الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: عبودية الخوف
الخوف في اللغة: الفزع.
قال في القاموس: "خاف يخاف خوفاً ومخافة وخيفة بالكسر
…
فزع"1 وجاء في اللسان: الخوف الفزع خافه يخافه خوفاً وخيفة ومخافة2.
وأما تعريف الخوف شرعاً:
فقد عرفه العلامة ابن القيم بقوله: "الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر الخوف" اهـ3.
ومقصودنا الذي نريده هنا هو: أن الإنسان لا يخاف خوف السر إلا من الباري سبحانه وتعالى، ومعنى خوف السر أن يخاف العبد من غير الله ـ تعالى ـ أن يصيبه منه مكروه بمشيئته وقدرته، وإن لم يباشره، فإذا وقع الإنسان في شيء من هذا فإنه وقع في الشرك الأكبر4 لأنه اعتقد حلول الضرر به الذي لا يقدر عليه إلا الله ـ تعالى ـ من غيره الذي هو عاجز أن يفعل به ذلك.
فالضار والنافع إنما هو الله ـ تعالى ـ لأنه هو الذي يملك ذلك أما غيره فليس له من ذلك شيء، وقد جاء في السورة أن الخوف عبادة لا يستحقها إلا الله ـ تعالى ـ فلا خوف ولا رهبة إلا منه ـ تعالى ـ.
قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
1- 3/144، الصحاح 4/1358.
2-
اللسان 9/99، وانظر المصباح المنير 1/184.
3-
مدارج السالكين 1/512، التعريفات للجرجاني 334.
4-
انظر تيسير العزيز الحميد ص 24.
وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
فهاتان الآيتان من السورة فيهما بيان أن الخوف لا يكون إلا من الله ـ تعالى ـ لأنه وحده القادر على جلب النفع للعبد، ودفع الضر عنه، أما غيره فلا يملك من ذلك شيئاً فقوله تعالى:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هذه الآية بينت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور أن يخاف عذاب يوم عظيم إن هو عصى الله ـ تعالى ـ فيما أمره به من إخلاص العبادة والطاعة له ـ وحده ـ لا شريك له وكون الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف عذاب يوم عظيم الذي هو يوم القيامة ذلك اليوم الذي يعظم هوله ويشتد خطره لهو من أبلغ الزجر لغيره، إذ غيره صلى الله عليه وسلم يجب أن يعظم خوفه من باب أولى لأنه ـ تعالى ـ قد أخبرنا في محكم كتابه أنه قد غفر لنبيه ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} 1.
وقد ذكر القرطبي: في تفسيره عن سعيد بن المسيب وأبي حمزة 2 الثمالي "أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فكان هذا الخطاب موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"3.
وأما قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} الآية.
ففيها إخبار من الله ـ جل وعلا ـ بأنه الكافي لعبده العابد له وحده لا شريك إذا صدق في التوكل عليه سبحانه وتعالى وفيها أيضاً: بيان أن المشركين كانوا يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم بما يعبدون من دون الله من الأوثان والآلهة الباطلة أن تصيبه بأذى لأنه أعلن البراءة منها وعاب عبادتهم إياها وتوجيههم العبادة لمن ليس له حق فيها وجهلوا أنه صلى الله عليه وسلم قد أوى إلى ركن شديد، وعلم بأنها لا تقدر على شيء من تلك المزاعم التي اختلقوها وهي زعمهم بأن آلهتهم ستصيبه بأذى، أو تخبِّله إلى غير ذلك من المزاعم التي نسبوها إليها، ولكنه صلى الله عليه وسلم تصدى لها وبين بطلان عبادتهم لها حتى أرسى قواعد العقيدة الصحيحة، وبين
1- سورة الفتح آية: 2.
2-
اسمه ثابت بن دينار الثمالي الأزدي بالولاء المتوفى سنة خمسين ومائة هجرية.
3-
الجامع لأحكام القرآن 15/242.
