قلبه به أحداً وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود إما مالكاً للأسباب التي ينتفع بها عابداه أو شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة وقدر، يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت موارده فنفى ـ سبحانه ـ عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض فقد يقول المشرك: هي شريكه للمالك الحق فنفى شركها له.

فيقول المشرك: قد تكون ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 3.

ولم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فإن لم يأذن للشافع لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، كما يكون في حق المخلوقين، فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع وإلى معاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له بها.

وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته فهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بغير إذنه؟ 4.

فتبين مما تقدم أن الشفاعة المنفية التي نفاها الله ـ سبحانه ـ هي الشفاعة الشركية التي زعمها المشركون في آلهتهم أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى ولذلك يطلق القرآن نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة عند الناس ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد أن

1- سورة سبأ آية: 23.

2-

تيسير العزيز الحميد ص245.

3-

سورة سبأ آية: 23.

4-

مختصر الصواعق المرسلة 1/94، مدارج السالكين 1/343.

ص: 300

يأذن الله لمن يشاء، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه سبحانه وتعالى لأنه هو الذي أذن وهو الذي رضي عن المشفوع وهو الذي وفقه للعمل الذي استحق به الشفاعة، أما متخذ الشفيع فهو مشرك لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه.

النوع الثاني: الشفاعة المثبتة:

ذكرنا فيما تقدم أن السورة دلت على نوعي الشفاعة، المنفية، والمثبتة وتقدم الكلام على الشفاعة المنفية وهي التي أثبتها المشركون لآلهتهم الباطلة وذكرنا أن قوله تعالى:{قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

هذه الآية من السورة دلت على الشفاعة المثبتة.

فالآية كما قدمنا قريباً دلت على أن الشفاعة كلها لله تعالى لأن الأمر كله له وبيده ـ سبحانه ـ وكل شفيع يخافه ولا يقدر أي مخلوق كائناً من كان أن يشفع عنده بدون إذنه مهما كانت مكانته، فإذا أراد ـ سبحانه ـ رحمة عبد من عبيده أذن للشفيع أن يشفع عنده رحمة بالاثنين فله ـ سبحانه ـ ملك السموات والأرض من الذوات والأفعال والصفات فالواجب على جميع العباد أن يطلبوا الشفاعة من مالكها ويخلصوا في الطلب علَّهم يحصلون على نصيب من ذلك.

وسنبين هنا حقيقة الشفاعة المثبتة وحكمها ثم نختم ذلك بذكر أنواعها:

حقيقة الشفاعة المثبتة:

لقد قيد القرآن الكريم الشفاعة المثبتة بشرطين:

الشرط الأول: إذن الله تعالى للشافع بالشفاعة قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإذْنِهِ} 1.

الشرط الثاني: رضاه عن المشفوع له قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} 2 وعلى هذين الشرطين فليس في مكانة الملائكة، أو أي مخلوق مَّا سوغ المشركون عبادته من دون الله ممن لا يملك النفع والضر. أن يشفع عند الله إلا بإذنه، ولا

1- سورة البقرة آية: 255.

2-

سورة الأنبياء آية: 28.

ص: 301

يأذن الله بالشفاعة إلا عند رضاه عن المشفوع له، والله لا يرضى عن المشركين الذين قامت عليهم الحجة بدعوة التوحيد، فلم يستجيبوا {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 1.

حكمها:

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلاً ووجودها سمعاً بصريح قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 2.

وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} 3 وأمثالهما ويخبر الصادق صلى الله عليه وسلم وقد جاءت الآثار والتي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف والخلف ومن بعدهم من أهل السنة عليها، ومنعت الخوارج والمعتزلة، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجوا بقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 4 وبقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 5 وهذه الآيات في الكفار، وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار" اهـ6.

قال القاضي عبد الجبار عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 7. يدل على أن من استحق العقاب لا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصره لأن الآية وردت في صفة اليوم ولا تخصيص فيها فلا يمكن صرفها إلى الكفار دون أهل الثواب وهي واردة فيمن يستحق العذاب في ذلك اليوم لأن هذا الخطاب لا يليق إلا بهم فليس لأحد أن يطعن على ما قلناه بأن يمنع

1- سورة المائدة آية: 72.

2-

سورة طه آية: 109.

3-

سورة الأنبياء آية: 28.

4-

سورة المدثر آية: 48.

5-

سورة غافر آية: 18.

6-

نقلاً عن شرح النووي على صحيح مسلم 3/55.

7-

سورة البقرة آية: 48.

