المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد - مباحث العقيدة في سورة الزمر

[ناصر بن علي عائض حسن الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية

- ‌المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

- ‌المبحث الرابع: إثبات صفة العزة

- ‌المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة

- ‌المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر

- ‌المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة

- ‌المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى

- ‌المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا

- ‌المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم

- ‌المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل

- ‌المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين

- ‌الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة

- ‌المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة

- ‌المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة

- ‌المبحث الرابع: عبودية الدعاء

- ‌المبحث الخامس: عبودية الخوف

- ‌المبحث السادس: عبودية الرجاء

- ‌المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

- ‌المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل

- ‌المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه

- ‌المبحث العاشر: عبودية الإنابة

- ‌المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل

- ‌المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة

- ‌المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة

- ‌المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله

- ‌المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية

- ‌الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك

- ‌المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أنواع الشرك

- ‌المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان

- ‌المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

- ‌المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل

- ‌الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه

- ‌الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة

- ‌المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا

- ‌المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم

- ‌الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن

- ‌الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل

- ‌المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين

- ‌المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم

- ‌المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية

- ‌الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر

- ‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به

- ‌المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم

- ‌المبحث الثالث: مراتب القدر

- ‌المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال

- ‌الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر

- ‌الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار

- ‌المبحث الأول: النفخ في الصور

- ‌المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم

- ‌المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث

- ‌المبحث الرابع: أرض المحشر

- ‌المبحث الخامس: كتاب الأعمال

- ‌المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة

- ‌الفصل الثاني: النار دار الكافرين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار

- ‌المبحث الثاني: أبواب جهنم

- ‌المبحث الثالث: خزنة جهنم

- ‌المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل النار

- ‌المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها

- ‌الفصل الثالث: الجنة دار المتقين

- ‌المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة

- ‌المبحث الثاني: أبواب الجنة

- ‌المبحث الثالث: خزنة الجنة

- ‌المبحث الرابع: أرض الجنة

- ‌المبحث الخامس: صفات أهل الجنة

- ‌المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها

- ‌المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها

- ‌المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

‌المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد

لقد دلت السورة على الفرق الشاسع بين الموحد والمشرك وصورت ذلك تصويراً دقيقاً جعلته كأنه محسوس، ملموس مما دل ذلك على فبح الشرك في النفوس والعقول السليمة، والفطر المستقيمة قال تعالى: ـ

{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .

قال ابن جرير رحمه الله تعالى ـ "يقول تعالى ذكره: مثل الله مثلاً للكافر بالله الذي يعبد آلهة شتى ويطيع جماعة من الشياطين، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد". يقول تعالى ذكره: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً} لهذا الكافر {رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ} يقول هو بين جماعة مالكين متشاكسين يعني مختلفين متنازعين سيئة أخلاقهم من قولهم رجل شكس: إذا كان سيئ الخلق وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه وملكه فيه {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} يقول ورجلاً خلوصاً لرجل يعني المؤمن الموحد الذي أخلص عبادته لله لا يعبد غيره ولا يدين لشيء سواه بالربوبية.

قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} الآية قال: الشركاء المتشاكسون الرجل لذي يعبد آلهة شتى كل قوم يعبدون إلهاً يرضونه ويكفرون بما سواه من الآلهة فضرب الله هذا المثل لهم وضرب لنفسه مثلاً يقول: {رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} يقول: يعبدون إلهاً واحداً لا يختلفون فيه.

وقال قتادة: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} قال: هذا المشرك

ص: 414

تتنازعه الشياطين لا يقربه بعضهم لبعض {رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} قال: هو المؤمن أخلص الدعوة والعبادة وقال مجاهد: {رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} قال: هذا مثل إله الباطل، وإله الحق.

وقال السدي: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} قال: مثل لأوثانهم التي كانوا يعبدون

وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} يعني هل يستوي مثل هذا الذي يخدم جماعة شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فيه لخدمته مع منازعته شركاءه فيه والذي يخدم واحداً لا ينازعه فيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه، وإذا أخطأ صفح له عن خطئه يقول:"فأي هذين أحسن حالاً وأروح جسماً وأقل تعباً ونصباً"اهـ1.