لهم أن الذي يملك النفع ويدفع الضر إنما هو الله ـ وحده ـ ومن كان ذلك شأنه هو الجدير بأن يعبد وحده، وتوجه له العبادة الخالصة دون سواه.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى حول قوله تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني المشركين يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلاً وضلالاً"1.
وقال الرازي: "جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} وذكره بلفظ الاستفهام، والمراد تقرير ذلك في النفوس والأمر كذلك
…
إلى أن قال: لما ثبت أن الله كاف عبده كان التخويف عبثاً وباطلاً" اهـ2.
فعلى الإنسان أن يصدق الله ـ تعالى ـ في الإلتجاء إليه ويخلص عبودية الخوف له وحده لا شريك له، ويحذر دعوة أهل الأهواء الذين يصدون عن سبيل الله فإذا صدق في ذلك مع الله، فإنه عند ذلك لا يخاف إلا الله ـ تعالى ـ ويقوي إيمانه، وثقته بالله، مهما خوفه أهل الباطل بالتخويفات الباطلة، فإنه لا يكترث بها لأنه يعلم أن الله كافيه كل الأخطار التي تحيط به، وليعلم كل عبد أن الخوف فرضه الله على جميع عباده بدون استثناء.
قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3.
قال ابن القيم حول هذه الآية: "ومن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين جنده وأولياءه لئلا يجاهدوهم، ولا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان، وتخويفه ونهانا أن نخافهم، والمعنى عند جميع المفسرين يخوفهم بأوليائه، قال قتادة: يعظمهم في صدوركم، ولهذا قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان العبد قوي خوفه منهم" اهـ4. فالآية دلت على أن إخلاص الخوف من الفرائض، وأنه
1- تفسير ابن كثير 6/94.
2-
التفسير الكبير 26/281.
3-
سورة آل عمران آية: 75.
4-
إغاثة اللهفان 1/110.
شرط في إيمان الإنسان وأن العبد إذا فقد الخوف من الله ـ تعالى ـ فقد الإيمان الواجب نسأل الله السلامة من ذلك.
وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 1.
وهذه الآية فيها الأمر بإخلاص الخوف لله ـ تعالى ـ وكما أنه تعالى جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 جعل كذلك الخوف لأهل الأعمال الصالحة إشارة منه ـ تعالى ـ أن الرجاء والخوف النافع هو ما اقترن به العمل الصالح.
فهذه الآيات ثناء من الله ـ تعالى ـ على الخائفين منه، ومدح لهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
روى الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت: يا رسول الله قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: "لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه"4.
فالله ـ سبحانه ـ قد وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن تردَّ عليهم إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً"5.
1- سورة البقرة آية: 40.
2-
سورة البقرة آية: 218.
3-
سورة المؤمنون آية: 57 ـ 61.
4-
المسند 6/205، سنن ابن ماجة 2/1404.
5-
انظر تفسير ابن جرير 18/32، وانظر مدارج السالكين 1/512.
وقد بين العلامة ابن القيم الفرق بين الوجل، والخوف، والخشية، والرهبة فقال:"الوجل، والخوف، والخشية، والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة".
فالوجل: رجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته.
والخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف.
والخشية: أخص من الخوف، فإن الخشية للعطاء بالله تعالى قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1 فهي خوف مقرون بمعرفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له
…
الحديث" 2.
"وأما الرهبة: فهي الإمعان في الهرب من المكروه وهي ضد "الرغبة" التي هي: سفر القلب في طلب المرغوب فيه
…
إلى أن قال رحمه الله وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة والإجلال تعظيم مقرون بالحب، فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين والإجلال للمقربين وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية"اهـ3.
ولقد مدح الله رسله بأنهم لا يخشون أحداً سواه. قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَاّ اللهَ} 4.
وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ} 5 "أي: أفغير الله أيها الناس تتقون: أي ترهبون وتحذرون أن يسلبكم نعمة الله عليكم بإخلاصكم العبادة لربكم، وإفرادكم الطاعة له، وما لكم نافع سواه"6.
وقال تعالى في شأن الملائكة المقربين واصفاً لهم بتحقيق عبود ية الخوف:
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 7.
1- سورة فاطر آية: 28.
2-
رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه 3/237.
3-
مدارج السالكين 1/512 ـ 513.
4-
سورة الأحزاب آية: 9.
5-
سورة النحل آية: 52.
6-
جامع البيان 17/120.
7-
سورة النحل آية: 50.
فالخوف عبادة جليلة تعبد الله به جميع عباده من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وسائر عباده المؤمنين.
وقد بين بعض العلماء أن الخوف أربعة أنواع:
أحدها: خوف السر وهو أن يخاف الإنسان من غير الله ـ تعالى ـ أن يصيبه بأي أذى من مرض، أو فقر أو قتل ونحو ذلك ويعتقد أن ما أصابه بذلك إلا بقدرته ومشيئته، وسواء زعم أن ذلك من باب الكرامة للمخوف بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال فهذا النوع لا يجوز أن يعلق بغير الله ـ تعالى ـ بحال من الأحوال لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن جعل مع الله نداً يخاف منه هذا الخوف فقد أشرك بالله العظيم إذ هذا معتقد المشركين في أصنامهم وآلهتهم ولذلك فإنهم كانوا يخوفون بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى في شأن إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام عندما خوفه قومه بآلهتهم أن تصيبه بسوء:{وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1.
هذه الآيات تبين لنا موقف إبراهيم عليه السلام تجاه تخويف قومه له بآلهتهم المزعومة فقد خوفوه أنها تصيبه بأذى فبين لهم أن آلهتهم أقل وأحقر من أن تضر من جحد عبادتها وكفر بها {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ} ثم رد الأمر إلى مشيئة الباري ـ سبحانه تعالى ـ لأنه هو الذي يُخاف ويرجى فقال: {إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} وهذا الاستثناء يسمى عند النحاة استثناء منقطعاً ومعنى ذلك لا أخاف من تلك الآلهة التي تخوفونني بها فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة لكن إذا شاء الله أن ينالني بشيء لا رادّ لذلك لأن الله ـ تعالى ـ له المشيئة النافذة وقد وسع كل شيء علماً أما آلهتكم لا تشاء، ولا تعلم فيما ترى من الأولى أن يُخاف ويُعبد أهو ـ سبحانه ـ أم آلهتكم التي زعمتموها آلهة من عند أنفسكم؟ {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} فتدركون ما أنتم عليه من الإشراك لمن لا مشيئة له ولا علم مع من له المشيئة المطلقة والعلم التام وهو الله ـ تعالى ـ ثم استرسل الخليل عليه السلام في دحض دعواهم من أن
1- سورة الأنعام آية: 80 ـ 82.
