الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة السورة:
لقد تضمنت الخاتمة جملة من الحقائق التي تحدثنا عنها تفصيلًا في افتتاحية السورة، وذكرنا هناك الحكمة في ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العشر آيات من أول السورة والعشر آيات الأخيرة من السورة وكونها عصمة من فتنة الدجال لمن قرأها أو حفظها1. ولا نعيد ذكرها هنا مرة أخرى اكتفاء بما تقدم ونكتفي هنا بالعرض العام للخاتمة.
يمكن تقسيم الخاتمة إلى ثلاث فقرات:
الفقرة الأولى: وهي وثيقة الصلة بمشهد ذي القرنين ومنظر القبائل والشعوب والأمم التي حشرت خلف السد، فهي تموج وتضطرب ولا تجد منفذًا ولا سبيلًا إلى الانتشار إلى غاياتها.
وكأن ذا القرنين بعد أن أتم هذا السد الشامخ وتحقق غرضه، ورأى ثمرة جهده لسنوات عديدة، وهو يكابد لإكمال السد بتأمين المواد الأولية وإقامته على التخطيط الدقيق والأسس العلمية السليمة من جهة.
ويكافح لدفع غارات المفسدين في الأرض الذين يحاولون الحيلولة بينه وبين إتمام هذا السد.
فما انتهى وأشرف على هذا الإنجاز الضخم توجه إلى ربه شاكرًا متضرعًا للذي بفضله وكرمه ونعمته تتم الصالحات فقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} واستشعر
1 انظر: ما تقدم: 180 وما بعدها.
-وهو المؤمن بيوم النشور والحشر- أن كل شيء في الدنيا زائل وتذكر يوم العودة إلى الله سبحانه وتعالى ويوم تحمل الأرض والجبال فتدك وتسوى بالأرض {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} ، قال:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} .
وتتميمًا للصورة المجسدة في حشر يأجوج ومأجوج وحجزهم خلف السد جاء التعقيب الإلهي للتذكير بالحشر الأكبر الذي يقع بعد الدك وخسف القمر وجمع الشمس والقمر واختلال نظام الكون إنه يوم النفخ في الصور {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} لقد بعث الأولون والآخرون بألوانهم المختلفة وأشكالهم المتباينة وهيئاتهم المتنوعة، إنه يوم الجمع الأكبر، إنه يوم الدين، يوم الحساب والجزاء لقد جمعوا جمعًا راغمين، يقول أحدهم: أين المفر؟ {كَلَّا لا وَزَرَ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} . تموج بهم الأرض كالجراد المنتشر، أبصارهم خاشعة كليلة ترهقهم ذلة، إنه اليوم الموعود، وقد أزيلت الحواجز عن الأرض فلا ترى فيها عوجا ولا أمتًا، وأخرجت الأرض أثقالها فلم يبق في جوفها سر دفين، وكشفت السرائر وبرزت الحقائق على وجوه أصحابها. لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء، والقلوب لدى الحناجر كاظمين. ووضعت الموازين القسط، وتطايرت الصحف، وأعلنت مبادئ العدل الرباني:
- لا ظلم اليوم.
- لا كلام إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولًا.
- لا شفاعة إلا بإذنه.
- كل إنسان يحمل طائره.
- كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا.
وتعرض جهنم وتحسب بأزمتها1، ويا هول ما يرى من أمرها.
1 في صحيح مسلم: "يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك" انظر: صحيح مسلم كتاب الجنة: 8/ 149.
لقد كشف الغطاء عن البصائر المغطاة المحجوبة بظلمات الكفر والعصيان فلم يبق مجال للتكذيب بالنار واليوم الآخر.
لقد وجدوا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون في تبليغهم.
فهذه جهنم تعرض أمام الكافرين عرضًا، لقد قالوا لرسلهم في الحياة الدنيا {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} فلا نفقه ما تقولون ولا نسمع وعيدكم بل قالوا -استخفافًا واستهزاء - {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَاب} .
إنها من إيحاءات هذا المنظر المعروض في تموج يأجوج ومأجوج خلف السد فالمؤمن لا يترك لحظة ولا حالة ولا منظرًا إلا ويأخذ منه العبرة ويربطه بالنتيجة وبالمصير الأبدي.
ثم يأتي التعقيب العام في الفقرة الثانية على معطيات الجولات والمقاطع في السورة كلها أفحسب أهل القيم الباطلة أن خلقهم ووجودهم في الحياة الدنيا كان عبثًا، أفحسبوا أن القضية لعب ولهو ثم لا رجوع إلى الله سبحانه وتعالى أفحسبوا أن صلاتهم وولاءاتهم لزعاماتهم وقياداتهم ستغني عنهم شيئًا؟! أحسبوا أن الموازين والقيم في الآخرة -إن آمنوا بها- هي نفسها التي كانوا يختلقونها من عند أنفسهم ويتعاملون بها؟!