ص: 302

الشفاعة للمؤمنين أيضاً ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لهم لكان قد أغنى عنهم وأجزى فكان لا يصح أن يقول تعالى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} ولما صح أن قول {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} وقد قبلت شفاعته صلى الله عليه وسلم فيهم، ولما صح أن يقول:{وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} لأن قبول الشفاعة وإسقاط العقاب إلى المغفرة أعظم من كل فداء لهم عما قد استحقوه من المضرة، بل كان يجب أن تكون الشفاعة فداء لهم عما قد استحقوه من حيث تزول بها ولمكانها، ولما صح أن يقول:{وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} وأعظم النصرة تخليصهم من العذاب الدائم بالشفاعة فالآية دالة على ما نقوله من جميع هذه الوجوه" أ. هـ1. ونحن نقول له إن ذلك غير صحيح وأن مذهبك هذا ومذهب أتباعك من المعتزلة ظاهر الفساد والبطلان لمخالفته الكتاب والسنة وإجماع الأمة في ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر.

قال البيضاوي حول الآية السابقة التي استدل بها عبد الجبار بن أحمد على نفي الشفاعة "وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وأجيب بأنها مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة، ويؤيده أن الخطاب معهم والآية نزلت رداً لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم" اهـ2.

ويرد على المعتزلة والخوارج الذين نفوا الشفاعة من وجوه:

1 ـ إن الشفاعة ثابتة بالقرآن والأخبار المتواترة.

2 ـ الإجماع: من السلف على تلقي هذه الأخبار بالقبول، ولم يبد من أحد منهم في عصر من الأعصار نكير فظهور الأخبار الواردة فيها وإطباقهم على صحتها، وقبولها لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل السنة وفساد مذهب المعتزلة والخوارج3.

3 ـ إن أهل العلم قد جمعوا بين الآيات الواردة في نفي الشفاعة وبين الآيات الدالة على إثبات الشفاعة، بأن الآيات الواردة في نفي الشفاعة والشفيع المراد بها الشفاعة للكفار4

1- متشابه القرآن القسم الأول: 90 ـ 91.

2-

أنوار التنزيل 1/55.

3-

تفسير القرطبي 1/378 ـ 379.

4-

شرح النووي على صحيح مسلم 3/35، فتح الباري 11/426، تفسير ابن جرير الطبري 1/267، تفسير الرازي 3/56 وما بعدها، الجامع لأحكام القرآن 1/378 وما بعدها، تفسير النسفي 1/47.

ص: 303

والشفاعة المنفية هي التي تطلب من الأصنام والأموات الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراَ.

أنواع الشفاعة المثبتة:

اختلف العلماء في شفاعاته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة كم هي؟ فذكر النقاش1 في تفسيره أن للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات: الشفاعة العامة، وشفاعته في السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر. وقال ابن عطية2: في تفسيره، والمشهور أنهما شفاعتان فقط العامة وشفاعة في إخراج المذنبين وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء، وذكر القاضي عياض3 إن للنبي صلى الله عليه وسلم خمس شفاعات4.

وذكر القرطبي أن للنبي صلى الله عليه وسلم ست شفاعات5 وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "العقيدة الواسطية" أن للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات وقد ذكر شارح الطحاوية أن أنواع الشفاعة في الآخرة ثمانية أنواع منها ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأنواع هي6:

النوع الأول:

الشفاعة العامة: وهي التي يتدافعها الأنبياء أصحاب الشرائع آدم إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون.

1- هو محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون، أبو بكر النقاش، عالم بالقرآن وتفسيره أصله من الموصل ومنشأه ببغداد وكان في بدء حياته يزاول نقش السقوف والحيطان ولد سنة ست وستين ومائتين هجرية وتوفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. انظر ترجمته في وفيات الأعيان 1/489، ميزان الإعتدال 3/45، اللباب 3/321.

2-

هو عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي من محارب قيس، الغرناطي أبو محمد مفسر، فقيه، أندلسي من أهل غرناطة ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وتوفي سنة إثنتين وخمسمائة هجرية انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/93، كشف الظنون 2/1613.

3-

هو: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي أبو الفضل عالم بالمغرب وإمام أهل الحديث في زمنه، ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة وتوفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة هجرية. انظر ترجمته في وفيات الأعيان 1/392، الفهرس التمهيدي 1/368، والأعلام 5/282.

4-

انظر التذكرة للقرطبي ص249، شرح النووي على صحيح مسلم 3/35 ـ 36 فتح الباري 11/428.

5-

التذكرة ص249.

6-

ص127 ـ 128 بشرح محمد خليل هراس.

ص: 304

قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 1.

روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جيشاً كل أمة تتبع نبيها تقول: يا فلان اشفع يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود"2.

وروى الترمذي في سننه وحسنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} .

قال: هي الشفاعة3.

فالمقام المحمود هو الشفاعة العظمى لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم الآية الواردة فيه بذلك.