آلهتهم ستصيبه بسوء وجعل دعواهم من أعظم الأدلة على فساد قولهم وبطلان مذهبهم وبين لهم بطلان إلهيتها وأن عبادتهم لها ستكون مضرة عليهم فقال:
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} أي: كيف يتسرب الخوف إلى قلبي من أوثانكم، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله في عبادته آلهة أخرى فأي الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف أهو فريق الموحدين أم فريق المشركين؟
فلقد صدر الحكم بين الفريقين من عند أحكم الحاكمين وأعدل العادلين الذي لا أصح من حكمه فقال ـ عز شأنه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: بشرك1 {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فكان الحكم من قبل الله ـ تعالى ـ أن الهدى والأمن لأهل التوحيد، وحكم لفريق الشرك بالضلال والخوف بعكس ما حكم به لأهل التوحيد، وبذلك علت حجة أبينا إبراهيم على قومه كما قال تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 2 وقال تعالى في قصة هود عليه السلام عندما خوفه قومه بالآلهة: {إِنْ نَقُولُ إِلَاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} 3. هاتان الآيتان بين الله فيهما موقف هود عليه السلام من مقالة قومه له حينما نصح لهم في الدعوة إلى توحيد الله وتصديقه وخلع الأوثان والتبرؤ منها ولما أيقنوا أن هوداً لا يتركهم من الدعوة إلى الله وإلى عبادته وحده لا شريك له حينذاك كان قولهم ما يحملك على ذم آلهتنا إلا أنه أصابك منها خبل وجنون فكان جواب هود عليه السلام لهم جواب من وثق بربه واعتمد عليه وأصبح لا يكترث بأي تخويف كان من غير الله ـ تعالى ـ فقال لهم: إني أشهد الله على نفسي، وأشهدكم أيضاً أيها القوم أنني بريء من هذه الآلهة التي أشركتموها مع الله في العبادة من دونه {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} يقول: اعملوا كل حيلة أنتم وآلهتكم في ضري
1- روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال: "إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " صحيح البخاري 3/128، وصحيح مسلم 1/114، المسند 1/378.
2-
سورة الأنعام آية: 83.
3-
سورة هود آية: 54 ـ 55.
ومكروهي {ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} أي: لا تؤخرون ذلك، ثم انظروا ما عسى أن تنالوني به من السوء أنتم وآلهتكم، فإبراهيم وهود عليهما السلام بينا أن خوف السر لا يكون إلا من الله وهو الذي بعث الله النبيين من أجله، وهذا النوع من الخوف هو ما وقع فيه القبوريون في زمننا هذا، فإنهم يخافون الصالحين وطواغيتهم كما يخافون الله بل أشد، بل إنه وصل الحد بهم إذا وجبت اليمين على أحدهم، فإنه يحلف بالله إيماناً لا حد لها سواء كان كاذباً، أو صادقاً الأمر عنده سيان، وإذا طلب منه اليمين بصاحب القبر لم يحلف إن كان كاذباً وما ذلك إلا لأنه يعتقد أن الضرر الذي يلحقه من صاحب القبر أسرع وأقرب فالتعظيم في قلبه لذلك الولي أقوى من تعظيمه لله بكثير، وهذه الحال لم يصل إليها المشركون الأولون، بل غاية الأمر عندهم أنهم كانوا يحلفون بالله جهد أيمانهم.
النوع الثاني: من أنواع الخوف أن يترك العبد ما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد لأعداء الله وليس هناك أي عذر سوى أنه يخاف غير الله من بني الإنسان ولقد نهى الله عن هذا بقوله عز وجل {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقرن أحدكم نفسه إذا رأى أمر الله فيه مقال أن يقول فيه فيقال له يوم القيامة ما منعك أن تقول فيه فيقول يا رب خشيت الناس قال: فأنا أحق أن تخشى"2.
فالحديث يبين أن أحق من يخشى إنما هو الله ـ تعالى ـ.
النوع الثالث: خوف الوعيد الذي توعد الله به العاصين قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} 3 وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 4 وقال تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} 5 وهذا النوع يعتبر من
1- سورة آل عمران آية: 175.
2-
المسند 3/47 ـ 48.
3-
سورة إبراهيم آية: 14.
4-
سورة الدهر آية: 7.
5-
سورة هود آية: 26.
أعلى مراتب الإيمان فالخوف الحقيقي هو الذي يكون حائلاً بين المرء وبين حرمات الله تعالى.
النوع الرابع: الخوف الطبيعي كخوف العدو والحيوان المفترس وخشية الإصابة بالحرق، أو الغرق، فهذا الخوف طبيعي في الإنسان وهذا النوع لا يذم عليه العبد1 وهو المراد بقوله تعالى في قصة موسى عليه السلام:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} 2 فإذا اتضح هذا للإنسان فإن قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} إنما معناه: أنه يوهم أولياء الله أن الموالين له أهل بأس وشدة وهو غير صادق في ذلك، ولذلك فإن الله تعالى أرشد عباده بقوله:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فلا يجوز الإصغاء لإيهام الشيطان وتسويله، بل الواجب على المؤمنين أن يعلموا أن الله كافيهم وناصرهم على أولياء الشيطان وأمرهم بقتالهم وبين أن كيد الشيطان ضعيف.