ويورد السياق كلمة الكفر لتلقي بظلالها الكثيفة في هذا المشهد ليدرك هؤلاء أساس البلاء وسبب الشقاء:
- {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} .
- {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} .
- {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} .
- {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} .
- {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} 1.
1 جاء التصريح بصيغة الكفر خمس مرات، ومرتين ضمنًا فإن دلالة الكفر الستر والتغطية، وقد جاء في قوله تعالى:{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} ذكر الأغطية على الأعين وفيه معنى الكفر والحاجز المانع عن السمع وهو لون من ألوان الغطاء وفيه معنى الكفر.
وهذا التركيز في الخاتمة على الأمر لبيان سبب استحقاقهم هذا المصير البائس ولتنفير المؤمن من هذه الصفة وإيجاد مناعة لديه، وإيجاد حاجز نفسي بينه وبين المتصفين بها، وهذا أسلوب من الأساليب القرآنية المطردة لترسيخ مفاهيم معينة، أو التنفير من صفات مذمومة.
لقد أكثر هؤلاء الكفرة المنكرون يوم البعث والنشور من الأعمال الدنيوية مالًا، ورجالًا، وجاهًا، حتى انتفخت نفوسهم بها عجبًا وزهوًا وكبرًا وأشرًا وبطرًا، فكان حتفهم في ذلك، فحبطت تلك الأعمال حيث انتفخت فقضت على صاحبها، فهي وأصحابها لا تزن عند الله جناح بعوضة {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} . يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القايمة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} "1.
هؤلاء هم أخسر الناس على الإطلاق، لأنهم كدوا وتعبوا وجمعوا وسعوا سعيًا حثيثًا في الدنيا، فلم يتركوا ميدانًا من ميادين الفخر والمآثر الدنيوية، ولا مجالًا حسبوه يخلد ذكرهم ويرفع شأنهم إلا اقتحموه. وهم يظنون أن من أعطي في الدنيا شيئًا قيمًا أن يُعطى أكثر منه في الآخرة {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} .
لقد اختلت الموازين عندهم، فلم يستجيبوا لنداء الفطرة في نفوسهم ولم يحملوا أنفسهم عناء التفكر في نهاية المطاف في الخلق والكون علمًا أنها مليئة بالبراهين والدلالات على زوالها وفنائها.
بل سخروا برسل الله المبلغين لدعوة ربهم واتخذوهم هزوًا فكلما ذكروهم بأمر الآخرة والحساب والجزاء قالوا: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} .
1 رواه الشيخان، انظر: صحيح البخاري كتاب التفسير: 6/ 236، وصحيح مسلم كتاب صفات المنافقين: 8/ 125.
ويقولون لقد ذهب آباؤنا ولم يعودوا ثانية إلينا ونحن على آثارهم سنمضي ولسنا بمنشرين.
إن مصير هؤلاء جميعًا إلى جهنم التي تعرض عليهم في هذا اليوم بما كسبت أيديهم من سيئات الأعمال، وبما جحدت عقولهم من الآيات البينات وبما ران على قلوبهم من ظلمة الكفر والطغيان.
وفي الفقرة الثالثة يأتي الحديث عن جحافل الإيمان والصبر والتقوى أتباع الأنبياء، المخلصين لربهم، القانتين المطيعين، لقد استنارت قلوبهم بالإيمان واليقين، وتثقفت عقولهم بالهداية والعرفان واستقامت نفوسهم على طاعة الديان، وازدانت جوارحهم بالصالحات من الأعمال تمسكوا بالعروة الوثقى، واعتصموا بحبل الله المتين، فاتخذوا كل ذلك سببًا إلى جنات الفردوس، فتبوءوا منها منزلًا لا يريدون التحول عنه.
إنهم عرفوا الحقائق وقيمها الراخسة فتمسكوا بها، وعرفوا زيف زينة الحياة الدنيا فأنزلوها منزلتها الصحيحة -إنها بلغة ومزرعة للآخرة.
ثم اللمسات الأخيرة في نهاية السورة كالأضواء الكاشفة على المنهج الصحيح الذي يؤدي بصاحبه إلى جنات الفردوس:
إنه الوحي الذي أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى عبده ورسوله،
إنها كلمات الله التي لا يحيط بها عقل أو خيال.
فمن أراد أن يجنّب جهنم ويتحول عنها فلا يلزم بها منزلًا ومستقرًا وأن يسلك طريق جنات الفرودس التي لا يبغي عنها حولًا فعليه أن يلتزم بأساسين:
أ- العمل على وفق وحي الله المنزل على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ب- أن يخلص العمل لوجه الله جل جلاله ولا يتخذ معه شريكًا في عبادته.