الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبات بين المقطع الرابع وما قبله:
سبق أن ذكرنا في مبحث "المناسبات في السورة" أن قصة موسى والخضر عليهما السلام تتعلق بالهدف الأساسي لسورة الكهف من حيث الاستنكار على اليهود الذي زودوا وفد قريش بأسئلة تعجيزية ليتثبتوا -حسب زعمهم- من صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به فسيقت لهم هذه الحادثة أن هذا المنهج ليس فهمًا صحيحًا في التثبيت من صدق النبي فهذا موسى عليه السلام من أعظم أنبياء بني إسرائيل وأكرمهم على الله تعالى، قد جهل ثلاث مسائل واحتاج إلى من يعلمه إياها، ولم يؤثر ذلك في مكانته العظيمة وفضله وسبقه وكونه من أولي العزم من الرسل.
فالقصة وثيقة الصلة -من هذه الزاوية- بهدف سورة الكهف وهو إثبات الرسالة، وبيان صدق الرسول.
ولكن ما مدى صلة هذه القصة بالعنوان الذي اخترناه "القيم في ضوء سورة الكهف"؟ إن هذه القصة تمثل جانبًا مهمًا أيضًا في الزاوية التي نتناول منها السورة، فهي تمثل قيمة العلم الحقيقية، وتسوق نموذجًا فريدًا لما ينبغي أن يتحلى به طالب العلم والعالم من صفات، وحقيقة العلم الذي يحرص عليه وثمرته.
إن قصة أصحاب الكهف تناولت قيمة السلطة والسلطان.
وتناولت قصة صاحب الجنتين قيمة المال والرجال:
وتتناول هذه القصة قيمة العلم وحقيقته.
هذان وجهان للمناسبة بين هذا المقطع وبين هذه السورة والعنوان الذي تناولها تفسير السورة من خلاله.
فما أوجه المناسبة بين هذا المقطع وسابقه؟
هناك عدة أوجه للمناسبة بين هذا المقطع وسابقه، ومن الأوجه التي ذكرها المفسرون ما هو وثيق الصلة بالمقطع ومنها ما هو غير واضح الارتباط، وأذكر بعض الوجوه واضحة الارتباط والصلة بالمقطع السابق.
1-
ذكر في المقطع السابق قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} .
وذكر في هذا المقطع لون من ألوان تصريف القول بأسلوب القصة والحوار وفيه من عظيم الحكم، والآداب والعظات والعبر الشيء الذي لا يحاط به، وسنورد جملة من ذلك عند العرض الإجمالي وفي مبحث العظام والعبر لهذا المقطع الرابع.
2-
ذكر في المقطع السابق قوله تعالى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} وهو في سياق المؤاخذة على الإنسان الذي لا يستسلم لبراهين الحق وأدلة العقل، وظهور الحجة، ولولا هذه الطبيعة في الإنسان لتجاوب مع نداءات الفطرة التي فطر عليها، وللبى نداء العقل فلم يتخذ أولياء من دون الله سبحانه وتعالى، ولعادي إبليس وذريته، لأن العقل يفرض عليه ذلك، ولكنه أوتي الجدل فلا يستسلم لكل ذلك إلا بعد المجاهدة ومساندة دواعي الاستسلام.
وفي سياق قصة موسى والخضر عليهما السلام لون رفيع من ألوان التربية القرآنية وإلزام النفس الإنسانية حدودًا معينة في ترك الجدل ولو كان أمام واقعة ظاهرها الانحراف.
ولا شك أن هذا النوع من ترك الجدل أشد على النفس، لأن المأمور بالكف عن الجدل يرى الحق معه فكيف يصبر عن إظهاره ويسكت على خلافه ولعل هذا اللون التربوي الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، لمن ترك المراء، وإن كان محقًا
…
" 1 الحديث.
3-
ذكر في المقطع السابق بعض وسائل المعرفة في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} .
إن وسيلة الإدراك الأصلية في الإنسان هو القلب الذي انفرد به الإنسان من بين سائر المخلوقات ونقصد بالقلب تلك الملكة المعنوية التي يستطيع الإنسان بواسطتها التمييز بين الحق والباطل والخطأ والصواب وهي وسيلة التحليل والتركيب والاستنباط والإقناع، وهي التي جاء التعبير عنها باللب والعقل والفؤاد والقلب وهي التي تأتيها الغشاوة والران أو الإبصار والإشراق وهي المرادة بقوله تعالى:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .
ولهذه الملكة صلة وثيقة بالقلب المادي المكون من اللحم، وبالمخ في الرأس المكون من النخاع والأعصاب.
وهذا القلب يستمد معلوماته الأولية عن طريق الحواس الخمس وعلى رأسها السمع والبصر.
فبعد ذكر وسائل المعرفة في المقطع السابق، ذكر هنا أن هنالك علمًا لا يخضع لوسائل المعرفة المعهودة عند الناس، وإنما هو علم من لدن الله سبحانه وتعالى يقذفه في قلوب بعض عباده وأصفيائه، وإما إلهامًا أو وحيًا، لذا جاء تعظيم شأن هذا العلم بإسناده إلى ضمير العظمة مع التأكيد عليه بالمؤكدات العديدة {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} .
4-
ذكر في المقطع السابق أن مشركي قريش اتبعوا سنة من قبلهم من المكذبين الهالكين في طلب العقوبة الدنيوية العاجلة وذلك في قوله تعالى:
1 رواه أبو داود، انظر مختصر سنن أبي داود باب الأدب 7/ 172، والترمذي بلفظ قريب. انظر: سنن الترمذي أبواب البر 3/ 242.
وذكر أيضًا سنة الله سبحانه وتعالى في الأخذ في العاجلة أو الإرجاء إلى الآجلة وأن الخيرة في اختيار الله ومشيئته وإرادته وأمره، لو كان الإنسان مدركًا للحكمة العالية في تصريف شئون الكون، جاء ذلك في قوله تعالى:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} .
وذكر في هذا المقطع ثلاث وقائع كان ظاهرها أن العاجلة خلاف المصلحة، ولكن عندما كشف النقاب عن السر الإلهي في ذلك، وبرزت الحكمة الدافعة، اختلف التقدير والتقويم للتصرفات، فقد كانت النظرة الظاهرة تقضي بإبقاء السفينة على حالها وهو أفضل لمصلحة المساكين وترك الغلام على قيد الحياة أدخل للسرور على قلب والديه من قتله وترك الجدار الآيل للسقوط أليق بتصرف أهل القرية البخلاء اللئام عقوبة لهم. ولكن حكمة الله سبحانه وتعالى وإرادته وأمره كان خلاف هذه الظواهر العاجلة، فكانت الآجلة أفضل للمساكين، وأقوم للأبوين الصالحين، وأحفظ لليتيمين في القرية.
هذه الأوجه التي أراها أحكم من غيرها في الربط بين المقطعين، أما ما ذكره بعض المفسرين من ورود ذكر إبليس في المقطع السابق وذكر الشيطان في المقطع اللاحق. وذكر تمرد إبليس وتكبره عن سماع أمر ربه بالسجود لآدم فكانت عاقبته الطرد واللعنة، وعكس ذلك في قصة موسى عليه السلام حيث سمع أمر الله وأطاع وتواضع لله تعالى فذهب لتلقي العلم ممن هو دون شهرته ومكانته في قومه.
هذه الوجوه وغيرها أراها عابرة لا تخلو من التكلف. وفيما ذكرته الغنية والكفاية بإذن الله.