قال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} 3.
فكلما قوي إيمان العبد ذهب من قلبه خوف أولياء الشيطان وإذا ضعف إيمانه فإن خوف أولياء الشيطان يقوى في قلبه فيجب على العبد أن لا يخاف إلا الله وحده وأن يخلص ذلك لوجهه ـ تعالى ـ دون سواه، بل جعل الله ذلك شرطاً من شروط الإيمان كما قال تعالى:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
"وبعض الناس يقول يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك، وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده، ولا يخاف أحداً لا من يخاف الله ولا من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله أخس وأذل أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان فالخوف منه قد نهى الله عنه" اهـ5.
1- انظر هذه الأنواع الأربعة في تيسير العزيز الحميد ص426 ـ 428 بتصرف.
2-
سورة القصص آية: 21.
3-
سورة النساء آية: 76.
4-
سورة آل عمران آية: 175.
5-
مجموع الفتاوى 14/206.
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللهَ} 1 دلت هذه الآية على أن خشية الله وحده دون أحد من خلقه من علامة صحة إيمان العبد بربه تبارك وتعالى.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "ولم يخش إلا الله. يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصية سوى الله"اهـ2.
وكما دل القرآن على أن الخوف عبادة يجب إخلاصها لله ـ تعالى ـ كذلك دلت السنة على أن الخوف لا يكون إلا من الله، ولا يصرف لأحد سواه فلا خوف ولا خشية إلا منه ـ جل وعلا ـ.
وروى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال:: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فو الله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية"3.
هذا الحديث بيّن ما يجب أن يكون عليه العبد المسلم وهو أن يكون على معرفة بالله أولاً: وقبل كل شيء، فإذا عرف الله، واستقرت معرفته في قلبه هنالك يكون من أشد عباد الله خشية منه ومحبة له وإنابة إليه سبحانه وتعالى.
وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي"4.
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم أخشى عباد الله على الإطلاق وأعلمهم بما يتقي من الأمور، وقد أكرمه الله بذلك، وهذا الإخبار منه صلى الله عليه وسلم تعليماً للأمة أن تقتدي به عليه الصلاة والسلام، فالخوف من الله ـ تعالى ـ له فضل عظيم عند الله تعالى يورث العبد رحمة الله وعفوه.
روى البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر
1- سورة التوبة آية: 18.
2-
جامع البيان 10/94.
3-
4/66.
4-
2/781.
رجلاً فيمن سلف، أو فيمن كان قبلكم قال كلمة يعني أعطاه الله مالاً وولداً فلما حضرت الوفاة قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب قال: فإنه لم يبتئر، أو لم يبتئز1 عند الله خيراً وإن يقدر الله عليه يعذبه فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، أو قال فاسحكوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي ففعلوا ثم أذروه في يوم عاصف فقال الله عز وجل كن فإذا هو رجل قائم قال الله أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال مخافتك أو فرق منك2 قال:"فما تلافاه أن رحمه عندها وقال مرة فما تلافاه غيرها"3.
فهذا الحديث دل على أن العبد إذا أخلص العبادة لله ولم يبتغ بها أحداً سواه وأخلص الخوف لله ـ جل وعلا ـ أورثه ذلك مغفرة الله ـ تعالى ـ ورحمته، فعلى الإنسان أن لا يخاف إلا ربه العلي الكبير، أما ما سواه فلا يخاف منه لأنه لا يستطيع أن يضره إلا بإذن الله ـ تعالى ـ ولا يقدر على نفعه إلا بما كتبه الله له فالفضل كله عائد إلى الله ـ تعالى ـ بداية ونهاية.
وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة خسوف الشمس على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث صلى بهم صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ركوعان ثم انصرف إلى الناس وقد انجلت الشمس ووعظهم موعظة بين لهم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته وأرشدهم أنهم إذا رأوا ذلك دعوا الله تعالى وكبروه وصلوا وتصدقوا.
ثم قال: "يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"4.
فقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته لو تعلم ما يعلم من عظيم قدرة الله وشدة انتقامه من العصاة الفاسقين لتركوا الضحك، ولما حصل منهم إلا في النادر لشدة غلبة الخوف والحزن الذي يعلو قلوبهم.
1- أي لم يدخر.
2-
الفرق: الخوف.
3-
صحيح البخاري 4/298.
4-
صحيح البخاري 1/185، صحيح مسلم 2/618.
قال صاحب تحفة الأحوذي1: "لو تعلمون ما أعلم" أي: من عقاب الله للعصاة وشدة المناقشة يوم الحساب. لضحكتم جواب لو. "ولبكيتم كثيراً" أي: بكاء كثيراً، أو زماناً كثيراً أي: من خشية الله ترجيحاً للخوف على الرجاء، وخوفاً من سوء الخاتمة" أ. هـ2.
وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من خاف أدلج3 ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة"4.
هذا الحديث من الأمثلة النبوية التي ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يسلك طريق الآخرة إذ الشيطان واقف على طريقه والنفس تمنيه الأماني الكاذبة فإن كان متنبهاً في سيره وأخلص النية في العمل أمنه الله من الشيطان ومكره فطريق الآخرة يحتاج إلى جهد كبير لتحقيق العمل الصالح لأن الجنة ثمنها الأعمال الصالحة قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} 5.
وروى الترمذي أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمَّ يتساءلون وإذا الشمس كورت" قال الترمذي هذا حديث حسن غريب6.
فهذا الحديث تضمن شدة خوف النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى ـ فلما تضمنت السور المذكورة في الحديث كثيراً من أهوال يوم المعاد، وما نزل بالأمم التي خلت من قبل أمة محمد من النوازل أخذت تلك السور من النبي صلى الله عليه وسلم مأخذها حتى ظهر فيه الشيب قبل وقته الذي فيه فينبغي لكل مسلم أن لا يخاف إلا الله تعالى الذي بيده أزمة الأمور جميعها، ويسعى في تحقيق عبودية الخوف ويجعلها خالصة لله ـ تعالى ـ امتثالاً لأمر الباري ـ سبحانه ـ
1- اسمه محمد بن عبد الرحمن المباركفوري المتوفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
2-
6/603.
3-
الدلجة: السير أول الليل.
4-
سنن الترمذي 4/51.
5-
سورة التوبة آية: 111.
6-
سنن الترمذي 5/76.
واقتداءً بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولقد حقق الصحابة عبودية الخوف على أكمل وجه وأتمه فهذا هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع قارئاً يقرأ سورة الطور حتى بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} 1 بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه 2.
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، فإن لم ينج منه فما بعده أشد منه"3.
والمأثور عن الصحابة من هذا كثير يطول تتبعه وقد ذكر العلامة ابن القيم نماذج عنهم رضي الله عنهم في تحقيقهم عبودية الخوف في كتابه "الجواب الكافي" 4 والذي نخلص إليه مما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن الخوف عبادة لله ـ تعالى ـ فرضهُ الله تعالى على جميع عباده، فلا يخاف المخلوق من المخلوق خوف السر لأن ذلك لله ـ وحده لا شريك له ـ لأنه تعالى هو الذي يملك النفع والضر دون سواه وما دام الأمر كذلك فهو وحده المتعبد بذلك.
1 - سورة الطور آية: 7.
2-
تفسير ابن كثير 6/430.
3-
سنن الترمذي 3/379.
4 -
انظر ص43. وما بعدها.