جاء في لوامع الأنوار ما نصه: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نوع من السمعيات وردت بها الآثار حتى بلغت مبلغ التواتر المعنوي وانعقد عليها إجماع أهل الحق من السلف الصالح قبل ظهور المبتدعة لكن هذه الشفاعة العظمى مجمع عليها لم ينكرها أحد ممن يقول بالحشر إذ هي للإراحة من طول الوقوف حتى يتمنون الإنصراف من موقفهم ذلك ولو إلى النار

وقد التمس بعض العلماء الحكمة في إلهام الناس التردد إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم قبله ولم يلهموا المجيء إليه لأول وهلة أن ذلك إظهار لفضله عليه الصلاة والسلام وشرفه على رؤوس الخلائق فصلوات الله وسلامه عليه"4.

النوع الثاني:

شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيشفع ليدخلوا الجنة.

النوع الثالث:

شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام أمر بهم إلى النار فيشفع فيهم أن لا يدخلوها.

1- سورة الإسراء آية: 79.

2-

3/151.

3-

4/365.

4-

2/208 وانظر شرح النووي على مسلم 3/56.

ص: 305

ومما يستدل به لهذين النوعين قوله صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك. اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله قال فيقول: إبراهيم لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلاً من وراء وراء اعمدوا موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله تكليماً. فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول: لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم لست بصاحب ذلك فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم. فيقوم فيؤذن له. وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمناً وشمالاً فيمر أولكم كالبرق" قال قلت: بأبي أنت وأمي! أي شيء كمر البرق؟ قال: "ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرحال تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب! سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً" قال: "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوس1 في النار"2.

قال الحافظ بعد أن ذكر النوع الثالث من أنواع الشفاعة: "ودليل الثالثة حديث حذيفة عند مسلم: ونبيكم على الصراط يقول: "رب سلم سلم"3.

النوع الرابع:

شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم وقد وافقت المعتزلة على هذه الشفاعة.

قال القاضي عياض: "وهذه الشفاعة لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الأول"4. ودليل هذا النوع: ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما أصيب عمه أبو عامر في غزوة أوطاس فلما أخبر أبو موسى

1- قال في النهاية: أي مدفوع وتكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط.

2-

رواه مسلم من حديث حذيفة 1/187.

3-

فتح الباري 11/428.

4-

ذكره عنه القرطبي في التذكرة ص249.

ص: 306

رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه وقال: "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر واجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك"1.

وحديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأبي سلمة بعدما توفي فقال: "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه"2.

النوع الخامس:

شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب.

ويستدل لهذا النوع بما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب" فقال رجل: يا رسول الله! أدع الله أن يجعلني منهم قال: "اللهم اجعله منهم" ثم قام آخر فقال: يا رسول الله! أدع الله أن يجعلني منهم قال: "سبقك بها عكاشة"3.

ووجه الدلالة منه دعاؤه لعكاشة بن محصن أن يجعله من أولئك السبعين ألفاً فدعاؤه صلى الله عليه وسلم شفاعة له.

النوع السادس:

الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه كشفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه، ودليل هذا النوع ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال:"لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه"4.

قال القرطبي: بعد أن ذكر هذا النوع فإن قيل: فقد قال ـ تعالى ـ {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 5 قيل له لا تنفعه في الخروج من النار كما تنفع عصاة

1- صحيح البخاري 4/103، صحيح مسلم 4/1943.

2-

صحيح مسلم 2/643، وسنن أبي داود 2/170 والمسند 6/297.

3-

صحيح البخاري مع الفتح 11/406، صحيح مسلم 1/197.

4-

4/195.

5-

سورة المدثر آية: 48.

ص: 307

الموحدين الذين يخرجون ويدخلون الجنة" أ. هـ1.

وقال الحافظ: "لعله تنفعه شفاعتي" ظهر من حديث العباس وقوع هذا الترجي واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم: "تنفعه شفاعتي" بقوله ـ تعالى ـ {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وأجيب بأنه خص ولذلك عدوه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: معنى المنفعة في الآية يخالف معنى المنفعة في الحديث والمراد بها في الآية الإخراج من النار وفي الحديث "المنفعة بالتخفيف"أهـ2.

النوع السابع:

شفاعته صلى الله عليه وسلم في أن يؤذن لأهل الجنة في دخولها ومن أدلة هذا النوع ما جاء في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعاً"3.

وفي حديث آخر عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك"4.

النوع الثامن:

الشفاعة في أهل الكبائر من هذه الأمة ممن دخل النار فيخرجون منها وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث الكثيرة5.