قال العلامة ابن القيم حول هذه الآية: "هذا مثل ضربه الله ـ سبحانه ـ للمشرك والموحد، فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحنون، والرجل الشكس الضيق الخلق فالمشرك كما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له، وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه، وإحسانه إليه توليه لمصالحه فهل يستوي هذان العبدان، وهذا من أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين {الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} اهـ.2.

وقال رحمه الله في موضع آخر: "احتج ـ سبحانه ـ على قبح الشرك بما تعرفه العقول من الفرق بين حال مملوك يملكه أرباب متعاسرون سيئو الملكة وحال عبد يملكه سيد واحد قد سلم كله له فهل يصح في العقول استواء حال العبدين؟ فكذلك حال المشرك والموحد قد سلمت عبوديته لإلهه الحق لا يستويان" اهـ3.

1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23/213 ـ 214.

2-

أعلام الموقعين 1/187.

3-

مدارج السالكين 1/240.

ص: 415

وأما العلامة ابن كثير فقد قال حول الآية: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} أي يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} أي سالماً "لرجل" أي خالصاً لا يملكه أحد غيره {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} أي لا يستوي هذا وهذا، كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له فأين هذا من هذا؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص، ولما كان هذا المثل ظاهراً بيناً جلياً قال:{الْحَمْدُ للهِ} أي على إقامة الحجة عليهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي فلهذا يشركون بالله. اهـ1.

ومما تقدم يتبين لنا أن المؤمن الذي يعبد الله وحده لا شريك له، لا شك أنه أحسن حالاً وأهدأ بالاً وأقل تعباً ونصباً من ذلك المشرك الذي خالف عقله وفطرته وأمر ربه، واتجه بالعبادة إلى الأولياء والشركاء الذين لم يأذن الله بعبادتهم بل جعل ذلك من أقبح القبيح وأظلم الظلم وأن الكافر لا يمكن أن يستقر له قرار ولا يطمئن له قلب ولا تهدأ له نفس بعكس المؤمن الذي أخلص لله في عبادته فهو في أتم راحة وأكمل طمأنينة لأنه لم يعمل ما فيه مضادة لأمر الله أو ما فيه مخالفة للعقل والفطرة، فلقد أنكر الله ـ سبحانه ـ قبح الشرك به في الإلهية وعبادة غيره معه بما ضربه لعباده من الأمثال وأقام على بطلانه الكثير من الأدلة العقلية والسمعية التي يتذكر بها أولو الألباب. ولقد جاءت آيات كثيرة في معنى الآية التي معنا من السورة من ذلك قوله تعالى:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2.

هذه الآية احتج الله فيها على عباده بما هو مستقر في عقولهم من قبح كون مملوك أحدهم شريكاً له فكأنه يقول لهم: إذا كان أحدكم يستنكف أن يكون مملوكه شريكاً له، ولا يرضى بذلك، فكيف تجعلون لله من عباده شركاء تعبدونهم كعبادته؟ فالآية توضح لنا أن قبح عبادة غير الله ـ تعالى ـ مستقر في العقول والفطر، والشرع نبَّه العقول وأرشدها بما هو مودع وكامن فيها من قبح ذلك. قال العلامة ابن القيم: حول هذه الآية "وهذا دليل قياس احتج الله ـ سبحانه ـ به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم

1- تفسير القرآن العظيم 6/90.

2-

سورة الروم آية: 28.

ص: 416

حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم، ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها فقال {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل؟ أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه".

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً والمعنى هل يرضى أحد منكم أن كون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء الأحرار؟

فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي؟

فإن كان هذا الحكم باطلاً في فطركم وعقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكاً لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبيد لي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول. اهـ1.

ومن الأمثال التي ضربها الله ـ تعالى ـ لقبح الإشراك به قوله ـ تعالى ـ {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2.

هذه الآية تضمنت مثلاً لقبح الشرك والتنفير منه فقد ضرب الله ـ سبحانه ـ فيها مثلاً لنفسه وللأوثان فالله ـ سبحانه ـ هو الذي يملك كل شيء، وهو الذي ينفق على عباده كيف يشاء ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً يمينه ملآى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار.

أما الأوثان فهي عاجزة مملوكة ليس لها القدرة على أي شيء وما دام حالها على هذا كيف تجعلونها شركاء لله وتعبدونها من دونه مع هذا التفاوت المبين والفرق العظيم، وهذا هو معنى تفسير مجاهد وغيره لهذه الآية الكريمة3

1- أعلام الموقعين 1/159.

2-

سورة النحل آية: 75.

3-

جامع البيان عن تأويل آي القرآن 14/149.

ص: 417

وأما عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فإنه قال: إن هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقاً حسناً فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سراً وجهراً، والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده فلا مساواة بين الرجلين عند أحد من ذوي الألباب1.

قال العلامة ابن القيم "والقول الأول أشبه بالمراد فإنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسباً بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ثم قال: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} 2 ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقاً حسناً، والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، فهذا مما نبه عليه المثل وأرشد إليه، فذكره ابن عباس منبهاً على إرادته لا أن الآية اختصت به فتأمله" اهـ3.

ومن الأمثال التي ضربها الله لقبح الإشراك به ـ سبحانه ـ وتعالى {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4 وفي هذه الآية ضرب الله ـ سبحانه ـ فيها لنفسه وللأصنام المعبودة من دونه مثلاً، فالصنم الذي يعبد من دونه إنما هو بمثابة رجل أبكم لا يعقل، ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي واللساني، إضافة إلى ذلك أنه عاجز لا يقدر على شيء ألبتة، ومع هذا فأينما وجه لا يأتي بخير ولا يقضي حاجة لمن أرسله.

أما الله ـ تعالى ـ فإنه الحي القادر المتكلم الآمر بالعدل وهو على الصراط المستقيم وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد فإنه ـ سبحانه ـ الآمر بالعدل ـ وهو الحق ـ "وذلك يتضمن أنه سبحانه ـ عالم به، معلم له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل هو ـ سبحانه ـ منزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه، والباطل، بل أمره وشرعه

1- جامع البيان 14/149، تفسير ابن كثير 4/211.

2-

سورة النحل آية: 73 ـ 74.

3-

أعلام الموقعين 1/161.

4-

سورة النحل آية: 76.

ص: 418

عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور، وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني، والأمر القدري الكوني، وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما"1 ومن كانت هذه صفاته هو الجدير بأن يعبد وحده لا شريك له، ويخلص له الدين كله ـ ومما تقدم يتبين لنا من المثل الذي ضربه الله في السورة وغيرها من الآيات التي ذكرناها في معناها قبح الشرك سمعاً وعقلاً وفطرة كما يتبين لنا الآتي:

1 ـ إن الموحد لا يكون عنده ضيق نظر بخلاف المشرك الذي يعبد آلهة شتى أو يجحدها بالكلية.

2 ـ إن الموحد تنشأ في نفسه العزة والقوة التي لا يقف أمامها شيء لأنه أيقن في نفسه بأنه لا نافع ولا ضار إلا الله وأنه سبحانه ـ المحي المميت، وأنه صاحب القهر والحكم والسلطان في هذا الكون وهنا ينزع من قلبه كل خوف من غير الله ـ تعالى ـ فتجده لا يطأطئ رأسه لأحد من الخلق، ولا يتضرع إليه ولا يسأله ولا يخاف من كبريائه وعظمته لأنه استقر في نفسه عظمة القادر ـ سبحانه ـ وهذا بخلاف المشرك، والكافر ومن تربى على الإلحاد.

3 ـ أن الموحد لربه ـ جل وعلا ـ يتولد في نفسه مع العزة والقوة: تواضع دون ذل وترفع من غير كبر حتى أن الشيطان لا يلقى إليه سبيلاً لأن يلقي في نفسه الأخلاق الذميمة إذ أنه يعلم بيقين أن الله ـ تعالى ـ هو الذي وهبه كل ما عنده من النعم وهو القادر على سلبه إياها في أي لحظة شاء، أما المشرك فإنه يوجد لديه من الأخلاق الذميمة التي هي كفيلة بإهلاكه مثل الكبر وبطر الحق بمجرد حصوله على نعمة سريعة الزوال بين حين وآخر.

4 ـ إن الموحد موقن تمام اليقين بأنه لا سبيل إلى النجاة والفلاح إلا بتطهير نفسه من كل معصية لله عز وجل بالعمل الصالح أما المشرك والكافر فإنه يمضي حياته كلها في الأماني الكاذبة كما يزعم النصارى بأن المسيح عليه الصلاة والسلام أصبح كفارة لذنوبهم وكما يزعم اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبهم بذنوبهم وكما يعتقد بعض جهلة المسلمين أن الكبراء والأتقياء من أهل الصلاح سيشفعون لهم عند الله ـ تعالى ـ فيقدمون

1- أعلام الموقعين 1/162.