ورغم تواترها فقد خالف في ثبوتها الخوارج والمعتزلة ممن قل علمه منهم ينكرها لجهله بكثرة الأحاديث الواردة فيها.

1- التذكرة ص249.

2-

فتح الباري 11/431.

3-

صحيح مسلم 1/188.

4-

المصدر السابق ورواه أيضاً أحمد في مسنده 3/247.

5-

ذكر هذه الأنواع العلامة ابن القيم في شرحه على سنن أبي داود، انظر عون المعبود 13/77 ـ 78 وابن كثير في النهاية 2/179 ـ 282، كما ذكرها شارح الطحاوية ص253 ـ 258، فتح الباري 11/428، شرح النووي على صحيح مسلم 3/35، تحفة الأحوذي 7/127، لوامع الأنوار البهية 2/204 ـ 217، الدين الخالص 2/309 ـ 310.

ص: 308

وأما من علم تلك الأحاديث منهم فإنكاره لها إنما هو عناد واستكبار عن الحق واسترواح لهذه البدعة المنكرة، واتباع للهوى.

وهذه الشفاعة يشارك فيها النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة والنبيون والمؤمنون وأدلة هذا النوع كثيرة جداً.

فمنها ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً" 1 ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة فإذا هو في قصره فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا، فأذن لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لثابت لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض....." الحديث وفيه أنهم يأتون آدم فيطلبون منه أن يشفع لهم. فيحيلهم على إبراهيم وإبراهيم يحيلهم على موسى وموسى يحيلهم على عيسى، وعيسى يحيلهم على الرسول صلى الله عليه وسلم فيأتونه فيقول:"أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها، لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وأشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فانطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، أرفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأنطلق فأفعل، ثم أعود بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل". قال:

1- صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/447، صحيح مسلم 1/189.

ص: 309

فلما خرجنا من عند أنس وقلت لبعض أصحابنا لو مررنا بالحسن، وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه، فأذن لنا، فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة، فقال: هيه؟

فحدثنا بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه؟ فقلنا له لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني وهو يومئذ جميع، منذ عشرين سنة فما أدري، أنسي، أم كره أن تتكلوا؟ فقلنا: يا أبا سعيد، فحدثنا، فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، حدثني كما حدثكم به، قال:"ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله". فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله"1.

فهذا الحديث: وأمثاله من الأحاديث الواردة في شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته بلغت مبلغ التواتر ورغم ذلك فقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة، فخالفوا في ذلك، لجهلهم بصحة الأحاديث، وعناداً ممن علم ذلك واستمر على بدعته، وهذه الشفاعة، تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون2 أيضاً.

للحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً قال: "فيقول الله ـ تعالى ـ شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط"3.

قال شارح الطحاوية: "ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال:

فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم: يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا. والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر.

1- 1/182 ـ 184.

2-

انظر النهاية لابن كثير 2/180.

3-

1/170، صحيح البخاري 4/286.

ص: 310

وأما أهل السنة والجماعة، فيقرون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وشفاعة غيره لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً كما في الحديث الصحيح حديث "الشفاعة""إنهم يأتون آدم ثم نوحاً، ثم إبراهيم ثم موسى، ثم عيسى، فيقول لهم عيسى عليه السلام: "اذهبوا إلى محمد، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع، واشفع تشفع، فأقول: ربي: أمتي، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم انطلق فأسجد، فيحد لي حداً"1 ذكرها ثلاث مرات" أ. هـ2.

والذي نخلص إليه مما تقدم أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي الشفاعة التي تعلق بها المشركون الذين اتخذوا من دون الله، الشفعاء، والأولياء، فعاملهم الله بنقيض قصدهم من شفعائهم. وأما الشفاعة المثبتة التي أثبتها القرآن فهي التي يفوز بها الموحدون والتي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لأبي هريرة رضي الله عنه حين سأله عنها: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"3.

فتأمل كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك، وذلك عكس ما عند المشركين: حيث زعموا أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، وقد أبطل الله هذا الزعم في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه لا تطلب الشفاعة إلا منه تبارك وتعالى ولا يعبد إلا هو ـ سبحانه ـ ولا ولاء إلا له ـ جل وعلا ـ والمتأمل لحديث أبي هريرة السابق يرى أنه قلب المفهوم الذي يتصوره المشركون، وأبان للناس أجمعين مسلمهم وكافرهم أن سبب الشفاعة الوحيد هو تجريد التوحيد، وحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع وبالله التوفيق، وهو المستعان.

1- صحيح البخاري 4/286 ـ 287، صحيح مسلم 1/180 ـ 182.

2-

شرح الطحاوية ص360.

3-

صحيح البخاري مع الفتح 11/418، وأحمد في المسند 2/373.

ص: 311