ص: 419

لهم النذور والقرابين في المواسم، ثم يستمرون في مخالفة الأوامر والنواهي، إتباعاً للهوى والشهوات الشيطانية.

5 ـ إن الذي أقر لله بالوحدانية وأفرده بالعبادة والطاعة لا يتسرب إليه يأس ولا يحل به القنوط لأنه يؤمن بأن خزائن السموات والأرض بيد الله وحده دون سواه، ومن هنا يكون مطمئناً تغمره السكينة والأمل حتى ولو نزل به ألوان من الهوان، والطرد من قبل أعداء الله فإنه لا تضيق به طرق العيش إذ أنه يوقن بأن الله يكلؤه ولا يسلمه إلى نفسه مع بذله جهده في التوكل على خالقه وبارئه ـ سبحانه ـ أما الكافر أو المشرك فإنه يعتمد على طاقاته المحدودة فإذا ما نزل به أمر فسرعان ما يحل به اليأس والقنوط في الشدائد بل ربما يؤدي به حاله إلى الإنتحار.

6 ـ إن المؤمن بالله يتربى على الشجاعة والعزم والتوكل والثبات عندما يقدم على أمور يريد بها وجه الله ـ تعالى ـ كالجهاد في سبيل الله والمرابطة في ثغور الإسلام إذ أنه يشعر في قرارة نفسه بأنه يستمد قوته ونصره من مالك السموات والأرض وما بينهما فلا يكون هناك مثيل لموقفه وثباته وأنى للمشرك والكافر مثل الموقف وتلك القوة والثبات التي يؤيد الله بها أولياءه.

7 ـ إن الذي يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً يكون قوي الجانب فلا مكانة للجبن والوهن لديه إذ الجبن وضعف العزم يتولد من أمرين: حب الإنسان نفسه وماله وأهله، واعتقاده أن غير الله له القدرة على سلب الحياة لكن المؤمن بالله حق الإيمان ينحي امن قلبه كلا الأمرين السابقين فهو موقن بأن الله هو المالك الحقيقي للإنسان ونفسه وماله وأهله فهو يضحي في سبيل الله بكل غال ورخيص في الحصول على مرضاة الله ـ تعالى ـ وقدكما أنه موقن بأنه ليس في مقدور الخلق أجمعين سلب الحياة إلا بقضاء الله وقدره، ونتيجة الإيمان الصادق فإن المؤمن حينما يلتقي بجيش الكفر لا يهاب كثرته ولا يخاف قعقعة السيوف فهو يواجه أعداء الله مقبلاً غير مدبر لأنه يؤمن أن إطالة العمر وانقضاء الأجل إنما هو بيد الله وحده.

8 ـ إن الإيمان بأنه لا معبود بحق إلا الله ـ تعالى ـ يرفع من قدر العبد فلا توجد فيه الخصال الذميمة مثل الدناءة واللؤم والشره والحسد وغيرها من الصفات القبيحة شرعاً وعقلاً وفطرة ـ لأن الإسلام يبغض هذه الخلال وحذر منها أشد تحذير.

ص: 420

9 ـ إن التوحيد الخالص والإقرار الصحيح ب"لا إله إلا الله" قولاً وعملاً، واقتضاء معنى يجعل المرء ملتزماً بشرع الله، ومحافظاً عليه إذ المرء عندما يؤمن بأن ربه بكل شيء عليم وأن معه من الملائكة من هو رقيب وعتيد وأنه إذا كان لديه حيلة في التفلت من بطش البشر فإنه ليس له قدرة على التخلص من الله عز وجل وعلى قدر قوة الإيمان وضعفه يكون التزام العبد بأحكام الله واقفاً عند حدوده فلا تكون عنده جرأة على اقتراف الآثام وانتهاك المحارم بل يكون مسارعاً إلى فعل الخيرات بعكس المشرك والكافر والملحد فإن حياته كلها في الوقوع فيما يغضب الله ـ تعالى ـ1 أعاذنا الله من شر ذلك وجعلنا ممن يعبدونه وحده دون سواه.

1- أنظر مبادي الإسلام للمودودي ص 80 ـ 86.

ص: 421